94

وتلك_لعمر الله_الفتنة الكبرى، والبلية العظمى التي استعبدت النفوس لغير خلاقها، وملكت القلوب لمن يسومها الهوان من عشاقها، وألقت الحرب بين العشق والتوحيد، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد، فصيرت القلب للهوى أسيرا، وجعلته عليه حاكما وأميرا، فأوسعت القلوب محنة، وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها، وصرفتها عن طريق قصدها، ونادت عليها في سوق الرقيق فباعتها بأبخس الأثمان، وأعاضتها بأخس الحظوظ وأدنى المطالب عن العالي في غرف الجنان، فضلا عما هو فوق ذلك من القرب من الرحمن؛ فسكنت إلى ذلك المحبوب الخسيس الذي ألمها به أضعاف لذتها، ونيله والوصول إليه أكبر أسباب مضرتها؛ فما أوشكه حبيبا يستحيل عدوا عن قريب، ويتبرأ منه محبه لو أمكنه حتى كأن لم يكن له حبيب، وإن تمتع به في هذه الدار فسوف يجد به أعظم الألم بعد حين لا سيما إذا صار الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.

إلى أن قال×: =فيا حسرة المحب الذي باع نفسه لغير الحبيب الأول بثمن بخس، وشهوة ذهبت لذتها، وبقيت تبعتها، وانقضت منفعتها، وبقيت مضرتها؛ فذهبت الشهوة، وبقيت الشقوة، وزالت النشوة، وبقيت الحسرة؛ فوارحمتاه لصب جمع له بين الحسرتين: حسرة فوت المحبوب الأعلى والنعيم المقيم، وحسرة ما يقاسيه من النصب في العذاب الأليم.

فهناك يعلم المخدوع أي بضاعة أضاع، وأن من كان يملك رقه وقلبه لم يكن يصلح أن يكون له من جملة الخدم والأتباع؛ فأي مصيبة أعظم من مصيبة ملك أنزل عن سرير ملكه، وجعل لمن لا يصلح أن يكون مملوكه أسيرا، وجعل تحت أوامره ونواهيه مقهورا؟ فلو رأيته وهو في يد محبوبه لرأيته:

كعصفورة في كف طفل يسومها

حياض الردى والطفل يلهو ويلعب

ولو شاهدت حاله وعيشه لقلت:

وما في الأرض أشقى من محب

وإن وجد الهوى حلو المذاق

تراه باكيا في كل حين

مخافة فرقة أو لاشتياق

فيبكي إن نأوا شوقا إليهم

Sayfa 94