[الزمر: 15].
[2.65-71]
وكيف لا تكونون من الخاسرين الناقضين للعهود، وأنتم قوم شأنكم هذا { و } الله { لقد علمتم } وخفظتم قصة { منكم في } تجاوزوا عن العهد { الذين اعتدوا } زمن داود عليه السلام واصطياد يوم { السبت } ذلك أنهم سكنوا على شاطئ البحر بقرية، يقال لها: أيلة، وكان معاشهم من صيد البحر فأرسل الله عليهم داود عليه السلام، فدعاهم فآمنوا له، وعهد الله معهم على لسان داود بألا يصطادوا في يوم السبت، بل تعينوها وتخصصوها للتوجه والتعبد، فقبلوا العهد وكانت حيتان البحر بعد العهد يحضرون في يوم السبت على شاطئ البحر ويخرجن خراطيمهن من الماء، ولما مضى عليها زمان احتالوا لصيدها بأن حفروا حياضا وأخاديد على شاطئ البحر وأحدثوا جداول منه إليها، فلما كان يوم السبت يفتحون الجداول ويرسلون الماء في الحياض واجتمعت الحيتان فيها، وفي يوم الأحدا يصطادونها منها، ونقضوا عهد الله بهذه الحيلة، قال الله تعالى: لما أمهلناهم زمانا ظنوا أنهم خادعوا ثم انتقمنا منهم { فقلنا لهم } إذا أفسدتم لوازم الإنسانية؛ أي: العهود والتكاليف أفسدنا أيضا إنسانيتكم { كونوا } صيروا في الساعة { قردة خاسئين } [البقرة: 65] مهانين مبتذلين، فسمخوا عن لوازم الإنسانية من العلم والإرادة والمعرفة والإيمان، ولحقوا بالبهائم بل صاروا أسوأ حالا منها.
{ فجعلناها } أي: قصة مسخهم وشأنهم { نكالا } عبرة { لما بين يديها } من الحاضرين المشاهدين حالهم وقصتهم { وما خلفها } ممن يوجد بعد من المذكرين السامعين قصتهم وتاريخهم { وموعظة } وتذكيرا { للمتقين } [البقرة: 66] الذين يحفظون نفوسهم دائما عن أمثالها.
{ و } اذكر يا أكمل الرسل لمن تبعك من المؤمنين من سوء معاملة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام وقبح صنيعهم معه، ومجادلتهم بما جاء به من عند الله جهلا وعنادا ليتنبهوا ويتفطنوا على أن الإيمان بنبي يوجب الانقياد والإطاعة له، وترك المراء والمجدالة معه والمحبة والإخلاص معه، وتفويض الأمور إليه وهو إلى الله؛ ليتم سر الربوبية والعبودية والنبوة والرسالة والتشريع والتكاليف والتوسل والتقرب والوصول، وذلك { إذ قال موسى لقومه } حين حدثت الفتنة العظيمة بينهم وهي: إنه كان فيهم رجل من صناديدهم له أموال وضياع وعقار كثيرة، وله ابن واحد وبنوا أعمام كثيرة، فطمعوا في أمواله فقتلوا ابنه ليرثوه، وطرحوه على الباب، فأصبحوا صائحين فزعين يطالبون القاتل، فأراد الله تفضيحهم وتشهيرهم، فأمر موسى بأن قال لهم: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } فلما سمعوا قوله استبعدوه وتحيروا في أمرهم ومن غاية استبعادهم { قالوا } على طريق المعاتبة: { أ } تعتقد أنت يا موسى الداعي للخلق إلى الحق { تتخذنا هزوا } أي: تأخذنا باستهزاء وسخرية ونحن محل استهزائك مع أنه لا يلي بك وبنا { قال } موسى مستبعدا ومستعيذا: { أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [البقرة: 67] المستهزئين بالناس، بل ما أتبع إلا ما يوحى إلي.
فلما سمعوا استبراءه واستعاذته خافوا من الابتلاء فأوجس كلامهم خيفة في نفسه، لكونهم خائنين، واشتغلوا بتدبير الدفع، وشاوروا وأقر رأيهم على أن نووا في نفوسهم تلك البقرة المخصوصة المعلمة المعلومة عندهم بالشخص، وبعد ذلك سألوه عن تعيينه بأن { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أكبير أم صغير؟ { قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض } كبير في السن { ولا بكر } صغير فيه بل { عوان } متوسط { بين ذلك } الصغر والكبر استكمل النمو ولا تميل إلى الذبول، وإذا تحققتم { فافعلوا ما تؤمرون } [البقرة: 68].
ثم لما ازداد خوفهم من الفضيحة بنزول الوحي متعاقبة زادوا في الاستفسار عن التعيين مكابرة وعنادا وتسويفا حيث { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها } من الألوان المتعارفة المشهورة حتى نذبحها { قال إنه يقول إنها بقرة صفرآء فاقع } أصيل في الصفرة كأنه وضع اسم الصفرة بإزائها أولا { لونها } كلون ذهب { تسر الناظرين } [البقرة: 69] والسرور عبارة عن الانبساط والانتعاش الحاصل للقلب عند الفراعنة عن جميع الشواغل، وفي تلك الحالة يتعجب عن كل ذرة بل عن نفسه، ويؤدي تعجبه إلى التحير، فإذا تحير غرق في بحر لا ساحل له ولا قعر، أدركنا يا دليل المتحيرين.
ثم لما جزموا الإلجاء وقطعوا النظر عن الخلاص، كابروا وعنادوا أيضا مبالغين فيها حيث { قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } أي: ما هويتها وهيئتها الشخصية المعينة، وقل: { إن البقر } المأمور به { تشابه علينا } واستوصفناه منك وصفتها بالصفات المشتركة العامة { وإنآ إن شآء الله } تعيينه وتشخيصه لنا { لمهتدون } [البقرة: 70] بذبحها.
{ قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول } عجف مهزول بسبب أنها { تثير الأرض } تقلبها للزراعة { ولا } ذلول بسبب ذلتها إنها { تسقي الحرث } بالدلو والسقاية بل { مسلمة } من صغرها عن أمثال هذه المذلات { لا شية فيها } لا علامة في أعضائها من ضرب العود والسوط وغيرها، بل تأكل وتمشي هونا بلا مصرف ومراع، ولما بالغوا في الاستفسار إلى أن بلغوا ما نووا في نفوسهم ألزموا وأفحموا و { قالوا الآن جئت بالحق } الثابت الكائن في الواقع وفي نيتنا واعتقادنا.
حكي أن شيخا صالحا من صلحائهم كانت له هذه العجلة المتصفة بهذه الصفات، فذهب بها إلى " أيلة " فأودعها عند الله وقال: اللهم إني استودعتها عندك لولدي حتى يكبر، ثم مات الشيخ وكانت تلك البقرة في حمى الله وحفظه حتى كبر الولد وحدثت تلك الفتنة فيما بينهم، فأمر الله بذبح تلك البقرة على سبيل الإلجاء، فاشتروها بملء مسكها ذهبا { فذبحوها } ملجئين مكرهين { و } لولا إلجاؤها إياهم وإكراهنا لهم { ما كادوا يفعلون } [البقرة: 71] لخوف الفضيحة وغلاء الثمن.
Bilinmeyen sayfa