ثم أرسلت بلقيس إليه - صلوات الرحمن عليه - ثانيا: إني قادمة إليك عن قريب فيهأت أسبابه حتى تخرج، وجعلت سريرها داخل سبعة أبواب في قصرها، وقصرها داخل سبعة قصور، وأغلقت على الأبواب كلها، وجعلت عليها حرسا متعددة، وارتحلت إلى سليمان، فلما دنت إليه رأى سليمان حين كان على سريره جما غفيرا من السواد مسيرة فرسخ فسأل عنهم، فقالوا: بلقيس أتت بجنودها مطيعين مسلمين.
{ قال } سليمان لمن حوله من الج والإنس: { يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني } ويحضروا عندي { مسلمين } [النمل: 38] مؤمنين؛ إذ بعدما أتوا لا يجوز إتيان عرشها إلا بإذنها؛ إذ لا يصح نقل مال المسلم إلا بإذنه.
{ قال عفريت } أي: خبيث مارد { من الجن } اسمه ذكوان أو صخرا: { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } أي: مجلسك الذي تجلس عليه أنت للحكومة؛ إذ من دأبه الجلوس إلى وقت الزوال؛ يعني: آتيك به قبل إتيانها { وإني عليه } أي: على حمل عرشها { لقوي } أحمله بلا تزلزل أركانه وقوائمه { أمين } [النمل: 39] لا أتصرف منه شيئا من زينته وجواهره، فاستبطأ عليه السلام إتيانه، وطلب أسرع من ذلك.
{ قال الذي عنده علم } فائض له { من الكتاب } أي: من حضرة العلم الإلهي المعبر بالقضاء واللوح المحفوظ، وعالم الأسماء والأعيان الثابتة، به يقدر على إحضار شيء وإعدامه دفعة، وكان هو وزيره آصف بن برخية، قد انكشف عليه خواص الأسماء الإلهية ففعل بها ما فعل: { أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } أي: قبل أن تعيد وتطبق أجفانك حين نظرك، وهذا كناية عن كمال الرسعة والعجلة، فأتى به طرشفة عين { فلما رآه } أي: سليمان العرش { مستقرا عنده } قبل إتيان بلقيس { قال } سليمان عليه السلام متوجها إلى ربه، مذكرا نعمه الفائضة على نفسه، مجددا الشكر إياها: { هذا } أي: حضور العرش العظيم الثقيل في غاية الثقل والعظمة في آن و احد، مع أنه كان في مسافة بعيدة { من } جملة { فضل ربي } علي، ومن عداد جلائل إنعامه وأفضاله إلي.
إنما تفضل سبحانه علي بهذا { ليبلوني } ويختبروني { أأشكر } بمواظبة شكر نعمه المتواترة علي، بحيث أعجز عن أداء حق شكره، وأعترف بالعجز والقصور عن إحاطة نعمه، فيكف أداء حقوقها؟! { أم أكفر } لنعمه، ولا أقسيم بمقام الشكر عليها، وإن الإقامة والتوفيق عليها أيضا من جملة نعمه وفضله وكرمه، ولا عائدة من شكرنا إليه سبحانه؛ إذ هو منزه عنها؟! بل { ومن شكر } على نعم الحق، وصرفها على مقتضى ما جبلها الحق لأجله { فإنما يشكر } الشاكر { لنفسه } لازدياد النعم عليها بمزيد الشكر { ومن كفر } فإنما يكفر لنفسه بانتقاص النعم عليها { فإن ربي غني } في ذاته عن جميع العوائد { كريم } [النمل: 40] جواد لا يعلل فعله بالأغراض وإنعامه بالأعواض.
[27.41-44]
ثم لما دنت بلقيس مع من معهها من أشراف قومها بالدخول على سليمان عليه السلام والعرش عنده { قال } لمن حوله: { نكروا لها عرشها } حين جلست؛ أي: غيروا بعض أوضاعه وزينته { ننظر أتهتدي } وتتعقل أنه هو { أم تكون من الذين لا يهتدون } [النمل: 41] لاستحالة أن يكون هذا هو عادة؟ إنما قصد به عليه السلام اختبار عقلها ورشدها واستعدادها للإيمان بالمغيبات والمستبعدات الخارقة للعادات، فغير عرشها على الفور، وقد بنى سليمان صرحا ممردا من قوارير ووضع سريره فيها، وهي على الماء، ومن غاية صفائها لا يتميز عن الماء، وفي الماء حيوانات مائية المولد من الحوت والضفدع وغيرها.
{ فلما جآءت } بلقيس، وهو في ذلك الصرح على السرير { قيل } لها أولا: { أهكذا عرشك قالت } بعدما أمعنت نظرها نحو العرش: { كأنه هو } أتت بكلمة التشبيه، وقد تحقق عندها أنه هو؛ صيانة لنفسها عن الكذب { و } بعدما تفرست منه التصديق لقولها بادرت إلى تصديق نبوته، فقالت: لا حاجة لا إلى اختبارك بأمثال هذه المعجزات حتى نؤمن لك؛ إذ { أوتينا } المتعلق منا بصدقك وتصديق نبوتك { العلم من قبلها } أي: قبل ظهور هذه المعجزة الخارقة للعادة بأمور اختبرناك بها { وكنا مسلمين } [النمل: 42] منقادين لك، مسلمين نبوتك وتأييدك من قبل الحق.
{ و } من فضل الله إياها أنه { صدها } وصرفها بعدما ظهر عندها نبوة سليمان عليه السلام { ما كانت تعبد من دون الله } يعني: صرفها الحق عن عبادة الشمس؛ إذ عبدتها تقليدا لأسلافها { إنها كانت } منتشئة { من قوم كافرين } [النمل: 43] جاحدين لله، عابدين للشمس.
ثم { قيل } أي: قال سليمان عليه السلام آمرا { لها ادخلي الصرح } فبادرت إلى الإجابة { فلما رأته } أي: القصر { حسبته لجة } فيها أنواع الحيوانات المائية { وكشفت عن ساقيها } أي: رجليها؛ لتدخل فيها، فلما رأى سليمان ساقيها، وقد أخبر أن ساقيها لا كساق الإنسان؛ لذلك احتال بناء قصر القوارير؛ حتى يظهر عنده هل هو مطابق للواقع أم لا؟ فلما رأها أحسن ساقا قدما، لكن على ساقيها شعر صرف وجهه عنها مستغفرا، ثم { قال } لها: { إنه صرح ممرد } أي: بنيان مملس مصنوع { من قوارير } أي: من زجاج فأرخت ذيلها فدخلت، وبعدما رأت اللجة ظنت أنه يستغرقها بها عمدا، فلما ظهر عندها خلافه { قالت } مستغفرة عن سوء ظنها إياه: { رب إني ظلمت نفسي } بهذا الظن الفاسد عن نبي الله { وأسلمت مع سليمان لله } الواحد الأحد، المستقل بالألوهية والربوبية؛ لكونه { رب العالمين } [النمل: 44] لا رب له سواه، ولا إله إلا هو.
Bilinmeyen sayfa