اللغة ويجعله إليها ويلحقه بمادتها ثم ما دمنا نعمل هذا العمل فنقضيه صريحًا
محكمًا ونستن فيه سنة العرب في طريقة الوضع اللغوي وحكمة هذه الطريقة
ووجه هذه الحكمة.
فأنت ترى أنه لا ينقصنا من اللغة شيء وهي على ما هي من إحكام
الأوضاع والتراكيب والاتساع للمفردات ولو أقبلت كأعناق السيل، ولكن ينقص هذه اللغة رجال يعملون ويحسنون إذا عملوا، ويعرفون كيف يتأتى عملهم إلى الإحسان، وكيف يكون عملهم عملًا.
ولقد كان من سوء الصنع لهذه العربية أن قامت لإحيائها "مجتمعات" كلها
كان يكدح في هذا العمل الجديد على قاعدة قديمة، فلا يعدُون في طريقة
العمل وجهة القصد منه أن يبدلوا لفظًا بلفظ وحرفًا بحرف وينبهوا إلى خطأ في بعض الاستعمال وصواب في بعض الإهمال مما يستخرجونه أو يقفون عليه أو يتفق لهم اتفاقًا؛ وهذا عمل تكون الجماعة فيه مهما اعتزمت واشتدت كأنها فرد واحد، ويقوم الفرد المضطلع بالجماعة، بل قد يفي بها ويمسح وجهها ويكون منها مكان الإمام ممن خلفه.
وإن كانوا صفوفًا متراصة متقابلة، وهو أمر
كان قديمًا، فإن العلماء والكتاب كانوا يتلقون الرواة والحفاظ بالمسألة عن
صواب الكلمة وعن وجه استعمال الحرف من اللغة، وكان المأمون العباسي قد أرصد من هؤلاء طائفة في "دار الحكمة" ليرجع إليها المترجمون، ثم ليتصفحوا عليهم فيصلحوا خطأ أو يقيموا وزنًا أو يغيروا كلمة، وكذلك فعل بعض الأمراء المتأخرين في دواوين الإنشاء حين ضعف الأدباء عن اللغة والتوت الألسنة وغلبت العامية، وقد تولى ذلك للفاطميين طاهر بن بابشاذ في القرن الخامس، وابن بري في القرن السادس وتولاه كبرهما من بعدُ إلى هذه الغاية في عصور ودول مختلفة.
على أن كل ذلك قد مضى مع أهله وبقيت اللغة تضرب في
حدودها مقبلة مدبرة لم يزد فيها ما زادوا ولم ينقص منها ما نقصوا.
ولسنا نرتاب على حال أنه لو قام في صباح كل يوم مجمع لغوي على هذه
الطريقة لانتقض في مساء كل يوم مجمع منها، لأن القوم يَدعُون الجهات الملتبسة إلى الصريحة ويتخطون الأصول إلى الفروع، ويعملون في سد خلة محتملة ويتكلفون لضرورة في الوسع والطاقة، واللغة وافية بكل ما يأتون به، لا يصد عنها إلا الجهل والإهمال، وإلا سوء طلب الطالب وتحصيل المحصل، وهذا - أصلحك الله -
1 / 46