يفهموا أن كل شيء في هذا العالم عرضة للتغير، وأن اللغات تتغير بمثل ما تتغير الأفكار، وإنها تخضع لسلطان المجتمع الذي يتكلمها، وأثر الكتاب الذين يصطنعونها، أقول انهم أرادوا أن تبقى العربية كما هي فلا تتغير وأن تخلد لغة كتاب الله، ولم يكن لديهم غير الإزراء بالألفاظ الجديدة التي وضعها معاصروهم والاستهانة بها. ولكي يحولوا دون فساد اللغة، وتدنيس قدسيتها، فقد كانت اللغة عندهم شيئا مقدسا، فقد أكثروا من وضع القواعد وتأليف المعاجم، وكتابة الرسائل اللاذعة، جرحوا فيها الأغلاط الشائعة، وجعلوا من الأخطاء التي يرتكبها الخاصة بل العامة سخرية الساخر، وأضحوكة الناس، وأرشدوا إلى ما يقال وما لا يقال.
ويجب أن نعترف أن جهودهم لم تذهب سدى، فإنهم وإن لم يستطيعوا أن يمنعوا تغير اللغة، فقد استطاعوا إلى حد ما أن يؤخروا ذلك ويحصروه في حدود ضيقة، فلم تنشأ عند العرب بفضلهم، وبفضل دراسة القرآن، التي كانت أساس الثقافة الإسلامية، لغات أخرى، كما نشأت اللغات الرومانية من اللغة اللاتينية، ولا تزال لغة الكتابة حتى أيامنا هذه قريبة من اللغة القديمة من حيث التزامها بقواعد اللغة على الأقل، على الرغم مما أصاب لغة الكلام من تغيير كبير. غير أنهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يوقفوا السير الطبيعي للأشياء. فإن كثيرا من الكتاب كانوا يصطنعون دون تردد لغة العامة ويعلنون ذلك للناس. فالمقدسي، وهو رحالة من أهل القرن العاشر الميلادي، يقول إنه يكتب عادة بلغة أهل الشام لغة إقليمه، وإنه لكي يحافظ على اللون المحلي، يستخدم في وصفه لكل إقليم، وفي وصفه لوطنه، ما يمكن فهمه ولاسيما في اختيار الكلمات. وإن تعجب فعجب أن الملتزمين بنقاء اللغة وصفائها يصطنعون من غير أن يشعروا الألفاظ الجديدة المولدة، وهم غالبا ما يفسرون في معاجمهم الألفاظ الفصحى بألفاظ مولدة، وإن بعض مشهوري النحاة في الأندلس كانوا يعلمون اللغة الفصحى القديمة بعامية البلد، فما أصدق ما يقال من أن العملي لا يستجيب دائما للنظري.
ومع ذلك فقد كان الملتزمون بنقاء اللغة وصفائها يتمسكون باللغة الفصحى ما تيسر لهم ذلك، فقد قيدوا كلماتها دون غيرها وشرحوها في معاجمهم الكثيرة، وهي في غالبها معاجم كبيرة بمجلدات ضخمة، ومعاجمهم هذه هي أصول المعاجم التي ظهرت في أوربا، فهذه الأخيرة لم تصنف بعد بحث في الكتب المصنفة وفحصها وجرد ما فيها من كلمات، بل إن مصنفيها حذو في تصنيفها حذو مصنفي المعاجم المشارقة ونهجهم في التصنيف حذو النعل بالنعل، وهذا النهج هو الذي غلب على معجم جوليوس، وهو مصنف رائع بالقياس إلى العصر الذي صنف فيه، كما غلب هذا النهج على معجم فريتاج الذي حل محله، وهو وان لم يستوف ما كان ينتظر من معجم صنف بعد مرور قرنين على معجم جوليوس، فقد أسدى أيادي كثيرة، بعد أن بلغ سعر معجم جوليوس ثمنا باهظا. وأخيرًا غلب هذا النهج على معجم لين، وهو معجم يتمثل فيه الصبر والجلد على العمل، وسعة العلم، والتدقيق والنقد السديد، وقد بلغ من الإتقان أقصى ما يمكن
1 / 14