هذا ويقال إن جميع ما اطلع عليه غلازر الذي هو إمام هذا الفن لم ينشر بأجمعه لأنه لم يتسع له الوقت، ومات قبل أن يتمكن من نشر جميع معلوماته، وبعد موته نشروا في فيينا جانبا منها لا كلها، وقد ذهب غلارز إلى أن الكتابات المعينية ترجع إلى ما قبل المسيح بألف سنة، فلذلك اعترض العلماء على غلارز في هذا الزعم بحجة أن الكتابة المعينية مستقيمة وأشكالها هندسية، ولا يظن أن مثل هذا الشكل يكون متوغلا في القدم إلى تلك الدرجة.
جاء في الانسيكلوبيدية الإسلامية أنه لم يوجد بين كتاب العرب من جاء بتاريخ حقيقي عن اليمن، وبمعلومات مؤسسة على قواعد متينة مثل الهمداني، فقد كان هذا الرجل يمانيا مولودا في صنعاء فحمله حب وطنه والإعجاب بقومه على تأليف كتاب «الإكليل» الذي ذكر فيه تاريخ اليمن ووصف العاديات التي هي فيها. والجزء الثامن من الإكليل كان نشره مع ترجمة ألمانية الدكتور «مولر
H.Muller » كما تقدم وقد أخذ من الجزء العاشر معلومات تكمل ما ورد في كتاب الهمداني الآخر المسمى «صفة جزيرة العرب» وقد كان في كتاب الهمداني قصص أشبه بالأساطير نقلها الهمداني على علاتها إلا أنه برغم ذلك هو الكتاب العربي الوحيد الذي يفهم منه القارئ ما اليمن، وفيه تفاصيل عن أنساب اليمن وطبائع أهلها وعن مواقع مدنها وعن قصورها وحصونها لا توجد في كتب الإفرنج برغم جميع تدقيقاتهم.
وكذلك في إكليل الهمداني عن سبأ وعن سيل العرم ما لا يتم تاريخ اليمن إلا به، وقد ذهب مولر إلى أن الكتابات الحجرية لا تكفي لجلاء تاريخ سبأ ومعين وبلاد اليمن، فأما قول الهمداني إن باني سد مأرب هو لقمان بن عاد، فهو قول تابع فيه العوام والحقيقة التي ظهرت من الكتابات أن باني السد هو إثيممر، فأما وصف آثار السد بعد خرابه فإن أرنود وهاليفي لم يصفا تلك الآثار بغير ما صورها به الهمداني.
وقد قسم مؤرخو العرب أدوار اليمن قبل الإسلام إلى ثلاثة؛ الأول: من البدء إلى عهد تبع أبي كرب، والثاني: من عهد أبي كرب إلى ذي نواس، والثالث: من عهد ذي نواس إلى الإسلام. ولكن علماء الإفرنج قسموا هذه الأدوار إلى ثلاثة بشكل آخر فقالوا الدور الأول هو: السبئي المعيني، والدور الثاني هو: الحميري، والدور الثالث هو: الحبشي فالفارسي، ولعل الوقت يأتي بمعلومات أوضح ما تيسر حتى الآن، فإن تاريخ الأعصر الغابرة كان ظلمات بعضها فوق بعض فانكشف جزء منها بالحفر والتنقيب وحل الكتابات القديمة، ولا يزال تحت التراب - وربما فوق التراب - كتابات كثيرة لم يصل المنقبون إليها.
ولما كنت في الحجاز منذ ست سنوات، وصعدت إلى جبال الطائف، وجدت كتابات كثيرة على الصخور، وقيل لي إنها مستفيضة في كل مكان تقريبا من جزيرة العرب، وقيل لي أيضا إن بين المدينة ونجد كتابات لا تحصى، وكيف ضرب الإنسان في أرض جزيرة العرب يجد كتابات على الصخور، فإن من عادتهم أن ينقشوا أخبار الحوادث التي تقع عندهم على الجنادل، وقد شاهدنا من هذه الأخبار المحفورة على الصخر بالخط الكوفي شيئا كثيرا، وأوردت أمثلة عليه في رحلتي الحجازية.
ومرة قرأت في طريق وادي لية على صخر خبر قحط أصاب الناس وأجدبوا ثم بعث الله الغيث وسقوا، على أن مؤرخي الإفرنج يعترفون بأن في كتب مؤرخي الإسلام روايات عن مدنية سبأ القديمة والأدوار التي تلتها تنطبق أشد الانطباق على الكتابات المنقوشة في الحجر، وعلى المنابع اليونانية والرومانية، وكلها تفيد أن مدنية سبأ كانت راقية وأرقى من المدنيات العربية الأخرى، فالمباني القديمة الدائرة من آثار سبأ والنقوش والتماثيل وبقايا الأعمدة والهياكل، والقصور والأسوار والأبراج وسدود المياه، مما شاهده سياح الإفرنج بأعينهم يطابق أشد المطابقة الأوصاف التي وصف بها اليونان والرومان تلك الآثار المدهشة، ولا يجدون فيها مبالغة، كما أنه عندما ينظر السائح إلى تلك الآثار الباهرة لا يعود متعجبا مما جاء عنها في كتب الإسلام مما كان يظنه من أساطير الأولين، وحسبك بما ذكره الهمداني من قصر غمدان وغيره من قصور سبأ مثل قصر سالحين ويبنون، وما ذكره عن عظمة سد مأرب وما كتبه مؤرخو اليونان والرومان عن فخامة تلك القصور وهاتيك الأسداد والقلاع فهو مطابق للمحسوس للشهود بالعيان.
فقد كن العرب في جنوبي الجزيرة في حاجة إلى خزن مياه الأمطار لأجل زراعتهم، فبلغوا من الاعتناء ببناء السدود والحياض أقصى درجة يتصورها العقل، وترقت الزراعة في اليمن لذلك في العهد القديم إلى حد لا يخطر ببال أحد.
وروى الهمداني أنه كان يقال لليمن: اليمن الخضراء لكثرة أشجارها وفواكهها ومحصولاتها، ولم تكن الزراعة وحدها هي التي بلغت الأمد الأقصى من الرقي، بل ضارعتها التجارة من جهة والصناعة من جهة أخرى، فأما خصب أراضي اليمن الذي روى عنه هذه الروايات مؤرخو اليونان والرومان متفقين في ذلك مع مؤرخي العرب، فقد اعترف به سياح الإفرنج الذين جولوا في بلاد اليمن، إلا أن هؤلاء أشاروا إلى تناقص الأشجار والغابات بالقياس إلى الماضي.
وقد ذكر الهمداني اعتدال الإقليم في جهات صنعاء بخاصة وهذا يطابق ما قاله غلازر وغيره من السياح الأوروبيين، وهو أن أعالي اليمن معتدلة الهواء وأن هذا الاعتدال هو السبب في كثرة محصولاتها.
Bilinmeyen sayfa