وإما أن الشمس ما هي في ذته والقمر ما هو؟ والارتباط بينهما على أي وجه فسر؟ لا يحوم حوله عقول أحد من خلقه، بل مما استأثر الله به في علمه، فلا يسأل عنه أحد، بل { هي } أي: الاختلافات الواقعة في القمر زيادة ونقصانا، ترقيا وتنزيلا لأجل أنه { مواقيت } معينة { للناس } في أمور معاشهم من الآجال المقدرة؛ لقضاء الديون والعدة وتعليقات المتعلقة بها، وغير ذلك من التقديرات الجارية في المعاملات بين الناس في العادات والعبادات { و } خصوصا في { الحج } والصوم والنذر المعينة، فإنها كلها تضبط باختلافات إلى غير ذلك من العبادات المؤقتة { و } كما أن سؤالكم هذا ليس من الأمور المبرورة المتعلقة لدينكم وتوحيدكم كذلك { ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها } لا من أبوابها.
الأنصار كانوا إذا أحرموا للحج لم يدخلوا من أبواب البيوت، بل يثقبون ظهورها ويدخلون منها يعدون هذه الفعلة من الأمور المبرورة ويعتقدونها كذلك، لذلك نبه سبحانة على خطئهم، وأرشدهم إلى البر الحقيقي بقوله: { ولكن البر } المقبول عند الله بر { من اتقى } عن محارم الله مطلقا حين لبس الإحرام؛ إذ الإحرام للموت الإرادي المعبر عنه بلسان الشرع بالحج بمنزلة الكفن للموت الطبيعي، فكا أن لابس الكفن محفوظ عن جميع المحارم اضطرارا، كذلك لابس الإحرام لا بد أن يتقي نفسه عن جميع المحارم إرادة واختيارا { و } إذا لم يكن الدخول من ظهور البيوت وثيقة من البر { أتوا البيوت من أبوابها } مغمضين عيونكم عن محارم الله { واتقوا الله } مخلصين له خائفين منه { لعلكم تفلحون } [البقرة: 189] رجاء أن تفوزوا بالفلاح من عند الله بسبب تقواكم.
{ و } من جملة الحدود الموضوعة فيكم: القتال مع أعداء دينكم { قاتلوا في سبيل الله } مع المشركين المعرضين عن طريق الحق، المائلين عنه تعنتا واستكبارا وخصوصا مع { الذين يقاتلونكم } ويقصدون استئصالكم بادين للقتال مجترئين عليها { ولا تعتدوا } ولا تتجاوزوا أيها المؤمنون عما نهيتم عنه من قتل المعاهد، والفجر والاقتحام فجأة، والمقاتلة في الحرم وفي الشهور المحرمة، والابتداء بالمقاتلة وغير ذلك { إن الله لا يحب المعتدين } [البقرة: 190] المتجاوزين عن الحدود والعهود.
[2.191-194]
{ و } إن اجتمعوا لقتالكم وتوجهوا نحوكم { اقتلوهم حيث ثقفتموهم } أي: في أي مكان وجدتموهم { وأخرجوهم } إن ظفرتم عليهم { من حيث أخرجوكم } أي: مكة { و } ألقوا بينهم الفتن والاضطراب وأوقعوهم في حيص بيص ؛ إذ { الفتنة أشد } أثرا { من القتل } لأن أثر القتل منقطع به وأثر الفتنة مستمر دائم غير منقطع { و } عليكم المحافظة للعهود خصوصا { لا تقاتلوهم } وأنتم بادون للقتل { عند المسجد الحرام } الذي حرم فيه إزالة الحياة مطلقا { حتى يقاتلوكم فيه } وهم بادون معتدون عن حدود الله { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } بعد فيه أيضا قائلين: { كذلك جزآء الكافرين } [الكافرين: 191] الهاتكين حرمة بيت الله.
{ فإن انتهوا } عن الكفر والقتال مع المؤمنين وآمنوا على وجه الإخلاص { فإن الله } المطلع لضمائرهم { غفور } لما صدر عنهم من الكفر { رحيم } [البقرة: 192] لهم بما ظهر منهم من الإيمان والإسلام.
{ وقاتلوهم } أيها المؤمنون إلى أن تستأصلوهم { حتى لا تكون فتنة } أي: لا يتبقى فتنة يفتتنون بها ويشوشون منها { ويكون الدين } كله { لله } بلا مزاحم ولا مخاصم { فإن انتهوا } عن كفرهم بلا مقاتلة ودخلوا في دين الإسلام طائعين { فلا عدوان } ولا عداوة باقيا لكم معهم، بل هم إخوانكم في الدين { إلا على الظالمين } [البقرة: 193] أي: مع الظالمين منهم المجاوزين عن الحدود والعهود، المصرين على ما هم عليه من الكفر والجحود.
وبعا ما قاتل المشركون مع المؤمنين عام الحديبية في ذي القعدة الحرام، عزم المؤمنون الخروج إلى مكة لعمرة القضاء أيضا فيها في السنة الثانية وهم يكرهون القتال؛ لئلا يهتكوا حرمة شهرهم هذا كما هتكوا، أنزل الله عليهم هذه الآية فقال: { الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي: لا ينالوا ولا يمتنعوا عن القتال فيه؛ إذ هتككم حرمة شهركم في هذه السنة بسبب هتكهم حرمته في السنة السابقة، فيؤول كلا الهتكين إليهم { والحرمات قصاص } أي: و اعلموا أن الحرمات التي يجب محافظتها وعدم هتكها يجري فيها القصاص بالمثل، فلما هتكوا حرمة هذا الشهر في السنة السابقة، فافعلوا معهم في هذه السنة بمثله ولا تجاوزوا عنه { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وهذا أيضا من الحدود الموضوعة بينكم لإصلاح حالكم وتهذيب أخلاقكم { واتقوا الله } أن تتخلفوا عن حدوده بالإقدام على ما نهيتم عنه، والإعراض عما أمرتم به { واعلموا } أيها المؤمنون { أن الله } المدبر لكم المصالح لأحوالكم { مع المتقين } [البقرة: 194] منكم، وهم الذين يحفظون نفوسهم عن محارم الله ومنهياته، ويرغبونها نحو أوامر الله ومرضياته.
[2.195-196]
{ و } من جملة الأخلا الموضوعة فيم: الإنفاق في فواضيل أمولكم إلى الفقراء والمساكين الذين أسكنهم الاحتياج والإسكان في زواية الخمول { أنفقوا } أيها المؤمنون { في سبيل الله } مقتصدين فيه بين طرفي التبذير والتقتير المذمومين عند الله وعند المؤمنين { ولا تلقوا بأيديكم } أنفسكم { إلى التهلكة } والمشقة بالإسراف والتضييع أو بالبخل والتقتير؛ إذ بالبخل تبقى النفس في ظلمة الإمكان وتوطن في وحشة الحرمان والخذلان { و } من جملة أخلاقكم الإحسان { أحسنوا } أيها المتوجهون إلى فضاء التوحيد أخلاقكم وأعمالكم وجميع أوصافكم؛ إذ ما من نبي ولا وليذ إلا هو مجبول على حسن الأخلاق والشيم المقتبسة من أخلاق الله سبحانه، لذلك استحقوا الخلافة والنيبة { إن الله يحب المحسنين } [البقرة: 195] المتفضلين بالأموال والأعمال.
Bilinmeyen sayfa