64

Felsefi Deneyimler

تجارب فلسفية

Türler

وينخرم النص وتشوهه فجوة كبيرة أتلفت الأعمدة الخمسة الأولى من اللوح، الرابع الذي يرجح العلماء أن يكون قد تضمن الوصف التفصيلي لرحلة الملك وصديقه وتجاربهما في غاية الأرز. ومع ذلك بقيت شذرة صغيرة نفهم منها أنهما وجدا عند باب الغابة المسحورة حارسا فقتلاه، وأن إنكيدو قد أصابه الباب بشلل مؤقت جعله يتردد في التوغل في الغابة ومواجهة المارد المخيف، وإذا بجلجاميش - الذي لم تكتم الملحمة اضطرابه وهواجسه - يشجع صديقه، ويكرر عليه ما قاله من قبل: «إن القوي إذا سار في المقدمة وهو متأهب حذر، فقد حمى نفسه وحفظ صاحبه، فإذا سقط فقد خلد اسمه» (ل4، ع6، س37-39).

وتصف الأعمدة الثلاثة الأولى من اللوح الخامس استغراق الصديقين في تأمل جمال الغابة وقمم جبالها وذرى أشجارها، والأحلام الثلاثة التي رآها جلجاميش المضطرب القلب رعبا من لقاء المارد المخيف، وتفسير صديقه الطيب لها بما يحمل لقلبه السكينة والبشرى بالانتصار عليه، ودعاءهما لشمش بأن يؤيدهما ويقف بجانبهما. ولما بدأ جلجاميش في قطع الأشجار ببلطته سمع خمبابا الضجيج، فثار غضبه، وتوعد الطارق المجهول الذي تجاسر على تلطيخ أشجاره بالعار وهي ربيبة جباله. ويبدو أن الخوف اعتراهما، فسمعا شمش السماوي يأمرهما أن تقدما ولا تخافا. ولم يكتف الراعي الإلهي بذلك، بل سخر لهما الرياح العاتية على اختلاف أنواعها، فضربت خمبابا في عينيه حتى تعذر عليه التقدم أو التقهقر، فأسقط في يده واستسلم، وراح يتوسل لجلجاميش أن يطلق سراحه، وأوشك قلب البطل أن يرق له، فنصحه صديقه ألا يبقي عليه ولا يأمن شره، وحثه على أن يقطع رأسه بسيفه؛ وبذلك «محا الشر، واستراحت الجبال والمرتفعات» (ل5، ع4). ورجع الصديقان إلى أوروك وفي نية جلجاميش أن يحتفل بالنصر الكبير. نظف أسلحته، وغسل جسده، وأسدل جدائل شعره على ظهره، وارتدى عباءة فخمة مزركشة ربطها بزنار. ولما وضع تاجه على رأسه رفعت عشتار الجليلة الجميلة عينها، ولمحت جماله، وعرضت عليه أن «يمنحها فيض قوته»، ويصبح زوجها وتصبح زوجته، ولم تتردد عن إغرائه بكل ما يمكن أن يجذب الرجال من مظاهر الترف والشرف، لكن جلجاميش سخر منها سخرية مرة، وأخذ يعدد لها جرائمها في حق عشاقها السابقين الذين خانتهم وتنكرت لهم، أو مسختهم في صور بشعة. وغضبت عشتار، وآلمها جرح كرامتها إلى الحد الذي جعلها تصعد إلى السماء وتطلب من أبيها «آنو» كبير الآلهة أن يوافق على انتقامها من جلجاميش، ويسلمها مقود «الثور السماوي» ليفتك بأوروك وأهلها، وينشر الدمار في ربوعها. ونزل الأب على رغبة ابنته العنيدة المهانة، بعد أن اطمأن إلى أنها قد ادخرت من الغلال والعلف ما يكفي البشر والحيوان. واستطاع البطلان أن ينازلا الثور الجبار ويقتلاه، ورد إنكيدو على لعنات عشتار ونواحها على ثورها السماوي بانتزاع فخذ الثور الصريع وقذفه في وجهها! وبعد أن قرب جلجاميش لإلهه الخاص، وعلق القرنين العجيبين في مخدعه، انطلق موكبه المنتصر مع صديقه في شوارع أوروك وأسواقها، واحتشد الناس لتحيتهما، وراح البطل ينادي عليهم قائلا: من أروع الرجال؟ من أقوى الأبطال؟ فيرد الجميع في صوت واحد: جلجاميش أروع الرجال! جلجاميش أقوى الأبطال! (ل6، ع1، س182-185).

هكذا تصور جلجاميش أنه خلد اسمه وذكره بين الأبطال، وصرع المارد الذي ملأ البلاد بالرعب والشر، وقتل الثور في عرض رائع أمام جماهير الشعب في أوروك،

8

واطمأن إلى أنه لم يزل البطل القوي الجميل الذي يأسر قلوب الحسان، وفي مقدمتهن إلهة الجمال عشتار، ولكنه لم يفطن إلى أن إلهة الحب التي تيمها حبه هي نفسها إلهة الحرب، وأن نقمتها عليه ستحل على الإنسان الوحيد الذي أحسن بإنسانيته وخفق فؤاده بصداقته. ولقد رأى صديقه نفسه في الحلم بداية النهاية المأسوية التي جعلتها الآلهة من نصيب البشر ومن نصيبه، ألا وهو الموت الذي تدور حوله الملحمة، والذي بدأ إنكيدو يحس دبيبه في جسده المحموم وعقله الذي افترسه الهذيان، فلازم فراش المرض الأخير، وراح يصب اللعنات على رأس الصياد، وكاهنة المعبد، والحب، وكل من تسبب في انتزاعه من حياة الفطرة مع الظباء والأسود والحمر الوحشية. واشتد عليه المرض، ورأى في أحلامه المحمومة صورا مفزعة من عالم الموتى، «الذي حرم سكانه من النور، حيث التراب طعامهم، والطين زادهم، وتكسوهم ثياب من الريش كالطيور» (ل7، ع4، س36-39).

مات إنكيدو، فجن جنون جلجاميش ولم يصدق. ناداه فلم يرد عليه. وضع أذنه على صدره فلم يسمع خفقان قلبه، ورفض أن يواري التراب على أمل أن توقظه صرخاته من نومه، ولم يستطع أن يرضخ للحقيقة الأليمة إلا بعد أن وقع الدود عليه وسقط من أنفه. بكاه بكاء مرا، وجمع شيوخ المدينة وأخذ يرثي: «الفأس التي في جنبه، والسيف في حزامه، والدرع الذي يحميه، وفرحته وحلة عيده» (ل8، ع2، ص4-6). وراح يعدد مآثره وإنجازاته، والمشاق التي شد أزره في التغلب عليها وهو ينوح نواح الندابة: «أي نوم هذا الذي أطبق عليك؟ لقد طواك الظلام فما عدت تسمعني!» (ل8، ع2، س13-14)، لكن إنكيدو لم يفتح عينيه، فغطى وجه الصديق كما يغطى وجه العروس، وأخذ يحوم حوله كالنسر، كلبؤة اختطف منها أشبالها، وطفق يذهب ويجيء وينتف شعره المسترسل ويرمي به على الأرض، ويمزق ثيابه الجميلة ويلقي بها كأنها شيء بخس أو نحس لا يلمس (ل8، ع2، س18-22).

وبعد أن أمر الصناع بنحت تمثال لصديقه يكون صدره من اللازورد وجسمه من الذهب. لبس جلد الأسد، وغادر قصره ومدينته، وراح يهيم على وجهه في البراري والبوادي، باحثا عن جده الخالد - رجل الطوفان أوتنابشتيم - ليسأله عن سر حصوله على الخلود، مرعوبا من «حظ البشر» الذي أدرك أخاه ورفيقه في الشدائد والملمات، غير مصدق أنه يمكن أن يتحول مثله إلى تراب. وتسهب الملحمة - ابتداء من اللوح التاسع - في سرد الأهوال التي لقيها البطل المكتئب الطموح إلى الخلود، أو بالأحرى إلى الفرار من حظ البشر الذي لم يغب عنه، وكأنه يخوض تجربة البحث المأسوية بما هو إنسان ونيابة عن كل إنسان. ثم تصور الملحمة التي بلغت ذروة المأساة مراحل سعيه الخائب إلى الأمل المستحيل في الخلود؛ فهو يصل بعد مسيرة طويلة ومضنية إلى بوابة جبلي «ماشو» التوءمين اللذين تغرب فيهما الشمس وتشرق منهما، ويرق له قلب حراسها المركبين على هيئة رجال-عقارب، فيأذنون له بالدخول بعد أن يعرف كبيرهم وزوجته طبيعته المكونة من «لحم الآلهة»، وأن «ثلثيه إلهي والباقي بشري فان»، كما أكدت الملحمة منذ البداية. ودخل من البوابة الهائلة، فوجد نفسه في نفق مظلم طويل، وواصل سيره في ظلام حالك لا يرى من حوله شيئا، ثم لاح له بصيص من نور بعد أن قطع «ساعات مضاعفة» لا حصر لها، وخرج في النهاية من النفق ليجد نفسه في حديقة غناء تثقل أغصانها ثمار عجيبة من أحجار كريمة، تشع منها الأضواء الباهرة والألوان الساحرة، ثم واصل السير حتى اقترب من حانة منعزلة على ساحل بحر الموت والظلمات ، تديرها الساقية الشابة التي عينها الآلهة ليزوروها ويشربوا من يدها بين الحين والحين. وأبصرته «سيدوري» من بعيد، فأفزعها منظر وجهه الأشعث الأغبر، وظنته قاتلا أو قاطع طريق، وأغلقت عليها الباب فلم تفتحه إلا بعد أن هددها بتحطيمه، وأيقنت بعد أن أدركت طبيعته الإلهية، وسمعت قصة عنائه وسبب حزنه واكتئابه، أنه واهم يبحث عن الخلود. ولقد حاولت أن تخلصه من وهمه وتقدم له البديل، وهو خلود اللحظة العابرة، إلا أنه رفض اليد الممدودة بالكأس المشعشعة، ولم ينتصح بنصيحتها التي يصعب نسيانها: «إلى أين تمضي يا جلجاميش؟ إن الحياة التي تبحث عنها لن تجدها، فعندما خلقت الآلهة البشر، قسمت للبشر الموت، واستأثرت في أيديها بالحياة. أما أنت يا جلجاميش فاملأ بطنك. متع نفسك، واجعل أيامك أعيادا، وارقص والعب ليل نهار. نظف ثيابك، واغسل رأسك، واستحم بالماء. احن على الصغير الذي يمسك بيدك، ودع الزوجة تفرح في أحضانك. هذا هو حظ البشر على الأرض» (ل10، ع3، س1-14).

قدمت سيدوري لجلجاميش الخلود البديل، أو لنقل نوعا من الخلود الزائل (إن جازت هذه المفارقة في التعبير)، ولكنه رفضه. هل دار في ذهنه أنه خلود عابر لا يدوم إلى الأبد كالخلود الذي انطلق بحثا عنه؟ ولو تصورنا أنه قبل لحظة الخلود العابرة - التي رفضها فاوست - ألم يكن معنى ذلك أن تفقد المأساة مبررها ومعناها، ويسدل الستار عليها وهي ما تزال في ذروة تأزمها؟ ألم يكن قبوله لكأس «اللحظة الخالدة» ليصبح نوعا من استسلام وإيثار الراحة والتخلي عن الحلم، مهما يبد له أو لنا أنه الحلم المستحيل؟! ثم هل قالت له ساقية الحانة شيئا جديدا عليه أم إنها في الواقع قد ذكرته بحكمة رافدية قديمة، وبما جاء على لسانه هو نفسه في حديثه مع صديقه إنكيدو: «من ذا الذي يستطيع يا صديقي أن يصعد للسماء؟ الآلهة وحدهم مخلدون على عروشهم مع شمش. أما أيام البشر فمعدودة، وكل ما يعملون ريح باطلة» (ل2، ع5، س140-143)؟ فليمض إذن في خوض غمار المأساة، وليواصل سعيه العبثي - كما نقول اليوم - إلى الخلود المستحيل، سواء تصورنا أنه أراد في هذا الموقف أن يحصل عليه إرضاء لطموحه الذاتي، أو تصورنا أنه بدأ تجربة التطهر الجزئي من «أناه» البطولية المتضخمة، والتحول إلى «النحن» التي تشاركه في هذا الخلود، أو تقتنع على الأقل بأنه غير مستحيل على بشر يخلص في مسعاه للحصول عليه.

واصل جلجاميش بحثه الذي لا نستطيع أن نقول إنه شعر في هذه المرحلة بأنه بحث عقيم. وقد أشفقت عليه سيدوري في النهاية، ودلته على ملاح اسمه أورشنابي يعمل في خدمة «جده الخالد»، بعد أن ألح عليها برغبته في الوصول إليه ليسأله عن سر الحياة والموت. وعبر جلجاميش مياه الموت بمساعدة الملاح الذي لم يأل بدوره جهدا في تثبيط همته، وثنيه عن المغامرة التي حذره من عدم جدواها. وبلغ جلجاميش «جزيرة الأحياء» التي خصصها الآلهة لإقامة جده الخالد فيها مع زوجه، جزاء له على إنقاذ الحياة والأحياء من فك الطوفان. وعندما يلتقي جلجاميش بجده الخالد، ويجيب على سؤاله عن السبب في ضمور وجهه واكتئاب فؤاده وذبول ملامحه وتمكن الغم من نفسه، وبعد أن يكرر عليه جلجاميش ما سبق أن قاله لساقية الحانة وللملاح عن موت صديقه الذي أصابه حظ البشر ومصيرهم، ورعبه - أو رعب الثلث البشري منه! - من أن يدركه المصير نفسه ويصبح ترابا ولا ينهض من نومه أبدا، نجده (في مطلع اللوح الحادي عشر الذي خصصه بأكمله لسرد قصة الطوفان بكل تفاصيلها المشهورة)، نجده يعبر عن دهشته أو خيبة أمله في هذا الجد الذي سعى إليه، وتحمل الأهوال والمشاق ليعرف منه سر الخلود. لقد تخيل أنه سيواجه بطلا جبارا، وهيأ نفسه للصراع معه، فإذا به يرى أمامه رجلا خاملا مستلقيا على قفاه كأنه جثة مخدرة، ويكتشف أن هيئته لا تخلف عن هيئته، حتى إن ذراعه لا تحرك ساكنا ضده؛ ولهذا يصيح به متعجبا قبل أن يستغرق في قصة الطوفان: «قل لي إذن كيف دخلت في زمرة الآلهة، ونلت الحياة الخالدة؟!» (ل11، س2-7). هل يمكننا القول بأن جلجاميش قد أدرك أن جده - حتى قبل أن يسمع منه قصة الطوفان - قد خلد خلودا خاليا من الحياة، أو أن بقاءه بقاء أبديا هو وزوجته لا يسبغ عليهما صفة الخلود الذي تمناه لنفسه، وتعب وشقي لكي يسأله عنه؟ إن هذا مجرد حدس لا نزعم له اليقين بحال من الأحوال. والمهم في هذا العرض الموجز المخل أنه استمع منه إلى تفاصيل قصة الطوفان التي تعرفها من سفر التكوين في التوراة ومن القرآن الكريم، كما كانت معروفة إلى حد كبير لدى السومريين والبابليين قبل أن يجمعها الكاتب البابلي، ويضيفها إلى ملحمته. لقد خرج الجد الخالد من السفينة بعد كل ما جرى وما شاهد من كوة قمرته، وقدم القرابين للآلهة التي تزاحمت عليها كالذباب، وجاء إنليل وهو يسأل في غضب: كيف نجت نفس واحدة من الهلاك وقد قضى بألا ينجو أحد؟ ولكنه انضم في النهاية إلى إجماع الآلهة، وصعد إلى السفينة، وأخذ بيد «أوتنابشتيم»، وأركبه هو وزوجه فيها، ولمس جبهتهما وباركهما قائلا: «لم يكن أوتنابشتيم من قبل سوى واحد من أبناء البشر، فليشبهنا نحن الآلهة من الآن، أوتنابشتيم وزوجه! وليسكنا بعيدا عند فم الأنهار.» ثم يختم رجل الطوفان قصته الطويلة المضنية بقوله: «لكن من يجمع لك شمل الآلهة الآن لتعثر على الحياة الخالدة التي تبحث عنها؟» (ل11، س189-198). وكأنما يخاطب الإنسان في جلجاميش بقوله لن تنال الخلود الذي نلته أنا إلا بذنب عظيم كالذي يثقل ضميري، وهو أن يهلك جنس البشر وتبقى وحدك حيا!

والغريب في أوتنابشتيم الذي ذكره في بداية لقائهما بفناء كل شيء، في سطور يصعب نسيانها كما يصعب تصور صدورها عنه (الموت القاسي لا يرحم. هل نبني بيتا لا يفنى؟ هل نختم عقدا لا يبلى؟ هل يقتسم الإخوة ميراثا يبقى؟ أيعم الأرض إلى الأبد الحقد، وتدوم مياه الفيضان إذا امتلأ النهر وتغطى؟ واليعسوب ... لا لم يتسن لوجه فان أن ينظر للشمس، ويحدق فيها دوما، والنائم والميت كم يشبه أحدهما الآخر! أولا يرتسم الموت على وجه النائم والميت؟ (ل10، ع4، س25-34))، أقول إن من الغريب حقا أن يصرفه الجد الخالد نفسه عن فكرة الخلود، ويبين له استحالتها من منظور بشري صرف، وأن يحذره من الثمن الباهظ الذي تكلفه - وهو هلاك البشرية - وكأنه يشعر سلفا بأنه لن يتحمل ذلك الوزر الفظي مهما أدى إلى التخلي عن طموحه، والتضحية بحلمه العزيز على نفسه. ولعل رجل الطوفان «الخالد» كان يفكر في شيء من هذا عندما وضع الحالم الطموح أمام امتحان سريع، يقوم على الحقيقة التي يقررها آخر السطور التي اقتبسناها قبل قليل؛ فقد طلب من جلجاميش أن يمتنع عن النوم ستة أيام وسبع ليال؛ إذ ربما استطاع من يقاوم النوم أن يقاوم الموت الذي يشبهه في الظاهر على أقل تقدير. ويكابر البطل الذي لم يتخل بعد عن طموحه ويقبل التحدي؛ أملا في كسب الرهان، والفوز بالخلود. وسرعان ما يغلبه النعاس، ويغط في نوم عميق. وعندما يفيق منه يكتشف أنه قد نام ستة أيام أشرتها زوجة جده على الجدار، وأحصتها عددا بأرغفة الخبز التي وضعتها عند رأسه وهو نائم.

Bilinmeyen sayfa