بسم الله الرحمن الرحيم
التنبيهات على ما في نوادر أبي زياد
الكلابي الأعرابي ﵀ وإنما بدأنا بها لشرف قدرها، وسمو ذكرها، ونباهة مصنفها، وهو أبو زياد يزيد بن عبد الله بن الحر بن همام بن دهر بن ربيعة بن عمرو بن نفاثة بن عبد الله بن كلاب بن عامر بن صعصعة.
١ - أنشد أبو زياد:
إني إذا ما القوم كانوا ألوية ... والتبسَ القوم التباسَ الأروية
وفسر فقال: يقول قد خَفّوا وهُزلوا وجهدوا حق صار أحدهم كأنه أخف من لواء.
والأروية: الحبال واحدها الرِّواء. باقي هذا قول أبي زياد.
وقد غيّر الرواية وأساء في التفسير، وألحق فيه من عنده أخف، واللواء ليس بخفيف، واللواء: علم الجيش، قالت الأخيلية: ومخرّقٍ عنه القميص تخاله وسط البيوت من الحياء سقيما
حتى إذا رُفع اللواءُ رأيته ... تحت اللواء على الخميسِ زعيما
وإنما رواية الرجز كما أنشدنيه أبو بكر محمد بن الحسين بن يعقوب بن مِقْسم عن أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب:
إني إذا ما القوم كانوا أنجيهْ ... والتبس القومُ التباسَ الأرشيهْ
وشدَّ فوق بعضهم بالأرويهْ ... هناك أوصيني ولا تُوصي بيه
فهذه الرواية الصحيحة، والأنجية: جمع نجيّ، وهو من قول الله ﷿: (فلما استيأسوا منه خَلصُوا نَجيًَّا) .
وقال أبو رياش:) يقال للاثنين يتناجيان نجي والجمع أنجية، وأنشد:
بتُّ وبات الهمُّ لي نَجيّامُباشِرًا ولم أبتْ قَصيّا مثلَ النجيّ استبرز النجيّا
وأنشد:
إني إذا ما القوم كانوا أنجية
وقال ابن الأعرابي: الأنجية: القوم يتناجون، واحدهم: نجي، وأنشد:
ظلّ وظلّت عُصَبًا نحيّا ... مثل النجيّ استبرز النجيّا
نحيّا: بعضها مُتنحٍّ عن بعض.
وأخبرني أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الإصبهاني عن أبي اسحق إبراهيم بن السري الزجاج في قوله تعالى: (فلمّا استيأسوا منه خَلَصُوا نجيًّا) . المعنى: خلصوا يتناجون فيما يعملون في ذهابهم إلى أبيهم وليس معهم أخوهم، ونجيّ: لفظه لفظ واحد في معنى جميع، ويجوز: قوم نجيّ وقوم نَجْوى وأنجية.
قال الراجز:
إني إذا ما القوم كانوا أنجية ... واختلف القول اختلاف الأرشية
قال: ومعنى خلصوا: انفردوا وليس معهم أحد.
ورواية ثعلب: واختلف القوم.. وهي أشهر الروايتين. ورواية الزجاج: واختلف القول والمعنى واحد. وما اختلفا في اختلاف الأرشية وهو المعنى الصحيح وهو أشبه من رواية أبي زياد: اختلاف الأروية، بل هو الصحيح.
٢ - وقال أبو زياد وقد أنشد لجميل:
تُماشين ذا الأرطى فلما قطعنه ... لخَرقٍ أمقِّ الشاطئين بَطينِ
الخرق: والجمع خروق ما استوى من الأرض واتسع، والأمَقّ: البعيد، وقد يقال للرجل والمرأة إذا كان طويلين: أمق ومقاء ولا أعرفه في الدواب، ولم أسمع أحدا يسميه.
فقوله: ولا أعرفه في الدواب، ولم أسمع أحدا يسميه يخيّل إلى سامعه أنه لا يقال. وقد قيل: روى جماعة من الرواة: أن امرأة من العرب سألت فلّ جيش عن أبيها، فقيل لها: ما كان راكبًا؟ فقالت: شقّاء مقّاء طويلة الأنقاء. فقيل لها: نجا أبوك..
وأنشد مؤرّج:
من كل مقّاءٍ وطِرْفٍ هيكلِ
وأخبرني أبو روق الهزاني عن العباس بن الفرج الرِّياشي قال: قال الأصمعي: قيل لضرار بن عمرو ما رأينا بني أبي أضبط لمسافة الإبل من بنيك، فقال: إني كنت أُكره نفسي على كل مقاء مُهرّشة الفخذين. قال الرياشي: أراد قلّة لحمها، والمقاء: الطويلة.
قال الرياشي، ورواه غير الأصمعي: لإكراهي نفسي على المق الطِّوال.
وقد جاء أيضًا في الكلاب. قال العجاج:
آنس سوّاس الكلاب مشقا ... صقبًا حَنْبطى أو طِوالًا رشْقا
......خمسًا ضاريات مُقّا
٣ - وأنشد أبو زياد للأعور بن براء الكلابي:
دعيني ابنة الكعبي والمجد والعلى ... وراعي صوارًا بالمدينة أحْسَبا
وقال: الأحسب في لونه، والصوار: جمع بقر الوحش، وأنشد:
كأنَّ هِجانها متأبضاتٌ ... وفي الأقران أصورةُ الرُّعامِ
1 / 1
وصوار المسك أيضا، يقال له صوار. هذا قول أبي زياد.
قال أبو القاسم: لو أخر ما قدم وقدم ما أخر لسلم. الصوار في بيت الأعور: هو المسك، ولا يجوز أن يكون من بقر الوحش. وأدلّ دليل على صحة قولنا قوله: بالمدينة: وقوله أيضا: أحسبا، لأن الأحسب كلون المسك وبقر الوحش بيض. والأصورة في البيت الثاني: جمع صوار بقر الوحش وهو القطيع منها، ويقال: صِوار وصُوار بالكسر والضم وكذلك أيضا أصورة المسك، وهي قطع ريحه، ونفحات منه، واحدها صِوار وصُوار.
وقال أبو زياد: وقال جهم بن شبل الكلابي، وهو يُعرّض بخطبة امرأة:
يا سلمَ أسقاك البريقُ الوامضُ ... هل لك والعائضُ منك عائضُ
في هجمة يُفضل منها القابضُ
وأنشد أبياتًا بعد هذا وفسر فقال: وأراد من قبض منها شيئًا أفضل شيئًا كثيرًا.
وأكثر الرواة على خلاف هذا القول فممن خالفه أبو عمرو الشيباني وأبو زيد الأنصاري، وهما يرويان هذا الرجز لأبي محمد الفقعسي والله أعلم بصحة ذلك.
وأبو عمرو وغيره على أن القابض: السريع، وهو عندهم من القباضة.
وقال أبو يوسف يعقوب بن اسحق السِّكيت يقال: إنه قبيض بيّن القباضة، أي سريع بين السرعة، قال: ومنه قول الفقعسي:
عائض منك عائض ... في هَجْمة يغدر منها القابضُ
أي السريع السوق لا يقدرعلى سوقها فيغدر منها بعضها.
٥ - وقال أبو زياد - وقد ذكر الفصيل اللاهج وما يفعلون به -: فإذا فعل ذلك غضبوا ففلكوا لسان الفصيل، وذلك إما أن يأخذوا فلكتين مثل فلكتي المغزل مثقوبتين في أوساطها ثم يدخلوا في إحداهما سيرًا، ثم يجعلوه في المسلّة ثم يغمزوا بالمسلة طرف لسان الفصيل حتى تخرج الى الفلكة الأخرى ثم يعقدوا المسلّة وراءها كما عقدوه في الأخرى فيحتلبوها زمانًا، ثم يوشك أن يرضع على الفلكتين فلذلك يسمى الإجرار، والفصيل المجرور قد أجروه كما ترى، فإذا رضع على الفلكتين أخذوه فشقوا من لسانه قدر ثلثه شقتين، ثم حلّوا طرفيه فمرض بذلك حينا ثم أوشك أن يبرأ طرف لسانه، ولا يرضع آخر الدهر شيئًا.
قال: وربما استجزأوا بالخلال فلم يفلكوه، وربما مضى التفليك فاستجزأوا به، ولم يشقوا لسانه.
وقد وهم في هذا الترتيب، إنما الذي حكاه في الإجرار هو التفليك، وشق اللسان: هو الإجراز، يقال: أجر لسانه إذا شقّه. وأنشد أبو رياش أحمد بن هاشم عمرو بن معدي كرب: ظَلِلت كأني في الرماح دريئةً أُطاعن عن أبناء جَرْم وفرّتِ
فلو أنَّ قومي أنطقتني رماحهم ... نطقتُ ولكنَّ الرماحَ أجرّتِ
قال أبو رياشى: أراد قطعت لساني عن أن أفخر لسوء فعلها.
وقال أبو يوسف في إصلاح المنطق: أجررت الفصيل إذا شققت لسانه لئلاّ يرضع أمه، قال عمرو بن معدي كرب: فلو أن قومي ... أي لو قاتلوا وأبلوا لذكرت ذلك، ولكن رماحهم أجرتني أي قطعت لساني عن الكلام لأنهم لم يقاتلوا. وقد تبع أبا زياد في هذا القول ابن قتيبة، واحتجّ بقول أبي زياد بقول الشاعر:
كما خلَّ ظهر اللسان المُجرّ
وقد أساء في ذلك لأن المجر - في قول أبي زياد - المُفلك، وفي قولنا وهو الصحيح: الشاق القاطع، والخل - في كل قول -: الشد بالخلال، وإنما أراد الشاعر خلة الخال الذي يخل، ويفلك، ويجر فهذا كقول العجاج:
يكشف عن جَمّاته دلُو الدّال
وإنما هو: دلو المُدْلي فلما كان المُدلي إذا أدْلى عاد فدلّى، قال: دلو الدال.
ومع هذا فقد ذكر أبو زياد الخل، فقال: فإذا غلبهم خلّوا في أنفه بخلال، أصل الخلال في أنفه، وطرفه محدد طويل قدام أنفه، فإذا جاء يرضع طعن بالخلال في ضرعها فوثبت، وأنشد:
حرّضها الحمضُ فلا تقيلُ ... ولايقيل قربها فصيلُ
إلاّ فصيلٌ لاهجٌ مخلولُ
فهذا الخل. ومع هذا فأكثر الرواة على رواية البيت: كما شد ظهر اللسان المجر وهو موافق لقولنا، لأن الشد أول الإجرار، وقد قال المُتلمّس في الإجرار:
وقد كنتَ ترجو أن أكونَ بعقبكمْ ... زَنيمًا فما أجررتُ أنْ أتكلما
٦ - وقال أبو زياد: وجماعة المعزى إذا كانت من الأربعين إلى الخمسين فهي صُبّة من معزى ومثلها من الضأن فِزر.
1 / 2
والرواة على خلاف هذا القول: إنما الفِزْر من المعزى، وبذلك لُقب سعد بن زيد مناة لما أنهب معزاه بعكاظ الفزر كأنه لقب بها؛ وبه جر المثل " حتى تجتمع معزى الفزر " وقال الحنفي:
وإنَّ أبانا كان حَلَّ ببلدةٍ ... سوىً بين قيسٍ قيس عيلان والفِزرِ
٧ - وقال أبو زياد وقد ذكر الطلح: ويسمى واديه الذي يكثر فيه الغول، فيقال: غول من طلح وغويل الصغير، وقال الشاعر في الطلح:
لشُعَب الطلح هصورٌ هائضُ ... من حيث يَعتشّ الغراب البائضُ
وقال في الغول وجمعها الغلان:
وبُدّلت غُلان الشَّريف من الغضا ... ولاقيتُ بعد الأصدقاءِ الأعاديا
فجاء بالغلان جمع غول، وإنما الغلان جمع غال، يقال: غالّ وغُلاّن وسال وسلاّن، والسَّال قريب من الغال.
٨ - وقال أبو زياد: وقد يسمي العشرق بعض العرب الفنا، وإذا سقطت حبة العشرق في الأرض ويبست احمرت حتى تكون كأنها عُهنة حمراء، فمن أجل ذلك يقول زهير: كأنَّ دُقاق العِهن في كلِّ منزلٍ نَزَلْنَ به حَبُّ الفنا لم يُحطّمِ والرواة على خلاف هذا القول.
قال أبو زيد وأبو عبيدة وغيرهما: الفنا حمل عنب الثعلب.
وسألت أبا رياش ﵀ عن حب الفنا في بيت زهير هذا فقال: حبّ الفنا منه أحمر وأصفر وغير ذلك، ولذلك يشبه به العهن، لأن العهن أيضا مختلف لونه، على ذلك قول امرفي القيس:
وغيثٍ كألوان الفنا قد هَبطتُهُ ... تَعاورَ فيه كلُّ أوطفَ حنّانِ
وقال أبو حنيفة في كتاب النبات: قال غير واحد من الرواة: الفنا عنب الثعلب وكل احتج ببيت زهير: كان دقاق العهن في كل منزل: ثم ذكر قول أبي زياد الذي قدمناه.
ثم قال: وحبُّ عنب الثعلب ليس بأحمر، هو إلى الصفرة. وفيه أيضا نقط سود، ومنه ما هو أسود بأسره.
وهذا القول من أبي حنيفة مقارب لما قدمناه عن أبي رياش ﵀ وكل مخالف لقول أبي زياد. وقد قال عدي بن زيد فوافق امرأ القيس:
وعلى الأحداج ألوان الفنا ... وخزامى الروض يعلوه الزَّهَرْ
فهذا يدل على اختلاف ألوانه كما قدمناه.
٩ - وقال أبو زياد: من العشب: الصفراء، وهي تسطّح على الأرض وكأن ورقها ورق هذا الخس، وزهرتها صفراء، وهي تأكلها الإبل أكلا شديدًا. وقال أبو يوسف: " الصفراء تنبت في السهل وفي الرمل وورقها مثل ورق الجرجير وثمرتها صفراء وهي ذات شعب فتستقل عن الأرض " وهذه صفة الصفراء، وهي مخالفة لما قال أبو زياد من جهتين: إحداهما قوله: تسطّح على الأرض، والأخرى تشبيه ورقها بورق الخسق، وورق الخسّ مستو أملس، وفي ورق الصفراء تقريض كتقريض ورق الجرجير، كما قال يعقوب ﵀.
١٠ - وأنشد أبو زياد لرجل يرجز بركيّة له:
أحمى لها من برقتي مكتِّلِ ... والرِّمث من بطن الحريم الهيكلِ
ضرب رياح قائمًا بالمعْوَلِ ... بذي شباة من قُساس مفصلِ
في مثل ساقِ الحبشيّ الأعضلِ
ثم قال في تفسيره: ومعوله الذي ضرب له برْطِيل مطول: حجر من قساس وقُساس: جبل، وذلك أنهم يأخذون البرطيل الذي كأنه معول فيأسرون عليه النصاب الذي يكون في المعول القدّ، والقد رطب ثم يضعونه في الشمس ثم يحفرون به كأنه معول.
وقال: هذا النِّصاب مثل ساق الحبشي، والعضل: التواء. وهذا الذي قاله فاسد. ولا يمكن أحد حفر بئر بحجر ولو كانت أرضها من عجين، وقساس: جبل كما ذكر إلاّ أنه معدن حديد، وإنما أراد الراجز: بري من حديد قساس، والشَّباة: الحدّ، وأنشدونا عن الأصمعي وغيره في صفة معول:
أخضرُ من مَعدِن ذي قُساسِ ... كأنّه في الحِيد ذي الأضراسِ
يرمي به في البلد الدَّهاسِ
فقال: من معدن ذي قساس كما قلنا. وقد قال أبو طالب عبد مناف بن عبد المطلب:
ولمّا تبنْ منا ومنكم سواعدٌ ... وأيدٍ أُترت بالقساسية الشُّهْبِ
أي، قطعت بالسيوف التي عملت من معدن ذي قساس، وأنشد أبو رياش:
بها والنيّ عنها مُعْتَرقْسيفٌ قُساسيٌّ من الغِمد اندلقْ وأنشد أبو زياد:
إذا استُعنتَ فاستعنْ بحدِّ ... ولا تكنْ مثلَ بليلِ القَدِّ
وإنما الرواية:
إذا استُعنتَ فأعنْ بحدّ
1 / 3
١٢ - وقال أبو زياد: الخرص: الجائع، والخرصة الجائعة، وإنما الخرص: الجوع مع البرد، فإذا لم يكن مع الجوع برد فليس بخرص.
١٣ - وقال أبو زياد - وقد ذكر ثنيّة قِضَة -: وتلك الثنية التي استقبلتها تغلب يوم التحالق، حيث يوم التحالق.. حيث هزمتها بكر بن وائل، وهي التي وقف عليها ابن بَيض ومنها مكان لا يمره إلا فارس فارس، ووقف ابن بيض على ذلك الموضع - وهو رجل من بني حنيفة - فجعل لا يمر عليه أحد من بني تغلب إلاّ قتله، فقال قائل من بني تغلب: " سَدّ ابن بيض الطريق " فذهبت مثًلا: وليس الذي وقف على الثنية من بني حنيفة، ولا هو بابن بيض ولا كان ابن بيض في هذه القصة. وهذا يوم مشهور خبره في حرب البسوس، وإنما الذي وقف بالثنية رجل من بني تغلب.
أخبرني أبو رياش: ان بني تغلب استقبلت ثنية قضة منهزمة يوم التحالق فجرد البرك التغلبي سيفه ونادى: يا بني تغلب في كل يوم هزيمة وفضيحة وجعل يعفر كل من مر به وهو يقول: " أنا البرك أبرك حيث أدرك " فرجع الناس لذلك وعاودوا الحرب.
وأما المثل بابن بيض فإنه كان مجاورًا لبعض ملوك العمالقة، وكان له عليه خرج يحمله إليه في كل عام، فأراد ابن بيض التحول من جواره، وقد كان وجب عليه الخرج فسار تحت الليل حتى أتى ثنية لا طريق لطالبه سواها، فجعل ما كان يحمل إلى الملك من مال وثياب على رأسها وسار فلما أصبح الملك خبر بمسير ابن بيض فاتبعه فلما بلغ الثنية رأى ما تركه له ابن بيض فأخذه ورجع، وقال الملك: سد ابن بيض السبيل فجرت مثلا.
وروى بعض الرواة أن الملك قال: اتقانا ابن بيض بحقنا لا سبيل لنا إليه.
فقال: بعض من سمع هذا منه: " سد ابن بيض السبيل " فجرت مثلًا.
وسمعت أبا رياش يحكي بمثل هذا وقريب منه. وأنشد بعض الرواة في مدح رجل بالوفاء:
وفيْتَ وفاءَ ابن بَيْض بها ... فسَدَّ على السالكين السَّبيلا
وقال بشامة:
كثوب ابن بيض وفاهم به ... فسَدَّ على السَّالكين السبيلا
وزعم الأصمعي: أن ابن بيض رجل نحر بعيرا على ثنية فسدها فلم يقدر أحد أن يحوزها فضرب به المثل. وأراد أن يقول: كبعير ابن بيض فقال: كثوب ابن بيض.
وهذا غلط من الأصمعي أيضا، والقول ما أنبأتك به.
١٤ - وقال أبو زياد: من آل كليب آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر، وهي أم الأعياص من بني أمية بن عبد شمس، وأم عبد الله بن العباس بن عبد المطلب لُبابة بنت الحارث بن حزن بن بُجير بن الهُزم بن رُوَيبة بن عبد الله بن هلال بن عامر، وفيهما يقول النابغة نابغة بني جعدة:
وشاركنا قُريشًا في تُقاها ... وفي أنسابها شِركَ العِنانِ
بما ولدت نساءُ بني هلالٍ ... وما ولدتْ نساء بني أبانِ
وأهل النسب على خلاف هذا، إنما الهلاليّة التي ذكر النابغة هي صفيّة بنت حزن بن بُجير بن الهُزَم أم حرب بن أمية بن عبد شمس، وهي عمة لبابة بنت الحارث بن حزن - أم عبد الله والفضل واخوتهما من بي العباس بن عبد المطلب.
١٥ - وقال أبو زياد: وبنو كلاب عشرة أبطن: عبد الله بن كلاب، وأبو بكر بن كلاب واسمه: عبيد، وعمرو بن كلاب، ورؤاس، والوحيد بن كلاب، وكعب بن كلاب، ووَبَر بن كلاب - هؤلاء سبعة من ولد كلاب - وأمهم: سُبيعة بنت سَلول، وجعفر بن كلاب، ومعاوية بن كلاب، وربيعة بن كلاب. أم هولاء الثلاثة ذُؤيبة بنت عمرو بن سلول.
وهم لعمري عشرة كما قال إلاّ أن وَبْرًا ليس ابن كلاب، إنما هو وبر بن الأضبط بن كلاب.
١٦ - وأنشد أبو زياد لصاعد:
فما داريّة كُفرت أثاثًا ... بها دَرَجانُ ساريةٍ عراها
بأطيبَ سورةً من طعم فيها ... إذا ما الثجُّ من سَنةٍ كراها
وفسر فقال: الدَّارية: الخمر التي تصنع في الدير.
وهذا غلط، إنما الدارية: لطيمة المِسك وأراد المسك بعينه، منسوبٌ إلى دارين، قال كثير:
يُزيّنُ فَوْدي رأسهِ مُستغلِّةٌ ... جرى مِسكُ دارينَ الأحمُّ خِلالَها
ودارين: قرية بساحل البحر، والنسبة إليها داريّ. ودارية للأنثى، وقال العجّاج:
رَفَّعَ من خِلاله الدَّاريُّ
ولو كانت كما قال أبو زياد، لقال: دَيريّةٌ ولأن يشبه رائحة فيها بالمسك أولى من الخمر.
١٧ - وأنشد أبو زياد لعبد العزيز بن زُرارة الكلابي:
1 / 4
ألا أبلغ أبا بكر رسولًا ... شبابهم الأكارم والكهولا
فإن أذهبْ وأترككم ورائي ... فقد أورثْتكم شرفًا طويلا
فإني أستئيس الله منكم ... من الفردوس مَرتفقًا ظليلا
بضربة كافرٍ من يوم زَحْفٍ ... يكونُ أداتُها وجعًا فليلا
ثم فسر فقال: أستيئس: يُعزّي نفسه عن قومه. وأهل بلادنا يسمون التعزية: التأسية، وبقول الرجل للآخر هل أسّيت عن كذا وكذا؟ ولم يكن يدري ما التعزية؟ إنما هي التأسية أساني وأسيته. ثم أنشد من ذلك للخنساء:
ولا يبكون مثل أخي ولكنْ ... أُعزّي النفسَ عنه بالتأسي
ثم قال: وبقول الرجل إني أُوسي نفسي عن ذلك.
وليس القول كما قال، ما أستيئس من التأسي في شيء، إنما أستيئس: أستعطي وأستعوض. فتأمل الشعر تجده شاهدًا لنا، والعرب تقول: استآسه يستئيسه إذا استعطاه، وأنشدني أبو رياش:
وكان الإلهُ هو المُستآسا
أي المستعطى، والأوس: العطيّة، وأنشد لرجل يخاطب ذئبًا:
فلأحشونَّك مشقصا ... أوسًا أويسُ من الهبالة
فالأوس: العوض، وأُويسُ: الذئب، والهَبالة: العطيّة. يقول: أعوضك من العطية هذا المِشقصُ. وروى لنا الوهبيّ عن الرِّياشي في تفسير قول الأفوه الأوْدي:
أو موثقً في القِدِّ ذي همَّةٍ ... مُجتنبٍ مستأيسٍ مُستئيسْ
مستأيس: مُستعوض، ومستئيس: مستعيض.
١٨ - وأنشد أبو زياد لجُمل الضِّبابية:
وأنْ رُبَّ جارٍ قد حمينا وراءه ... بأسيافنا والحربُ يَشرى ذبابُها
وفسره فقال: شري الشر بين القوم، إذا اشتد حتى كأنَّ الذباب قد مسَّه من ذلك شرى في جلده.
وهذا لا معنى له بوجه. وإنما ذباب كل شيء حدّه فأراد يشرى حدها ويشتد. ١٩ - وقال أبو زياد: وقال الوبري:
لا تأمننَّ فزاريًّا خلوتَ به ... على قلوصكَ واكتبْها بأسيارِ
لا تأمننَّ فزاريًّا خلوت به ... بعد الذي امتلَّ أيرَ العَيْر في النارِ
وليس هذا الشعر كما روى، ولا هو للوبري. وإنما هو لسالم بن دارة يهجو زُميّل بن أبير والرواية:
لا تأمننَّ فزاريًّا خلوت به ... بعد الذي امتلَّ أيرَ العَيْر في النارِ
وإن خلوت به في الأرض وحدكما ... فاحفظْ قلوصك واكتبها بأسيارِ
إني أخاف عليها أنْ يبيِّتها ... عاري الجواعر يغشاها بقُسبارِ
إنَّ الفزاريَّ لا يَنفكُّ مُغْتَلمًا ... من النَّواكهِ تَهذارًا بتهذارِ
أنا ابنُ دارةَ معروفًا بها نسَبي ... وهل بدارةَ يا للناس من عارِ؟
ولسالم فيهم أشعار مشهورة، وله معهم قصص مذكورة. ولما ضرب زميّل سالمًا، قال الكميت:
ولا تُكثروا فيها الضِّجاج فإنه ... محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا
٢٠ - وقال أبو زياد: المومس: الذي يأمس بين الناس أي يفسد بينهم بالنميمة..
وإنما المومس والمومسة: الفاجرات، ومن ذلك قول الراعي:
تغنَّى ليبلغني خَنزرٌ ... وكلُّ ابن مُومسةٍ أخْزَرُ
فأما الذي يمأس بين الناس فهو المؤوس، وقد مأس يمأسُ، قال العجّاج:
ويَعْتَلون من مأى في الدّحْسِ ... بالمأس يرقى فوق كل ماس
مأى: أفسدَ مثل مأسَ.
٢١ - وقال أبو زياد: وكل ذات ناب من السباع رغوث إذا كان معها ولد ترضعه، ولا يقال هذا للمعزى ولا للإبل: وربما قيل للمرأة رغوث، ولا يقال لذات حافر رغوث.
هذا شرط باطل لأنهم قد أجروا في أفعل من كلامهم أن قالوا " آكل الأشياء بِرْذونة رَغوث " نقل ذلك عنهم جلة الرواة.
٢٢ - وأنشد أبو زياد للحنفي:
إذْ لبست أُمُّكَ بُرْجديّا ... ما جئتَ من جال استها سويّا
وفسره فقال: الأجوال: الجوانب واحدها الجال.
وهو غلط لأن الانسان لا يخرج من الدُّبر وإنما يخرج من القُبل، والرواية:
ما جئتُ من جار استها سويّا
والعرب تسمي الفرج: الجار، ومنه قول الشاعر:
يمْرجُ جار استها إذا ولدتْ ... يهدِرُ من كلِّ جانب خُصُمُ
وكذلك قول الراجز:
1 / 5
وقد أراني في الزمان الأولِ ... أدُقُّ في جار استها بمعوَلِ
دقكَ بالمِنحازِ حبَّ الفُلْفُلِ
وكذلك قول خوّات بن جُبير:
وأمِّ عيال واثقين بكسبها ... خلجتُ لها جارَ استها خلَجاتِ
فهذا هو الوجه مع أنه الرواية، وقد يجوز أن يخرج لما قال وجهًا على قبح وضعف. وذلك أن يكون تناهى في أقذاره أن جعله مما يخرج من الدُّبر توسعًا في السب، لا على الحقيقة كما قال المُساور بن هند:
فإن تكن أنتَ من عبسٍ وأمّهمُ ... فأُمُّ عَبْسِكمُ من جارة الجارِ
فجارة الجار: الدبر، وكما قال الكميت:
جاءت بكم فتحجّوا ما أقول لكم ... بالظنّ أمّكم من جارة الجارِ
فجارة الجار: الدبر يدلك على ذلك قول الذي دنا من امرأته فوجدها حائضا فأخذها في دبرها، وقال:
كلا وربِّ البيتِ ذي الأستار ... لأهتِكنَّ حَلَقَ الحِتارِ
قد يُؤخذُ الجار بذنب الجارِ
وهذا وإن جاز التعلق به، فالأولى إتباع الرواية الأولى.
٢٣ - وقال أبو زياد: الوازع: الزاجر، والوازع: المستحث، وقال ذو الرمة:
وخافق الرأس مثلِ السيف قلت له: ... زَعْ بالزمام وجَوْزُ الليل مَركومُ
وقال لبيد: وقولا له - إن كان يقسم أمره - ألمّا يَزعْكَ الدهرُ أُمُّكَ هابلُ وقال: يقول ألمّا ينهك الدهر.
وقد أصاب في رواية بيت ذي الرمة وتفسيره - وهو مما غلط فيه جماعة من الرواة - وأخطأ في رواية بيت لبيد، وأخطأ أيضا في أن جعل الوازع من الأضداد، وإنما الوازع: الزاجر، والزائغ: المستحث، تقول: وزع يزع، إذا كفَّ فهو وازع، كما يقال: وضع يضع فهو واضع. وإذا أمرتَ قلتَ: زَع مثل قولك: ضع، ومن ذلك قولهم: " لا بد للسلطان من وَزْعة " ومنه قول النابغة:
فقلت: ألمّا تصحُ والشيبُ وازعُ
أي والشيب زاجر كافٌّ. ووجه رواية بيت لبيد: ألمّا يزعك الدهر كما تقول: ألمّا يضعك.
ويقال من الاستحثاث: زاع يزوع زوعا فهو زائع، كما يقال: فال يقول فهو قائل، وتقول إذا أمرته بالاستحثاث زُع كما تقول: قُل، والمُستحثّ والكافُّ وازعٌ هما مختلفان لفظا ومعنى، ولما لم يضبط أبو زياد فرقان ما بينهما جعلهما بلفظ واحد ضدين، ولم يقل هذا أحد غيره، وقد أساء فيه التمييز.
هذا آخر ما في نوادر أبي زياد من السهو.
٢٤ - وقال أبو زياد قبل هذا الموضع وقد أنشد بيت الفرزدق:
وعضُّ د زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلاّ مُسحتًا أو مُجلّفُ
أقوى أبو فراس. وإنما أخرته إلى آخر التنبيه عليه لأنه مما قدمت ذكره من ردّهم على الشعراء فجعلته طرفا لذلك. وقد خالف سائر الرواة في هذا القول لأن الرواة أجمعين على رواية: مسحت بالرفع والنصب، فمن رفع لم يحتج إلى احتجاج لمجلف، ومن نصب احتج وأوضح وجهه، واستشهد له، ولم يقل منهم أحد أنه أقوى. وسنذكر من ذلك ما يحضرنا حفظه إن شاء الله.
قال أبو جعفر محمد بن حبيب وأنشد هذا البيت في النقائض:
إلاّ مُسحت أو مجلّف
وحكى أبو توبة عن الكسائي: مُسحتا بالنصب، وفد قال أبو عبد الله بن الأعرابي والفراء: حروف الاستثناء تجيء بمعنى قليل من كثير فجعل إلاّ معلّقة بأن يكون، فأضمرها ونواها ورفع مسحتًا على هذا المعنى أراد أن يكون مسحت أو مجلف فرفعه بيكون المضمرة، وإلا يدل على تعلقها بأن تكون كقولك: ما أتاني أحد إلا زيد، ومثله لشبيب ابن البَرصاء:
ولا خيرَ في العِيدان إلاّ صِلابها ... ولا ناهضات الطير إلاّ صقورها
أراد: ولا خير في العيدان إلاّ أن تكون صلابها، وإلاّ أن تكون صقورها.
وحكوا عن خالد بن كلثوم:
وعضُّ زمانٍ يا ابنَ مروانَ ما به
قال: ومن روى مسحتا، أراد: لم يدع فيه عضُّ الزمان إلا مسحتًا، أو مجلّف بقي. فرفعه على هذا الإضمار، وأنشد:
غداةَ أحلتْ لابنِ أصرمَ طعنةً ... حُصينٍ عَبيطات السَّدائفِ والخمرُ
أراد: أحلت له الطعنة عبيطات السدائف وجلت له الخمر مع ذلك.
وقال الطوسي: من روى مسحت أو مجلف فرفعهما معا أراد لم يدع من الدعة، ولم يوقع لمسحت فعلا.
1 / 6
وكذلك قال أبو اسحق الزَّجاج وقد أنشد هذا البيت شاهدًا على قول الله ﷿: (فيُسْحِتَكم بعذابٍ) وفيسحتكم معنىً: لم يدع ولم يستقر من المال إلا مسحت.
وقال ابن دريد - وقد أنشد هذا البيت فنصب - مسحت رواية أبي عبيدة: لم يدع بالكسر من الدعة.
وإذا كان ذلك كذلك فلا وجه لنصب مسحت ولا طريق إلى تقول الأقوال عليه، وإن لم يكن كذلك فقد بان وجه رفع مجلف بعد نصب مسحت.
٢٥ - وقد رُوي عن أبي زياد - وليس ذلك في نوادره - أنه قال في قول الفرزدق:
يا أيها المُشتكي عَبْسًا وما جَرمتْ ... إلى القبائل من قتلٍ وإبآسِ
إنّا كذاك إذا كانت هَمرّجةٌ ... نَسبي ونقتلُ حتى يسأمَ الناسُ
أقوى أبو فراس.
وسمعت أبا رياش ﵀ يسأل أبا بكر بن الخياط النحوي عن ذلك فقال ابن الخياط: وإبآس كذلك. فكان من إيماء أبي رياش أن الجواب عنه.
٢٦ - ورُوي عن ابن زياد - وليس في نوادره - أنه قال في قول الفرزدق:
على زواحفَ تزجى مخُّها ريرِ
لحن الفرزدق.
وقد حكى أبو أحمد عبد العزيز بن محمد الجلودي وذكره في أخبار الفرزدق أنَّ عبد الله بن أبي اسحق النحوي قال في هذا البيت أنه لحن وأن ذلك بلغ الفرزدق، فقال: أو ما وجد هذا المنتفخ الخُصْيين لبيتي مخرجًا في العربية أما أني لو أشاء لقلت:
على زواحفَ تزجيها محاسيرِ
ولكني والله لا أقوله، ثم قال:
فلو كان عبدُ الله مولىً هجوتُه ... ولكنّ عبدَ الله مولى مواليا
فبلغ ذلك عبد الله فقال: عذره شر من ذنبه. والخفض في ريرٍ جيّد، وتقديره: على زواحف ريرٍ مخُّها يُزجى.
٢٧ - وقد روي عن أبي زياد أيضا - وليس ذلك في نوادره - أنشد الفرزدق:
ألستم عائجين بنا لعنّا ... نرى العَرَصات أو أثر الخيام
أقولُ إذا رأيت ديار قومي ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
وهذا أيضا مما لحن فيه الفرزدق.
وقد روى أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى بن يزيد الجلودي في أخبار الفرزدق بإسناد متصل. ذكره أن الفرزدق حضر عند الحسن البصري، فأنشده:
أقول إذا رأيتُ ديار قومي ... وجيرانٍ لنا كانوا كرامِ
فقال له الحسن: كرامًا يا أبا فراس.
فقال له الفرزدق: ما ولدتني إلاّ ميسانية إن جاز ما تقول يا أبا سعيد قال: وأم الحسن من أهل مَيْسان. فهذا ردّ الفرزدق عن نفسه، وقد أصاب، وتقدير قوله: وجيران كرام كانوا لنا.
التنبيهات على ما في نوادر
أبي عمرو الشيباني ﵀ واسمه: إسحق بن مرار بن زرارة قال أبو عمرو: ويقال للبُسر أيضًا الجدال، وأنشد:
يَخِرُّ على أيدي السُّقاة جَدالها
وإنما الجدال: البَلَحُ بإجماع، وقد أتى أبو عمرو بأسماء البلح في نوادره على الاستقصاء؛ ولم يأت بالجدال فيها.
٢ - وقال: المُصاداة المنع بين الشدة والإرخاء، وهو من المُداراة، قال: وهي المُفاناة والمُساناة والمُدالاة والمُداجاة، قال رجل من غَطَفان:
كلٌّ يُداجي على البَغْضاء صاحبَهُ ... ولن أُعالنهم إلاّ كما عَلَنوا
هذا الرجل الغطفاني - هو قَعْنَب بن أمِّ صاحب، والمداجاة: التغطية والمساترة وليست من المداراة، والأصل فيها: التستر بالدُّجْية - وهي قترة الصائد - وجمعها الدجى، وهي مأخوذة من دُجى الليل، ودجى الليل: ما ستر الأشياء بظلمته فغطى عليها. وفي دجية الصائد يقول الطِّرماح:
مُنطوٍ في مُستوى دُجْية ... كانطواء الحُرِّ بين السِّلامْ
والحر: الأبيض من الحَيّات، والسِّلام: الحِجارة، وفي جمع دُجية دُجىً، يقول أميه بن أبي عائذ الهذلي:
فأسلكها مَرْصدًا حافظًا ... به ابنُ الدُّجى لاطئًا كالطِّحال
جعله لكمونه في دُجيته واستتاره ابنًا للدُّجى أي القُتر، وقد قال هو في كتاب الجيم: الدُّجية قُترة الرامي، قال كعب:
وهم بوِرْدٍ بالرُّسَيس فصدَّ ... رجال قُعودٌ في الدُّجى بالمعاول
وقول أبي عمرو: هي المُفاناة والمُساناة: يعني المداراة.
وإنما المساناة: المُساهلة، ومنه قول الشاعر:
إذا الله سَنَّى عَقْد شيءٍ تيسّرا
وجمعه بين المساناة والمداراة أقرب من جمعه بينها وبين المُداجاة.
1 / 7
٣ - وقال أبو عمرو: كان مدركة وطابخة أخوين طلبا إبلهما فصادا أرنبا، فقال مُدركة لطابخة: اطبخ لنا هذا إلى أن أثني عليك الإبل، فطبخها طابخة، وثني عليه مدركة الابل، فلما أتيا أمهما، قالا: فعلنا وفعلنا، قالت: " فأنت طابخة وهذا مُدركة ". فذهب طابخة ومدركة باسميهما وأمهما خِندف.
وإنما أبوهما الذي قال لهما هذا، وهو الذي قال لأمهما يومئذ - واسمها ليلى -، وكانت خرجت مسرعة لما أتاها الخبر: " علام تُخندِفين وقد أدركت الإبل " فذهب خندف باسمها وهي: ليلى بنت عمران بن إلحاف بن قُضاعة.
٤ - وقال أبو عمرو: التَّماتين في المظلة: التَّضريب في البيت ليستقيم بها البيت، وهو أن يضرب بالخيوط كما يضرب في الفسطاط والشاذكونة، يقال: مَتّنْ بيتك، وواحد التماتين: تمتين.
وهذا الذي قاله غلط، إنما التماتين: الخيوط وواحدها تَمْتان، بإجماع أهل اللغة، فأما التَّمتين فالفعل - وهو التضريب - يقال: متن فُسطاطه وثوبه يُمَتّنه تمتينًا فجعل الفعل اسمًا واحدًا ووحّد الجمع فغيّر واحده.
٥ - قال أبو عمرو: واللِّص يقال له خارب، وأنشد:
ولا خاربٌ إنْ فاته زادُ صاحبٍ ... يَعَضُّ على إبهامه، يَتَفكّنُ
أي يتندّم.
وهذا غلط، الخارب: الذي يسرق الإبل خاصة لم. قال أبو زياد: الخارب: الذي يسرق الإبل ولا نسميه لصًا، هو عندنا أجلُّ من اللص.
وقال ثعلب في قول العجّاج:
أنت وهبت هجمةً جُرجورا ... أُدْمًا وعِيسًا مَعَصًا صبورا
لم تعط في عطائها تكديرا ... خِرابةً ولم تكن مهورا
الخرابة: سرقة الابل خاصة، وكذلك قال أبو نصر في قول ذي الرمة:
فجاء كذَوْد الخاربين يسلُّها ... مِصَكّ تهاداهُ صحارٍ صرادحُ
وقال أبو زياد أيضا: " والخارب الذي يأخذ النَعَم من الشام فيستاقها، ثم يبيعها باليمن، ويأخذها من اليمن، فيبيعها بالشام، وهو الطَّراد ولا ندعوه لصًا، هو أرفع عندنا من اللصّ، واللِّص: عندنا الذي يسرق من البيت؛ والطريق؛ ومتاع الناس ".
وهذا الذي فاله أبو زياد غير صحيح، لأن أبا رياش قال: الخارب الذي يسرق الإبل - وقد يقال له اللص - واللص لا يقال له: خارب، وهذا هو القول الصحيح لا قول أبي عمرو وأبي زياد، لأن الراجز يقول:
والخاربُ اللِّصُّ يُحبُّ الخاربا ... وتلك قُربى مثلَ أن تُناسبا
أنْ تُشبه الضَّرائب الضَّرائبا
فأما فول الآخر:
إئتِ الطريقَ واجتنبْ أرماما ... إنَّ بها أكتلَ أو رزاما
خُويربينِ ينفقانِ الهاما ... لم يتركا لمُسلمٍ طَعاما
وإنما وصفهما مع سرقتهما الإبل بالنَّهم، لا بأنهما يسرقان طعام الناس، والعرب تعدُّ آكل مُخّ الرأس نهمًا، ولذلك يقول شاعرهم:
ولا يسرقُ الكلبُ السَّروقُ نِعالنا ... ولا ينتقي المُخَّ الذي في الجماجمِ
ومما يدلّك على صحة قول شيخنا أبي رياش، وفساد قول الشيخين ﵏ قول قّسَّام بن رواحة السِّنْبسي:
لبئسَ نصيبُ القوم من أخويهم ... طِرادُ الحواشي واستراقُ النواضحِ
وقول أبي محمد الحذلمي:
يمنعها من شرِّ خرَّابٍ وسَلْ ... وطائفِ الحُواضِّ أو من مُهتبلْ
مخافة البيضِ وأطراف الأسَلْ
وقال ابن الأعرابي: السَّلُّ: السرقة، يقال: في فلان سلَّة أي سرقة. ومن أمثالهم: " الخلّة تورث السَّلّة " قال: والخُرّاب: الذين يسرقون الإبل خاصة.
٦ - وأنشد أبو عمرو لمالك العليمي:
انجُ نجاءً من غريمٍ مكبولْ ... يُلقي عليه النّأدلان والغولْ
واتّق أجنادًا بفرعٍ مجهولْ
وفسره فقال: النأدلان أمران جسيمان واحدهما: النأدل، والغول: أمرٌ دَهيٌّ، والفَرع: الأرض المجدبة.
وأكثر الرواة على أن النَّيدلان - بفتح النون وحذف الهمزة - وأنه الذي تسميه العامة: الكابوس. وينشدون هذا البيت:
يُلقى عليه النَّيدلان بالليل
والوجه ما رواه أبو عمرو من الغول، والوجه في، تفسيره ما عليه الرواة من التوحيد، وأنه الكابوس.
٧ - وقال أبو عمرو: والصُّفاخ: واحدة ولا أعرفها إلاّ واحدة، وهي في شعر الحطيئة، يقال: ناقة صُفَّاح ولا يقال: صُفّاحة.
1 / 8
وقد أساء أبو عمرو في هذا الشرط ووهم، يقال: ناقة صفّاح - كما قال - وصُفّاحة وأنا أذكرها، والشاهد له قول حارثة بن بدر الغداني:
لحيبِ الجَنْب صُفّاح سِنادٍ ... مُفأَّمةٍ كدسْكرة الموالي
والشاهد عليه أيضا قول الفزاري أنشده ابن الأعرابي وغيره: ١٤ب وصفّاحةٍ مثل الفنيق منحتها عِيالَ ابن حَوْبٍ جنّبته أقاربه والحوب: الجهد. والصُّفاحة: الناقة الشديدة - هاهنا - شبهت بالصخرة لصلابتها وشدتها، والصُّفاحة: الصخرة.
٨ - وقال أبو عمرو: يقال غَوِي الجَدي. إذا عطش من اللبن وأُسيء غذاؤه.
وأهل اللغة على خلاف هذا، الغوي عندهم البَشَم، وبذلك يفسرون قول الشاعر يصف قوسًا:
مُعَطَّفةُ الأثناء ليس فَصيلُها ... برازئها درًّا ولا مَيّتٍ غَوَى
وقول أبي عمرو أشبه بالبيت، والرواة على ما أنبأتك به.
٩ - وقال أبو عمرو: الصَّيصة: الحُفُّ الصغير تنسج به النساء. وهذا سهو منه ﵀ إنما الصيصة: شوكة الحائك الذي يُمرّها على الثوب، وهي قرن، والقرون هي الصياصي، وبذلك سُميت الحصون الصّياصي لأنها تمنع من فيها كما يمنع ذو القرن بقرنه، قال الله ﷿: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب) .
وقال أبو يوسف: ورأيت معزًا مُلسًا كأنها الصياصي، والصياصي ملاقط النساء التي يلقطن بها النسوج، والواحدة: صيصة بمنزلة الحَف فأراد أنها سِمان مُلسٌ تبرق.
فقوله: ملاقط النساء التي يلقطن بها النسوج موافق لقولنا. وهو الصحيح.
وقوله: بمنزلة الحفّ مقارب لقول أبي عمرو وهو غلط - وفيه نقض لما قدم من صحيح قوله. وقال در يد بن الصِّمة يذكر أخاه عبد الله:
فجئتُ إليه والرِّماح تنوشه ... كوقع الصياصي في النسيج المُمدَّدِ
وأما قول الراجز، وذكر التمر:
يُنزعُ بالقَرْن وبالصِّيصجِّ
فإنه لما اختلف اللفظ كرر كما قال الآخر:
وألفى قولها كَذِبًا ومَيْنا
كما قال النابغة:
يشفي بريق لِثاتها العَطِشُ الصَّدى
وكما قال الآخر:
وهندٌ أتى س دونها النأيُ والبُعدُ
وقال العجّاج:
عَهدَ بنيٍّ ما عفا وما دَثَرْ
وقال العدواني:
.....................ولا ... آمن أن تكذبا وأنْ تَلعا
أن تكذبا يقال: يلَع وَلَعًا ووَلْعًا وولعانًا: إذا كذب، ويدلك على أن الصياصي القرون، قول الشاعر:
فأصبحتِ الثيرانُ غرقى وأصبحت ... نساءُ تميم يلتقطن الصَّياصيا
وإنما يلتقطن القرون لينسجن بها.
وقال بعض الرواة: الصياصي شوك الحاكة الواحدة صيصية، وهي مأخوذة من صيصية الديك، وهي شوكة وإبرة في رجله. وهذا قريب معناه مما قدمنا بل هو مثله، وكل ردّ على أبي عمرو.
١٠ - وقال أبو عمرو في تفسيره قول زياد الملقطي:
يلفُّ منها بالخرانيف الغُزرْ ... لفًّا بأخلافٍ رخيّات المَصَرْ
حُمْرِ الذُّرى خراخر بلا حَوَرْ
الخرانيف: السمان الغزار الواحد خِرنفٌ، والخراخر: الكرام الواحد خُرخُور. والمَصْر: أن يمتصرها، يحلبها قليلًا قليلًا، وناقة مصور: إذا كان بها لبن قليل. تقول: هذه ناقة مصور، ويمصرها: يحلب منها شيئًا بعد شيء.
ولم يذكر المصر بالتحريك، وإنما فسر المصْر بالإسكان وهذا سهو منه.
وما يخلو الراجز أن يكون أراد النصر، وهو موضع الصّر بالصّرار فعدل أبو عمرو إلى تفسير المصْر فغلط.
وأما أن يكون أراد المصْر فحرّك فقال: المَصَر، وكان يجب على أبي عمرو أن يبين ذلك فإنهم ربما حركوا المسكّن للضرورة. فمن ذلك قول زهير:
كما استغاث بسيءٍ فزُّ غيطلةٍ ... خاف العيون فلم ينظر به الحَشَكُ
وإنما هو الحَشْك بالإسكان، وهو اجتماع اللبن، ومنه قول رؤبة:
وقاتمِ الأعماق خاوي المخترقْ ... مُشتَبه الأعلام لمّاع الخَفَقْ
وإنما هو الخَفْق، يقال: خَفَق يخفِق خَفْقًا، ومثله:
وشَفَّها اللوحُ بمأزولٍ ضَيَقْ ... صوادقَ العَقْبِ مهاذيبَ الوَلَقْ
وقد يحرك الساكن إذا كانت القافية موقوفة، قال الراجز:
عَلّمنا أخوالنا بنو عِجِلْ ... الشَّغربيَّ واعتقالًا بالرِّجِلْ
وقال آخر:
1 / 9
عجبت والدهر كثيرٌعَجَبه ... من عَنزيٌ سَبّني لم أضربُهْ
وقال أبو النجم:
فقرِّبنْ هذا وهذا أزحِلُه
وقال أوس:
له صرخةٌ ثم إسكاتةٌ ... كما طرّقت بنِفاس بِكرْ
وأيًا ما أراد زياد، فقد عدل أبو عمرو عن شرحه.
١١ - وأنشد أبو عمرو:
وأخرجها النِّسناسُ حتى أحَلّها ... بدار عُقيل، وابنها طاعمٌ جَلْدُ
وقال: النسناس: الجوع.
وإنما القسقاص بقافين، وقال أبو زيد: القسقاص: شدة الجوع والبرد، وأنشد:
أتانا به القَسقاس يُرعش خابطًا ... ولليل أسجافٌ على البيد تُسْبَلُ
وقال ابن دريد في كتاب الثناثي المكرر في سين وقاف: والقسقاس: شدة الجوع والبرد، وقرب قسقاس: بعيد المطلب مثل حَصْحاص وحذحاذ، وحدحاد وأنشد البيت الذي أنشده أبو زيد.
وما أعلم أن أحدًا من الرواة قال النسناس: الجوع سوى أبي عمرو، والرواة على القسقاس بقافين، وهذا تصحيف منه ﵀ ولو بلغ تنبيهنا هذا أبا عبيدة لسُرَّ، وعلم أنا أثأرنا له منه فيما راسله به في الغيل.
١٢ - وأنشد أبو عمرو لطريف بن تميم:
حَوْلي فوارسُ من أُسَيِّدَ شِجْعةٌ ... وإذا حللت فحولَ بيتي خَضَّمُ
وقال: الشِّجعة: الشجعاء، وهم الشجعان والشجعان، والخضم: العدد الكثير.
هذا غلط فاحش إنما العدد الكثير: الخضم مشبه بالبحر، قال العجاج:
فاتجمج الخِضَمُّ والخِضَمُّ ... فخَطَموا أمرَهمُ وزَمّوا
فأما خَضّمُ في بيت طريف، فإنما لقب لبني العنبر بن عمرو بن تميم، ويلقبون أيضا الجعْراء. قال أبو عبيدة: خَضَّمُ: لقب بني العنبر، وكذلك ابن الكلبي، وغيره من أهل النسب.
١٣ - وأنشد أبو عمرو للمُثلّم الدَّغشي من طيفي:
كنتُ ابتألتُ على قوم ذوي حَسَبٍ ... قد كنت أُوليهمُ عُرفًا فخانوني
وقال الابتآل: الاعتماد على العصا، ويقول: ابتألت عليهم في ذلك أي اعتمدت كأنه من الوَأْل، وهو الحِرْز أي صيّرتهم ملجأً لي.
وهذا فاسد. إنما الحرز: الموئل، فأما الوأل فمصدر لقولهم: وأل يئل وألًا إذا لجأ أو تحرز. ومن كلامهم: " لا وألتُ إن وألتَ " أي لا نجوتُ إن نجوتَ.
١٤ - وأنشد أبو عمرو لعطاء الدُّبَيري:
ونازحةِ الجُولين خاشعة الصُّوى ... قطعتُ بمدشاءِ الذَّراعين ساهمِ
وقال: المدشاء سريعة أوب اليدين.
وإنما المدشاء: القليلة لحم الذراعين، قال أبو زيد: المدش: الضعف في البصر وفي اليدين. وقال ابن دريد: مَدِشت عين الرجل تمدش مدشًا إذا أظلمت من جوع أو حر شمس، والرجل مَدِشٌ، قال: وأحسبه مقلوبا من دَمِش.
وقال الأصمعي: المدْش: الضعف. وهذا كلّه متقارب لأنهما إذا قل لحمهما ضعفتا، ولم يذكر أحد في المدش السرعة.
وقول عطاء في البيت: " ساهم " يدل على التحول والتغير، وذانك لهما مُضعِّفان.
١٥ - وقال: الابل المطاريق التي تسير ولا تأكل وقد أطرقت الإبل؛ والواحدة مُطرقة.
هكذا نقل عنه وهو وهم منه، ومن نقل عنه، وإنما الوجه اطّرّقت بتشديد الطاء، وهي مُطّرقة قال الراجز:
حتى إذا الليل علا الحَيّوتا ... سارت معًا واطّرقت شتيتا
١٦ - وقال: اللِّماك: الكُحل، وأنشد:
حتى إذا ما مرَّ خِمْسٌ قعْطني ... وشبّ عينيها لِماك مَعْدِني
هكذا روى عنه: لِماك بالكاف وكسر اللام.
وأكثر الرواة: أبو زياد وغيره، يروون: لَمال بلامين الأولى مفتوحة وهما الأعرف.
١٧ - وقال أبو عمرو: الدَّهْمَجة مشيُ الكبير كأنه في قيد.
والرواة: على أن الدهمجة تقارب خطو مع سرعة، قال الفرزدق:
حمارٌ لهم من بنات الكداد ... يُدَهمجُ بالوطب والمِزودِ
يبيعون نزوته بالوَصيف ... وكوميهِ بالناشفي الأمردِ
ولو كانت الدهمجة من مشي الكبير كأنه في قيد لما ساوى هذا الحمار وصيفًا فكيف نزوته. والدهمجة: السرعة لا محالة.
١٨ - وقال أبو عمرو: الثفال الذي يجعل تحت الرحى يقع عليه الدقيق.
وهذا محال إنما يقع عليه الحب لأنه جلد بين الحجرين محيط بالقطب تحت الفأس، ولا دقيق ثمَّ.
١٩ - وقال أبو عمرو: المَسَد من جلود الإبل تُغار، والإغارة: الفتل فتجعل - وهي رطاب - مثل الرِّشاء الغليظ فيبقى دهرًا.
وإنما قال الشيخ هذا لأنه حفظ قول الراجز:
1 / 10
وَمَسدٍ أُمرَّ من أيانقِ ... ليس بإنسانٍ ولا حقائقِ
ونسي ﵀ قول الراجز:
يا مَسَدَ الخُوصِ تعوّذْ مني ... إن كنت لَدْنًا ليِّنًا فإني
ما شئتَ من أشمطَ مُقسئنِ
وإنما الأمساد: الحبال الغِلاظ من أي شيء كانت من أبق، أو قطن، أو شعر، أو وبر، أو جلد.
وقال أبو زياد: الأرشية كلها أمساد الواحد مسد، ولعل المسد ما كان من جلود الإبل، ثم قيل لكل رشأ مسد، وأنشد:
وبكرةً ومحورًا صرّارا ... ومَسَدًا من أبَق مُغارا
قال: والأبق: هُدْب الكتان، وهو عند غيره القِنّب.
وقال أبو خيرة وأصحابه من الأعراب: المسد من جلد أو أبق، والأبَق: القِنّب عام ومن مصاص، وهو نبات كالكولان أو من خلب، والخلب: اللّيف. وقال الفراء: المسد: الحبل من الليف ثم قيل في الحبل من الجلود.
٢٠ - وقال أبو عمرو: ذكر الحارث بن عباد وقصّ خبره، ثم قال: " وكان معهم يوم قِضة ويوم التحالق، فحمل فأخذ عدي بن ربيعة أخا مهلهل ".
فجعل يوم قضة ويوم التحالق يومين وإنما هو يوم واحد، يوم قضة: هو يوم التحالق، وهو يوم الثنية، وهي ثنيّة قِضة.
٢١ - وقال أبو عمرو: الأنبار: أنبار الطعام الواحد منها نِبْر، والأنبار: القردان الصغار الواحد نِبْر، وأنشد:
.........مدارج الأنبار
وهذا سهو، الأنبار من الطعام واحد، والجمع: الأنابير.
٢٢ - وروى أبو عمرو:
والحَمَضيّات على علاّتها ... يَبِتن يَنتقلنَ أجهزاتها
وإنما الرواية: يَنْتُقنَ أجهزاتها.
٢٣ - وأنشد أبو عمرو لأبي البقاء العنزي:
أحمَدُ ربًّا وهبَ الجلّوخا ... من بعد ما شِبتُ وقالوا: شيخا
وسيّر الشيب شَبابًا أشدخا
لم يفسر أشدخًا ولا أعرفه، وأنا أظن أنه يُروى: شدخا بغير ألف، فإن كان كذاك، فالشَّدخ: الحديث السن الرَّخص.
٢٤ - وقال أبو عمرو: الرَّجاجة: النعجة المهزولة، ولا تكون إلآ من الضأن، وأنشد:
أعطى عِقالٌ نعجةً هملاجا ... رَجاجةً أنَّ له رَجاجا
وقد وهم، قد تكون الرجاجة من الضأن والمعز والإبل والناس، قال أبو عبيدة: الرَّجاج: الضعفاء من الناص والإبل، وأنشد:
قد بكرتْ مَحوةُ بالعجاجِ ... فدمّرت بقيّة الرَّجاجِ
وأنشد غيره:
فهُمْ رَجَاجٌ وعلى رجاجِ ... يَهمونَ أفواجًا إلى أفواجِ
والضأن لا يُركب.
٢٥ - وقال أبو عمرو: وحَمّجَ إذا شدّد النظر.
والتحميج: أن يُصغّر الإنسان عينيه ليستثبت.
٢٦ - وقال أبو عمر وتقول: هو على سليقة واحدة أي على طبيعة واحدة، وعلى سُرجوجة واحدة. وأنشد:
فما الشرُّ فاعلم بسُرجوجةٍ ... وما الخير للمرء إلاّ درّرْ
وما رأينا أحدا قط ولا سمعنا بدرّ عليه الخير، وإنما الرواية:
وما الخير للمَرء إلاّ تِيَرْ
يقال: تارة وتارات وتِيَر، قال العجاج:
ضرب إذا ما مِرجل الموت أفَرْ ... بالغَلي أحموه وأجْنوه التِّير
الأفر: النزو.
٢٧ - وأنشد أبو عمرو لابن هرمة:
أقدرُ أنقاها وأندؤها
والرواية: تقدر أنقاها بالتاء، وأول البيت:
يمشي طُهاتي إلى كرائمها ... تقدر أنقاها وتندوها
٢٨ - وقال أبو عمرو الجُبّأ: الناجي من الأمر الذي قد انفلت منه. وأنشد:
وما أنا من ريب المنون بجُبّإ ... وما أنا من سَيب الإِله بيائسِ
وهذا التفسير منه على التوهم، إنما الجُبّأ: الجبان لا الناجي، وإنما حمله على الأغلب في الظاهر على حقيقته في اللغة.
٢٩ - وقال أبو عمرو: الصُّور: الجماعة من النخل الصِّغار منه الذي لا يطول، وجماعه: الصِّران.
في هذا القول غلطان أحدهما: أن الصُّور الجماعة من النخل الصغار والكبار والطوال والقصار. وقال أبو حاتم: الصور: النخل المُلتف، وأنشد غيره قول الراجز يصف جملًا بطول العنق:
كأنّ جذعًا خارجًا من صَوْرهِ ... بين مقذّيه إلى سِنّورهِ
والآخر أن: جمع صور أصوار، ونما الصيران جمع صِوار، يقال: صِوار وصُوار، والجمع: صيران وأصورة.
٣٠ - وأنشد أبو عمرو لابن الرقيات:
أعني ابنَ ليلى عبدَ العزيز ببا ... ب اليونِ تغدو جفانه رُذما
1 / 11
وفي هذه الرواية أيضا غلطان: وإنما الوجه ببابليون، وهو اسم مصر بلغة السودان، وتمسي جفانه لأن المساء وقت الإطعام، ومجيء الأضياف، وقال الرواة في قول الخنساء:
يذكرني طلوعُ الشمس صَخرًا ... وأذكرهُ لكلِّ مغيبِ شمسِ
أنها تبكيه عند طلوع الشمس للغارة، وعند مغيبها للأضياف. على أن تغدو قد يجوز، وباب اليون لا يجوز.
٣١ - وأنشد أبو عمرو:
ألا بكّر الناعي بخيريْ بني أسَدْ ... لسعدِ بن مسعودٍ وبالسيد الصَّمدْ
وإنما الرواية: لعمرو بن مسعود.
٣٢ - وقال أبو عمرو في قوله: " لا إسلالَ ولا إغلال ". الإسلال: السَّرَف، والإغلال: الغش، ويقال: " إنّ في بني فلان سِلّة ". أي: سَرَف، والإغلال: كأنه من الغل يعني الغش.
وإنما الإغلال من الغل، وهي الخيانة يقال: غلّ يغُلّ غلًا إذا خان. ومنه قول الله ﷿ (وما كان لنبيٍّ أن يغُلَّ)، والغل: الخيانة، وأنشد أبو حاتم لامرأة في صفة نخلة:
أضلّها أضلّ ربي عمله ... ثم أتى فاخرها فأكله
ثُمت قالت عرسه: لا ذنب له ... لو قتل الغل امرأً لقتله
ولا معنى للغُلّ مع السّل، وإنما الإسلال من السِّلة والإِغلال من الغُل.
هذا آخر ما في نوادر أبي عمرو
من السهو ٣٣ - فأما ردّه على الشعراء فإنا نذكر منه ما وافقه عليه الأصمعي ووهما فيه، فمن ذلك قول النابغة يصف الثور:
يحيد عن أسْتنٍ سودٍ أسافله ... مثل الإماء الغوادي تحمل الحُزَما
قالا: إنما توصف الإماء بالرَّواح بالحطَب لا بالغدو، وأنشد قول الراعي:
هلاّ سألتَ هداكَ الله ما حَسَبي ... إذا رعائيَ راحتْ قبل خطّابي
وأنشد الأصمعي:
تظل بها رُبْدُ النعام كأنّها ... إماءٌ تُزجّى بالعشيّ حواطبُ
وكان الرياشي ينكر على الأصمعي هذا، ويقول: إنما تغدو الإماء لتحمل الحزم رواحًا، وكان أبو عبيدة يقول: لم يقل النابغة: إلاّ عشاء الغوادي تحمل الحُزُما.
فإن كانت الرواية كما قال أبو عبيدة فقد غير بيت النابغة، وإن كان كما روياه، فقول الرياشي واضح بين جيد، ومثله قول العجاج:
يكشف عن جمّاته دلوُ الدَّالْ ... غيابةً غثراء من أجْنٍ طالْ
وإنما الدّالي الذي ينزع الدلو من البئر مملوءة، يقال: دلا دلوه يدلوها دَلْوًا فهو دالٍ، قال الراجز:
دلوًا ترى الداليَّ منه أزورا
وأدلى دلوه يُدْليها إدلاءً فهو مُدلٍ إذا أرسلها ليملأها، قال الله ﷿: (فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه) أي أرسلها، وإنما يكشف عن الجمّاة دلوًا المدْلي إذا أرسلها، ثم تصل إلى الماء فتغرق، ثم يدلوها بعد ذلك، وقد ذهب ما كان على الجمّاة فلما كان المُدْلي أدلى عاد فدلّى، قال العجاج:
دلو الدّال
وكذلك الإماء كنّ إذا غدون رحن يحملن الحَطب، قال النابغة: مثل الإماء الغوادي ...
وقد غلط في تفسير بيت العجاج جلّة الرواة وآخرهم ثعلب، وما علمت أن أحدًا شرحه شرحنا؛ ونحمد الله على ما أولى وإياه. نستزيد من الحُسنى.
٣٤ - وكان الأصمعي وأبو عمرو يعيبان طرفة في قوله:
وإذا ما شربوا ثم انتشوا ... وهبوا كلَّ أمونٍ وطِمِرْ
ويقولان: الخمر تُسمِّحُ البخيل؛ وينشدان قول عمرو بن كلثوم:
ترى اللّحِزَ الشحيحَ إذا أُمّرت ... عليه لمالهِ فيها مُهينا
وقال الأصمعي: إنما الجيد قول زهير:
أخي ثقةٍ لا تُذهِب الخمر مالَهُ ... ولكنه قد يُذهب المالَ نائلُه
وقد وهما وأصاب طَرَفة. أما بيت عمرو بن كلثوم فلا حجة لهما فيه، لأنه قال: لماله فيها مهينا. فلم يخرج بسماحته عنها.
وأما بيت زهير فمدح حسن. وإنما وصفه بالكرم والإعطاء، وإن ذلك يتلف مال لا شربه الخمر، ولكن قول طرفة يريد به: أنهم إذا شربوا وهبوا ما يملكون ثم ذكره، فقال: كل أمون وطِمِر. وهذا كقول المُنخّل اليشكري:
وإذا انتشيت فإنني ... ربُّ الخورنق والسَّديرِ
وإذا صحوت فإنني ... ربُّ الشويهة والبعيرِ
وهذا فعل الخمر؛ ولذلك قال الأخطل:
إذا ما نديمي عَلّني ثم عَلّني ... ثلاثَ زجاجاتٍ لهنّ هديرُ
1 / 12
خرجتُ أجُرُّ الذيلَ مني كأنني ... عليك أميرَ المؤمنين أميرُ
وفيه قال أُزَيْهر النُميريّ فوافق طرفة:
وندمانِ صدقٍ له بهجةٌ ... كريمُ الفُجاءة رحبُ العَطنْ
أكلنا الغريض على كأسهِ ... ولم يدرِ نِدمانه ما الثمنْ
وراح نداماه لم يغرموا ... وراح إلى أهله قد غبنْ
وقال المَرّار بن سلامة العِجلي:
وفتيان يهولك أنْ تراهم ... سَبَأتُ لهم من الرّاح المدامِ
فلما أن شربنا وانتشينا ... ودَبّت في المفاصل والعظامِ
نهضتُ إلى عتيقٍ مَشرفيٍّ ... حديثِ الصَّقْل مأثورٍ حُسامِ
لبركٍ هاجدٍ فاعتمتُ منه ... علاةَ الجسم تامكةَ السَّنامِ
وهذا موافق لطرفة لفظا ومعنى، وقد وافقهما في اللفظ والمعنى البُرْج بن مُسْهر حيث يقول:
ونَدمانٍ يزيد الكأسَ طيباُ ... سقيتُ وقد تغوّرت النجومُ
فلما أن تَنَشّى قام خِرْقُ من الفتيان مختلقٌ هضومُ
إلى وجناءَ ناوية وكاست ... وهى العُرقوبُ منها والصَّميمُ
فأشبعَ شَرْبَهْ وجرى عليهم ... بإبريقين كأسُهما رَذومُ
وقد قال عنترة فوافق طرفة:
فإذا شربت فإنني مُستهلِكٌ ... مالي وعِرضي وافرٌ لم يكلمِ
وقد قال ابن قتيبة: لولا أنّ عنترة قال بعد هذا البيت:
وإذا صحوتُ فما أُقصّر عن ندىً ... وكما علمت شمائلي وتكرّمي
لعيبَ كما عيبَ على طرفة، والعرب قد تمدح الرجل بالجود على السُّكر كما تمدحه به في الصحو. يوضح ذلك قول امرفي القيس:
وتعرف فيه من أبيه شمائلًا ... ومن عمّه ومن يزيدَ، ومن حُجُرْ
سماحةَ ذا، وبرَّ ذا، ووفاء ذا ... ونائلَ ذا إذا صحا وإذا سَكِرْ
والخمر لا تنقل الإنسان عن طبعه كما يقول بعض الناس، وإنما تزيد فيه إن كان كريما زادته كرمًا، وإن كان لئيمًا زادته لؤمًا، وكل من سكر حاد كما قال في بيت عمرو بن كلثوم، ألم تسمع إلى قول عَرْقل بن الخطيم السَّعديّ:
أُحبُّ اللّينين من النَّدامى ... وأبغضُ كل ندمانٍ وَقاحِ
يزيد العُقدتين إذا انتشينا ... على ما كان يعقدُ وهو صاحِ
والى قول الشاعر: بئس الصُّحاة وبئس الشَّرْبُ شُربُهم إذا جرت فيهم المُزّاءُ والسُّكرُ وإلى قول الجَرْمي:
لعمري لئن أنزفتمُ أو صحوتمُ ... لبئس الندَّامى أنتمُ آل أبجرا
أنزفوا: سكروا، قال الله ﷿ في صفة الخمر: (لا يُصَدَّعون عنها ولا يُنزفون) .
وأوضح من هذا كلّه، قول الشاعر:
تزيد حسا الكأسِ السفيه سفاهةً ... وتترك أخلاق الكريم كما هيا
وكان أبو عمرو يردُّ على رؤبة قوله:
لا تكُ كالرّامي بغير أهزعا
ويقول: إنما يقال: " ما في كنانته أهزع " كما يقال: " ليس فيها ديّار " في موضع النفي.
وقد جاء الأهزع في كلامهم موجبًا، قال ريّان بن حُوَيص:
كَبِرتُ ودقَّ العظم مني كأنما ... رمى الدهرُ مني كلَّ عِرقٍ بأهزعِ
وقال النمر بن تولب:
فأخرج سهمًا له أهْزعًا ... فشكَّ نواهقَهُ والفَما
وقال بعض جَرم:
فأسْعِلِ الغَير بحشرٍ أهزعا
قوله: أسْعل، كقول لبيد:
فتآيا بطِريرٍ مُرْهفٍ ... جُفرةَ المَخْرم منه فَسَعلْ
٣٦ - وكان أبو عمرو يعيب على ذي الرمة في قوله:
حتى إذا دوّمت في الأرض راجعَهُ ... كِبْرٌ ولو شاءَ نجّى نفسه الهَرَبُ
ويقول لا يُقال: دوّم في الأرض، إنما يقال: دوّى في الأرض، وتابعه الأصمعي في ذلك فقال: التدويم ارتفاع مع استدارة، يقال: دوّم الطائر في السماء، ودوّى السَّبع في الأرض.
وقد أنكر هذا الرد ابن الأعرابي وقال: إن كان لا يقال دوّم في الأرض فمن أيَّ شيء سُميت الدوّامة. وقد صدق ابن الأعرابي: دوّم ودوّى بمعنىً. وأنا أقول: لو لم يكن التدويم إلا في السماء لما قيل أصاب فلانًا دُوامٌ كما يقولون: أصابه دُوارٌ، ولما قالوا: دُومة الجندل.
1 / 13
قال ابن دريد دُومة الجَندل مجتمعة ومستدارة كما تدوم الدوامة أي تستدير، ويقال: دوّمت الخمر شاربها تدويمًا إذا أصابه عليها الدوام وهو كالدُّوار، قال علقمة بن عبدة:
تشفي الصُّداع ولا يؤذيك صالبُها ... ولا يخالطها في الرأس تدويمُ
٣٧ - وكان أبو عمرو والأصمعي يعيبان رؤبة في قوله في وصف بعير:
عن دوسريٍّ بَتِعَ مُلملمهْ ... في جسم خَدْلٍ صلهبيّ عَمَمهْ
ويقولان: طول العنق هجنة، والصّلهب: الطويل، والعمم: التام. وأراد رؤبة أنه طويل.
وقولهما: طول العنق هجنة ردٌّ على كلام العرب المأثور وشعرهم المشهور لا على رؤبة وحده، وهذا سبيل من ركبه ضُلّل ومن نصَره جُهّل. وقد جاء في كلام لابن تِقْن: " أبين الإبل عَنَقًا أطولها عُنُقًا "، وأنشد ابن الأعرابي:
كأن أعناقَ الجِمال البُزُل ... من آخر الليل جُذوع النَّخْلِ
وقال الراجز:
كأنَّ جذعًا خارجًا من صوره ... بين مُقذّيهِ إلى سِنّورهِ
السنّور: العظم الشاخص من العنق مما يلي الكاهل، وقال ذو الرمة:
إذا عُجْتَ منه لجَّ وهمٌ مُشرَّفٌ ... طويل الجران أهدل الشِّدق سَرْطُم
وقال آخر في صفة ناقة:
فهي قوداء نُفّجت عضداها ... عن زحاليق صَفْصَفٍ ذي دحاضِ
والقوداء: الطويلة، وقال المُسيّب بن عَلَس:
وكأنّ غاربها رباوةُ مَخْرمٍ ... وتَمُدُّ ثِنيَ جديلها بشِراعِ
أراد بالشراع الدّقل، كان الشراع منوطًا به، ومثله قول أبي النجم: كأنّ أهدامَ النسيل المُنْسَلِ على يديها والشراع الأطولِ أراد بقايا الوبر على يديها وعلى عنقها، فسمى العنق شراعًا، وإنما يريد الدّقل ولم يرضَ يُشبّهه بدقل حتى قال: الأطول، وقال طرفة:
وأتلَع نهّاضٌ إذا صَعَّدتْ به ... كسُكّان بُوصيِّ بدجلةَ مُصْعِدِ
البوصيّ: السفينة، ورواه أبو عبيدة: كسكان نُوتيٍّ، وهو الملاّح فشبه عُنُقها بسكان سفينة من سفن دجلة، وربما كان أطول من الدقل، وشرّ أحواله أن يكون بطول الدّقل، وقال الراجز يصف فحل إبله:
يتبعها عَدَبّسٌ حرائضُ ... كشعب الطلح هصورٌ هائضُ
من حيث يعتشُّ الغراب البائضُ
والغراب لا يتخذ عشه إلا في قمة نخلة سَحوق، أو على شجرة عالية، ولولا طول عنقه لم يبلغ عُشَّ الغراب.
وقال أبو زياد في تفسير هذا الرجز: أراد طول عنقه.
ومثله:
تقطع أعناق التنوّط بالضحى ... ويغرس في الظلماء أفعى الأجارعِ
يقول: هذه الإبل تساور فروع الشجر حتى تبلغ موضع التعليق للتنوّط، وقال ابن مقبل:
إذا غَشِيتْ جَرًّا بليلٍ تَفَرّعتْ ... عِشاشُ الغُراب كالهضاب توانيا
فلم يقنع لها بأن تتناول فروع العشاش في شجر الجرّ - وهو سفح الجبل - حتى جعلها تثني أعناقها لذلك. وقال الراجز:
تبادر الحوض إذا الحوض شُغِلْ ... بكل شعشاع صُهابيّ هَدِلْ
ومنكباها خَلْفَ أوراك الإِبلْ
وقال أبو زياد - وكان أعلم من أبي عمرو والأصمعي بأمور الإبل -: وإذا أردت أن تأخذ راحلة إما ناقة، وإما جملا، فأتيت سوقًا من الأسواق - ولا أبالي أن تكون أضاحٍ - فإذا اجتمعت الأجلاب فانظر بعينك، فإذا رأيت ناقة أو جملًا من أعظم ما ترى وأطوله نظرت إليه كأنه يستأنسُ وراء الأجلاب - والاستئناس: النظر - فادنُ منه على بركة الله فتصفّحه. وذكر كلامًا يطول ذكره.
ثم قال: ورأيته طويل العنق أسطعَ - والأسطعُ: الطويل العنق المرتفع الرأس في السماء - ثم ذكر أيضا كلامًا طويلًا ثم قال: فاشتره على بركة الله.
فلو كان طول العنق هُجْنة لم يُوص أبو زباد بالتماسه، ثم لم يَرْضَ له بطول العنق حتى جعله أسطع، والأسطع: المشبّه بالسّطاع وهو أطول عُمُد الخيمة، وهذا كقول الفرزدق:
كأنّ أراقمًا عَلِقتْ بُراها ... مُعلّقةً إلى عمد الرَّخامِ
شبّه أزمّتها بالحيات وأعناقها بعمد الرخام طولًا وإملاسًا. وقال أبو النجم يصف ناقة:
ترد منها قسوةَ الجرانْ ... مُوّصلان واحد باثنانْ
من أدَم يجمعه الزرّانْ
يقول؛ ترد منها صلابة عنقها أزمة قد وصلت لطول عنقها، هذا كقول كعب بن زهير:
1 / 14
له عُنُقٌ تُلوى بما وُصِلتْ به ... وزقّان يشتقّان كلَّ طعانِ
أي يستغرق عنقه الأزمة لطولها، وكذلك جنبتاه، والطعان: حبل يُشدّ به الهَودج، وقال رؤبة:؟ يمطو السُّرى بعُنُق عَنَطْنَطِ والعَنَطْنط: الطويل.
وقال بشر بن أبي خازم:
عذافرةٌ تَخيّلُ في سُراها ... لها قَمَعٌ وتلاّعٌ رفيعُ
القمع: جمع قمعة، وهي أعلى السنام، والتاع والتليع: العنق الطويل.
وقال ذو الرُّمة:
يَمُدُّ حِبال الأخْدَعين بسَرْطمٍ ... يقاربُ منه تارةً ويُطاولُهْ
والسرطم: الطويل.
وقال ابن فَسْوة:
تُطالِع أهلَ السُّوقِ والبابُ دونَها ... بمُسْتَفْلَكِ الذّفرى أسيلِ المُذَمَّرِ
قال ابن قتيبة: أراد أن عنقها طويلة فص تطالع أهل السوق من فوق الجدار، وأنشد ابن الأعرابي:
وأتلعَ يستوفي به رأس ربّهِ ... كجذعِ السَّحوق شذَّبَ اللِّيفَ آبِرُهْ
فلم يكفه أن جعله كجذع النخلة حتى جعل النخلة سَحوقًا.
وأعلى من جميع هذا قول ذي الرمة:
وقمّاصةٍ بالآلِ داويتُ غولها ... من البُعد بالمُدْرَنفقات الخوانفِ
قموسِ الذُّرى تيهٍ كأنّ رِعانَها ... من البُعد أعناق العياضِ الصوادفِ
والرِّعان: أُنوف الجبال، فلما طوّلها جعلها كأعناق إبل عافت الماء، فرفعت رؤوسها.
وهذا كثير في أشعارهم وفيما أوردنا منه كناية إن شاء الله.
٣٨ - وكان أبو عمرو يعيب ذا الرمة في قوله:
يُصغيي إذا شدّها بالكُور جانحةً ... حتى إذا ما استوى في غَرْزها تَثِبُ
ويقول: ألا قال كما قال الراعي:
وهي إذا قام في غَرْزها ... كمثل السفينة أو أوقرُ
وحكى أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب أن الأصمعي، قال: أساء ذو الرمة في هذا، وكان ينبني أن يستوي ثم تثب ناقته، وقال: قول الراعي أجود منه:
ولا تُعجِل المرءَ قبل الورو ... ك، وهي برُكبته أبْصرُ
وهي إذا قام في غَرْزها ... كمثل السفينة أو أوقرُ
وحكى عنه أنه قال: فقيل له: ألا قلت مثل قول الراعي ففكر ساعة واحتال فقال: الراعي، وصف ناقة الملوك وأنا وصفت ناقة السُّوقة، وكان ذو الرمة أذكى من أن يفكر ساعة ثم يقول ما حكاه عنه الأصمعي.
وهذه الحكاية تشبه الكذب، بل هي كذب لا محالة بل تزيد على الكذب فسادًا. لأن وصف ذي الرمة أحسن من وصف الراعي، ومنه أخذ ولم يكن ليأخذ شيئًا فيجوّده،، ويحسنه، ثم يقول معتذرًا عنه ما حكي عنه هذا، مع أنّ ابن قتيبة حكى أنّ الأصمعي زعم أن ذا الرمة أنشد أعرابيًا هذا الشعر فلما بلغ هذا البيت قال الأعرابي: صُرع والله الرجل ألا قلت كما قال الراعي وأنشد البيتين.
فهذه الحكاية تخالف ما حكاه عنه ثعلب، وثعلب وابن قتيبة لم يكذبا، واختلاف الحكاية يدل على فسادها.
وقال ابن قتيبة: ولا أرى هذا الأعرابي إلاّ ظالمًا لذى الرمة، لأنه إنما أراد مثل معنى الراعي بعينه إلاّ أن ذا الرمة أتى بالمعنى في بيت واحد، وأتى به الراعي في بيتين، ولم يزد بقوله:
حتى إذا ما استوى في غرزها تثبُ
معنى: وهي إذا قام في غرزها، إنما أراد: حتى إذا ما استوى على ظهرها، وإذا كان ذلك فقد استوى في غرزها فحينئذ تثب، وكذلك قال الراعي بعد قوله:
كمثل السفينة أو أوقرُ
حتى إذا ما استوى طبَّقت
كما طبّق المِسحل الأغبرُ
وقول ابن قتيبة موافق للصواب، وهو إذا وضع رجله في غرزها فما يحتاج إلى تلبثها، وأبو عمرو مع عيبه بيت ذي الرمة قد أنشد مثله في نوادره بل هو أشدّ سرعة من بيت في الرمة وهو:
إذا وضعت في غرزها الرجل أجفلت ... كما أجفلت بيدانةٌ أم تَوْلبِ
ثم لم يعب هذا البيت، وبيت ذي الرمة أشد منه لأنه قال: استوى في غرزها، وهذا قال: وضعت في غرزها الرجل.
على أن كلًاّ مصيب.
٣٩ - وقال أبو عمرو في قول ذي الرمة:
صبّحنَ ذا ناموسة مُتِيما ... لا رَمَدَ العين ولا نؤوما
هو الناموس، ولا يقال: ناموسة، وقال الأصمعي: الناموس مذكر، ولم أسمع به مؤنثًا إلاّ في هذا البيت، قال: هو من نحو قول الآخر:
طوت لقحًا مثل السِّراء وبشّرت ... بأسحمَ ريان العسيبةِ مُسْبِلِ
1 / 15
فأدخل الهاء في العسيب - وهو عظم الذنب - ولا يقال له عسيبة. وقد غلطا معًا في الناموس والناموسة، والعسيب والعسيبة، قال أبو مالك الأعرابى، يقال: ناموس الصائد وناموسته لزَرَبه الذي يأوي اليه، وكذلك عرّيس الأسد، وعرّيسته بحيث يسكن.
وقال ابن الأعرابي، يقال: عسيب وعسيبة بمعنىً، وأنشد:
منها بذي خُصُل طالت عسيبته ... ريّان لا عَقَدٌ فيه ولا خللُ
وقال أبو الخطاب الأخْفش يقال: رَيغٌ ورَيْغةٌ، وعَسيبٌ وعَسيبة، وأنشد:
خطّارةٌ وهي لم تعقد على لفحٍ ... وربما بشّرتْ والشول لم يَشلِ
منها بذي خُصلٍ طالت عَسِيبته ... ريانُ لا عَقَدٌ فيه ولا خللٌ
٤٠ - وأنشد أبو عمرو لأبي النجم وذكر فرسًا، فقال:
يَسْبحُ أُخراه ويطفو أوّلُه
وقال: لا خير في هذا الفرس، لأنه إنما يسبح لاضطرابه.
وقال الأصمعي: - وقد أنشد هذا البيت - إذا كان كذلك كان حمار الكسّاح أسرع منه لأن اضطراب مآخيره قبيح قال: وأحسن في قوله: وتطفو أوله ...
وقال ابن قتيبة - قال غير الأصمعي - يسبح أخراه جيد، إنما أراد أبقوله: يسبح أخراه أنه لانبساطه وسعته في عدوه، يَضرح برجليه كالسابح.
وهذا قول صحيح، وكان الأصمعي متعصبًا على أبي النجم بالعشرية، ولعداوة ما بين ربيعة وقيس، ولقد حملته عصبيته عليه على أن قال مُستسقطًا له: " أنا لا أُحب شاعرًا يسمى الفضل بن قدامة "! وحكى عنه أبو حاتم في كتاب " فحول الشعراء " الذي حكى عنه فيه: " ما يصلح زهير أن يكون أجيرًا للنابغة ". وليس على أبي النجم عيب في أن كان يسمى الفضل بن قدامة. ولو عيب الشاعر باسمه واسم أبيه، لسقطت منزلة كعب بن جُعيل، ولما عد شاعرًا ولأخرج هِميان بن قحافة من جملة الشعراء، ولرذلت منزلة أوس بن حجر والحطيئة، إذ كان اسمه: جرول، ولما تقدمت منزلة علقمة بن عبدة، ولا منزلة كل شاعر لا يوافق اسمه واسم أبيه عبد الملك بن قريب، أو سعيد بن أصمع، أو باهلة بن أعصر الذي قيل فيه في الجاهلية:
فخيبةَ من يخيبُ على غَنيٍّ ... وباهلةَ بن أعصرَ والرِّكابِ
وقال رسول الله ﷺ، في الإسلام: " النفس بالنفس، ولو كان من باهلة " ولو أمسك الأصمعي عن عيب صحيح أقوال الشعراء المجيدين لأمسكنا عن الإشارة بمثالبه، ولكنه أبى إلاّ الاعتداء عليهم ظالمًا، وآثرنا الانتصار لهم مُحقّين، والعاتبة للمُتقين؛ ولا عدوان إلاّ على الظالمين.
٤١ - وقال أبو عمرو غلط رؤبة في قوله:
بل بلدٍ ملءِ الفجاج قَتَمُه ... لا يُشترى كَتّانهُ وجَهْرمُه
وإنما جَهْرم اسم بلد فظنه ثيابًا.
وقال الأصمعي: هذا مَثَل، يقول له: سبايب تجري عليه من آله وسرابه، وهي لا تُشترى، وجَهرم: قرية بفارس فظن أن جهرم ثياب.
وإنما أراد رؤبة كتانيّه وجَهْرميّه فقطع ياء النسب، كما قال العجاج:
يكاد يَدْري القَيْقَبان المُسرَجا
والقبقب: خشب تنحت منه السروج، وإنما أراد أن ينسب السرج إليه، فيقول: القيقباني فقطع ياء النسب.
٤٢ - وعاب أبو عمرو والأصمعي المرّار بن منقذ العدوي في قوله:
كأنّ فروعها في كلِّ ريحٍ ... جوارٍ بالذَّوائب ينتصينا
واتبعهما أبو حنيقة فعابه، وذكر قول الأصمعي واحتج له واستشهد. وسنوضح معنى الشاعر ونظر حجته وندل على فساد أقوالهم - ثلاثتهم - فيما ننبه عليه من كتاب النبات إن شاء الله به المعونة ومنه أحسن التوفيق.
٤٣ - وأنشد أبو عمرو قول ذي الرمة:
حتى إذا زلجت عن كلِّ حَنجرة ... إلى العليل ولم يَقْصَعْنَه نُقَبُ
وقال: لم يجد. وقال الأصمعي: ليس هذا من جيّد الوصف، لأنها إذا شربت ثقلت، وإن كانت لم ترو.
وهذا غلط إنما تثقل إذا رويت، وأما إذا شربت قليلًا فإنه يقوّيها على العَدو ولولاه لهلكت عطشًا. وقد زاد شرحا بقوله في غير هذه الكلمة:
فانصاعت الحُقْبُ لم تَقْصعْ صرائرها ... وقد نَشَحن فلا رِيٌّ ولا هِيمُ
ولولا صحة ما قاله لم يقل العجاج:
حتى إذا ما بلّت الأغمارا ... رِيًّا ولمّا تقصعِ الأصرارا
أجلى نِفارًا وانتَحت نِفارا
٤٤ - قال أبو عمرو في قول ذي الرمة:
1 / 16
خراعيبُ أُملودٍ كأنَّ بناتها ... بنات النَّقا تخفى مِرارًا وتظهرُ
بنات النَّقا: دوابّ مثل العِظاء يكن في الرمل شبّه الأصابع بها. وقد أساء وتبعه الأصمعي فقال: بئس ماشبّه.
وقد أساءا هما في الردّ عليه، ولقد أحسن ذو الرمة وأجاد ولولا أحسانه ما تبعه أبو النجم فقال:
تقول لي ذات الخِضاب الناضي ... عن كبنات الأجرع النّضاضِ
وحَفْصٌ الأُمويّ فقال:
أوحت بكفٍّ بنانُها سَبطٌ ... مثل بنات النّقا مُحَنَّؤها
وهذا معنى لم يبتدعه ذو الرمة وإنما نقله عن قول امرفي القيس:
وتعطو برخصٍ غيرِ شَثَنٍ كأنَه ... أساريعُ ظبي أو مساويك إسحلِ
وظبي: واد. والأساريع: دوابّ تكون في البقل حسانٌ ليّنة مُنقطة بكل لون واحدها أُسروع.
والمعنيان - وإن تقاربا - فالشبه ببنات النقا أحسن وأولى من الأساريع وإن كان حسنا.
وروى ابن دريد - في خبر الطمحي من كندة: " فأبرزت كفًّا كبياضِ الإغريضِ؛ وأنامل كبنات النَّقا ".
ولو علما وجه التشبيه لمّا ردّا عليه، وإنما التشبيه بالبياض لا بالخلقة، وقد تُشبّه المرأة ببنت النّقا، لذلك قال الحطيئة:
عليلًا على لبّات بيض كأنّها ... بناتُ النَّقا منها المقاليتُ والنُّزْرُ
وقال الراعي وذكر نساءً:
بنات نقا ينظرن من كلِّ كورةٍ ... من الأرضِ محبوًّا كريمًا وبائعًا
وقد أنعمنا وصف بنت النقا في باب البنات من كتاب الآباء والأمهات، وأنت تجد ذلك متى أرغبته هناك.
٤٥ - وقد كان الأصمعي - دون أبي عمرو - شديد العصبية على جماعة من الشعراء لعِلل سنذكرها عند ذكر ما نذكرهم به.
فعِلّة ذي الرمة مع اعتقاد ذي الرمة العدل وكان الأصمعي جَبْريًا. وقيل لأبي عثمان المازني: لم قلّت روايتك عن الأصمعي قال: رُميت عنده بالقَدَر، والميل إلى مذهب أهل الاعتزال، وجئته يومًا وهو في مجلسه فقال: ما تقول في قول الله ﷿: (إنّا كلَّ شيءٍ خلقْناه بقَدَر) . فقلت: سيبويه، يذهب إلى أن الرفع فيه أقوى من النصب لاشتغال الفعل بالمضمر، وأنه ليس هاهنا شيء هو بالفعل أولى، ولكن أبت عامة القرّاء إلاّ النصب، فنحن نقرؤها لذلك اتباعًا لأن القراءة سُنّة. فقال لي: فما الفرق بين الرفع والنصب في المعنى فعلمت مراده، وخشيت أن يغري بي العامة فقلت: الرفع بالابتداء، والنصب بإضمار فعل وتعاميتُ عليه. فقال: حدثني جماعة من أصحابنا أن الفرزدق قال يومًا لأصحابه: قوموا بنا إلى مجلس الحسن البصري فإني أريد أن أُطلِّق النَّوار وأُشهده على نفسي فقالوا له: لا تفعل فلعل نفسك تتبعها وتندم، فقال: لا بد من ذلك. فمضوا معه فلما وقف على الحسن قال له: يا أبا سعيد تعلمن أن النوار طالقٌ ثلاثًا. قال: قد سمعت، فتتبعها نفسه بعدُ، ونَدِم فأنشأ يقول:
ندمتُ ندامة الكُسَعيِّ لمّا ... غَدَتْ مني مطلقةً نوارُ
وكانت جنّتي فخرجت منها ... كآدمَ حين أخرجه الضِّرارُ
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان عليّ للقدر الخِيارُ
ثم قال: العرب تقول: " لو خيرت لاخترت " تحيل على القدر، وينشدون:
هي المقادير فلُمْني أو فذرْ ... إن كنتَ أخطأتَ فلم يخط القدرْ
ثم أطبق نعليه، وقال: نِعم القِناع للقَدَري.
فأقللت غِشيانه بعد ذلك.
٤٦ - وحكى أبو العباس أحمد بن يحيى: أن ذا الرمة لما قال:
وعينان قال الله كونا فكانتا ... فعولان بالألباب ما تفعل الخمرُ
قال الأصمعي: فعولين بالألباب. فقال له اسحق بن سُويد ألا قلت: فعولان. فقال: " لو شئتُ سبّحتُ ".
وكان الأصمعي لهذه العِلّة يكثر الأخذ على ذي الرمة، والهوى يُردي، ولقد تعدّى ذلك إلى أن كان يعترض عليه في أفعاله فيكون في ذلك مخطئًا لما قال ذو الرمة:
فلما مضت عند المُثنّين ليلةٌ ... وزادَ على عشرٍ من الشهر أربعُ
سرت من مِنىً جُنحَ الظلام فأصبحت ... ببسيان أيديها مع الفجر تلمعُ
المُثنون: الذين أقاموا ليلتين بعد النحر. يقول: سرت أنا ونفرت ليلة أربع عشرة.
1 / 17
قال الأصمعي: هذا خطأ إنما ينفر الناس لثلاث عشرة لأنهم يرمون يوم الأضحى ثم الثاني ثم الثالث، ولا يبقى ليلة الثالث عشر بمنىً أحد. ولما لم يجد سبيلًا إلى تغليطه أكثر فضوله في الاعتراض عليه في نفره، وحدده وشرطه، هَبْهُ أحبَّ أن يقيم سنة، فما فضوله قد وسع الله عليه في ذلك ولم يحرم عليه أن ينفر قبل ذلك أو أن يجاوز. قال الله عزمن قائل: (فمَنْ تَعَجَّلَ في يومين فلا إثمَ عليه لمنِ اتَّقى. واتَّقوا الله) . أي لمن اتقى قتل الصيد. وقالوا لمن اتقى التفريط في كل حدود الحج فموسع عليه في التعجيل في نفره.
فضيّق عليه الأصمعي ما وسعه الله له؛ وخطّأه في إقامة ليلة، فلو أقام فضل ليلتين أو ثلاث بمنىً خلت انه يكفّره. واعتراضه عليه في نفره كاعتراضه عليه في تشبيهاته الصحاح ومعانيه الصِّباح، روى الناس عنه أنه قال في قوله:
إذا غرّقت أرباضُها ثِنيَ بكرةٍ ... بتيهاءَ لم تُصبح رؤومًا سَلوبُها
إنما أراد قول ابن فسوة:
إذا قَلَصت عن سخنةٍ بمفازةٍ ... فليس بمرؤومٍ ولا بمُجلّدِ
فاختنق حتى جاء بهذا البيت، والعصبية في هذا الكلام ظاهرة، وهي أيضًا مسوطة بالكذب، ولو أختنق لمات، ولم يكن ذو الرمة أراد معنى اختنق له قبل أن يأتي به، ومع هذا فقد جهل من أين أخذ قوله:
إذا غرّقت أرباضها ثِنى بكرة
ولو عرفه لم يعدل إلى ما لا يشبهه، وإنما إخذه من قول لبيد:
وامتسائي والثريّا دَنَفٌ ... بشفا الموت ولما تقتحمْ
٤٧ - وقال أبو عمرو في قول أبي النجم في صفة راع:
صُلْبُ العصا جافٍ على التغزُّل ... كالصَّقرِ يجفو عن طِراد الدُّخَلِ
أخطأ في وصفه، وخير مما قال قول الراعي:
ضعيف العصا بادي العروق ترى له ... عليها إذا ما أجدب الناس إصبعا
وتبعه الأصمعي في ذلك.
وقد غلطا جميعًا، وأصاب أبو النجم ولا حجة في بيت لأنَّ الراعي، لم يرد أنَّ معه عصا ضعيفة، وإنما أراد ألاّ يضربها بعصا لوجه، ولا يمنعها من وجه تريده، ولا يردّها عن هوى، وقد تبين ذلك بقوله:
حذى إبلٍ أنْ تتبعَ الريح مَرّةً ... يَدَعها ويخفِ الصوتَ حتى تريّعا
وبقوله:
إذا سَرّحت من منزل نام خلفها ... بميثاءَ مِيطان الضحى غيرَ أروعا
فإذا كان يُخفي صوته ولا يزجرها، وإذا سرّحت نام وتركها فأي عصًا تهمُّ، وإنما وجهه: فإنه يتركها ويسرحها، ولذلك قال:
لها أمرُها حتى إذا ما تبوّأت ... بأخفافها مأوى تبوّأ مضجعا
وهذا الذي قصده الراعي هو مذهب العرب في صفة حذاق الرعاة، ولذلك قال الراجز:
إذا الرِّكاب عرفت أبا مطرْ ... مشت رويدًا وأسفّتْ في الشَّجَرْ
وذلك أن أبا مطر لا يندهُها عن الرعي، ولا يزجرها عما تريد، فهي تمشي رويدًا وترعى.
والذى قصده أبو النجم، هو صفة الراعي الجلد المختار لرعي الإبل وحفظها لأنه أراد أنه ذو قوة في بدنه، وإن لم يكن كذلك هلكت إبله وضاعت وعبثت بها الوحوش والسابلة. وقال بعض أهل اللغة: أراد بقوله صُلْب العصا صلب البدن، كما تقول: إنه لصلب القناة. وأنشد للعجاج:
أنْ شابَ رأسي ورأين أني ... حنا قناتي الكِبَرُ المُحنّي
وأنشد:
كانت قناتي لا تلين لغامزٍ ... فألانها الإصباح والإمساءُ
وهذا معنى حسن. وإلى الذي قلناه نرجع: والراعي إذا كان جَلْدا صارمًا اختار عصاه من أصلب ما يقدر عليه ونقّحها وشذّبها وحسنها، ولذلك سموا فرسًا من خيلهم بهراوة الأعزاب، والأعزاب: جمع عَزَب، وهو الراعي يَعْزُب بإبله عن الحي أي يتباعد، ولذلك قال الشاعر:
فألقى عصا طلح ونعلًا كأنها ... جَناحُ السُّماني ريشها قد تخدّما
والراعي لا يستجيد العصا لضرب الإبل: وإنما يستجيدها لأشياء من المنافع له فيها، ولذلك قال الحطيئة - لضيف نزل به - وقد قال له: ما عندك يا راعي الإبل؟ قال: عجراء من سَلَم فقال؟ إني ضيف فقال له: وللأضياف أعددتها.
وقد أبان الله تقدسّت أسماؤه عن ذلك بقوله عزَّ من قائل: (وما تِلْكَ بيمينكَ يا مُوسى قال: هِيَ عصايَ أَتَوَكَّأُ عليها وأهُشُّ بها على غَنَمي وليَ فيه مَآرِبُ أُخرى) .
ومما جاه في صلابة عصا الراعي، قول الراجز:
1 / 18
صُلْب العسا بالضرب قد دمّاها
لم يرد أنه يضربها حتى تدمى، وإنما أراد أنه جَلْد، وأن عصاه صلبة كجلادته، وانه يتبع بها رعي الضَّرب - وهو ضرب من النبت - حتى عادت مدماة في ألوانها، قال الشاعر - يصف إبلًا حسنت أحوالها على الرَّعي:
وعادّ مُدَمّاها كُميتًا وشبّهت ... فروج الكلى منها الوجاد المُهدّما
ومثل هذا قول الراجز:
كأنّها والشَّول كالشِّنانِ ... تميسُ في حُلّة أُرجوانِ
وقال العجّاج في صلابة عصا الراعي:
يُلحن من أصوات حادٍ شيظمِ ... صلب عصاه للمطي مِنهمِ
ليس يُماني عُقبة التّجشّمِ
المماناة: المطاولة، ويقال: " ما نيتُكَ منذ اليوم " أي انتظرتك. وهذا الرجز وإن كان وصف حاد يًا، فكذلك حال الراعي.
التنبيهات على ما في كتاب النبات
وإنما قدمناه على ما تقدم قبله لنفاسته، ولأنه لم يصنف قبله ولا بعده في معناه ما يدانيه، فضلا عما يساويه.
ومصنفه أبو حنيفة أحمد بن داود الدِّينوري ﵀ وروايته عن أبي نصر وأبي حاتم ومن كان في عصريهما ولم يلق الرَّياشي.
١ - قال أبو حنيفة في تفسير قول قيس بن عيزارة الهذلي:
له هَجَلاتٌ سهلةٌ ونِجادةٌ ... دكادك لا تُؤيى بهنَّ المراتعُ
وواحد الهجلات: هجْل، وواحد الدكادك: دَكداك. وهذا غلط. لم تأت فَعَلات جمع فَعْل، وإنما تأتي جمع فَعْلة. والهَجَلات جمع هَجَلة، مثل تمرة وتمرات، وضربة وضربات، وقربة وقربات.
فأما الهَجْل فجمعه هُجُول مثل: خمر وخمور، وزَرْب وزروب، قال ذو الرمة:
إذا الشَّخصُ فيها هزَّهُ الآل أغْمَضَتْ ... عليهِ كإغماضِ المُغَضّي هُجُولُها
وقال أبو حنيفة: ومن بواطن الأرض الكرام المِطلاء، وهو مطمئنٌّ من الأرض منبات مِحلال، قال الراعي:
فنُورثكم أنَّ التُراثَ إليكمُ ... حبيبُ قراراتِ الحجى فالمطاليا
وقال هِميان السعدي يصف إبلًا: والرِّمث بالصريمة الكُنافجا ورُغُل المطلى به لواهجا فقصرالمطلى.
وليس الأمر كما ذكر. المِطلاء: يُقصر ويُمدّ، والقصر فيه أكثر، وليس هميان وحده قصره. أكثر الرواة على قصره، وقد قال حُميد بن ثور:
تجوب الدُّجى كُدْريّة دون فرخها ... بمطلي أريكٍ سبسبٌ وسُهوبُ
وقال أبو زياد - وقد ذكر دار أبي بكر بن كلاب - ومما يسمى من بلادهم تسمية فيها حظها من المياه والجبال المطالي وواحدها المِطلى وهي أرض واسعة، وأنشد:
أللبرق بالمِطلى تَهُبُّ وتبرقُ ... ودونك نِيق من ذقانين أعنقُ
٣ - وقال أبو حنيفة: قال الفراء: النَّواشغ مجاري الماء في الأودية الواحدة: ناشغة، قال الشاعر:
ولا مُتداركٌ والشمسُ طفلٌ ... ببعضِ نواشغِ الوادي حُمولا
وهذا الشعر للمرار، والرواية:
ولا متلاقيا والشمس طفل
فإن تقل: متلاقيًا إلى متدارك فالنصب.
٤ - وقال أبو حنيفة، قال الأصمعي: سألت. رجلا عن المَرت فقال: " هي التي لا يجف ثراها، ولا ينبت مرعاها ".
وليست المرت بهذه الصفة، ولا هكذا أيضًاالرواية عن الأصمعي، رُوي عنه عن يونس أنه قال: سألت بعض العرب عن السَّبْخة فوصفها لي، ثم ظن أني لم أفهم، فقال: التي لا يجف ثراها ولا ينبت مرعاها. وهذه من صفة الأرض السَّبخة على الحقيقة، وأما المرت: فالتي لا شيء فيها من نبت، ولا ماء، ولا ندىً، ولا ظل وجمعها مُروت.
وقد وصفها أبو حنيفة بمثل وصفنا قبل أن حكى هذه الحكاية، وأنشد:
وقَحَّمَ سيرُنا من ظهر نجدٍ ... مَروتَ الرَّعْيِ ضاحيةَ الظِّلالِ
قال: ثم وصفها بان لا مرعى ولا ظل. قال - وعن الأعراب -: المرت التي لا كلأ بها - وإن مُطرت - وهذه الصفة على الحقيقة صفتها، وذلك لصلابة أرضها، فأما الذي حكاه بعد هذا عن الأصمعي فسهو منه، أو ممن نقله إليه.
٥ - وقال أبو حنيفة: وروى النضر، الصَّردحة: الصحراء التي لا تنبت، وهي غَلْظ من الأرض مستوٍ.
وهذا غير محفوظ عنهم إنما يقولون: غِلَظ وغَلْظ مثل: قِمَع وقِمْع، وضِلَع وضْلْع، وأما غَلْظ فلا أعرفه. والنضر غير موثوق به.
1 / 19
٦ - وقال أبو حنيفة: وكذلك الوقيع من الأرض، وهو الغليظ الذي لا يُنَشِّف الماء ولا ينبت، وأمكنة وُقُع: بيّنة الوقاعة، قال ذو الرمة:
فلما رأى الرائي الثُّريا بسُدْفَةْ ... ونَشّتْ نِطافُ المُبْقياتِ الوقائعِ
وقد أصاب في الوقيع والوقائع، وأخطأ في الوقائع. ولا شاهد له في بيت ذي الرمة، لأن الوقائع هاهنا جمع وقيعة، وهي: القَلْتُ في الصَّفا يكون فيه الماء، قال الشاعر:
إذا شاءَ راعيها استقى من وقيعةٍ ... كعينِ الغُراب صفوةٍ لم تُكَدّرِ
٧ - وقال أبو حنيفة: والأقارع مثل الوقْع في الصلإبة ولا تنبت، قال ذو الرمة، ووصف غيثًا:
كسا الأُكم بُهمى غَضّةً حَبشيَّة ... تُؤَامًا ونُقْعانُ الظهورِ الأقارعِ
أراد أنه أنبت البُهمى مما بنبت وأنفع المياه فيما لا ينبت، ويقال لكل صُلب شديد: قرّاع.
وقد أصاب أيضًا في الأقارع وأخطأ في القرّاع، إذ قَرنه بالأقارع، لأن الأقارع من القَرَع - بالتحريك - والقَرّاع من القَرْع بالإسكان.
٨ - وقال أبو حنيفة: - وقد ذكر الرياح - وفي الشمال تقطيع للسحاب وتبديد، ولذلك سميت مَحْوة.
وهذا قول مرغوب عنه، وهو قول الأصمعي، والناس على خلافه. وسنوضح فساده في تنبيهات الكامل إن شاء الله.
٩ - وروى أبو حنيفة للبيد:
كأنَّ مُصفَّحاتٍ في ذراه ... وأنواحًا عليهنَّ المآلي
يضيءُ رَبابه في المُزن حُبْشًا ... قيامًا بالحراب وبالإلالِ
وفسر فقال: الإلال: الحراب الواحدة ألة، والمصفحات: المصفّقات. شبّه الرعد بأصوات الملاعب وبأصوات المناوح. والألّة: الحربة - كما قال - وجمعها ألٌّ، وجمع ألّ إلالّ. فأما المصفّحات فقد رويت كما قال، إلا أن الأعلى من الروايات المصفَّحات بفتح الفاء.
وقال الخليل: المصفَّحات: السُّيوف الصَّفائح. وتشبيه البرق بالسيوف العراض خير من تشبيه الرعد بالتصفيق. هذا مع أنهم يختارون لما يصفونه من الدّيم ألاّ يكون بها رعد، قال كُثيّر:
أناكرةٌ يا عزَّ عدوى نواكم ... سقتكِ سوادي دِيمةٍ وغوادي
بمكتتماتِ الرَّعد غُرٍّ نشاصها ... عوادٍ من الجوزاء غير جهادِ
وقال ابن هَرْمة:
فلا حسَّ إلا خوات الرذاذ ... وزعب السُّيول بأدراجها
وكذلك أيضًا يختارون ألاّ يكون بها برق. فإن كان، كان غير خاطف، وأن يكون الرعد إن كان بها غير قاصف، وإن يكونا ساكنين، كما قال الشاعر:
إذا حرّكته الريحُ أرزمَ جانبٌ ... بلا هَزَق منه، وأومضَ جانبُ
والإيماضُ:البرق وأخفاه. وأنشد أبو عمرو:
يا ميَّ أسقاكِ البريق الوامضُ ... والدِّيَمُ الغادية الفضافضُ
ألا تراه - وقد جعل غيثه ديمًا - كيف صنع وجعله وامضًا كما قال فجعله ضعيفًا عليلًا، فقال:
هَلْ هاجكَ الليلُ كليلٌ على ... أسماءَ في ذي صُبُرٍ مُخْيَلِ
١٠ - وقال أبو حنيفة: يقال رعدت السماء وبرقت، هذا الكلام العالي الفصيح، وقال: جاء أرعدت وأبرقت على قلّة، وهو مرغوب عنه، والأصمعي يردّها وليس الكثرة كأرعدت وأبرقت والرَّغبة فيهما واحدة، ولردّ الأصمعي علّة سنشرحها فيما ننبّه عليه من أغلاط الغريب المصنف لأبي عبيد إن شاء الله.
١١ - وقال أبو حنيفة - وقد ذكر بطون الأرض -: ومنها الدارة والجمع دارات، وهي تعد من بطون الأرض المنبتة، قال الأصمعي: وهي الجوْبة الواسعة تحفّها الجبال. قال: وإذا كانت في الرمل فهي الدَّيَرة، والجمع الدَّيَر.
وقد غلط في هذا من وجهين: أحدهما أن الدارة، قد تكون من البواطن، وتكون من الظواهر والبواطن، فمن البواطن قول عِتْر بن عَبْقس:
رعت موقع الوسميّ حول عُنَيرةٍ ... وداراتها بالحزم حيث تَقعّرا
ومن الظواهر قول بُرْد:
ودارة الأحزم لن تراها ... بها المكاكي صَخِبًا صداها
يَستنُّ في آل الضحى رُعاها
وقد قال الهجريّ: " الدّارة: النّبكة السهلة حفّتها جبال " فقوله: نبكة شاهد أنها من الظواهر، وقد أنعمنا في وصف الدارة في كتاب الدّارات.
١٢ - وقال أبو حنيفة: فأما الدارات التي ذكرها الأصمعي فنحو: دارة أهوى، ودارة موضوع، ودارة جُلْجُل وسائر دارات أرض العرب.
1 / 20