انتهت إجازة حلمي وعاد إلى القاهرة يشم في أرجائها عبير ثورة يكاد يراها ويوشك يهتف بها ولا يطول به الانتظار.
يخترق يوم 13 نوفمبر حجب الغيب، وأستار التوقع، وسدل الحدس والتخمين، ويتم ذلك اللقاء الذي بدأت به مصر حياتها السياسية في العصر الحديث.
ومثل ريح عاصفة، طيبة، عاتية ولكن حنون، مزمجرة ولكنها موسيقى التاريخ ... يصبح سعد وفهمي وشعراوي أنشودة أمل وبداية حياة لمصر وللعالم العربي، ثم لكل الدول التي لا تغيب عنها شمس الإمبراطورية الكريهة.
وتتواكب الأحداث ويقبض على عمالقة الثورة فيسيرون إلى المنفى وكأنهم إلى الاحتفال باستقلال مصر يسيرون. وتصبح مصر نارا مثل نار الحقيقة التي ألقي إليها إبراهيم، عليه الصلاة والسلام. ولكن النار الحديثة كانت تقتل المحتل مع ذلك حين هي على الوطنيين برد وسلام، كما أمرها الله أن تكون على أبي الأنبياء، ثم هي تنقلهم من فانية إلى باقية، ومن أسماء لا قيمة لها على صفحات الحياة إلى خلود يظل أبد الدهر وإلى ما بعد الأبد مضيئا على جباه الحرية.
وفي مدرسة الحقوق يضرب الطلبة عن تلقي العلوم، ويخرج إليهم عميد الكلية الإنجليزي. - عليكم أن تنتظموا في دراستكم وتتركوا السياسة، فإن آباءكم قد أرسلوكم إلى هنا لتتعلموا.
ومن بين الصفوف يخرج طالب شامخ الطول مثل مصر، في صوته ثورة الأحرار، وحكمة الفلاح. - إن آباءنا هم هؤلاء الذين قبضتم عليهم، ونحن نؤمن بالقضية التي يبذلون حريتهم في سبيلها وحياتهم إذا احتاجت القضية إلى حياتهم. وهيهات لنا أن ندرس هنا الحقوق، وحقوق آبائنا ووطننا مضاعة . تحيا الثورة.
وتندلع إلى بروج السماء هذه الأيام المجيدة المطهرة بدماء الشهداء والنابضة بروح جديدة وهبها الله للشعب ...
وكان اسم هذه الروح الجديدة المنورة بضياء السماء هو مصر. وتنعقد الاجتماعات السرية وتتخذ القرارات. ويقسم الشباب نفسه بين خطباء ظاهرين وبين جنود في الخفاء يقتلون، فيصبح الاحتلال في مصر على فراش من رصاص ومتفجرات.
وفي بعض الأحيان كان المجتمعون يقرون قتل من يرون أن في وجوده خطرا على القضية المصرية حتى وإن كان مصريا؛ فليست المصرية مولدا وإنما هي عقيدة تنبت مع الولادة وتسمق شجرتها في النفس حتى تصبح هي النفس كلها. فإذا كانت البذرة خبيثة وماتت في ركام المنفعة واختنقت في حمأة الخيانة، فصاحبها إذن ليس مصريا.
كان هؤلاء قلة نادرة بل كانوا أقل من القلة النادرة، وكان الحكم عليهم في جمعيات الثورة السرية لا بد أن يكون اجتماعيا، لذلك فلم تقتل هذه الجمعيات من المصريين إلا فردا أو اثنين.
Bilinmeyen sayfa