319

بل هم من أدون المخلوقات؛ لأنهم { أموات } أي: جمادات لا شعور لها أصلا؛ لأنهم { غير أحيآء } أي: غير ذي حس وحركة إرادية { و } كذلك { ما يشعرون } شعور الحيوانات { أيان يبعثون } [النحل: 21] أي: إلى أن يحشرون ويساقون من المرعى، فهم في أنفسهم أدى وأخص من الحيوانات العجم، فيكف تتأتى منهم الألوهية المستلزمة للاطلاع على جميع المغيبات الجارية في العوالم كلها اطلاع حضر وشهود؟!.

بل { إلهكم } الذي أوجدكم من كتم العدم، وأظهركم في فضاء الوجود { إله واحد } أحد صمد، لم يكن له كف، ولا شريك

ليس كمثله شيء

[الشورى: 11]، إنما يظهر وينكشف توحيده سبحانه لأولي العزائم والنهي، من أرباب المحبة والولاء في النشأة الأولى والأخرى { فالذين لا يؤمنون بالآخرة } المعدة لشرف اللقاء { قلوبهم منكرة } بلقاء الله فيها { وهم } من شدة شكيمتهم، وكثافة حجبهم مع إنزال الكتب المبينة لأحوالها وأهوالها، والرسل المنبهين لهم عليها { مستكبرون } [النحل: 22] مترددون عتوا وعنادا.

لذلك { لا جرم } أي: حقا على الله يعذبهم، مع { أن الله } المطلع لسرائرهم وضمائرهم { يعلم } بعلمه الحضوري { ما يسرون وما يعلنون } من الكفر والضلال، فيجازيهم على مقتضى علمه بحالهم، ولا يحسن إليهم سبحانه بدل إستاءتهم؛ لأنهم مستكبرون { إنه } سبحانه { لا يحب المستكبرين } [النحل: 23] لاشتراكهم معه سبحانه في أخص أوصافه؛ إذ الكبرياء مخصوص به، لا يسع لأحد أن يشارك معه فيه.

{ و } من غاية عتوهم واستكبارهم { إذا قيل لهم } على سبيل الاستفسار: { ماذآ أنزل ربكم } على نبيكم { قالوا } على سبيل التهكم والاستهزاء: ما أنزل ربه إلا { أساطير الأولين } [النحل: 24] أي: الأكاذيب والأرجفة التي سطرها الألولون فيما مضى من تلقاء نفوسهم.

وإنما قالوا ذلك وشاعوا به بين الأنامه { ليحملوا أوزارهم } وآثامهم { كاملة } بلا تخفيف شيء منها ولا نقصان؛ ليؤاخذوا عليها { يوم القيامة و } يحملوا أيضا { من أوزار الذين يضلونهم } من ضعفاء الناس بقولهم هذا إياهم، مع أنهم خالية الأذهان { بغير علم } يتعلق منهم بالقبرآن وإعجازه، ومع ذلك لا يعذرون؛ لعدم التفاتهم إلى التأمل والتدبر حتى يظهر عليهم حقيته وبطلان قولهم { ألا سآء ما يزرون } [انحل: 25] المضلون بضلالهم، والضالون بضلالهم، وعدم تأملهم وتدبرهم، مع أنهم مجبولون على التأمل والتدبر.

هذا التكذيب والإضلال، والتهكم والاستهزاء من الأمور الحادثة بين أولئك الهالكين في تيه الشرك والطغيان، بل من ديدنهم القديمة، وعادتهم المستمرة؛ إذ { قد مكر الذين } مضوا { من قبلهم } واحتالوا لإضلال العوام، وبنوا أبنية رفيعة للصعود إلى السماء، والمقاتلة مع سكانها وإلهها، ثم لما تم بنيانهم وقصورهم { فأتى الله بنيانهم } أي: أتى أمره سبحانه بإهلاكهم وتعذيبهم بهدم بنائهم { من القواعد } والأعمدة والأساس التي بنيت عليها البناء، فتضعضعت وتحركت الدعائم { فخر عليهم السقف من فوقهم } وهم تحته متمكنون مترفهون، فهلكوا { و } بالجملة: { أتاهم العذاب } بغتة { من حيث لا يشعرون } [النحل: 26] أماراتها قبل نزوله.

[16.27-33]

{ ثم } بعد تعذيبهم في النشأة الأولى { يوم القيامة يخزيهم } أي: يخذلهم الله، ويرديهم بتكذيب كلام الله ورسوله { ويقول } لهم سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع: { أين شركآئي الذين كنتم } أيها الضالون المضلون، والمنهمكون في الغي والضلال { تشاقون } وتعادون { فيهم } أي: في حقهم وشأنهم المؤمنين، وتعارضون معهم بادعاء الألوهية لأولئك التماثيل العاطلة الباطلة، ادعوهم حتى ينجوكم ويخصلوكم من عذابي وبطشي { قال الذين أوتوا العلم } من الأنبياء ةالرسل، وخلفائهم الذين دعوهم إلى الإيمان فلم يؤمنوا، بل يكذبونهم وينكرون عليهم، وعلى دينهم ونبيهم حين أبصروا أخذ الله إياهم شامتين لهم، متهكمين عليهم: { إن الخزي } أي: الذلة والصغار { اليوم والسوء } المفرط المجاور عن الحد نازل { على الكافرين } [النحل: 27] المستكبرين الذين كذبوا الرسل، وأنكروا الكتب، واستهزءوا معهم.

Bilinmeyen sayfa