ويبدو أن جلجاميش قد أدرك فشله في الصمود للتحدي واجتياز الاختبار. وإذا كنا لا نستطيع أن نقطع بأنه تخلى عن طموحه تماما، فيمكننا أن نتصور أنه وقع فريسة الحيرة والضياع واليأس والشك. لنستمع إليه وهو يقول لجده فيما يشبه الأنين: «آه! ماذا أعمل؟ وإلى أين أوجه وجهي؟ في مخدعي يقيم الموت، وحيث وضعت القدم يواجهني الموت!» (ل11، س30-233). ومع أن الموت يطارده ويلاحقه ويشمله من كل جانب، فلا نظن أنه قد رضخ له أو سلم بحقيقته. ومع أن حلم الخلود قد أخذ يتسرب شيئا فشيئا في الضباب، فإن تمسكه بطموحه إلى مقاومة الموت لا يعني أكثر من تمسكه بطبيعته كإنسان، وبشوقه المطلق والمشروع للانتصار عليه حتى ولو كان الانتصار جزئيا أو غير مطلق. ويركب جلجاميش السفينة بعد أن ينظف نفسه من الأوساخ التي علقت به، ويرتدي ثيابا جديدة لا ينالها البلى على طريق رجوعه لمدينته. هناك أشفقت عليه زوجة أوتنابشتيم، وطلبت منه أن يعطي جلجاميش شيئا يأخذه معه إلى وطنه؛ تعويضا له عن التعب والضنى الذي تحمله في سفره. ويبدو أن الجد الخالد قد تردد كثيرا قبل أن يفضي لجلجاميش بسر من أسرار الآلهة، ولم يكن ذلك السر إلا النبتة الشوكية العجيبة، التي تجدد شباب من يأكل منها، وترجع للشيخ صباه. وغاص جلجاميش في قاع البحر في الموضع الذي حدده له أوتنابشتيم، واستخرج النبتة السحرية، وفرح بها أشد الفرح، حتى لقد قال في غمرة نشوته إنه سيجعل أهل مدينته يأكلون منها ليستعيدوا شبابهم قبل أن يفكر هو نفسه في الأكل منها. وواصل مع رفيقه الملاح طريقهما إلى أوروك ومعه الإكسير أو الدواء الناجع للشيخوخة والفناء. غير أن الفرحة لم تتم - كما نردد اليوم ليل نهار - إذ نزل جلجاميش أثناء الطريق في بئر ليبترد من القيظ اللافح، وترك النبتة الشائكة على حافتها، وشمت أفعى شذا النبتة السحرية، فزحفت إليها وابتلعتها، وأخذت منذ ذلك الحين تجدد جلدها وشبابها من دون الإنسان! هنالك جلس جلجاميش وأخذ يبكي. جرت الدموع على وجهه، وكلم أورشنابي الملاح (ل11، س292-296): «لم يا أورشنابي كل ذراعي؟ ولم قد نزف القلب دماه؟ لم أجن لنفسي خيرا، بل قدمت الخير لأسد الترب (وهو الاسم الذي كان يطلقه البابليون على الحية).»
لو كان البكاء والحسرة والضياع الذي تردده الصرخات الأخيرة هي النهاية الطبيعية التي يفرضها التسلسل المنطقي لأحداث الملحمة، لقلنا إنها مأسوية فاجعة بكل معنى الجلمة. ولو كان جلوس جلجاميش وبكاؤه ودموعه التي جرت على وجهه تمثل المشهد الختامي، لقلنا إنه هو مشهد التسليم ب «حظ البشر» المحتوم. ربما أثر علينا الوجدان المعاصر ب «قلق الموت»، فتصورنا أن جلجاميش قد سبق فلاسفة الوجود والوجوديين في القرن العشرين - بما لا يقل عن ثلاثة آلاف سنة على أقل تقدير! - إلى الحقيقة التي لا ينفكون يؤكدونها وكأنها من أهم اكتشافات العصر ومقولاته الأساسية، ألا وهي «زمانية» الوجود الإنساني، وتناهيه، ومواقفه المترتبة على مواجهتها. وربما يزيد من تأكيد النهاية المأسوية للملحمة، والطبيعية «التراجيدية» للبطل المأسوي جلجاميش، أن هذا المشهد يفجر ينابيع المرارة السوداء في نفس البطل الذي تيقن من خيبة أمله، وفشله في الحصول على الخلود؛ هذا الخلود الذي علق عليه قبل ذلك بسطور قليلة كل آماله وآمال شعبه. ألم يكن هو الذي قال لأورشنابي الملاح هذه الكلمات التي تردد أنغام الفرح والتفاؤل والأمل والانتصار: «إن هذه النبتة تشفي من «الاضطراب»، وبفضلها يستعيد المرء حياته. سأحملها معي إلى أوروك ذات الأسوار، وأعطيها للناس ليأكلوا منها. إن اسمها هو «عودة الشيخ إلى شبابه»، ولسوف آكل منها ليرجع إلي شبابي» (ل11، س377-282)؟ لقد امتزج الأمل الذي لا تخفيه هذه العبارات بالعزم الثابت على أن يشرك معه شعب أوروك، وشيوخها بوجه خاص، في الأكل من النبتة، وأن يؤخر نفسه عنهم، لا بدافع الإيثار وحده، بل إلى حين بلوغه الشيخوخة؛ ومن ثم تكون الحسرة وخيبة الأمل مأسوية وفاجعة إلى أبعد حد عندما يكتشف أن الحية قد تسللت إلى «زهرة الشباب» فاختطفتها، وغيرت جلدها وحرمت منها الإنسان (وتغيير الجلد رمز أسطوري على الخلود وتجديد الشباب عند كثير من الشعوب القديمة، سواء نسب إلى الحية أو إلى حيوانات أخرى اكتسبت القدرة عليه، وأضاعها الإنسان بعد أن كانت في متناول يده).
9
كذلك تكون الصرخات المؤثرة التي أطلقها من قلبه، واقتبسنا عباراتها قبل قليل، صرخات لها ما يبررها، ويكون لمن يسمعها أو يقرؤها كل الحق في أن يقول بأنها تدل على عملية تطهير (كاثارسيس) للبطل وللمتلقي، بالمعنى الأرسطي الكامل للتطهير الذي تحدثه «التراجيديا»، وعندئذ يحق لنا أيضا أن نوافق القائلين بأن ضياع نبتة الخلود كان هو الفصل الحاسم والأخير الذي يختم فصول «مأسوية» جلجاميش، الذي تحول قبل ذلك إلى بطل تراجيدي عندما اكتشف إنسانيته الزائلة ووجوده الزماني المتناهي (وبخاصة عندما عرف الموت، وواجه حقيقته المؤلمة من خلال تجربة خاصة هي تجربة موت صديقه الوحيد،
10
وعندما مر قبل ذلك بتجربة فشله المتواصل في الانتصار على هذه الإنسانية أو تجاوزها، مع فشله في اجتياز امتحان النوم الذي عقده له جده الخالد أوتنابشتيم وزوجته).
ومع ذلك فهنالك من يجرد جلجاميش من صفة البطل التراجيدي، كما يرفض اعتبار الملحمة تراجيدية تسعى إلى تحقيق الشعور بالتطهير. والذين يقولون بهذا الرأي يؤكدون لأسباب مختلفة أن نهاية الملحمة ليست نهاية مأسوية بأي حال من الأحوال؛ فعالم الآشوريات الأمريكي ثوركلد جاكوبسون يقول: «إن ملحمة جلجاميش لا تنتهي إلى خاتمة منسجمة، بل تبقى عواطفها في احتدام، وليس فيها أي شعور بالتطهير كما في المأساة، أو أي قبول أساسي لما لا مرد له. وإنها نهاية شامتة بائسة لا تشفي العليل، فيظل اضطرابها الداخلي في غليان، ويظل سؤالها الحيوي بلا جواب.»
11
وعالم الساميات وتاريخ الأديان العربي محمد خليفة حسن أحمد، ينفي كذلك عن جلجاميش صفة البطل التراجيدي الذي سلم في النهاية بقدره الإنساني أو استسلم له، كما يرفض اعتبار البطولة في الملحمة بطولة تراجيدية. وهو يعلل هذا تعليلا يرجع فيه إلى طبيعة التفكير السامي القديم نفسه حيث يقول: «والحقيقة أن الملحمة لو انتهت نهاية تراجيدية لأتت متناقضة مع طبيعة التفكير السامي القديم، الذي يدعو إلى طاعة الآلهة والإيمان بتحكمها في المقادير الإنسانية، ويوجه العبادة إلى تحقيق رضا الآلهة، من خلال طاعتها وإرضائها بالقرابين وطقوس العبادة المختلفة.»
12
Bilinmeyen sayfa