أقصد ذا المسير أم اضطرار؟
مسيرك قل لنا في أي شيء
ففي أفهامنا منك انبهار؟
وفيك نرى الفضاء وهل فضاء
سوى هذا الفضاء به تدار؟
وموج ذا المجرة أم فرند
على لجج الدروع له أوار؟
منذ أن ترامى أول شعاع أرسله الفكر فشق في ظلمات القرون الأولى للفلسفة طريقا إلى خفايا العالم المجهول، تساءل الإنسان: لماذا خلق العالم؟ وأية غاية سبقت في حكم القدر ليخرج هذا الكون قائما على ما نرى فيه من نظام؟ إن أردت أن تقع على جواب ينقع غلتك ويرأب بقوة أدلته ما تصدع من يقينك، فأجب: لا أدري؟ كن لاأدريا إزاء هذا اللغز الوعر ولا تحفل بما ينقل إليك من التقاليد، أما إذا سئلت: أهنالك من قصد في خلق العالم؟ وهل من غاية لأجلها خلق الإنسان؟ فأجب إجابة الأدريين، وقل: نعم، لا بد أن يكون من وراء هذا النظام الشامل قصد كامن وغاية مخبوءة لا أعرف من ماهيتها شيئا؛ فإن هذا النظام إذ يدل على قوة تدبره على مقتضى الحكمة، فلا بد من أن تكمن وراء ظواهره غاية هو سائر في نظامه نحوها، متجه بكل ما فيه من النشوء والارتقاء إلى بلوغ سمتها القصي والانتهاء عند ذروتها العليا.
انقسم الناس منذ أن بزغ فجر الفلسفة في بلاد اليونان، التي وصل إلينا من آثارها العقلية ما نعتبره أكبر ميراث ورثه العقل البشري عن القرون الأولى، إلى فريقين: فمنهم من قال بأن وراء النظام الظاهر قوة تدبره بحكمتها وتحوطه بعنايتها، وأن هذه القوة لا بد من أن تسير بالعالم إلى قصد وتسوقه إلى غاية، نستدل عليهما بما هو مبثوث في أطراف هذا العالم من نظام لا ينتابه خلل، ولا نلحظ في نواحيه من شيء لا يدل على أن له موجدا، ويقول هؤلاء: إن الإنسان إنما يقيس حالات العالم الخارجي على حالات نفسه، فكما أن الشبح المنعكس من عدسة زجاجية على حائط ليس سوى صورة مكبرة من ذلك الشبح الكائن في العدسة، كذلك النظريات الخاصة بهذا العالم، كما يقول العلامة كروزيار: ليست سوى صورة مكبرة من نظريات العقل الإنساني تسبك عادة على نماذج تستمد من تجاريبنا الذاتية، وعلى هذا لا يستطيع أن يكون في العالم فكرة منطقية على حقيقته المطلقة، غير مقيدة بحدود العقل والذاتية البشرية، هذا مثال الأول.
ومن الفلاسفة من يقول بأن هذا العالم قد صدر عن العماء الصرف على الرغم مما يظهر فيه من نظام، وأن القصد في العالم غير بين، والغاية لا يمكن أن تدرك من بضعة نظم يسير العالم على مقتضاها، ولا يمكن للعلم أن يدرك منها شيئا بطرقه الموضوعة، إلا من طريق الحس الإنساني، ولما كان العلم لا يعتمد إلا على الحواس وحدها، ولما كانت الحواس لا تنقل إلى العقل سوى تجاريب لا تدل طبيعتها على أن في خلق العالم قصدا، أو أن في خلق الإنسان غاية، فلن نستطيع أن نسلم بقصد وغاية تكمنان وراء الظواهر إلا إذا ثبت لنا ذلك من طريق الحواس، إن العالم كتلة موات من المادة والحركة، وإن الحياة والفكر وكل خصائص الإنسان ليست سوى أعراض مختلفة لتفاعل المادة والقوة التي تحرك دقائقها، وهذا مثال الفريق الثاني.
Bilinmeyen sayfa