وكانت هذه الطريقة غير تامة النجاح، فابتدع هنيبال وسيلة أفعل من هذه؛ لاستجلاب ما بقي من الفيلة، وذلك أنه ابتنى رمثا عظيما جدا، وجلبه على الماء عند الشاطئ وغطاه بالتراب وجذور الشجر، ثم ابتنى رمثا آخر بحجم هذا وأتى به على الماء، فوصله بالرمث الأول الواحد قدام الآخر، ومكنهما معا بحبال وستر الأخير بالتراب والأعشاب كما فعل بالأول.
وكان الأول من هذين الرمثين ممتدا مائتي قدم من الشاطئ فوق الماء، وعرضه خمسون قدما، وأما الثاني فكان أصغر منه قليلا.
وعندئذ طارد الجنود الفيلة نحو الرمثين؛ بحيث أصبحت على الرمث الأمامي، وهي تحسب لما تراه حولها أنها باقية على البر، ولما وقفت الفيلة على الرمث الأمامي أفلتت الحبال التي تربط الرمث، وراح الرمث الأمامي طافيا في النهر والفيلة عليه تجره القوارب العديدة التي كانت قد ربطت إلى طرفه الخارجي.
فحالما شعرت الفيلة بالحركة غير العادية ارتعدت وخافت وصارت تنظر إلى ما حولها، ثم احتشدت عند أحد أطراف الرمث فوجدت أنها محاطة بالمياه من كل جانب، فراع ذلك بعضها وتدافع حيث هوى في النهر فقذفه التيار إلى حيث أنقذه الجنود، على أن بقية الفيلة التي لم تر لها مهربا من ذلك استكانت، ولم تعد تبدي حراكا إلى أن بلغت الشاطئ، علما منها بأن المقاومة لا تجدي نفعا .
في ذلك الحين إذ كانت هذه الحوادث تشغل الجيش القرطجني عن كل أمر آخر، كان الثلاثمائة جندي التي أرسلها سيبيو إلى أعالي النهر لاستطلاع طلع القرطجنيين، قد تدانت من النقطة التي عندها عبر هنيبال النهر، وفي الوقت نفسه كان هنيبال لدى وصوله إلى النهر قد وجه خمسمائة جندي لاستطلاع أنباء الرومانيين، ولم يكن أحد الفريقين على علم بمقدار اقترابه من الآخر، وهكذا تقابلت الطليعتان على غير انتظار في بعض الطريق، وكلا الفريقين أرسلا للاستكشاف وليس للعراك، وكان كل منهما تائقا إلى إحراز المجد من أسر الفريق الآخر واقتياد رجاله إلى معسكره.
فتعاركا عراكا دمويا طويلا وقتل منهما عدد كبير متماثل على الجانبين تقريبا، فقال الرومانيون إنهم أحرزوا النصر على أننا لا نعلم ما قاله القرطجنيون، ولكن بما أن الفريقين انسحبا من المعركة متراجعين نحو معسكرهما، فمن الراجح ألا يكون أحدهما قد أحرز نصرا حاسما على الآخر.
الفصل الخامس
هنيبال يجتاز جبال الألب
إنه يصعب على كل واحد لم ير جبال الألب بأم العين أن يتصور في ذهنه حقيقة جمالها وعظمتها، ولم يكن هنيبال قد رأى الألب؛ على أن العالم كان يومئذ كما هو اليوم عالما بشهرتها وجلالها، ومن جملة مظاهرها الدالة على التسامي والعظمة البرد الدائم على قمم هذه الجبال، وهذا ناتج بالطبع من علوها الشاهق؛ ففي أي مكان من الكرة الأرضية نرى أننا كلما علونا إلى الجو يصير الهواء لما لا نعلم من الأسباب باردا على التوالي مشتدا كلما تابعنا الصعود، بحيث تصير فوق رءوسنا مسافة ميلين أو ثلاثة من البرد المستمر القارس، ويصح هذا ليس فقط في المناطق الباردة والمعتدلة من الكرة الأرضية، بل في الأقاليم الشديدة الحرارة أيضا، حتى إننا إذا حلقنا بمنطاد في بلاد بورنيو عند منتصف النهار، حيث تكون حرارة الشمس المحرقة فوق رءوسنا تماما إلى علو خمسة أو ستة أميال، نجد حرارة الشمس مع اقترابنا على الدوام منها تقل، وأشعتها تفقد حرها الشديد بالتدريج، نعم إنها مصوبة إلينا على التوالي مشرقة حوالينا وعلينا بلمعانها المعروف إلا أن حرارتها مفقودة، إنها عندئذ تصير كأشعة القمر ونصير نحن في وسط محيط بارد كما لو كنا في المنطقة المتجمدة.
ومن هذا الإقليم العالي ذي البرد الأزلي يهبط علينا الثلج ومن هناك يسقط، ولكنه إذا كان كالقطن المندوف قبل الوصول إلى الأرض، وهكذا فبما أن البرد صلب المادة سريع السقوط لثقله وملاسته، فهو يندفع سريعا ويصل إلينا بشكله، وأما الثلج فينحل وينزل علينا كمطر مرطب بارد، فالمطر يبرد الهواء حولنا وعلى الأرض؛ لأنه يأتي من مناطق باردة كائنة في الهواء المتعالي فوقنا.
Bilinmeyen sayfa