والبلاء قديم قدم إنشاء مصر، فها هو ذا فرعون مصر - الملك الإله - يستعرض ما حوله، ويرى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان فيستهويه الخاطر المضلل، فيتوهم أنه هو - وهو وحده - خالق مصر، وفاته أنه لولا تعاون منظم من جانب فلاحيه، ولولا سهولة انقيادهم، لما كان في وسعه أن يخلق شيئا، فمارس السلطان، وتصرف فيما أنتجه المجتمع بأسره - كما لو كان ملكا خاصا له - لا يشاركه فيه أحد، ملكا يخدم أهواءه ومسراته وتمجيده في هذه الدنيا، وخلوده في الآخرة، فلا عجب أن نادى في الملأ
أنا ربكم الأعلى ، ولا عجب أن انحط شأن الفلاحين، فلم يكونوا إلا أدوات إنتاج بشرية. وأخذ المجتمع المصري القديم يتسم بالجمود، والمحافظة على القديم والتقاليد، كما يتسم بالعقم؛ مما ناقض أتم مناقضة ما اتصف به المجتمع نفسه عند مولده وفي صباه من صفات الابتكار والإقدام في لحظة من لحظات البطولة.
وفي أدوار التاريخ المتتالية قد يسمو مستوى الإدارة وقد يهبط، ويعم الرخاء أو البؤس، ولكن يبقى ما بين الحاكم والمحكوم على ما هو عليه، كان الذي بينهما على أسوأ أحواله أيام الرومان، عندما كان الزمام الوحيد الذي يكبح شراهة الحكام وسطوهم على ما في أيدي الناس؛ هو خوفهم من أن البقرة الحلوب قد يجف لبنها تماما.
ثم نصل إلى العصرين المسيحي والإسلامي من تاريخ مصر، وهنا ننظر، ألا يحق لنا أن نتوقع تحولا أساسيا في العلاقات الكائنة بين الإنسان وبين المجتمع؟ ألم تعلن هاتان الديانتان أن الإنسان خلقه الله، وأن لكل مخلوق، ولكل إنسان، ولكل فرد ذاتية يستمدها من الله، ولا يجوز لمجتمع ما، ولا لسلطان ما، أن يدعي أن له أن يمنحها أو أن يستردها، وأن على الإنسان أن يكسب رزقه، وأن يكمل أدبه وأن يعبد ربه، وهذه شئون شخصية قبل أن تكون اجتماعية، ولكن - والحق يقال - لم يتأثر مركز الفرد في المجتمع باعتناقه تلك المبادئ الكبرى للحد الذي يحق لنا أن نتوقعه، ويرجع هذا إلى أسباب: يرجع أولا إلى أن القائمين بأمور الدين كانوا يرون أن نزوع الطبيعة البشرية نحو الشر يقتضي الكبح، وأنه ما دام الشر عنصرا من عناصر الطبيعة البشرية فإن هناك مجالا لسيف قيصر، أو لدرة عمر، ويرجع ثانيا، إلى أن القائمين بأمر الدين كانوا يؤمنون بأن المجتمع لا يمكن أن يقوم إلا على ترتيب الناس مراتب ودرجات.
كانوا يؤمنون مخلصين بالمساواة بين أفراد البشر، ولكن هذا الإيمان لم يقتض - في نظرهم - العمل على إيجاد تكافؤ الفرص بين الأفراد، والشيء الثابت هو تفاوت الأفراد في مواهبهم، ولا يضير المساواة الحقيقية أو ينقصها تفاوتهم في الأرزاق، ويسري في التفكير الإسلامي، قولا وعملا، التمييز الواضح بين العامة والخاصة. على أن ما يحق للتفكير الإسلامي الفخر به قولا وعملا هو أن هذا التمييز لم يقم على أساس الحسب أو السلالة البشرية أو الغنى، ولكنه كان حقيقة واقعة، وكان له أثره، بالإضافة إلى عوامل أخرى في تنظيم المجتمع الإسلامي في مصر على أساس الوظيفة الاجتماعية المخصصة للفرد، والوظيفة الاجتماعية هي التي تعين حقوقه، فللفرد المسلم صفتان: صفته إنسانا مسالما، وصفته فلاحا أو صانعا أو طالب علم أو كاتبا أو جنديا ... إلخ. فالحقوق عامة وخاصة ، والواجبات عامة وخاصة، وقد تطغى الواجبات على الحقوق فتمحوها عمليا، أو تكاد.
إن النظرية الإسلامية لتقرر أن الحكم ينبغي أن يكون في يد أصلح الناس له، ولكن الواقع يوجب - في الوقت نفسه - أن يكون في يد من يملك وسائل فرض الطاعة على الرعية، ومما يؤسف له أن امتلاك الوسائل أصبح في النهاية المبرر الوحيد لممارسة السلطان.
هذا هو تراث الماضي، وقد أثر ما حدث من التغييرات خلال القرن التاسع عشر في ذلك التراث على أربعة أوجه: (1)
اتخاذ الإنسانية المطلقة أساسا للحقوق. (2)
تغليب صفة المواطن على صفة الفرد، فلاحا أو صانعا، أو ما إلى ذلك. (3)
التطلع إلى الخير عن طريق التغييرات الاجتماعية والاقتصادية. (4)
Bilinmeyen sayfa