لا جَرم كان العنت كل العنت والبلاء كل البلاء أن نُفهم من لم يستجمع
أداة الفهم لما تلقي إليه، وأن تناظر صاحب الرأي وليس له مما قِبَلك إلا أنه
يرى وإلا أنك تدفع، فإن الحجة في مثل هذا وإن وضحت واستبانت بَيد أنها لا تصيب من غرض يستهدف لها، فلا تلزم ولا تُقنع، وإنما تستعرض كما
يستعرض السهم من الهواء يمر فيه منطلقًا لا يلتوي؛ فمهما نلت من ذلك لا
تنال سببًا إلى الإقناع وليس لك بعد إلا أن تطيب نفسًا عن نتيجة أنت فرغت من مقدماتها، وترتد عن غاية كنت في ظل قصباتها، لأن الحجج لا تنتهي إلى
الحق إلا إذا كانت متكافئة، فهي تختلف متدابرة ولكنها متى تواجهت وأخذت كل حجة برقبة الأخرى فاختصمت ثم ارتفعت إلى العقل قضى بينها وكشف عن وجه الحق فيها، أما الحجة الواهية التي لا يشد منها علم ولا ينهض بها يقين فهذه تظل مدبرة، وإنما قوتها في إدبارها ولياذها بكل مُنطلِق فأنت تجد في كل الناس إلا في صاحبها مقنعًا ومَعدَلًا وما إن تزال مقبلًا منه على مدبر عنك حتى تنكص عنه غالبًا كمغلوب، وتنقلب طالبًا كمطلوب؛ وأنا لا أدري ولا جرم ما الذي زين لفلان أن يكون صاحب رأي في العربية وآدابها، وأن يتمحل لرأيه ويشتد للنضال عنه ولا يعدوَ بالخصومة فيه من لا يُقازُه عليه؛ أذلك حين بذلت له اللغة مَقادَتها أم حين جمحت عنه؛ وحين استطاع له علمه أم حين طوع له وهمه؛ وما فلان هذا والعربية وآدابها والمراءَ في كل ذلك، وهو بعدُ في حاجة من هذا العلم إلى استئناف الطفولة كرة أخرى. . . إن التوى عليه أمر اللغة منذ
دارسَهُ فيها طلبة يسمونهم معلمين فلم يفيدوه من المعرفة حتى ولا معرفة كيف
يعلم نفسه. . . رمى هذه اللغةَ بالنقص وجعل الكمال لله ثم له.
فأراد أن يحيلها عن وضع رآها منحرفة فيه، وما انحرف بها إلا حولُ عينه، فذهب في طنطنته الضئيلة كل مذهب. وافترش لسانهْ البكيء فيما يسميه جديدًا وفلسفة جديدة وهل اللغة إلا علم بعد أن انقضت فينا الفطرة واختبلت الألسنة؛ وهل يناظر في كل علم إلا أهله؟
ولم لا ينصب هذا وأمثاله لمن يقوم على أداة من الآلات
البخارية فيقول له لو كانت هذه القطعة مكان تلك، ولو كان هذا التركب القبيح أجمل - مما هو، ولو أخرتَ أو قدمت، ولو زدت أو أقللت، ولو نقضت أو أقمت، فعلت وفعلت. . .؟ وليت شعري ما يكون أمره وأمر صاحبه ذاك وكيف يراه ويرى فيه من قول كله في وحصر وعلم كله جهل وفضول.
ألم يَأنِ أن يعلم هؤلاء أن من الرأي غرَرًا، وأن راكب الخطر من ذلك
إنما يركب رأسه، وأن الأمة لم توقَف شرعًا على فرد ولا أفراد، وأن في
1 / 36