عرفت الأم وردة صاحب الصوت، فجذبت زلاج الباب واندفع رجلان إلى الغرفة، فقالا لفريد: تعال يا فريد، انهض واتبعنا! ...
وفي حين كان الولد يتوارى في الظلمة المتفلعة بالبروق الزرقاء، عكف أحد الرجلين فوق الأم وردة وقال لها: اضرعي إلى الله يا أم وردة ... فوالد فريد سحق تحت صخر هائل في معبر الشيطان ... •••
لم يبق فريد ذلك الولد الضاحك، الذي أطلق عليه فيما مضى اسم «عصفور الغابات» ففمه الحزين كان مستبقيا طية أليمة، وجبهته البيضاء كانت دائما منحنية إلى الأمام، وكانت عينه المغلفة بالدموع مرتسمة عليها معاني فكرة موجعة، هي البحث المستمر عن مشكل لا يدرك!
فعندما كان يذهب إلى ضفاف البحيرة الزرقاء ليرعى مواشيه حسب عادته، كان يرى الجبل صامتا ساكنا لا يجيب إلى أغانيه المفرحة بأغان مفرحة! فالصدى كان أخرس كفريد!
كانت الأشهر الطويلة قد مرت على ذلك اليوم المشئوم، واستحمت الطبيعة بلهاث نيسان الجميل وأنفاسه العطرية العذبة، وتفتحت الأزهار عن براعمها لتستقبل قبلات الشمس الأولى، وأنشدت الطيور أغاني الربيع الزاحف على التلال.
أما مياه البحيرة فلم تبق كما كانت هائجة متلاطمة، بل إنها استعادت جمالها القديم، القديم ... وهدوءها العذب حيث انعكست قمة الجبل البيضاء وزرقة الجلد الصافي.
وأما الأكمات الخضراء فعادت تؤلف زنارا من الأعشاب، تحيط به تلك البحيرة ذات المياه الممتدة إلى أقاصي الخلجان الصغيرة.
هناك، كان جبل بيلاطوس نفسه يعود إلى الحياة محاطا بأبخرة وردية شفافة، ويتبسم عن أجمل ما وهبته إياه الطبيعة، بعد أن كان نذيرا ينذر الأهلين بالويل!
أما فريد فكان منصرفا عن كل ما لا يمت إلى الحزن والألم.
أحيانا كان يجلس على ضفة البحيرة فيدلي رجليه فوق المياه، ويأخذ بنزع طاقات من القصب الذابل المتلاعبة به تموجات الأمواه؛ وأحيانا كان ينتصب على قدميه مقطب الجبين مشتت الأفكار، ويصرف ساعات طويلة شاخصا إلى جبل بيلاطوس، ثم يهز رأسه المفكر، ويستسلم للنحيب والدموع! ...
Bilinmeyen sayfa