الإهداء
تاريخ الفكر العربي في نشوئه وتطوره بالترجمة والنقل عن الحضارة اليونانية
جابر بن حيان
أسلوب الفكر العلمي
معتقد أبي العلاء المعري
القصد والغاية
أحمد شوقي
مهيار الديلمي
بشار بن برد
الإهداء
Bilinmeyen sayfa
تاريخ الفكر العربي في نشوئه وتطوره بالترجمة والنقل عن الحضارة اليونانية
جابر بن حيان
أسلوب الفكر العلمي
معتقد أبي العلاء المعري
القصد والغاية
أحمد شوقي
مهيار الديلمي
بشار بن برد
تاريخ الفكر العربي
تاريخ الفكر العربي
Bilinmeyen sayfa
تأليف
إسماعيل مظهر
الإهداء
إلى أستاذي وصديقي الدكتور يعقوب صروف
إحياء لذكرى الصداقة واعترافا بما له عندي من الدين الأدبي الذي إن عجزت عن أن أؤديه إليه حيا، فلا أقل من أن أحيي اليوم ذكراه وهو في عالم الأرواح.
تاريخ الفكر العربي في نشوئه وتطوره بالترجمة والنقل عن الحضارة اليونانية
1
للعقل الإنساني منازع قد تسوق إلى نواح من التأمل بعيدة كل البعد عن المنزع الحقيقي الذي كان سببا في تحريك الفكر نحو النظر في المعقولات، فإذا نظرت في الخلافات التي وقعت بين النصارى لدى أول عهدهم بالوجود، لما استطعت أن تدرك بادئ ذي بدء، إلى أي حد سوف يذهب خلافهم، وتنتهي مناظراتهم.
كان الخلاف على طبيعة المسيح مبدأ مناقشات تناولتها الشيع الكنسية في القرون الأولى، وكان لاختلاف المذاهب في تلك المسألة أكبر الأثر في النظر في المعقولات وفي التأمل الفلسفي.
اشتهرت أنطاكية بأنها من أولى مدن المسيحية التي قام زعماء الدين فيها بأول حركة من تلك الحركات الفكرية، التي كانت ذات أثر كبير في شيوع الفلسفة، وفروع الفلسفة اليونانية خاصة، ذلك بعد مناظرات دينية طويلة لا محل لذكرها، وقام بالحركة في أنطاكية معلمان يقال لأحدهما: «دبودوروس» والآخر «تيودوروس المصيصي»، وكانا شديدي الاعتقاد في كمال الناسوتية في المسيح - عليه السلام.
Bilinmeyen sayfa
وكان أكبر المؤيدين لهذا المذهب راهب من رهبان أنطاكية يقال له: «نسطوريوس»، انتقل إلى القسطنطينية أسقفا لها سنة 428م، وتبع تأييد «نسطوريوس» لهذه الفكرة مناقشات حادة، حتى انتهى الأمر بعقد مجلس ديني في مدينة «إفسوس» سنة 431م، فانتصر حزب الإسكندرية، وهو الحزب القائل بما يضاد المذهب النسطوري، واعتبر نسطوريوس وأتباعه هراطقة.
كان النساطرة على اعتقاد كامل في أن نظراءهم بعيدون عن حكم العقل والضرورات الطبيعية؛ لذلك سعوا بعد مضي عامين على حكم مجلس «إفسوس» إلى جمع شملهم، وعلى الرغم من مطاردتهم والاستبداد بهم، نزلوا مصر واتخذوها مقرا لبث تعاليمهم.
قبيل ذلك العهد أغلقت مدرسة «نصيبين»
1
Nisibis
أو بالأحرى انتقلت إلى «الرها»
Edessa . وفي سنة 363م سلمت مدينة «نصيبين» إلى الفرس تنفيذا للمعاهدة التي عقدت إثر الحرب التي أشعل نارها الإمبراطور «يوليانوس»، وكان أعضاء مدرستها منتشرين في الممالك المسيحية إذ ذاك، فعادوا إلى التجمع في «الرها»، وفتحوا مدرسة سنة 373م، وبذلك أصبحت تلك المدينة، ولو أنها في أرض تابعة للإمبراطورية البيزنطية مركزا للكنيسة التي ينطق زعماؤها باللسان السرياني.
أصبحت مدرسة «الرها» بعد ذلك موطنا لأفراد من زعماء النساطرة الذين لم يقبلوا حكم مجلس «إفسوس»، غير أن الإمبراطور «زينون» أغلق تلك المدرسة سنة 439م بحجة أن صبغتها نسطورية متطرفة، فلم يجد أهلها من موئل سوى الهجرة إلى البلاد الفارسية، فهاجروا تحت رئاسة كبيرهم «بارسوما» سنة 457م.
نجح «بارسوما» في أن يقنع «فيروز»
ملك الفرس بأن النساطرة يوالون أبناء فارس، ويمضون خاضعين لقوانينهم، وظلوا على عهدهم هذا عاكفين في كل الحروب التي وقعت من بعد ذلك. ثم أسس النساطرة مدرسة أخرى في «نصيبين»، فأصبحت بؤرة تشع منها التعاليم النسطورية، تلك التعاليم التي كونت وجها من أوجه المسيحية مصبوغا بالصبغة الشرقية البحتة.
Bilinmeyen sayfa
ومن ثم انتشر النساطرة في جوف آسيا وبلاد العرب، ينشرون تعاليم المسيحية، ولم يكونوا عاملين على نشر المسيحية فقط، بل أرادوا أن ينشروا معها تعاليمهم الخاصة في طبيعة المسيح، فأخذوا يستعينون على بث أفكارهم بأقوال ومذاهب منتزعة من الفلسفة اليونانية، فأصبح كل مبشر نسطوري بحكم الضرورة معلما في الفلسفة اليونانية، كما أنه مبشر بالدين المسيحي.
ترجم النساطرة كتب زعمائهم، وعلى الأخص كتب «تيودوروس المصيصي» إلى السريانية؛ ليستعينوا بها على بث أفكارهم، ولكنهم لم يقتصروا على ذلك، بل ترجموا كثيرا من كتب أرسطوطاليس والذين علقوا عليها؛ لأنهم وجدوا فيها أكبر نصير يشد عضدهم في فهم المسائل اللاهوتية العويصة، التي كانوا يبشرون بها بين أمم لم تشم من ريح المدنية إلا قدرا يجعل نشر مثل تلك التعاليم متعذرا، ما لم يستعن عليها بمبادئ من الفلسفة ومباحث في التأمل.
غير أن كثيرا من تلك التراجم قد صب في قالب لم يراع فيه نقل الفلسفة اليونانية لذاتها، بل اتخذت التراجم ذريعة لبث مذهب ديني، هو مذهب النساطرة، والطعن في قياصرة الروم، والكنيسة الرومانية، فقلت الثقة بالنقل من هذه الوجهة وحدها، حيث كانت الضرورة تقضي بأن يختلط قليل من الفلسفة بكثير من تعاليم المذهب النسطوري أو بالعكس؛ للاستعانة بذلك على بث المذهب الديني، وهو الغرض الرئيسي.
تلك كانت النواة التي أشعت بالفلسفة اليونانية، وعلى الأخص بفلسفة أرسطوطاليس والأفلاطونية الجديدة في جو آسيا خارج حدود الإمبراطورية البيزنطية، وسوف نرى في سياق هذا البحث كيف أن جماعة من مترجمي النساطرة كانوا أول من نقل تلك الفلسفة من السريانية إلى اللغة العربية، وبذلك انتشرت في العالم العربي كله.
غير أنك تجد رغم هذا أن في الحركة النسطورية أوجها من النقص شأن كل شيء يصدر عن الإنسان، فإن انبتات صلاتها بالعالم اليوناني خارج الإمبراطورية البيزنطية، جعل حركتها التعليمية مصبوغة بصبغة الانحصار في بقعة محدودة من آسيا.
أما «نسطوريوس» فإنه إن كان قد اتهم أمام الكنيسة، وصدر حكم مجمع «إفسوس» عليه، فإنه ترك الكنيسة أمام مشكلة من مشاكلها العظمى، التي ظلت تعمل في رءوس الناس زمانا، حتى انتهت المناقشات الشيعية بمجمع آخر عقد في سنة 448م بمدينة «خلقيدونية»
Chalcedon ، وكانت نتيجته أن أخرجت فئة أخرى من الكنيسة الرئيسية هم فئة المعتقدين بالطبيعة الواحدة في المسيح
Monophysites .
والظن الغالب على كثير من المؤرخين أن الكنيسة المصرية قد تبعت القائلين بالطبيعة الواحدة، ففي القرن السادس قام يعقوب السروجي وأنشأ شيعة اليعاقبة، وهو الذي كون الكنيسة اليعقوبية المصرية، وجمع شمل أعضائها وأقام أسسها، وأكبر دليل على ذلك أن اسم «أقباط» مشتق من يعاقبة، فإن اسم هؤلاء في العالم اللاتيني «جاكوبيت»، وأقباط أقرب الأشياء تحريفا إليه.
اضطهدت إمبراطورية بيزنطية الشيعة اليعقوبية، ولكن أعضاءها لم يخرجوا عن حدود الإمبراطورية، بل ظلوا داخلها كقسم مستقل بصورة خاصة من أصحاب الطبيعة الواحدة
Bilinmeyen sayfa
Monophysites
وأرسلوا طائفة منهم خارج الإمبراطورية تبث تعاليمهم، على أن هؤلاء قد اتبعوا نفس الطريقة التي اتبعها النساطرة في ترك لغة نظرائهم في الدين، وعمدوا إلى استعمال اللغة القبطية واللغة السريانية، والحق أن عصر اللغة السريانية الذهبي لا يبدأ إلا برجوع اليعاقبة عن استعمال اللغة اللاتينية إلى اللغة السريانية.
والظاهر لكل من درس علم اللغات أن هنالك فاصلا حقيقيا بين اللغة السريانية كما استعملها اليعاقبة في الغرب والنساطرة في الشرق؛ فإن اليعاقبة قد انتحلوا لهجات حديثة، يغلب أن يكون السبب فيها راجعا إلى طبيعة استيطانهم وتوزعهم الجغرافي.
إذا اعتبرنا النتائج التي حدثت من خروج النساطرة واليعاقبة، استطعنا أن نفهم لماذا ترجمت أعمال الفلاسفة اليونان إلى اللغة السريانية، بينا نجد أن الحركة النسطورية قد أصبحت بالتدريج الوسط الذي تركزت فيه ثمار التثقيف اليوناني، وانتشرت في آسيا خارج حدود الإمبراطورية البيزنطية خلال بضعة القرون التي تقدمت انتشار الإسلام.
ولا خفاء في أن تعاليم أرسطوطاليس وأتباعه المشائين، وكذلك تعاليم فلاسفة المدرسة الأفلاطونية الجديدة، كانت ذات أثر بارز في التأثير على كل من تعمد الخوض في معارك الطوائف الدينية في ذلك الزمان، وكذلك منطق أرسطوطاليس، فإنه كان كبير الفائدة وعليه بنيت طريقة الجدل التي اتخذها زعماء الدين ذريعة لإثبات مزاعمهم.
وبعد أن انفصل النساطرة واليعاقبة عن لغتهم الأصلية، نقلوا كثيرا من الكتب المسيحية إلى اللغة السريانية، فأصبح في هذه اللغة مجموعة كبيرة من المؤلفات الفلسفية والعلمية والدينية، على أن السبب في أنه لم ينقل إلى اللغة القبطية من المؤلفات بقدر ما نقل إلى اللغة السريانية، أن اليعاقبة في مصر لم تدعهم الحالات إلى مواجهة مسائل معضلة في الدين، كما كان النساطرة في آسيا.
كان العصر الواقع بين بدء المجادلات الدينية في الكنيسة المسيحية، وظهور الرغبة عند المسلمين في درس الفلسفة، عصر ترجمة وإنتاج ذهني، علق خلاله على كثير من مسائل الفلسفة، واستعرضت فيه طائفة كبيرة من أفكار اليونان ومذاهبهم، ولم يعن الناقلون في ذلك العصر بالفلسفة وحدها، بل عمدوا إلى الطلب وعلم الكيمياء والفلك، فترجموا في تلك العلوم كثيرا؛ لأنهم كانوا يعتقدون أن بين الطب وبين الكيمياء والفلك آصرة قريبة ونسبا أدنى، فكانوا يقولون بأن لعلم الفلك من الوجهة الطبيعية علاقة بنشوء الأمراض، وحالات الحياة والموت والصحة والمرض.
كانت المباحث الطبية أكثر ذيوعا في مدرسة الإسكندرية منها في أية مدرسة أخرى، أما الفلسفة بمعناها الحقيقي، فكانت علاقتها باللاهوت مباشرة، حتى اضطر دارسو العلوم إلى أن يفصلوا بين مباحثهم وبين الفلسفة بقدر ما كان ذلك في المستطاع، على ما كان عليه الفكر في تلك العصور من عدم القدرة والعجز عن التفريق بين كفايات العقل البشري.
كان «يوحنا فيلوبونس»
John Philoponus
Bilinmeyen sayfa
أو يوحنا النحوي
2 - كما يدعوه العرب خطأ - من متأخري الذين علقوا على أرسطوطاليس، كما كان من أوائل الذين درسوا الطب في مدرسة الإسكندرية، والسنة التي توفي فيها غير معروفة، ولكن المحقق من أمره، أنه كان يدرس في مدرسة الإسكندرية في الوقت الذي أغلق فيه الإمبراطور «يوستنيانوس» مدارس أثينا سنة 529 ميلادية.
ومن مشهوري فلاسفة الإسكندرية «بولس الأجانيطي»
Aeginae ، وكان يدرس في الوقت الذي وقع فيه الفتح العربي، وظلت كتبه زمانا طويلا تدرس في مدرسة الإسكندرية كمتون ذات قيمة كبيرة في علم الطب، وكان أعلام المدرسة قد رسموا برنامجا، لعله الأول من نوعه في تاريخ الدرس والتحصيل لتدريس الطب، يدرسه كل من أراد أن يزاول تلك الصناعة عمليا.
ولذلك انتخبوا ست عشرة مقالة من مقالات «جالينوس»، وترجموها ليؤلفوا منها برنامج الطب في المدرسة، ثم اختصروا بعضها واتخذت المختصرات كرءوس موضوعات تلقى على نسقها المحاضرات التعليمية شرحا وتفصيلا. وغالب الظن أنهم ما نزعوا إلى اختصار مقالات «جالينوس»، واتخاذها رءوس موضوعات فقط، إلا لما أنسوا في أنفسهم وفي أساتذتهم من قوة الابتكار والتعمق في الدرس، لأبعد مما كان يحدده لهم «جالينوس» في مقالاته، وفي ذلك الزمان أصبحت مدرسة الإسكندرية منبعا للكثير من الأبحاث المبتكرة المحققة النفع، لا في مادة الطب وحدها، بل في علم الكيمياء، وكثير من العلوم الطبيعية. وما أشبه مدرسة الإسكندرية قبيل الفتح العربي بخلية تدوي بمختلف البحوث العلمية.
بيد أن هذه الحركة الطيبة لم تخل من نتائجها الرجعية، على ما كان فيها من نزعة إلى العلم والفلسفة والتنوير الذهني، فإن التقاليد - وأجدر بها أن تؤثر في ذلك العصر أضعاف تأثيرها في عصرنا هذا - قد أفسدت بعض وجوه العلم والفلسفة، فنزعت فئات إلى ناحية «الجمود الفلسفي»
ابتغاء الضغط على العقول والرجوع بها إلى العالم المجهول من الفلسفة، على اعتقاد أن إدراكه من طريق الطلسمات وفن التنجيم مستطاع على الأقل.
هذا هو السبب المباشر في كثرة ما تقع عليه عند العرب من ضروب المفاسد والشعوذة، وفي كل ذلك يقول كبار المؤرخين: إن الذنب في ذلك ليس ذنب الإسلام ولا المسلمين، ولا ذنب العقل السامي، ولكنها وراثة ورثها العرب عن الإسكندرية بعد الفتح العربي، كما ورثتها جامعة «بادوى»
الأوروبية في القرون الوسطى عن العرب.
كان أول احتكاك للعرب بالآراء اليونانية في مدينة الإسكندرية؛ لذلك كانت وراثتهم منها أقرب من وراثتهم عن سوريا، ولهذا انتشر عندهم التنجيم، ودلف العرب بقدمهم في مفاوزه الوعرة، وظلوا عليه عاكفين حتى آخر عصور مدنيتهم؛ ذلك لأن نجم الإسكندرية في العلم قد أطفأ أنوار السريانية، وأخص ما يأخذ بلب الناس في مثل تلك الحالات خداع الشهرة وبعد الصيت؛ لهذا أكب العرب تحت تأثير تلك العوامل على نواتج العقل في الإسكندرية، دون ما تضمنت السريانية من مباحث العلم والفلسفة.
Bilinmeyen sayfa
في وسط هذه الصورة الذهنية نبتت مؤلفات «بولس الأجانيطي» الذي مر بنا ذكره، وقد ظلت مؤلفاته طوال العصر العربي والعصر اللاتيني في القرون الوسطى مادة التعاليم الطبية.
كذلك كانت مدرسة الإسكندرية منبتا لعلم الكيمياء، ففيها تكونت النواة الأولى التي استمد العرب منها، سواء أفي هذا العلم، أم فيما تفرع منه من الفنون الأخر، التي كثيرا ما امتزجت بالخيالات والأوهام، وفي ذلك يقول المؤرخ الكبير مسيو «برتيلو»
Berthelot
في كتابه «الكيمياء في القرون الوسطى»، الذي طبع بباريس سنة 1893: «إن المادة العربية في الكيمياء تنقسم إلى قسمين: الأول مترجم أو مأخوذ عن كتاب اليونان الذين كتبوا في مدرسة الإسكندرية، والثاني يمثل مدرسة عربية ثانية مستقلة المباحث عن الأولى.»
وبينما كانت مدرسة الإسكندرية غارقة في المباحث الطبية، كانت كنائس آسيا وأديرتها ومدارسها، ممعنة في المباحث المنطقية والفلسفية التأملية.
وكان من الطبيعي أن يأخذ اليعاقبة عن تعليقات «يوحنا فيلوبونس» في تدريس علم المنطق؛ لعلاقتهم بمصر أولا، ولأن فيلوبونس من شيوخهم ثانيا.
غير أنهم لم يفعلوا لك، بل رجعوا والنساطرة إلى مختصر «فرفوريوس الصوري» في المنطق المسمى «إيساغوجي»، وأخذوه كمدخل لعلم المنطق، ولا يزال هذا الكتاب يقرأ في الأزهر حتى اليوم كمدخل لذلك العلم.
أما في الميتافيزيقا «ما وراء الطبيعة» والبسيكولوجيا «علم النفس»، وتطبيقهما على علم اللاهوت، أو في الاستعانة بهما على فهم المسائل اللاهوتية، فقد كان ميل اليعاقبة إلى الأفلاطونية الجديدة والباطنية أقوى من ميل النساطرة، كما كانت حياتهم وتعاليمهم أكثر استكانة في الأديرة، في حين أنك تجد أن النساطرة قد نزعوا إلى الطريقة القديمة في تأسيس المدارس، ولو أن ذلك لم يحل دون اتخاذهم أديرة، كانت بدورها منبتا للعلم والفلسفة. وإذ أنت على ذلك إذا بك تجد أن نظام المدارس قد انقلب في آخر الأمر إلى نظام الرهبنة.
كانت مدرسة «نصيبين» أقدم مدارس النساطرة وأعظمها جميعا، غير أن «مارأ بها»
MarAbha
Bilinmeyen sayfa
وهو زرادشتي تنصر، وسيم أسقفا نسطوريا، أسس مدرسة في «سلوقية» على نظام مدرسة «نصيبين».
وبعد ذلك بقليل أسس «كسرى أنوشروان» ملك الفرس المشهور مدرسة زرادشتية في «جنديسابور» من أعمال «خوزستان»، وحكم «أنوشروان» بين 531-578 من الميلاد، وكان قد تأثر بتعاليم اليونان، حينما كان يحارب سورية البيزنطية، فأضاف جمعا من الفلاسفة اليونان، والفلاسفة العارفين بالفلسفة اليونانية، عندما أغلق الإمبراطور «يوستنيانوس» الهياكل والمدارس في أثينا.
وكان الذين وفدوا على «كسرى» من الفلاسفة سبعة، فأكرم وفادتهم وأضافهم، وأمرهم بتأليف كتب الفلسفة أو نقلها إلى الفارسية؛ فنقلوا المنطق والطب، وألفوا فيهما كتبا، فطالعها هو ورغب الناس فيها (راجع الفهرست ص242)، على أن في رواية صاحب الفهرست شكا كبيرا، إذ كيف ينقل الفلاسفة اليونان الوثنيون الذين لا احتكاك لهم بالفارسية، وعلى الأخص الفهلوية، كتب المنطق والطب إلى لغة فارس، في حين أن الراجح ألا يكون لهم إلمام إلا بلغتهم اليونانية القديمة، يبقى ذلك الشك ما لم يثبت أن الفلاسفة اليونان كان لهم سابقة في دراسة الفارسية في عصر متقدم على عصر أنوشروان.
ويقول بعض المؤلفين: إن أنوشروان عقد المجالس للبحث والمناظرة، كما فعل المأمون من بعده بقرنين ونيف، حتى «خيل للإغريق الذين جالسوه أنه من تلامذة أفلاطون»، أما عقد أنوشروان لمجالس العلم فذلك محتمل؛ لأن أخباره مع وفود العرب وعقد المجالس لهم معروفة مشهور أمرها بين الأدباء، أما بقية الرواية فأمر مشكوك فيه؛ لأن عهد أنوشروان بفلسفة اليونان كان قصيرا إلى حد لا يعقل أن يبرز فيه أنوشروان في الفلسفة إلى هذا المدى القصي، ومما يجعل الرواية أدخل في الشك أن أفلاطون علم في القرن الرابع قبل الميلاد، ولم يعقد أنوشروان مجالس الفلسفة والعلم إلا في القرن السادس بعد الميلاد؛ فكيف يخيل إلى الفلاسفة اليونان الذين حضروا مجلسه أنه تلميذ من تلامذة أفلاطون، في حين أن تلاميذ أفلاطون كان قد أكلهم البلى من قبل ذلك بألف عام؟
والذي ذكر هذه الرواية العلامة «غيبون» مؤرخ سقوط الدولة الرومانية (راجع كتابه تداعي الإمبراطورية الرومانية وسقوطها، طبعة سنة 1813، جزء ثان ص298-307). على أن «غيبون» لا بد من أن يكون قد استسقى هذه الرواية من كتاب عربي قديم.
3
ومما يدلك على اهتمام «أنوشروان» بأولئك السبعة الذين وفدوا عليه من فلاسفة اليونان، أنه وضع في المعاهدة التي عقدها والإمبراطورية البيزنطية نصا خاصا بهم، ضمن لهم به حريتهم المدنية والدينية، وعدم الاستبداد بهم فيما لو أرادوا العودة إلى وطنهم.
كان هؤلاء الفلاسفة من الآخذين بتعاليم «الأفلاطونية الجديدة»
Neo-Platonism
على أن أثرهم في الحياة الفارسية غير معروف بالضبط، فإلى أي حد تذهب هذه التعاليم في التأثير على صور التصوف التي ظهرت في فارس فيما بعد؟ ذلك ما أخذت المباحث الجديدة تجلو عنه الأستار . فقد كتب العلامة «نيكولسون» في كتاب «أشعار منتخبة من الديوان» طبع كمبردج 1898 شيئا يكشف عن تلك الآصرة التي تربط بين «الأفلاطونية الجديدة»، والباطنية كما أخذ بها في فارس.
Bilinmeyen sayfa
وعقب عليه الأستاذ «ديلاسي أوليري» فدبج في مؤلفه الذي طبع سنة 1920 عن الفكر العربي فصلا في الصوفية، هو الفصل السابع من ذلك الكتاب (ص181-207) أوضح فيه أواصر العلاقة بين الباطنية المبثوثة في تضاعيف «الأفلاطونية الجديدة»، وبين الباطنية الفارسية في العصر الوثني، وما كان من أثرها فيما بعد على صور التصوف التي اختصت بها فارس وأبناء العرب بعد الإسلام.
وكان أساس التعليم في مدرسة «جنديسابور» غير مقصور على المؤلفات اليونانية والسريانية، بل أضيف إلى ذلك تعاليم من فلسفة الهند وآدابها وعلومها، ترجمت إلى اللغة الفهلوية، وهي اللغة الفارسية القديمة، وهنالك نمت علوم الطب حين تخلصت من جو الضغط والاستبداد الذي حوطتها به التعاليم اللاهوتية. ومن غريب الأمر أن يكون من أشهر الذين علموا الطب في ثوبه الجنديسابوري الحديث فئة من أشهر النساطرة المسيحيين.
ومن الذين اشتهروا من العرب قبل الإسلام في مدرسة «جنديسابور» الحارث بن كلدة الذي عرف من بعد كطبيب، وابنه «النضر» الذي ذكره الرئيس ابن سينا كأحد أعداء سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام - وكان مع الذين هزموا يوم «بدر»، فأسر وقتله علي بن أبي طالب صبرا، على رواية أبي إسحاق الحصري القيرواني (راجع زهر الآداب ص27 مجلد أول). فعرضت للنبي
صلى الله عليه وسلم
أخته قتيلة بنت الحارث فأنشدته:
يا راكبا إن الأثيل مطية
من صبح غادية وأنت موفق
أبلغ بها ميتا بأن تحية
ما إن تزال بها النجائب تعنق
مني إليك وعبرة مسفوحة
Bilinmeyen sayfa
جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعني النضر إن ناديته
إن كان يسمع ميت لا ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
لله أرحام هناك تشقق
قسرا يقاد إلى المنية متعبا
رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمد ها أنت صنو كريمة
في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما
Bilinmeyen sayfa
من الفتى وهو المغيظ المحنق
فالنضر أقرب من قتلت قرابة
وأحقهم إن كان عتق يعتق
أو كنت قابل فدية فليفتدى
بأعز ما يغلى به من ينفق
وقتل علي بن أبي طالب للنضر صبرا - أي حبسا - غير صحيحة على ما يظهر من شعر أخته قتيلة، فإنها تقول:
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه
أي تنهل منه وتنال، وما يدل عليه الشعر إن صحت نسبته إلى قتيلة، أنه أسر أولا، وربما حبس كظاهر قولها:
قسرا يقاد إلى المنية متعبا
وأنه قتل من بعد ذلك طعنا بالسيوف، أما ما يغمز به بعض الأدباء في نسبة الشعر إلى قتيلة فتنم عن بطلانه ديباجة الشعر ورنة الحزن العميق، وفرط الأسى والشجن، وهو النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار،
Bilinmeyen sayfa
4
فنسبه يلتقي ونسب سيدنا محمد - عليه الصلاة والسلام - في الجد الثالث. •••
ممن ذكر «الرازي» من أعلام مدرسة جنديسابور من أبناء الهند «شركة»
Sharak
و«قلهومن»
Qolhoman
ومنهم هندي يقال له: «شاناك»
Ganak
كتب رسالة في السموم ترجمها من بعد أحد التراجمة ليحيى بن خالد البرمكي إلى الفارسية، ومن بعد ترجمت إلى العربية للخليفة المأمون بن هارون الرشيد.
وترجمت في عصر هارون الرشيد بواسطة طبيبه الخاص بضعة كتب عن السنسكريتية إلى العربية في علم الطب، حتى إنه من المتعذر أن تعرف أصل التعاليم الشائعة في الطب العربي إن كانت مستمدة من الإغريق أم من الهند، أم هي مبتكرة، إلا بعد طول المزاولة والصبر على تفهم حقيقتها وطبيعتها ومقارنتها بمنازع الآراء المستمدة من كل من تلك النواحي.
Bilinmeyen sayfa
وفضلا عن المدرستين المسيحية والزرادشتية، فقد وجدت مدرسة وثنية في «حران»، ولا يعلم كيف نشأت، وكيف تطورت! ولا من وضعها، وأقام أسسها! وكانت حران مركزا للتأثير الإغريقي منذ عصر الإسكندر المقدوني الأكبر، وظلت موئلا لتعاليم الديانة اليونانية القديمة، بعد أن انقلب العالم اليوناني الوثني إلى عالم نصراني، والظاهر أن «حران» قد ورثت كثيرا من تعاليم الديانة البابلية القديمة التي كانت قد انتعشت في القرون الأولى من انتشار المسيحية، إلا أن صور تلك الديانة القديمة قد ذهبت بها تطورات الديانة اليونانية الوثنية كما فهمتها «الأفلاطونية الجديدة»، وكما وضعها زعماء تلك الفلسفة في مدينة الإسكندرية، ولا مشاحة في أن حالات الفكر في «حران» تمثل آخر أدوار الوثنية اليونانية والأفلاطونية الجديدة، كما وضعهما «فرفوريوس الصوري» حيث ظلتا عائشتين ممدتين بكل أسباب الحياة، عيشة بعيدة عن معترك العالم الخارج عن حيزهما.
وعلى الرغم من المدارس التي علمت على النسق اليوناني، وأذاعت مواد الثقافة اليونانية، فقد اقترنت التعاليم بكثير من المؤثرات الأخر التي لا يمكن لمؤرخ في تاريخ الفكر أن يغفل أمرها، فإن الجنود الفارسية عندما رجعت من غزو سورية نقلت معها كثيرا من آثار الفكر اليوناني، وطائفة من مظاهر الرفاهية اليونانية.
وكذلك طبعت نفوس أبناء فارس بعد تلك الغزوة بطابع من الإعجاب بالفن اليوناني وهندسة البناء اليونانية، وكان المهندسون والبناءون اليونان الذين أسروا في الحرب أثمن ما رجع به الجيش الغازي من المغانم، حتى إن بلاد فارس بدأت بعد تلك الغزوة تدخل نسق البناء اليوناني فيما تشيد من المباني.
إذن فتاريخ القرون التي تقدمت انتشار الإسلام يدل على ذيوع قسط عظيم من التأثير اليوناني في كثير من فروع الفن والعلم والفلسفة والهندسة والبناء، وفي زخارف الحياة ذاتها، ومن قبل ذلك منذ عصر الإسكندر المقدوني، كان غربي آسيا لا يتنفس إلا في جو مفعم بآثار الفكر الإغريقي.
2
مر بنا من قبل ذكر «بارسوما» الذي قاد الهجرة النسطورية إلى بلاد فارس، وافتتح مدرسة «نصيبين»، كان لذلك الرجل معلم يقال له: «إيباس»، هو القوة المحركة والعقل المفكر في مدرسة «الرها» في أواخر أيامها، ويظهر من المقارنة التاريخية أنه أول من ترجم «إيساغوجي» مختصر «فرفوريوس» في المنطق إلى السريانية.
ويعتبر هذا الكتاب مدخلا لمنطق أرسطوطاليس كما قدمنا، ويدل ذلك على أن المنطق كان يعتبر العلم الرئيسي الذي عني بتدريسه النساطرة، والظن الغالب أنه لم يكن ليقل اعتباره في نظر اليعاقبة عند ذلك.
وفي ذلك الوقت ظهر «بروبوس»
فعلق على كتاب «الإيساغوجي»، كما علق على بعض كتب أرسطوطاليس، ومنها «إرمانوطيقا»
Hermeneutica
Bilinmeyen sayfa
أي العبارة، أو كما يقولون «باري أرمنياس» و«سوفسطيقا»
Sophistica «وأناليطيقا الأولى»
Analytica priora
أي القياس، فكانت هذه التعليقات بمثابة متون يرجع إليها طلاب المنطق في بلاد السريان.
ومن الوصف الذي خصت به التراجم السريانية عن أرسطوطاليس تعرف أن العرب لم يقتصروا على النقل عنهم إلى العربية، بل اتبعوا نفس الطريقة، وذات الأسلوب الذي تبعه المترجمون إلى السريانية، لا في تراجمهم فقط، بل في مؤلفاتهم أيضا.
كان من عادة المعلقين على أرسطوطاليس قبل العصر العربي أن يأخذوا مقطعا قصيرا من متنه المترجم إلى السريانية، وقد لا يزيد عن بضع كلمات، يعلقون عليه بإطناب، وقد يذهب التعليق إلى عدة صفحات طويلة، وقد يقتصر على إشارات مقتضبة، حسب ما يقتضي الحال من حاجة إلى الإطناب أو الإيجاز، كما لو كان معلم في المدرسة يقرأ فقرة، ويلحق بأخرى بعد أن يفرغ من شرح الأولى.
ولو نظرت في كتاب «المواقف» لعضد الدين، أو نظرت في تفسير القرآن، لوجدت أن «عضد الدين» قد اتبع هذه الطريقة نفسها في كتابة مؤلفه الفلسفي، كما اتبعها المفسرون في تفسير كتاب الله.
أما التعليق على «الإيساغوجي» فقد طبع بعناية الأستاذ «بومستراك»
Baumstrack
في كتاب
Bilinmeyen sayfa
Aristotles bei den syrern
في ليبنرج سنة 1900، كما طبع الأستاذ الكبير «هوناكر»
Hoonacker «الأناليطيقا الأولى» في المجلة الآسيوية
Jornal Asiatique
في عددي يوليو وأغسطس سنة 1900.
وكان «سرجيس الراس عيني» المتوفى سنة 536 ميلادية أعظم مؤلفي اليعاقبة، وكان مترجما، كما كان مؤلفا في الفلسفة والطب والهيئة والفلك، وكان اشتغاله بالطب عمله الرئيسي، بيد أنه ترجم إلى السريانية الجزء الأعظم من مؤلفات جالينوس، وأمضى زمنا في الإسكندرية حيث أتقن اللغة اليونانية، ودرس الكيمياء والطب في مدرستها الطبية لدى أول عهدها بتدريس ذلك العلم، أما نشأته فكانت برأس العين بالعراق، ولا تزال بعض ترجماته عن جالينوس محفوظة حتى اليوم في المتحف البريطاني ضمن المجموعة 14661 والمجموعة 17156.
ونشر العلامة المستشرق «ساخاو»
Sachau
نتفا مما هو محفوظ في المجموعة الثانية في كتاب سماه
Inedita Syriaca
Bilinmeyen sayfa
في فينا سنة 1870، ونشر «ساخاو» فضلا عن ذلك ترجمة «الإيساغوجي»، وفي المتحف البريطاني نسخة خطية من ذلك الكتاب، كما نشر «المائدة» لفرفوريوس وقاطيفورياس؛ أي المقولات لأرسطوطاليس ، ومقالة في الروح، وهي ليست مقالة أرسطوطاليس المعروفة تحت عنوان «ده أنيما»
De Anima
وكتب مقالة في المنطق في سبعة مجلدات، ومنها جزء في المقولات محفوظ في المتحف البريطاني ضمن المجموعة 14660، ومقالة أخرى ضمن ذلك الكتاب في تعليل الكون حسب مذهب أرسطوطاليس، وعدد من المقالات القصيرة تتناول مختلف الموضوعات، أما في علم الفلك فقد ترك مقالة في تأثير القمر بناها على مؤلفات جالينوس، ونشرها العلامة «ساخاو».
وقد انتشرت مؤلفات «سرجيس» بين النساطرة واليعاقبة على السواء، وكان الكل يحسبونه مرجعا من المراجع العليا في الطب والفلسفة، وثقة من ثقاتهما، ويقال: إنه أسس مدرسة سريانية في الطب أصبحت فيها بعد النبع المنبثق بما استسقى منه العرب، على أن الراجح أنه لم يؤسسها، بل كان له أثر كبير في تأسيسها وقيامها.
وفي القرن ذاته - أي القرن السادس الميلادي - عاش «أخوديما»
Ahudemmeh
الذي أصبح أسقفا في «تغريط»
Tagrit
سنة 559م، فأدخل تعليقات «يوحنا فيلوبونس» على أن تكون الكتاب المدرسي بين اليعاقبة الذين يتكلمون السريانية: ويقول بعض المؤلفين: إنه ألف مقالات في تعريفات المنطق، وفي حرية الإرادة، وفي الروح، وفي الإنسان باعتباره عالما صغيرا،
Microcosm ، ومقالات أخرى في تركيب الإنسان على أنه مكون من جسد وروح، وهذه المقالة محفوظة في المتحف البريطاني ضمن المجموعة 14620.
Bilinmeyen sayfa
وإن صح أن «أخوديما» قد كتب في الإنسان باعتباره عالما صغيرا، حق لنا أن نكرر المثل القائل: «لا جديد تحت الشمس»؛ فإن الإنسان أو العالم الصغير
Microcosm
قد سد التفكير فيه فراغا كبيرا في عقل «هردر»
Herder
الفيلسوف الألماني في القرن التاسع عشر، كذلك انتشرت فكرات فلسفية، بل مذاهب حصرت همها في بحث الإنسان وعلاقته بهذا الكون الفسيح وطبيعيا وأدبيا، بل تعدت إلى النظر الغيبي.
كان مذهب «سبنسر» في النشوء، ومذهب «هردر» في «الميكزوكوزم»؛ أي العالم الصغير يرميان إلى إثبات وحدة الفكر، وإحداث ذلك التصور العميق الذي يسوق إلى الاعتقاد بأن الأشياء تحتفظ ببقائها، وأن الحوادث الكونية تقع خضوعا لعلاقة كائنة بينهما يمكن إدراكها، وأن وجهتي النظر الديني والعلمي في هذه الحياة يمكن التوفيق بينهما.
في القرن التاسع عشر حصرت طائفة من الكتاب همها في وصف العالم وصفا دقيقا، حتى إن مؤلفاتهم قد كونت في عقل «هردر» حالة تساءل معها - في وسط تلك الصورة التي صورت بها الطبيعة، وفي جوف التغيرات التي تنتاب هذا الكون الأكبر: أين يوجد الكون الأصغر؟
إن صور هذه الدنيا العظيمة إذ تتغلغل في أعماق سحيقة من الإدراك العام، إنما تلزمنا الرجوع إلى أنفسنا؛ لكي نعاود التساؤل كما تساءل «هردر»: «أية قيمة لحياة الإنسان والإنسانية، بما فيها من الخصائص الخالدة، وبما في تاريخها من أوجه التغاير في وسط هذه الطبيعة من مجموعها؟»
أما إذا أردنا أن نعرف إن كانت هذه الفكرة بذاتها هي التي قامت في رأس «أخوديما» في القرن السادس الميلادي، ثم عادت إلى التكون في عقل «هردر» في القرن التاسع عشر، والفاصل بينهما ثلاثة عشر قرنا من الزمان، فيغلب أن تكون محفوظات المتاحف الأوربية كفيلة بذلك. •••
من بين مؤلفي النساطرة الذين عاشوا خلال القرن السادس الميلادي «بولس الفارسي»
Bilinmeyen sayfa
، وقد كتب مقالة في المنطق أهداها إلى الملك كسرى أنوشروان، وقد نشرها مسيو «لاند»
Land
في كتابه المسمى
Analecta Syriaca .
كان هذا فجر الفتح العربي، ففي سنة 638 من الميلاد فتح العرب سوريا، وتبعها فتح ما بين النهرين والعراق في سنة واحدة، وبعد أربع سنوات فتحوا بلاد فارس، وسنة 661م استقر الملك لبني أمية في دمشق، ولكن هذا الفتح لم يؤثر في حياة الجماعات المسيحية، حيث كانت طوائفهم تعيش تحت الحكم العربي ممتعة بكل ضروب الحرية السياسية والدينية، ولم يتعرض حكامهم العرب لشئونهم الذاتية، وكل ما كان يطلب منهم للحكومة إنما هو الخضوع لقوانينها الزمنية ودفع الجزية.
وحوالي سنة 650م كتب «حنانيشو»
Henanieshu
مقالة في المنطق، وعلق على «يوحنا فيلوبونس»، ولم يكن لليعاقبة مدارس ظاهرة الأثر كما كان للنساطرة، ولكنهم استعاضوا عن ذلك بدير لهم في «قنسرين» على ضفة الفرات اليسرى، كان مقرا لدرس منتجات العقل اليوناني، وكان أعظم من ظهر فيهم هنالك «سويرس سيبوقط»
Severus Sebokt - الذي عاش قبيل الغزو العربي، وألف تعليقا على «إرمانوطيقا»
Hermeneutica - لأرسطوطاليس لم يبق منه إلا أجزاء صغيرة، ومقالة أخرى في القياس تعليقا على «أناليطيقا» الأولى
Bilinmeyen sayfa
Analyica Priora
وشرح بعض المعضلات التي صادفها في «الريطوريقا»
Rhetorica
أي الخطابة لأرسطو، أما في علم الفلك فقد كتب مقالة في «صور منطقة البروج»، وأخرى في «الأسطرلاب»، أما الأولى ففي المتحف البريطاني محفوظة ضمن المجموعة 14538، وطبعها العلامة المستشرق «ساخاو»، وأما الثانية ففي برلين ضمن مخلفات «ساخاو»، وطبعها العلامة «ناو»
Nau
في الجريدة الآسيوية سنة 1899.
وكان «أتناسيوس بالد»
Athanasins BaLad
أسقفا يعقوبيا سنة 684م، والمعروف عنه أنه ترجم الإيساغوجي إلى السريانية، ولا تزال هذه الترجمة محفوظة إلى اليوم في قصر الفاتيكان، وهو من تلاميذ سويرس سيبوقط.
كذلك كان يعقوب الرهاوي
Bilinmeyen sayfa