وقوله: من شتى: أي من جهات مفترقة متعددة، والمراد كثرة القطا الواردة عند البئر، ككثرة الأذواد الموصوفة عند المنهل.
فعبت غشاشا ثم ولت كأنها ... مع الصبح ركب من أحاظة مجفل.
العب: الجرع. والغشاش-بالغين المعجمة مكسورة وشينين معجمتين بينهما ألف-الشرب القليل أو العجل، أو غير المروي. والركب: جماعة راكبي الإبل، واحدهم راكب. واحاظة-بضم الهمزة وبالواو والمضمومة أيضًا بعدها حاء مهملة مفتوحة فألف فظاء مشالة-مدينة باليمن وأرض ينسب إليها مخلاف. والمجفل: المنهزم.
يقول: فجرعت جرعا قليلا على عجل، أو غير مرو، ثم أدبرت راجعة إلى مفاحصها في حال كونها يشبهها عند الصبح ركب منهزم كائن من أحاظة.
المعنى أنها أدبرت راجعة مسرعة في الطيران، إسراع الركب المنهزم.
والغرض من تشبيهها بالركب المجفل بيان حالها في توليتها ورجوعها، لا بيان مقدار الحال الذي هو السرعة. حتى يقال: إن مقدار الطيران فوق مقدار العدو في السرعة.
وآلف وجه الأرض عند افتراشها ... بأهدأ تنئيه سناسن قحل.
آلفه-بالفتح-مضارع ألفته، كعلمته: حصلت بيني وبينه ألفة: أي ملائمة. وافتراش الأرض: اتخاذها فراشًا، بأن يضجع عليها من غير حائل بينهما. والأهدأ-بالهمز-اسم هدئ كفرح: أي انحنى. يقال: أهدأه الكبر. وتنئيه، مضارع أناته: أي أبعده. ويروى "تثنيه". والسناسن جمع سنسن وسنسنة بالكسر فيهما: حرف فقار الظهر هنا، والقحل: جمع قاحل: وهو اليابس.
وصف نفسه بالارتياض بالمقاسات للمشقات حتى ألفها فلم يجد لها كبير ألم بعد، فأخبر عن نفسه انه يفترش الأرض فيضطجع عليها بمنكب منحني من الكبر أو من مقاساة الأهوال والشدائد. أبعدت ذلك الأهدأ عن الأرض حروف فقار الظهر اليابسة من الكبر، فلا يجد لقسلوة الأرض ألما عندما يفترشها ليبس ما يباشرها من أضلاعه وفقاره التي أبعدت عن الأرض ما يحس بها من منكبه.
قوله: "عند افتراشها" فيه إضافة المصدر إلى المفعول به. و"بأهدأ متعلق" بافتراش. و"تنئيه" نعت "لأهدا".
وتقدير البيت: وآلف وجه الأرض أي لا أتألم به عند افتراشي إياها، أي اضطجاعي عليها، بمكنب أو جنب منحني مبعد عن الأرض بأضلاع يابسة.
وقوله: "وآلف معطوف" على قوله: "وأغدو" كقوله: "أشرب. وكذا قوله:
وأعدل منحوضا كان فصوصه ... كعاب دحاها لاعب فهي مثله.
أعدل-بالكسر-مضارع عدلته بالفتح-أي أقمته والمنحوض: المهزول. وموصوفه محذوف، أي: ذراعًا منحوضًا. والفصوص جمع فص: وهو ملتقى كل عظمين. والكعاب، جمع كعب، وهو عظم ناشز في كل من جانبي القدم، ودحو الكعاب: الرمي بها، لأن في ذلك بسطا لها، الذي هو معنى الدحو، والمثل جمع الماثل أي منتصب.
يقول: وأنصب ذراعا مهزولًا تشبه مواصل عظامه كعابا رما بها على الأرض شخص لاعب بها. فهي لأجل ذلك منتصبة قائمة.
فالغرض من التشبيه هنا بيان مقدار هزال الذراع، فإنه أفاد أن ذلك في الغاية، إنما يعدل المنحوض ليتوسده.
والمعنى: أنه يفترش الأرض، ويتوسد ذراعه المهزول كما قال غيره:
يا رب سار بات ما توسدا ... إلا ذراع العيس أو عظم اليدا.
فإن تبتئس بالشنفرى أم قسطل ... فما اغتبطت بالشنفرى قبل أطول.
ابتأس: حزن والشنفرى: لقبه. واسمه عمر بن مالك الأزدي وأم قسط-بالسين والصاد أيضًا-كنية الداهية، وأي داهية أعظم من الحرب، ومن الحرب يتولد الغبار: وهو القسطل. والاغتباط: السرور.
يقول: إنه مسعر حرب، ومنجد للدواهي على قتل الأبطال فإن مات ابتأست به الدواهي والحروب، وحزنت عليه، كما كانت تسربه، على أن زمان اغتباطها به أطول. وقوله هذا تعزية لها، والتعزية في الحقيقة لنفسه.
والمعنى أنه إن قدر موته وابتأس ما ذكر فيه، فلم يكن ذلك إلا بعد أن أمات كثيرا، وأوقد نيران الحروب زمانا طويلا، وفي ذلك اغتباط الدواهي وسرورها، فلم يفته شيء تحب لأجله الحياة، إذ ذاك غاية ما كانوا يطلبون الحياة له، كما قال قطري بن الفجاءة:
فإن أمت حتف أنفي لا أمت كمدا ... على الطعان وقصر العاجز الكمد.
ولم أقل: لم أساق الموت شاربه ... في كأسه والمنايا شرع ورد
طريد جنايات تياسرن لحمه ... عقيرته لأيها حم أول.
1 / 11