الإيمان بما تستطيع أن تحدثه الأنظمة المختلفة.
والواضح من هذا السرد أننا نركز النظر في مجتمع جديد، وأن عنايتنا بتكوين فرد جديد لا تعدو أن تكون وسيلة لإيجاد المجتمع الجديد المثالي، وهذا ما نستطيع أن نقوله عن الفرد والمجتمع في عصرنا الحاضر.
المدينة والريف في تاريخ مصر
ظلت حضارة مصر حضارة مجتمع ريفي خلال آلاف السنين من تاريخها، حقا كان لمصر مراكز حضرية، وكانت لهذه المراكز مكانتها في حياة البلاد القومية، إلا أن الحضارة - مع ذلك - كانت هي حضارة الريف وسكان الريف.
وإنا لنتساءل الآن: كيف كان طراز تلك الوحدات الحضارية في مصر القديمة؟ كان هناك «بنادر» (الأقاليم اليوم)، ولكنها كانت في الحقيقة قرى كبيرة، وإن قامت بما تقوم به المدينة، إذ كانت مراكز الإدارة المحلية، والعبادات المحلية، وفيها كان يعقد السوق والمواسم، كما كانت هناك قواعد المملكة، وكانت النزعة الغالبة جعل قاعدة البلاد أو العاصمة في إقليم منف؛ أي حيث تلتقي الدلتا بالوادي، وفوائد ذلك واضحة جلية، إلا أن مؤسسي الإمبراطورية الجديدة قاوموا إغراء الاتجاه نحو الشمال، واتخذوا طيبة قاعدة ملكهم القومي والإمبراطوري، وكانت هناك أيضا مدينة الجامعة الشهيرة - أو بمعنى أدق - المدينة الكهنوتية «أون أو عين شمس»، كما كانت هناك المدينة التي أسسها أخناتون «مدينة أخيتاتون» لتكون مركز العقيدة التي فرضها، إلا أن هذه لم يقدر لها أن تعمر طويلا، وما تبقى منها من آثار في «تل العمارنة» يدلنا على وجهة نظر المصريين في فن تخطيط المدن.
وأخيرا أمامنا طراز من المنشآت، يهمنا أمره عند دراسة التطورات الآتية بعد، نعني بذلك مدن المعسكرات المقامة عند الحدود، مثال ذلك «دافني» في شرق الدلتا، و«ماريا» في غربها و«الفانتين» (أو جزيرة الفيلة) جنوبا، و«نوقراطس» الواقعة في الدلتا، وإن كانت على اتصال ملاحي بالبحر الأبيض المتوسط. وقد أتاحت تلك المعسكرات لفراعنة مصر أن يسكتوا العصابات الحربية المتبربرة، كالليبيين مثلا، أو الإغريق، أو اليهود، ممن كانوا يجندون، وكان لزاما عليهم أن يوجدوا مواطن لهم، لا بوصفهم جنودا فحسب، بل بوصفهم جاليات أجنبية تقيم في مصر دون أن تكون من مصر، وكان أهم تلك الجاليات شأنا اليهود والإغريق.
وسنشرح هذا الجانب من تاريخ مصر بعد، بشيء من الإسهاب، إلا أن الثقافة المصرية الكبرى كانت تستقي مادتها دائما من ينبوع الطبيعة الريفية، لا من الحياة الحضارية؛ فأصول الثقافة إنما غذاها التأمل في مظاهر الحياة والموت والنشور، وإن وهن المدينة المصرية المادي ليصور لنا وهنها المعنوي أدق تصوير.
هذا ولما آذن العصر الفرعوني بالزوال بدأت فصول جديدة من التاريخ، كان للمدينة فيها المقام الأول، وكان الإسكندر الأكبر هو أول من أزاح الستار عن ذلك الفصل الجديد من فصول التاريخ، ويوصف ذلك الفصل الجديد إجمالا بأنه حضارة جديدة تكونت من عناصر متباينة، صهرت في بوتقة المدينة المصرية؛ فالمدينة هي حجر الزاوية في الإمبراطورية، كما تصورها الإسكندر الأكبر.
إذ كانت الفرصة في المدينة مواتية لكي تؤثر العناصر الوطنية والعناصر المستوطنة بعضها في بعض، وفيها تستطيع العناصر كافة أن تجد الجو المادي والروحي الذي يمكنها أن تعيش فيه، ومدينة «الإسكندرية» شاهد على ذلك، ويجب علينا أن نذكر أنها عرفت رسميا بأنها «الإسكندرية المتأخمة لمصر» فليست هي مصر أو من مصر.
وقد كان البطالمة حذرين في تنفيذ سياسة نشر الحضارة الإغريقية عن طريق إنشاء المدن، فتعارضت سياستهم في هذا المضمار مع سياسة منافسيهم السلوقيين في سوريا، ويرجع ذلك إلى أن البطالمة كانوا يدركون أن المدينة الهيلينية - من الوجهتين الروحية والمادية - لا بد لها من أن توهن على الأيام الحياة الاقتصادية التقليدية، وتفكك أواصر المجتمع؛ لذلك لم يؤثر عنهم إلا شيئان هما: إعلاء شأن الإسكندرية وإنماؤها حتى ازدهرت وأصبحت مركزا عظيما من مراكز الحضارة الهيلينية، وتأسيس مدينة «توليماس» في الصعيد، وكان البطالمة يفضلون إسكان جندهم في الريف، وإقامتهم زراعا مستعمرين.
Bilinmeyen sayfa