{ و } اذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين أيضا قصة { إذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } أي: العهد الوثيق من بني إسرائيل المفرطين في بعض العهود والمواثيق، بأن قلنا لهم: { لا تعبدون } أي: لا تتوجهون ولا تتقربون { إلا الله } الذي أظهركم من العدم ورتبكم ورباكم بأنواع اللطف والكرم، لكي تعرفون { و } لا تفعلون ولا تعاملون { بالوالدين } المربيين لكم باستخلاف الله إياهما إلا { إحسانا } محسنين معهما بخفض جناح الذل وبذل المال وخدمة البدن { و } مع ذلك كذا مع { ذي القربى } المنتمين إليهما بواسطتهما { و } لا يقهرون { اليتامى } الأطفال الذي لا متعهد لهم من الوالدين، بل تحسنون لهم وتتعطفون معهم { و } كذا مع { المساكين } الذين لا يمكنهم الكسب لعدم مساعدة إلا أنهم بالجملة { وقولوا للناس } أي: لجميع الأجانب المستغنين عن جميع الأمداد { حسنا } قولا حسنا هينا لينا مبينا عن المحبة والوداد.
{ و } لما أمرناهم ونهيناهم بما يتعلق بمبدئهم ومعاشهم أمرناهم أيضا بما يتعلق بمعادهم ورجوعهم إلينا، فقلنا لهم { أقيموا } أديموا { الصلاة } التي هي معراجكم الحقيقي إلى ذروة التوحيد { و } العروج إليها لا يتحقق إلا بترك العلائق وطرح الشواغل لذلك { آتوا الزكاة } المطهرة المزيلة عن نفوسكم محبة الغير والسوى، بل محبة نفوسكم الشاغلة عن الوصول إلى شرف اللقاء { ثم } لما اشتغلتم بالأمر والنواهي نقضتم العهود بأن { توليتم } أعرضتم عنها، ونبذتموها وراء ظهوركم { إلا قليلا منكم } وهم الذين ذكرهم الله في قوله:
إن الذين آمنوا والذين هادوا
[البقرة: 62] { وأنتم } قوم { معرضون } [البقرة: 83] شأنكم الإعراض عن الحق مستمرمين عليه.
{ و } كيف لا تكونون معرضين، اذكروا قبح صنيعكم وقت { إذ أخذنا ميثاقكم } بأن { لا تسفكون دمآءكم } أي: لا يسفك بعضكم دم بعض بلا موجب شرعي { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } أي: لا يخرج بعضكم بعضا من دياره تعديا وظلما { ثم أقررتم } طوعا، واعترفتم رغبة بهذا العهد { وأنتم } بأجمعكم { تشهدون } [البقرة: 84] تحضرون، وكلكم متفقون عليه.
{ ثم أنتم هؤلاء } الخبيثون الدنيئون، نقضتم العهد بعد توكيده بأن { تقتلون أنفسكم } بعضكم نفس بعض بغير حق { وتخرجون } أي: يخرج بعضكم { فريقا } بعضا { منكم من ديارهم } المألوفة إجلاء وظلما وأنتم بأجمعكم { تظاهرون } تعينون { عليهم } على المخرجين الظالمين { بالإثم } أي: الخصلة الفاحشة { والعدوان } أي: الظلم المتجاوز عن الحد { و } من جملة عهودكم أيضا: { إن يأتوكم } أي: يأتي بعضكم بعضا { أسارى } موثقين في يد العدو { تفادوهم } تعطوهم فديتهم وتنقذوهم من عدوهم تبرعا، فلا ينقضون هذا العهد مع أنه غير محرم عليك ترك فدائهم وينقضون العهد الوثيق المتعلق بالقتل والإخراج { و } الحال أنه { هو محرم عليكم إخراجهم } وقتلهم.
{ أفتؤمنون ببعض الكتاب } وتوفون بعض العهد الثابت في الكتاب، وهو عهد الفدية { وتكفرون ببعض } وهو عهد عدم القتل والإجلاء مع أنه لا تفاوت بين العهود المنزلة من عند الله { فما جزآء من يفعل ذلك منكم } التفرقة بين عهود الله المنزلة في كتابه عتوا واستكبارا { إلا خزي } ذل يستكره جميع الناس { في الحياة الدنيا ويوم القيامة } القائمة للعدل والجزاء { يردون } هؤلاء الناقضون لعهد الله { إلى أشد العذاب } وهو قعر بحر الإمكان الذي لا نجاة لأحد منه { وما الله } المستوي على عروش الذرات الكائنة في العالم رطبها ويابسها، شهادتها وغيبها { بغافل } مشغول بشيء يشغله { عما تعملون } [البقرة: 85] أنتم بل شأنكم وحالكم وأعمالكم كلها عنده مكشوف معلوم له سبحانه بالعلم الحضوري، بحيث لا يشذ عن حيطة علمه شيء فيها أصلا.
[2.86-88]
ولما ذكر سبحانه قبح معاشهم ومعادهم أراد أن ينبه على المؤمنين بأسباب مقابحهم وإعراضهم ليحذروا منها ويحترزوا عنها فقال مشيرا لهم: { أولئك } البعداء عن منهج الصدق والصواب هم { الذين اشتروا } استبدلوا واختاروا { الحياة الدنيا بالآخرة } الفانية غير القارة، بل اللاشيء المحض بالآخرة التي هي النعيم الدائم واللذة المستمرة والحياة الأزلية السرمدية { فلا يخفف عنهم العذاب } أي: عذاب الإمكان والافتقار لذلك { ولا هم ينصرون } [البقرة: 86] فيما هو متمناهم من الحوائج، بل دائما مفترضون محتاجون، مسودة الوجوه في النشأتين.
واذكر يا أكمل الرسل للمؤمنين أيضا من قبح صنائعهم ليعتبروا: { ولقد آتينا موسى } المبعوث إليهم { الكتاب } أي: التوراة المشتملة على مصالحهم الدنيوية والأخروية فكذبوه، ولم يلتفتوا إلى كتابه { و } بعدما قضى وانقرض موسى { قفينا } أي: عقبناه { من بعده بالرسل } المرسلة إليهم، أولي الدعوات والآيات والمعجزات، فكذبوهم أيضا ولم يلتفتوا بما جاءوا به { و } بعد ذلك بزمان { آتينا } أيضا { عيسى } المبعوث إليهم { ابن مريم البينات } الواضحات المبينات لأمر معاشهم ومعادهم { و } مع ذلك { أيدناه } أي: خصصناه وقويناه { بروح القدس } بالروح المقدس عن رذائل الإمكان، فكذبوه أيضا، فأرادوا قتله ولم يظفروا عليه، ألم تكونوا أنتم أيها الناقضون للعهود والمواثيق { أفكلما جآءكم رسول } من الرسل من عند ربكم لإصلاح حالكم { بما لا تهوى } تحب وترضى { أنفسكم } اشتغلتم بما جاءوا به بل { استكبرتم } عليهم واستحقرتموهم { ففريقا كذبتم } كموسى وعيسى عليهما السلام { وفريقا تقتلون } [البقرة: 87] كزكريا ويحيى - عليهما السلام - والقوم الذين شأنهم هذا كيف يرجى منهم الفلاح والفوز بالنجاح.
Bilinmeyen sayfa