إذا كان الفصيح خالصًا مأنوسًا وكانت القرائن قائمة على ما فيه من جديد أو غريب وكانت ألفاظه لا تبرًا من معانيه ولا هذه تشق على تلك؟.
نحن لا نماري في وجوب الإصلاح اللغوي ووجوب أن يكون للغة في هذه
النهضة مجمع يحوطها ويصنع لها ولو على الأقل " كمصلحة الكنس والرش". ولا نقول إن هذه العربية كاملة في مفرداتها، ولا إنه ليس لنا أن نتصرف فيها تصرف أهلها، فإن من يذهب إلى ذلك لا يعدو باللغة وسيلة من وسائل العيش وأداة من أدوات الاجتماع الفطري، وليت شعري ما يصنع أولئك إذا صارت العربية لغة العلوم والفنون الحديثة وجاؤوا إلى طائفة واحدة من الحشرات يقسمها العلماء إلى عشرين ألف ضرب اعتبروا في وضع أسمائها تباين ما بينها في طبقات التشريح؛ ثم
ماذا يصنعون بضروب سائر الحيوان والنبات وغير النبات مما لا يأتي عليه الإحصاء من متعلقات العلوم وفروعها، وهل تجزئُ في ذلك كله ألفاظ لسان العرب وكتب الحيوان والنبات العربية وما إليها مما أطلقت ألفاظه واضطربت أوضاعه واختلفت معانيه واستفاضت حدوده حتى ليصح أن تعم اللفظة الواحدة بكثرة ما تطلق عليه في هذه اللغة شطرًا من معاني العلم التي هي فيه؟
ألا وإن أعجب ما في أمرنا في المعروف والمنكر أن تختلف الأمم في
معاني الألفاظ واختراعها وتحديدها ووجوه الانتفاع بها ولا نختلف نحن إلا
على ألفاظ هذه المعاني، وأنها عربية أو معربة، وهل نتقبلها أو نردها، ونثبتها أم ننفيها، ونننسخها أو نمسخها. . . وقد فاتنا أن العرب أنفسهم لم يكونوا يعرفون شيئًا يسمى لغة إنما كان همهم استيعاب أجزاء البيان في كل ما ينطقون به على أصول الفطرة اللغوية التي ينشأون عليها، وقد ضُبطت هذه الأصول فيما انتهى إلينا من قواعد اللغة وما نقل من ألفاظها، فصار لنا حكمهم إذا نحن تدبرناها ونفذنا في أسرارها وأحستا القيام عليها.
وليس عندنا في وجوه الخطأ اللغوي أكبر ولا أعظم من أن يظن امرؤ أن
اللغة بالمفردات لا بالأوضاع والتراكيب، فإن اللغات المرتقية هي تلك التي
تمتاز بوجوه تركيبها ونسق هذه الوجوه فيها، ولا يمكن ألبتَّة أن تكون لغة من اللغات ذات وَفْر وثروة من الألفاظ إلا أن تدعو إلى ذلك وجوهُ أوضاعها
وتراكيبها، ولا تجد عندنا من الإنكار على من يقول بإباحة التصرف في تراكيب العربية ثم التكذيب له والاستعظام لما جاء به إلا كما عندنا من الرد لقول من يمنع التصرف في مفرداتها - بالتعريب وغير التعريب - ما دامت الحاجة إلى ذلك ماسة، وما دام ذلك لا يخرج اللفظ الموضوع عن الشبه العربي الذي يجريه في
1 / 45