وقال ابن الرومي يصف أينقًا قطعت به أرضًا
تطوي الفلا وكأنّ الآل أرديةٌ ... دثارةٌ وكأنّ الليلَ سيجانُ
ثم شبهَ الليل والآل بالبحر فقال
كأنها في ضحاضيح الضحى سفنٌ ... وفي الغمارِ من الظلماء حيتانُ
والساج الطيلسان الأسود وقد اختلفَ في تشبيه الليل به فقيل لسواده وقيل شبهَ به لأنه لا أقطارَ له وقال ابن المعز
الآلُ تنزو بالصوى أمواجهُ ... نزوَ القطا الكدريِّ في الأشراكِ
والظلُّ مقرونٌ بكلِّ مطيةٍ ... مشَى المهارَى الدهمِ بينَ رماكِ
ونحوه قول الآخر
وقد أنعلتها الشمسُ ظلًا كأنه ... قلوصُ نعامٍ زفها قد تمورا
وقال مسعود أخو ذي الرمة
ومهمهٍ فيه السرابُ يلمحُ ... دليلهُ بجوةٍ مطوحُ
يدأبُ فيه القومُ حتى يطلحوا ... ثم يظلونَ كأنْ لم يبرحوا
كأنما أمسوا بحيثُ أصبحوا
وقال المأمون المنسرح
تفتحُ بالوعدِ بابَ نائلها ... حتى ترى الوصلَ ثم ينطبقُ
وعدٌ كلمعِ السرابِ تحسبهُ ... منك قريبًا ودونه شفقُ
وتبعه آخر فقال
ما احتيالي لحبيبٍ ... وعدهُ لمعُ السرابِ
يعد الوصلَ ولكن ... دونه مسُّ السحابِ
أحمدُ اللهَ على ما ... بي وإنْ كنتُ لما بي
وكتب أبو عثمان الناجم إلى ابن الرومي يلومه على طلبه سمكًا من ابن بشر المرثدي المتقارب
أبا حسنٍ أنتَ منْ لا نزا ... لُ نحمدُ في الفحصِ رجحانهُ
فلم تحسنُ الظنَّ بالمرثديّ ... وقد قللَ الله إحسانهُ
وبحرُ السرابِ يفوتُ الطلوبَ ... فقلْ في طلابكَ حيتانهُ
وقد تكررت في كتابنا تشبيهات للمحدثين مثل أبي نواس وبشار ومسلم والطائي والبحتري وابن الرومي وابن المعتز وأضرابهم لأنا اعتمدنا على إثبات عيون التشبيهات المختارة والمعاني الغريبة البعيدة دون المتداولة المخلقة والمتقدمون وإنْ كانوا افتتحوا القول وفتحوا للمحدثين البابَ ونهجوا لهم الطريق فكان لهم فضل السبق واستئناف المعاني وصعوبة الابتداء، فإن هؤلاء قد أحسنوا التأمل وأصابوا التشبيه وولدوا المعاني وزادوا على ما نقلوا وأغربوا في ما أبدعوا ولو أثبتنا تشبيهاتهم القديمة كتشبيههم الناقة في الضخم بالقصر والقنطرة وفي الصلابة بالعلاة والصخرة وفي السرعة بالجندلة والأثفية وسرعة الفرس بنجاء الظبي وتشبيه الجواد بالبحر والسيد بالقرم وهو فحل الإبل والوجه الحسن بالقمر والشمس وأحداج النساء بالنخل والسفن والنجوم بالمصابيح والنساء ببيض النعام لطالَ بذلك الكتابُ وآل أكثره إلى معنى واحد وكان المحكي منه معروفًا غير مستغرب لزال حسن الاختيار وتنقي الألفاظ واستغراب المعاني وطلابنا الجيد حيث وجد وقصدنا الغض والنادر لمن كان وبالله الحول والقوة.
باب) ١٢ (في
طروق الخيل
ومن حسن التشبيه في طروق الخيل قول البحتري
أجدك ما ينفك يسري لزينبا ... خيالٌ إذا آبَ الظلامُ تأوبا
سرى من أعالي الشأمِ يجلبهُ الكرى ... هبوبَ نسيم الروضِ تجلبه الصبا
وقال أيضًا
ألمتْ بنا بعدَ الهدوء فسامحتْ ... بوصلٍ متى تطلبهُ في الجد تمنعِ
وولتْ كأنَّ البينَ يخلجُ شخصها ... أوانَ تولتْ من حشايَ وأضلُعي
وأصل هذا المعنى لقيس بن الخطيم ومنه أخذ البحتري وغيره وهو قوله
أني سريت وكنت غير سروب ... وتقربُ الأحلامُ غير قريب
وما تمنعى يقظى فقد تؤتينهُ ... في النوم غير مصردٍ محسوبِ
وعلى ذلك قول المؤمل
أتاني الكرى ليلًا بشخصٍ أحبهُ ... أضاءتْ له الآفاقُ والليلُ مظلمُ
وكلمني في النوم غير مغاضبٍ ... وعهدي به يقظانَ لا يتكلمُ
وذكر العباس بن الأحنف العلة في طروق الخيال فقال
خيالكِ حينَ أرقدُ نصبَ عيني ... إلى وقتِ انتباهي لا يزولُ
وليس يزورني صلةً ولكن ... حديثُ النفسِ عنكِ به الوصولُ
وتبعه الطائي فقال
زار الخيالُ لها لا بل أزاركهُ ... فكرٌ إذا نامَ فكرُ الخلقِ لم ينمِ
ظبيٌ تقنصتهُ لما نصبتُ له ... في آخر الليلِ أشراكًا من اللحمِ
وله أيضًا
زاركَ الزورُ ليلةَ من رم ... لةَ بين الحمى وبين المطالي
1 / 16