328

{ و } بعدما علم الله منكم ما فعلتم ونقضتم من الأيمان { لا تكونوا } في نقضها وعدم وثوقها { كالتي } أي: كالمرأة التي { نقضت } ونفقيت { غزلها من بعد قوة } أي: بعدما غزلتها وفتلتها قوية محكمة نقضتها { أنكاثا } بلا غرض يترتب على نقضها سوى الجنون والجزن، فأنتم كذلك في نقضكم أيمانكم الوثيقة بذكر الله وعلمه بلا غرض منكم يتعلق بنقضها سوى أنكم { تتخذون أيمانكم } أي: نقضها { دخلا } أي: خديعة ومكيدة واقعة { بينكم } محفوظة إلى { أن تكون } وتقع { أمة } قوية { هي أربى } أيك أقوى وأزيد عددا وعددا { من أمة } أنتم تحلفون معهم، فتنقضون حلف الأمة الضعيفة، وتتبعون القوية بعد نقض العهود واليمين، وما هذا إلا مكر وخديعة مع الله، ومع عباده { إنما يبلوكم } ويختبركم { الله به } أي: بازدياد القوية؛ لكي يظهر أتمسكون إيمانكم أم تنقضون { وليبينن } ويوضح { لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون } [النحل: 92] فيثيبكم بالوفاء، ويفضحكم ويعاقبكم بالنقض.

{ ولو شآء الله } القادر على جميع المقدورات هدايتكم جميعا { لجعلكم } وخلقكم { أمة واحدة } منفقة على الهداية والإسلام { ولكن } حكمته تقتضي خلاف ذلك، ولذلك { يضل من يشآء } على مقتضى قهره وجلاله { ويهدي من يشآء } على مقتضى لطفه وجماله { ولتسألن } وتحاسبن كل منكم في يوم الجزاء { عما كنتم تعملون } [النحل: 93] إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.

وبعدما أشار سبحانه إلى قبح المكر والخديعة باليمين والحلف ترويجا لما في نفوسهم من الظلم والعدوان صرح بالنهي تأكيدا ومبالغة؛ ليحترز المؤمنون على أمثاله، فقال: { ولا تتخذوا } أيها المؤمنون { أيمانكم } ومواثقيكم { دخلا } أي: مفسدة مبطنة مخفيفة { بينكم } ترويجا لكذبكم { فتزل قدم } أي: قدم كل منكم عن شعائر الإيمان { بعد ثبوتها } واستقرارها فيها { وتذوقوا السوء } العذاب في النشأة الأولى { بما صددتم عن سبيل الله } أي: بسبب ميلكم وانحرافكم عن طريق الحق الذي هو الوفاء بالعهود والمواثيق { ولكم } بارتكاب المنهي { عذاب عظيم } [النحل: 94] في النشأة الأخرى بأضعاف ما في الأولى.

{ و } أيضا { لا تشتروا } ولا تستبدلوا وتأخذوا أيها المؤمنون { بعهد الله } أي: بنقض عهده، والارتداد عن دينه { ثمنا قليلا } أي: حطاما دنيويا { إنما عند الله } لوفائكم بعهده، وثباتكم على دينه أجر عظيم أخروي { هو خير لكم } لبقائه وعدم زواله ودوام لذته { إن كنتم تعلمون } [النحل: 95] خيريته لاخترتم ألبتة.

وكيف لا يكون ما عند الله خيرا؛ إذ { ما عندكم } من حطام الدنيا ومزخرفاتها { ينفد } أي: يزول ويضمحل { وما عند الله } من اللذات الأخروية، والمعارف اليقينية { باق } بقاء أبديا سمرديا إلى ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله.

ثم قال سبحانه: { ولنجزين الذين صبروا } على ما فوتوا من الأعراض الدنيوية؛ بسبب ثباتهم وتقررهم على الأمور الأخروية، ولم ينقضوا العهود والمواثيق المتعلقة بالدين، ولم يتسبدلوا الأعلى الباقي بالأدنى الفاني، ولحقهم بذلك ما لحقهم من المحن والشدائد القاحلة، وضاع عنهم ما ضاع من لذاتها وشهواتها، فصبروا على جميع ما أعطيناهم { أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [النحل: 96] أي: لنجزينهم ونثيبنهم بجزاء أحسن من مقتضى عملهم؛ لوفائهم على عهودنا ومواثيقنا، وجريهم على مقتضى أمرنا ونهينا.

{ من عمل } منكم عملا { صالحا } لقبولنا، ناشئا { من ذكر } منك { أو أنثى و } الحال أنه { هو } في حين العمل { مؤمن } موحد بالله، مصدق لرسل والكتب المنزلة إليهم، ممتثل بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، طالب للترقي من العلم إلى العين، ثم إلى الحق { فلنحيينه } بعد فنائه عن لوازم بشريته وموته، وانخلاعه عن مقتضيات أوصاف بهيميته بإرادته واختياره { حياة طيبة } معنوية خالصة عن وصمة الموت والفوت مطلقا، خالية من شوب الزوال والانقضاء، صافية عن الكدورات المتعلقة للحياة الصورية { و } بالجملة: { لنجزينهم أجرهم } أي : أجر عملهم وصبرهم عن مقتضيات القوى البشرية، والحياة الصورية { بأحسن ما كانوا يعملون } [النحل: 97] أي: أحسن وأوفر من جزاء عملهم الذي جاءوا به حين كانوا سائرين إلينا، طالبين الوصول إلى صفاء توحيدنا.

[16.98-106]

ومن جملة الأعمال الصالحة المثمرة للحياة الطيبة المعنوية، بل من أجلها: قراءة القرآن المشتمل على المعارف والحقائق، والمكاشفات والمشاهدات المترتبة على سلوك طريق التوحيد والعرفان { فإذا قرأت القرآن } أي: قصدت قراءته أيها القارئ الطالب لاستكشاف غوامض مرمزاته، ومعضلات إشاراته { فاستعذ } والتجأ أولا { بالله } المتجلي بصفة الكلام المعجز لقاطبة الأنام، الحفيظ لخلص عباده من جميع ما لا يعنيهم من المعاصي والآثام { من } وساوس { الشيطان الرجيم } [النحل: 98] المطرود والمعبد عن ساحة عز الحضور برجوم آثار الأوصاف القهرية الإلهية، ومن غوائله وتسويلاته التي هي جنود الهوى والغفلة، والتخيلات الباطلة، والتوهمات المثيرة لأنواع الأماني والشهوات.

{ إنه ليس له سلطان } أي: استيلاء وغلبة { على الذين آمنوا } بتوحيد الله، وأيقنوا بحقية كتبه ورسله، وباليوم الموعود وما فيه من العرض والجزاء { و } مع ذلك { على ربهم } ومربيهم لا على غيره من الأسباب الوسائل العادية { يتوكلون } [النحل: 99] ويسلمون ويسندون جميع أمورهم إليه أصالة.

Bilinmeyen sayfa