1
فقال الناسك: «مهلا، مهلا يا رتشارد، هدئ ثائرة نفسك خجلا إن لم يكن إحسانا! من ذا الذي يمدح أو يكيل الشرف للأمراء الذين يسبون ويثلبون بعضهم بعضا؟ وا أسفاه على مخلوق نبيل مثلك، شب على خواطر الملوك وجسارتهم، وخليق به أن يشرف العالم المسيحي بعمله، وأن يحكمه بحكمته، وهو أهدأ منك الآن مزاجا. وا أسفاه على رجل مثلك يصيبه غضب الأسد الهمجي المتوحش، ممزوجا بالوقار والإقدام وهما من صفات ملك الغاب!»
ولبث لحظة يتدبر ويتأمل وعيناه صوب الأرض، ثم استأنف حديثه وقال: «ولكن الله الذي يعرف عجز طبائعنا، يتقبل منا طاعتنا على نقصها، وقد استأخر نهاية حياتك الجريئة الدامية، ولكنه لم يعدل عنها. لقد وقف ملك الموت ساكنا - كما وقف في قديم الزمان إلى جوار المكان الذي كان يدق فيه «أرونا جبوست» الحنطة - وبيده ظباة مجردة، سوف يكون بها عما قريب رتشارد قلب الأسد وضيعا كأحط فلاح من المزارعين.»
فقال رتشارد: «وهل نهايتي هكذا قريبة جدا! إذن ليكن ذلك. اللهم إن كانت حياتي قصيرة فلتجعلها مضيئة مستنيرة.»
فقال الرجل صاحب الخلوة، وكأن دمعة - وهي له زائر غير معهود - كانت تتجمع في عينه البراقة الجافة: «وا أسفاه أيها الملك النبيل! إن المدى الذي يفصل ما بينك وبين القبر مظلم، عليه سمات الفناء والنكبة والأسر، والقبر فاغر فاه ليبتلعك، وهو قبر سوف توارى فيه دون أن يعقبك خلف، أو يذرف عليك شعبك الدمع رثاء عليك، وقد أنهكته بحروب موصولة غير مقطوعة، ولم تمد في علم رعيتك أو تفعل شيئا يزيد من سعادتها.» «ولكن حياتي لم تخل من بعض الصيت أيها الراهب، ولم تحرم دمعات المرأة التي أحب! وإن في هذا لعزاء لرتشارد حتى مماته، عزاء لا تستطيع أنت أن تعرفه أو تدركه.»
فأجابه الناسك في نبرة كان لها - مدى برهة من الزمن - رنين أشبه ما يكون بنبرة رتشارد نفسه وحميته، وقال: «أنا لا أعرف ذلك، ولا أستطيع أن أدرك قيمة ما يمتدحك به الشعراء، وما لحب غادتك من قدر!» ثم واصل حديثه وقد مد ذراعه الهزيلة وقال: «أي ملك إنجلترا، إن الدم الذي يغلي في عروقك الزرقاء ليس أشد نبلا من ذلك الي يركد في عروقي، ولئن كانت قطرات دمي قليلة فهي من دم «الوزجنان» الملكي، هي من دم «جدفري» البطل المقدس. أنا «ألبريك مرثمار»، أو لقد كان اسمي حينما كنت في هذه الدنيا.»
فقال رتشارد: «أنت ذلك الرجل الذي تتمشدق بذكره الأبواق! أفهذا صحيح؟ وهل يجوز ذلك؟ هل يمكن لضوء كضوئك أن يهبط من أفق الفروسية، ويبقى - مع ذلك - الناس وهم بالمكان الذي استقر فيه هذا الضياء جاهلون؟»
فقال الناسك: «لئن بحثت عن نجم إذا هوى، ما وجدت إلا سديما قاتما كانت له - وهو يشق الأفق - صورة زاهية بهية برهة من الزمن . أي رتشارد، تالله لو كنت بتمزيق الحجاب الدامي، الذي أستر به سرا مفزعا أستطيع أن أطأطئ قلبك الشامخ لنظام الكنيسة، إذن لألفيت في صدري قصة أقصها عليك، وقد أبقيتها حتى الآن تقرض في عروق الحياة في الخفاء، وأنا كالشاب الوثني الذي كرس لدينه قلبه. أصغ إلي إذن يا رتشارد، جعل الله للأسى واليأس - وهما لن يجدياني فتيلا - من القوة ما يجعلها مثلا لكائن مثلك، كائن هو رغم توحشه نبيل شريف؛ نعم، لأكشفن عن جراح لبثت في الخفاء أمدا طويلا، لأكشفن عنها رغم أنها ربما تدمى حتى أموت وأنا في حضرتك!»
ثم أخذ الملك رتشارد يستمع - وكله احترام - إلى موجز قصة فيها ما يكفي للإبانة عن سبب شبه الجنون الذي أصاب ذلك الإنسان الفريد البائس. وقد كان لتاريخ «البريك مورثمار» على رتشارد فيما مضى أثر قوي في سنيه الباكرة، حينما كان المنشدون يملئون قاعات أبيه طربا وسرورا بما يروون من قصص عن الأرض المقدسة.
وقال الناسك: «لست بحاجة إلى أن أخبرك بأني كنت كريم المولد، سعيد الطالع، قوي السلاح، حكيم المشورة، فلقد كنت كذلك، ولكن بينما كان أنبل السيدات في فلسطين يتسابقن: أيهن تضفر الأكاليل لرأسي، كان حبي معقودا بفتاة من مرتبة وضيعة انعقادا لا يحول ولا يلين، هي فتاة أبوها جندي قديم من جنود الصليب، رأى ما بين قلبينا من عاطفة، وعرف ما بيننا من فرق؛ فلم ير لشرف ابنته ملاذا غير أن يسوقها إلى ظل الدير. ولما عدت من حملة بعيدة محملا بغنائم الشرف، ألفيت سعادتي وقد تهدمت إلى أبد الآبدين! فقصدت أنا كذلك إلى الدير، ونفخ الشيطان في قلبي - وكان يظنني من أتباعه - نفسا من روح الكبرياء، وما إخاله إلا منبعثا من أعماق جحيمه، وارتفعت إلى مرتبة عالية في الكنيسة، كما ارتفعت في الدولة من قبل - ولقد كنت حقا رجلا حكيما مستقلا منزها عن الخطأ! - وأنى لي أن أخشى الإغراء؟ يا ويلتي! لقد بت معرفا
Bilinmeyen sayfa