بين وصايف لم آر أحسن منهن وهو يقول: يا حارث أتيت والله الكاتمين الذين يخفون أحوالهم ويطيعون ربهم فقلت: وما فعلوا؟ قال: الساعة يلقونك فنظرت إلى جماعة ركبانًا فقلت: من أنتم؟ قال: حرك هذا كلامك له ولم يكن في قلبه مما وصفت شيئًا فخرج للأمر والنهي وإن الله ﷿ أنزله معنا وغضب لعبده.
فإن قيل هذا وأمثاله قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة المنهي عنها وإلا فما معنى قوله تعالى ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: ١٩٥] قلت: هذه الآية جارية على ألسنة كثير من الناس في مثل هذا لما غلب عليهم من الجهل بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولما استولى على قلوبهم من الركون إلى مداهنة الخلق وإيثار مودتهم وبقاء صحبتهم، وثقل كلمة الحق على ألسنتهم، وما يلقيه الشيطان في قلوبهم من الخوف والجبن وتقدير البعيد من الضرورة قريبًا، واعتقاد السكوت على المنكر وجوبًا، وما علموا أن التهلكة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن النجاة هي الأمر والنهي إذ قال ﷺ: «ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلا أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا».
وتقدم في حديث النعمان بن بشير "فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعًا".
فالهلاك حقيقة هو السكوت والمداهنة، والنجاة في الدنيا والآخرة هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وأما سبب نزول الآية فخرج الترمذي وصححه عن أبي عمران قال: كنا بمدينة الروم فأخروا إلينا صفًا عظيمًا من الروم فحمل رجل من المسلمين على
1 / 71