غير أنك إن بحثت في أعمال هؤلاء جميعا لما وقعت على شيء من قوة الابتكار الحقيقي، أو على تعمق في الدرس العلمي، أو التأمل الفلسفي الصحيح؛ لأن جماع ما في تلك الحركة لم يكن إلا نقل المتون الموجودة بين أيديهم، مع إصدار تراجم جديدة فيها، أو تعليقات عليها، أو مقالات تفسيرية تحشى بها، على أن هذه الأشياء بدورها قد سدت فراغا كبيرا في تاريخ الفكر الإنساني.
على أن الفتح العربي لم يحدث من أثر يصد تلك البحوث العلمية عن الانبعاث في طريقها، فبنو أمية لم يفكروا يوما في التعرض لشئون المدارس الفلسفية، وكان الطلاب السريان ممتعين بأقصى حد من الحرية تحت حكم العرب.
أما ما يرويه بعض المتعصبين من المؤرخين في مطاردة العرب لرؤساء الدين المسيحي فكله فاسد من أساسه، فقد كان بعض رؤساء المسيحية يلجئون إلى الخليفة العربي المسلم، ويضجون له بالشكوى من إخوانهم في الدين، وكان ذلك السبب الأكبر في التعرض لشئون النصارى. وهو ما يسميه بعض المؤرخين تعقبا للنصرانية ومطاردة لها، واستمر أساقفة المسيحية على بحثهم العلمي والفلسفي حتى سنة 740 حين سيم «مار أبها»
MarAbha
رئيسا لأساقفة النساطرة، فألف تعليقا على منطق أرسطوطاليس.
وكانت سنة 740م - أي سنة 133 للهجرة - بدء عهد جديد في تاريخ العربية، إذ أخذ أبناؤها يبدون حظا غير قليل من الاشتراك في تلقي الفلسفة والعلم، وبدأت التراجم والتعليقات تظهر في اللغة العربية، على أن الدراسة باللغة السريانية لم تفقد أهميتها فجأة، بل ظلت موئلا للعلم ومهدا للفلسفة حتى زمان «أبي الفرج بن العبري» في القرن الثالث عشر الميلادي 1286، الذي ينتهي به تاريخ الآداب السريانية، سوف نعود إلى الكلام فيه.
وكونت أول مدرسة صحيحة للترجمة في العالم العربي من حنين بن إسحاق وابنه إسحاق بن حنين، وابن أخته حبيش الأعسم الدمشقي، مع غيرهم من المترجمين، تلك المدرسة التي أسسها في بغداد الخليفة المأمون لتنقل المتون اليونانية في الفلسفة والعلوم إلى العربية، وذلك ما سوف نعود إليه بعد.
غير أننا لا ننسى هنا أن حنين بن إسحاق كان مسيحيا نسطوريا، واشتغل زمانا بالترجمة من اليونانية إلى السريانية، والمقول: إنه ترجم من السريانية، إلا أنه راجع فقط على الرواية الصحيحة الإيساغوجي لفرفوريوس، وإرمانوطيقا لأرسطوطاليس، وجزءا من الأناليطيقا، ومقالة لأرسطوطاليس في الروح المسماة «ده أنيما»
de Anima
وجزءا من الميتافيزيقا - ما بعد الطبيعة - وتلخيصات نيقولاس الدمشقي، وتعليقات الإسكندر الأفروديسي، والجزء الأعظم من مؤلفات جالينوس
Bilinmeyen sayfa