ولكي يكون أمينا إلى الحد المتناهي من هذا القبيل ابتدع هذه الخطة البديعة، وهي أنه جند جيشا من سائر الأمم التي في إسبانيا والموالية له، منتخبا الشبان المتطوعين من أسر ذات وجاهة ونفوذ، وعندما اكتمل عدد هذا الجيش وتنظم بقواده وضباطه وجهه إلى قرطجنة، وغرضه من ذلك أن يفهم تلك الشعوب التي انتخب ذلك الجيش من أبنائها أنه لا يعد تلك الجنود عساكر منخرطة في سلك جيشه فقط، بل يعدها أسرى أو رهائن يمسكها كضمان يكفل له إخلاص هاتين البلدان وطاعتها، وكان عدد ذلك الجيش أربعة آلاف رجل.
وكان لهنيبال أخ اسمه مثل اسم صهره أسدروبال من قبيل التصادف، فعهد إليه في القبض على زمام الحكومة في إسبانيا مدة غيابه عنها، وكانت الجنود التي وضعها تحت إمرته في إسبانيا مأخوذة من أفريقيا كما تقدم القول، ونظم له قطعة من الفرسان زيادة على هذا الجيش، وترك معه أربعة عشر فيلا، وإذ كان على احتساب من إمكان هبوط الرومانيين على شاطئ إسبانيا في غضون غيابه من جانب البحر منتهزين فرصة انشغاله في إيطاليا؛ ابتنى لأخيه نحو ستين سفينة وجهزها بالعدة الكاملة منها خمسون سفينة من الطراز الأول.
ومعلوم أن أهمية البوارج والمستزريات الحربية العصرية تتوقف على عدد المدافع التي تحملها، أما أهمية سفن تلك الأيام الحربية فكانت متوقفة على عدد صفوف المجدفين فيها، ومن أجل هذا ابتنى لأخيه خمسين بارجة خماسية (كونكواريوم كما كانوا يسمونها)، وهي التي كانت ذات خمسة صفوف من المجذفين، ولم يكن الرومانيون متهاملين في أمر الاستعداد، فهم مع كونهم قد ترددوا في أمر الحرب إلا أنهم وجدوا من الضرورة الماسة التأهب لها؛ لكي - إذا فوجئوا بها - يكونوا على أتم الاستعداد لخوض غمراتها بهمة تامة وعدة كاملة، عندما يرون ألا مناص لهم منها.
فقر رأيهم على حشد جيشين عظيمين، كل جيش لقنصل من قنصليهما، ووضعوا لهما خطة حربية مآلها أن أحد الجيشين يتقدم لملاقاة هنيبال بينما الآخر يقصد سيسيليا، ومنها يعبر إلى الشاطئ الأفريقي بقصد أن يهدد عاصمة القرطجنيين، فإذا نجحت هذه الخطة فإنها ترغم القرطجنيين على استدعاء قسم من جيش هنيبال أو الجيش كله من الساحة الإيطالية؛ لكي يدافع عن أوطانهم.
وكان عدد الجيوش التي حشدها الرومانيون نحو سبعين ألف مقاتل؛ ثلثهم جنود رومانيون والبقية مجندة من أجناس الأمم المختلفة القاطنة في إيطاليا، وفي جزائر بحر الروم الموالية للرومانيين. وكان من هذا الجيش نحو ستة آلاف فرسانا، وكان على الرومانيين أن يعدوا أسطولا إذا هم فكروا في اجتياز البحر إلى أفريقيا، فابتنوا أسطولا وجهزوه بكل معدات القتال، وكان عدده مائتين وعشرين سفينة من الطراز الكبير، أي الخماسي، وكان لديهم عدد من السفن الصغيرة للأعمال التي تتطلب سرعة في السير.
وكان لدى أهل تلك الأيام سفن أكبر من السفن الخماسية، فقد ذكر المؤرخون شيئا كثيرا عن سفن ذات ستة وسبعة صفوف أيضا من المجذفين، على أن مثل هذه السفن الضخمة كانت تستخدم بمثابة بوارج لأمراء البحر ولغير ذلك من الاحتفالات والاستعراضات؛ ذلك لأنها كانت ضخمة ثقيلة بحيث لا تصلح للعراك.
وكانت عادة الرومانيين في مثل هذه الظروف إلقاء قرعة لتقليد زمام الجيشين إلى كل واحد من القنصلين، فالجيش الذي كان عليه أن يلقى هنيبال على طريقه من إسبانيا ألقيت مقاليده بحسب القرعة إلى القنصل كرنيليوس سيبيو، واسم القنصل الآخر سمبرونيوس فهذا عهد إليه في اقتياد الجيش الذي يسير إلى سيسيليا ومنها إلى أفريقيا، ولما فرغوا من كل هذا طرحت المسألة نهائيا أمام الشعب الروماني للتصويت والموافقة النهائية عليها بهذه العبارة: «هل يقر رأي الشعب الروماني على شهر الحرب ضد القرطجنيين؟»
فكان الجواب بالإيجاب، وعند ذلك أعلنت الحرب باحتفال رسمي على جاري العادة، وتلت ذلك طقوس وحفلات دينية وتقديم ضحايا لاستجلاب رضا الآلهة والاستعانة بها، ولتحريض الجنود وبث روح البسالة في صدورهم وإيجاد الثقة في نفوسهم بالتقاليد التي تحمل كل واحد منهم مهما كان شريرا على الإقدام، عندما يتصور أنه أصبح تحت حماية السماء، ومتى تمت كل هذه الحفلات والطقوس يكون كل استعداد قد أكمل.
وكان هنيبال في الوقت نفسه يزحف متقدما مع إقبال فصل الربيع نحو ضفاف نهر إيباروس، ذلك المجرى الذي يفصل التخوم، والذي مكنه عبوره في الماضي من اجتياح الأرض التي كانت معدودة أرضا رومانية، فاجتاز النهر بإقدامه المعروف، وزحف إلى جبال البيرنيه التي منها يتألف الحد الفاصل بين فرنسا وإسبانيا.
ولم يكن جنوده عندئذ يعرفون شيئا عن مراميه، فإن القادة في تلك الأيام كانوا - كما هم اليوم - يكتمون مقاصدهم وخططهم الحربية عن الجيوش، ذلك فضلا عن أن جنود تلك الأيام لم تتوفر لهم الوسائل المتوفرة لجنود هذا الزمن، من حيث كثرة الجرائد التي لا تترك خبرا إلا وتنشره أو سرا إلا وتفضحه للناس. وهكذا فإنه إذا كان ضباط الجيش ووجهاء القوم في رومية وقرطجنة عالمين بمقاصد هنيبال وما يرمي إليه، فإن جنوده الجهلاء المستعبدين لم يعرفوا شيئا سوى أنهم مسيرون إلى عمل بعيد كثير المشقة.
Bilinmeyen sayfa