وفي جلسة من هذه الجلسات سأله صديق جديد لم يكن رآه قبل ذلك اليوم: اسمك حفني الوسيمي؟ - نعم. - ترى هل لك صلة بالأستاذ حلمي الوسيمي. - أخي. - غير معقول. - لماذا؟ - لا، لا شيء. - إلا أنه جاد. - ماذا تقصد بجاد؟ - يعني ... ليس مثلي. - على كل حال ليست دهشتي لهذا. - فلماذا؟ - لأنه صديق قريب لي جدا، وكثيرا ما نذهب إلى المسارح، وكثيرا ما نجلس معا في بار اللواء وفي صولت. - فلماذا لم تأت به إلى هنا؟ - إلى هنا مستحيل، الظاهر أنك لا تعرف أخاك. - هو في مكان أبي، ولكن المؤكد أن الذي أعرفه عنه أكثر مما يعرفه الآخرون حتى ولو كانوا أصدقاءه. - الحقيقة أنني لم أعرف أن له أخا إلا الآن، هل أنت متأكد أنك أخوه؟ - أنا متأكد أن والدتي مثل أعلى في الشرف.
وضحك الجميع وخجل محاوره بعض الشيء وغمغم. - أنا آسف ... العفو ... طبعا أنا لا ... المهم ... المهم أن هناك حقيقة عن أخيك المؤكد أنك لا تعرفها. - الحقيقة أن سعادتك أكثرت من الشرب وجعلتنا نشغل الإخوان بما لا يعنيهم. - الحقيقة أنني أريد أن أعلن عن بطولة أخيك التي لا تعرفها. - هل أنت مصمم؟ - هل تقرأ وهل تقرءون المقالات الموقعة باسم مصري صميم؟
واختلطت أصوات التأييد وأصوات الإعجاب. - أتعرفون من يكتبها؟ - وتضافرت «لا» على الشفاه، ونظر الصديق السكران إلى حفني. - أتعرف أنت؟ - ومن أين أعرف؟ - ألم أقل لك أنك لا تعرف شيئا عن أخيك؟ حلمي الوسيمي هو مصري صميم. •••
قبض على حلمي وألقي به في السجن وفتش بيته في القاهرة وفي قريته الرمايحة.
ولكن الغريب أن الاحتلال لم يكن يلقي الناس في السجون دون أن يوجه لهم تهمة معينة أو يعنى على الأقل بتلفيق تهمة بذاتها يستر بها وجهه أمام العالم.
وهكذا لم يكن غريبا ألا يطول المقام بحلمي في السجن، ولكنه حين خرج وجد نفسه مترددا في مواصلة العمل بوزارة الداخلية، ولكن السلطات المحتلة كانت على قدر من الذكاء فلم تشأ أن تفصله ليصبح بطلا قوميا، ولم تشأ أيضا أن تنقله من الداخلية حتى يظل تحت عينها. وكان يعلم أن بقاءه تحت عيونهم سيقف حائلا بينه وبين نشاطه الآخر الذي كان أكثر خطورة من المقالات.
ولم يشأ حلمي أن يستقيل ليظل قريبا من الإدارة المصرية. ترك بضعة أيام ثم ذهب إلى مقهى الكلوب المصري حيث تصعب المراقبة، وتحرى ألا يجلس مع شخص واحد بمفرده، بل عمد إلى جماعة كان بينهم صفوت الأشموني الذي يريد أن يكلمه. ولم يطلب إلى صفوت أن ينتحي به جانبا، وإنما جلس إلى جواره بين الجالسين وراح ينظر إلى النرد الذي يتحلق حوله الآخرون. وقال صفوت: أرسلنا إليك لتبتعد عنا فترة. - لم يأت لي أحد. - يحسن أن تبتعد. - سأسافر إلى الرمايحة فترة. - خيرا تفعل. - سأحضر أول اجتماع. - موعدنا كما هو لم يتغير. - وهو كذلك. •••
لم تمنع عنه الإجازة حين طلبها. وذهب إلى الرمايحة وراح يكتب المنشورات من هناك. ولم يكن غريبا أن يرى المرشدون والمخبرون فلاحا يرتدي طاقية معممة يذهب إلى الكلوب المصري. ولم يكن غريبا أيضا أن يجلس بجانب الأفندية وتنتقل المناشير في ذكاء شديد من عيسى أحد خفراء بلدة الرمايحة إلى وحيد زنكي الذي أخذ مكان صفوت في الكلوب.
وما هي إلا ليلة حتى تكون هذه المنشورات قد طبعت ووزعت في القطر المصري كله من أقصاه إلى أقصاه موقعا عليها بتوقيع مصر. وهل كان يكتبها إلا مصر؟!
ولكن حفني كان لا شأن له مطلقا بهذا الذي يصنعه أخوه، وإنما هو يغمر حياته في متع كثيرة، فلا يترك لحظة من حياته لا يملؤها المرح والبهجة. •••
Bilinmeyen sayfa