هؤلاء الشعراء الثلاثة هم مهيار الديلمي، وبشار بن برد، وابن الرومي، وأولهم كان تلميذا للشريف الرضي وراوية له؛ فانطبع بطابع التصوف والزهد حتى إنك لتجد ذلك شديد الظهور في شعره بين الأثر في نزعته الشعرية، وبشار بن برد عاش في عصر الخلاعة والفتنة فكان خليعا مفتونا بصور المدنية كما اقتبست عن العالم الروماني والفارسي، وكلاهما تطوح في الحسيات حتى لقد بلغ منها أقصى المبالغ، وابن الرومي كان عبدا اشتري بالمال فكان في أخلاقه عبدا، وفي خياله عبدا، وفي تصوراته عبدا رقيقا، على الرغم من جودة شعره وقوة بيانه وبالغ وصفه.
ولعل السبب في هذا أنهم بعيدون عن العقلية العربية فكانوا نسيج وحدهم في الشعر وفي الشاعرية، فإن مهيارا وبشارا كلاهما فارسي وابن الرومي بعيد عن الدم العربي بعد السماء عن الأرض، ولا خفاء في أن العقلية الفارسية عقلية تتمشى فيها أصول الآريين الذين غزوا الهند ودوخوا الممالك في العصور القديمة، والذين لهم في الفلسفة جولات لم يشق غبارهم فيها أحد، ولهم في اللغة آثار لم يستطع إلى الآن أحد من أهل العربية أن ينال منها بما يسقط من قيمتها ويحط من قدرها، وهم فوق ذلك حسيون لا يؤمنون إلا بالحس، إثباتيون يحكمون العقل قبل المشاعر، حتى إنك لو رجعت إلى الأديان التي انتشرت فيهم لما رأيت في دين منها إلا أثر الطبيعة متجليا بارزا كأن الذين وضعوا هذه الأديان لم يعبدوا في الواقع إلا الطبيعة، ولم يريدوا بما وضعوا من صور الدين إلا أن يدمجوا الإنسان في الطبيعة إدماجا أساسه مثل يتخايل إليهم من طريق الدين، ولكن ليرجع بهم إلى الطبيعة سعيا.
خذ دين ماني بن فاتك، ويكاد يكون آخر الأديان ظهورا في بلاد فارس قبل الإسلام، فلقد ظهر ماني في أيام سابور بن أردشير، وقتله بهرام بن هرمز بن سابور سنة 277 للميلاد، ويقول العرب: بأنه أخذ دينا بين الماجوسية والنصرانية، وكان يقول بنبوة عيسى وينكر نبوة موسى، غير أن صاحب الفهرست يذكر ما هو أقرب من هذا إلى حقيقة الدين الذي ظهر به ماني، فيذكر أن ماني «يزعم» بأن العالم مصنوع من أصلين قديمين هما النور والظلمة، وأنهما أزليان سرمديان، وأنه ما من شيء إلا وهو من أصل قديم.
وفي ما قال صاحب الفهرست بعض الحقيقة لا الحقيقة كلها، والحقيقة أن دين ماني يقوم على أصلين؛ الأول القدم المطلق، والثاني تفاعل الأضداد أو تواترها، وإني أرى أن استعمال تواتر الأضداد أرجح من استعمال التفاعل في معنى لم يرد به صاحب هذا الدين ما تؤدي إليه هذه الكلمة تماما، فكل شيء عندهم قديم أزلي سرمدي، وأن الطبيعة كلها قائمة على أضداد تتواتر ولكن لا تفنى، فهي قديمة أيضا، فكأن ماني لم يقل بأن الأصل في العالم النور والظلمة، بل قال بأن النور والظلمة من أظهر الأضداد التي تتواتر تواتر غيرهما من الأضداد.
من هنا يظهر أن ماني بن فاتك لم يقصد بالدين الذي وضعه أنه تفسير لحقائق ما بعد الطبيعة والغيب من طريق الدعوى، بل قصد إلى الطبيعة الحافة به، يدمجها في الدين ليخلص من هذا بنتيجة، هي أن يندمج الناس في الطبيعة اندماجا أساسه المعتقد واليقين، وهذا بالذات ما تتخيله العقلية الآرية، بل لا نبالغ إذا قلنا بأن العقلية الآرية لا تنتج إلا هذا، فهي عقلية تؤمن أولا بالحواس ومن طريق الحواس تحاول الاندماج في الطبيعة.
ولما استقر العقل الآري في أوروبا وغزاها الدين المسيحي، وهو دين سامي بحت، لم تلبث العقلية الأوروبية المتأصلة من الطبيعة الهندوجرمانية أن قلبت الدين السامي النازع إلى الغيب وما بعد الطبيعة إلى دين تتجلى فيه المحسوسات وتبرز مظهرة آثارها في كل شيء، فلم يبق من دين المسيح عيسى ابن مريم في أوروبا إلا الاسم، ولم تسمح العقلية الأوروبية لشيء من هذا الدين بأن يبقى ويعيش في جوها إلا ما وافق طبيعتها، فبرز الدين النصراني بعد قليل في ثوب اندمجت فيه الطبيعة، لا على نفس النمط الذي أدمجها به ماني بن فاتك، بل على صورة أخرى استمدت من وحي الفكرة لا من وحي التواتر والامتداد، ولكن كل ذلك يتفق في النهاية، يتفق في أن العقل الآري نزاع إلى الاندماج في الوسط الطبيعي اندماجا تاما، أما العقل السامي فعلى الضد من ذلك، فهو وهاج براق وثاب إلى الغيبيات متهافت على العلم بما لا يستطيع العقل الصرف أن يعلم منه شيئا.
هذه العقلية بذاتها تتجلى في الفرق بين من ذكرنا من الشعراء وبين شعراء العرب الذين يجري في عروقهم الدم السامي الصحيح ومنه يستمدون عقليتهم، حتى لقد تجد أن أهل الأدب من الإعراب لم يستسيغوا الكثير من شعر مهيار وابن الرومي؛ بل إن بشارا لم يتواتر شعره بينهم إلا لما كان فيه من توافق بين منازعه وبين تصورات أهل العصر الذي عاش فيه، ولولا هذا لانطوى بشار كما انطوى من قبله مهيار وابن الرومي، ولم تعرفهما إلا بطون الدواوين وإلا الأقلون من الأدباء الذين امحت من عقولهم آثار العرب خلال بعض الأزمان.
على هذا نعتقد أن بشارا من تلك الفئة التي جددت في أساليب الشعر العربي تجديدا لم يكن أساسه الخيال، ولم يعمد إلى المعقولات الصرفة يصفها بأوصاف الذوات الحية الكائنة؛ بل عمد إلى الحقائق حتى في مديحه وهجائه، ولم ينزع إلى تلك الأشياء الخيالية التي عكف عليها غيره من الشعراء الذين جرت في عروقهم الدماء السامية.
أما إذا وقعت في شعر بشار على شيء قد يقال: إن فيه نزعة إلى العرب فقد تستطيع أن ترجع فيه إلى سبب طبيعي ؛ فإن أمه عربية، ومن المحقق أن يكون لذلك أثر في شعره وفي عقليته، غير أن الصفة الغالبة فيه هي الصفة الآرية، صفة الاحتكام إلى الحقائق الملموسة وإلى المحسوسات يستوحيها المعنى في قالب عربي مبين.
هو بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي بالولاء، وكان أبوه من فرس طخارستان وجيء به في سبي المهلب بن أبي صفرة، ووهبه المهلب إلى امرأة من بني عقيل فتزوجت به ونسب إليها وولدت منه بشارا، وكان مولد شاعرنا بالبصرة حوالي سنة 55 للهجرة الواقعة في سنتي 674-675م، ونشأ بشار في بني عقيل مولعا بالاختلاف إلى الأعراب الذين يخيمون بالبادية، فشب على غرارهم فصاحة لسان، وقوة بيان، حتى عده البعض آخر من يستشهد بشعره من الشعراء في ضروب اللغة، ولقد ولد بشار مكفوف البصر، فعاش ما عاش لا وسيلة له إلى المعرفة إلا الأذنين، وكفى بهما مع صفاء الطبيعة وقوة الشاعرية أن يخلقا من بشار شاعرا مجيدا ومجددا، هو أول المجددين من موالي الفرس الذين تفخر العربية بهم وبآثارهم التي خلفوها وخالد معانيهم الباقية على جدتها وإن أخلق الزمان.
Bilinmeyen sayfa