ولقد شاهدت بنفسي في سياحتي إلى اليمن السنة الماضية اعتدال بقعة صنعاء منذ صعدنا «عقبة آنس» حتى انتهينا إلى قرية يقال لها «القبة» ثم إلى قرية أخرى يقال لها «المعبر» ومن هناك سرنا عدة ساعات بالسيارة الكهربائية في بسيط من الأرض يعلو ألفين إلى ألفين وخمس مئة متر عن سطح البحر، إلى أن بلغنا صنعاء، فمررنا ببقعة من أحسن بقاع الأرض، وأكثرها قابلية زراعية، وأجودها هواء وماء، ولما وصلنا إلى صنعاء سألنا هل يوجد كثير من نمط هذه البقعة في اليمن؟ فأجابونا بأننا لم نشاهد إلا جزءا يسيرا من البسائط المريعة المحيطة بصنعاء من الجهات الأربع، وقد كاشفت بما في نفسي من هذا الأمر الأمير الخطير السيد عبد الله بن الوزير أمير الحديدة، وهو من العقل والفضل بالمقام الذي يندر مثله، فقال لي: إن اليمن في الحقيقة هي عبارة عن جبالها.
ولم تكن الزراعة وحدها سبب ثروة اليمن المدهشة في ذلك العصر كما تقدم الكلام عليه، فقد أفاض المؤرخون الأولون من اليونان والرومان مثل ديودور واسترابون وأغاترشيد، في ذكر تجارة سبأ، واستخراجها للذهب والحجارة الكريمة التي كانت تبيعها من البطالمة بمصر، وإلى الفينيقيين بالشام، هذا مع تجارة العنبر وعود الطيب وأيدت التوراة هذه الروايات كلها.
جاء في الانسيكلوبيديا الإسلامية أن لا مبالغة فيما نقلوه من أن أبواب منازل سبأ وجدرانها وسقوفها وأعمدتها كان منها الكثير مموها بالذهب والفضة مرصعا بالحجارة الكريمة، وأن آنيتهم كان مصوغة من أنفس المعادن، وهذا ما ذكره الهمداني والمسعودي وغيرهما من مؤرخي العرب، وما أيدته الكتابات الصخرية نفسها فيما ترويه عن التقادم العظيمة من الذهب والفضة ونفائس الأحجار، وقد وجد كثير من المسكوكات السبئية ومن الحلي تؤيد أيضا روايات الرواة من كل قبيل.
وقد عني بعض علماء الإفرنج بالتنقيب عن هذه الحياة الاقتصادية التي كانت في اليمن السعيدة من جميع نواحيها وكان السابق في هذه الحلبة «رودو كناكيس
Rhodocanakis » الذي ألف كتابا استخرج فيه من الكتابات الحجرية مما أمكنه أن يستخرجه من المسائل الاقتصادية التي كان يعول عليها أهل اليمن والمسائل الحقوقية المتعلقة بها.
وثبت من هذه التدقيقات أنه كان يوجد عند العرب الأولين قانون صارم يقتضي استثمار الأرض بدون إهمال شيء منها، وأنه كان يوجد إدارة خاصة لأجل تقسيم المياه وتوزيع الأعمال الزراعية، وهذه القوانين المتعلقة باستثمار الأرضين واستيفاء أسباب القيام عليها، كانت متشابهة في جميع بلاد العرب الجنوبية، وهذا البحث قد حمل «جرومان
Groiumann » على تأليف كتاب خاص بهذا الموضوع وصف فيه طبقات الأرض والمناخ، وكيفية توزيع المياه، واستخراج المعادن، وتربية المواشي والصيد وغير ذلك ، مما اعتمد فيه على الكتابات الحجرية من جهة وعلى شهادات المؤرخين والسياح من جهة أخرى، وقد استقى في هذا التأليف من بعض منابع مجهولة حتى الآن نظير الآثار التي جمعها غلارز ولم يتيسر له نشرها كلها، وبالجملة فرأي محققي الإفرنج عن بلاد العرب يتلخص فيما يلي:
الأول:
أن المدنية العربية - لا سيما في جنوبي جزيرة العرب - هي من أقدم مدنيات العالم وأرقاها، وهم على خلاف فيما إذا كان الساميون هم الذين نزحوا من جزيرة العرب إلى بلاد بابل، أو كانوا نزحوا من بابل إلى الجزيرة، وكل فئة من المؤرخين تفترض افتراضات لا يمكن معها الجزم بشيء.
الثاني:
Bilinmeyen sayfa