وهذه الأساليب التي تركها العلم في العقول - حتى لو لم تكن قد اشتغلت به أو أسهمت بصورة مباشرة في تقدمه - هي ذلك النوع من التفكير العلمي الذي نود هنا أن ندرسه؛ فبعد أن يقدم العلماء إنجازاتهم قد لا يفهم هذه الإنجازات حق الفهم ويشارك في استيعابها ونقدها إلا قلة ضئيلة من المتخصصين، ولكن «شيئا ما» يظل باقيا من هذه الإنجازات لدى الآخرين، أعني طريقة معينة في النظر إلى الأمور، وأسلوبا خاصا في معالجة المشكلات، وهذا الأثر الباقي هو تلك «العقلية العلمية» التي يمكن أن يتصف بها الإنسان العادي، حتى لو لم يكن يعرف نظرية علمية واحدة معرفة كاملة، ولو لم يكن قد درس مقررا علميا واحدا طوال حياته. إنها تلك العقلية المنظمة التي تسعى إلى التحرر من مخلفات عصور الجهل والخرافة، والتي أصبحت سمة مميزة للمجتمعات التي صار للعلم فيها «تراث» يترك بصماته على عقول الناس.
موضوعنا إذن هو التفكير العلمي أو العقلية العلمية بهذا المعنى الواسع، لا بمعنى تفكير العلماء وحدهم، على أننا لن نتمكن من إلقاء الضوء على هذه الطريقة العلمية في التفكير إلا إذا ألممنا بشيء عن أسلوب تفكير العلماء الذي انبثقت منه تلك العقلية العلمية في مجتمعاتهم. فتفكير العلماء هو مصدر الضوء، ومن هذا المصدر تنتشر الإشعاعات في شتى الاتجاهات، وتزداد خفوتا كلما تباعدت، ولكنها تضيء مساحة أكبر في عقول الناس العاديين كلما كان المنبر الأصلي أشد نصاعة ولمعانا، ومن هنا كان لزاما علينا أن نعود - من حين لآخر - إلى الطريقة التي يفكر بها مبدعو العلم، لا في تفاصيلها الفنية المتخصصة، بل في مبادئها واتجاهاتها العامة التي هي الأقوى تأثيرا في تفكير الناس العاديين.
وفي اعتقادي أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي؛ ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم - بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية - في تكوين تراث علمي راسخ امتد - في العصر الحديث - طوال أربعة قرون، وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاها ثابتا يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه. في هذا الوقت ذاته يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في سبيل إقرار أبسط مبادئ التفكير العلمي، ويبدو حتى اليوم - ونحن نمضي قدما إلى السنوات الأخيرة من القرن العشرين - أن نتيجة هذه المعركة ما زالت على كفة الميزان، بل قد يخيل إلى المرء في ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتصار فيها أضعف من احتمال الهزيمة.
وفي هذا المضمار لا أملك إلا أن أشير إلى أمرين يدخلان في باب العجائب حول موقفنا من العلم في الماضي والحاضر:
الأمر الأول: هو أننا - بعد أن بدأ تراثنا العلمي في العصر الذهبي للحضارة الإسلامية بداية قوية ناضجة سبقتنا بها النهضة الأوروبية الحديثة بقرون عديدة - ما زلنا إلى اليوم نتجادل حول أبسط مبادئ التفكير العلمي وبديهياته الأساسية، ولو كان خط التقدم ظل متصلا - منذ نهضتنا العلمية القديمة حتى اليوم - لكنا قد سبقنا العالم كله في هذا المضمار إلى حد يستحيل معه أن يلحق بنا الآخرون. ومع ذلك ففي الوقت الذي يصعدون فيه إلى القمر، نتجادل نحن عما إذا كانت للأشياء أسبابها المحددة وللطبيعة قوانينها الثابتة أم العكس.
وأما الأمر الثاني فهو أننا لا نكف عن الزهو بماضينا العلمي المجيد، ولكننا في حاضرنا نقاوم العلم أشد مقاومة. بل إن الأشخاص الذين يحرصون على تأكيد الدور الرائد الذي قام به العلماء المسلمون في العصر الزاهي للحضارة الإسلامية، هم أنفسهم الذين يحاربون التفكير العلمي في أيامنا هذه؛ ففي أغلب الأحيان تأتي الدعوة إلى الدفاع عن العناصر اللاعقلية في حياتنا، والهجوم على أية محاولة لإقرار أبسط أصول التفكير المنطقي والعلمي المنظم، وجعلها أساسا ثابتا من أسس حياتنا؛ تأتي هذه الدعوة من أولئك الأشخاص الذين يحرصون - في شتى المناسبات - على التفاخر أمام الغربيين بأن علماء المسلمين سبقوهم إلى كثير من أساليب التفكير والنظريات العلمية التي لم تعرفها أوروبا إلا في وقت متأخر، وما كان لها أن تتوصل إليها لولا الجهود الرائدة للعلم الإسلامي الذي تأثر به الأوروبيون تأثرا لا شك فيه.
ومن الجلي أن هذا الموقف يعبر عن تناقض صارخ؛ إذ إن المفروض فيمن يزهو بإنجازاتنا العلمية الماضية أن يكون نصرا للعلم، داعيا إلى الأخذ بأسبابه في الحاضر؛ حتى تتاح لنا العودة إلى تلك القمة التي بلغناها في عصر مضى، أما أن نتفاخر بعلم قديم، ونستخف بالعلم الحديث أو نحاربه، فهذا أمر يبدو مستعصيا على الفهم.
وتفسير هذا التناقض يكمن - من وجهة نظري - في أحد أمرين؛ فمن الجائز أن أولئك الذين يفخرون بعلمنا القديم إنما يفعلون ذلك؛ لأنه «من صنعنا نحن»؛ أي إنهم يعربون بذلك عن نوع من الاعتزاز القومي ، ومن ثم فهم لا يأبهون بالعلم الحديث ما دام «من صنع الآخرين». ومن الجائز أيضا أن تأكيدهم لأمجاد العرب في ميدان العلم إنما يرجع إلى اعتزازهم «بالتراث» أيا كان ميدانه؛ ومن ثم فإن كل ما يخرج عن نطاق هذا التراث يستحق الإدانة أو الاستخفاف في نظرهم، وسواء أكان التعليل هو هذا أو ذاك، فإن الحلم الذي وصلنا إليه في الفترة الزاهية من الحضارة الإسلامية لا يمجد لأنه «علم» بل لأنه واحد من تلك العناصر التي تتيح للعرب أن يعتزوا بأنفسهم أو بتراثهم.
ولكننا إذا شئنا أن نكون متسقين مع أنفسنا، وإذا أردنا أن نتجاوز مرحلة اجترار الماضي والتغني بأمجاد الأجداد، وإذا شئنا ألا نبدو أمام العالم كما يبدو أولئك العاطلون الذين لا رصيد لهم من الدنيا سوى أن أجدادهم القدامى كانوا يحملون لقب «باشا» أو «لورد» أو «بارون»، فعلينا أن نحترم العلم في الحاضر مثلما احترمناه في الماضي، وأن نعترف بأن هذا الأسلوب في التفكير الذي كان مصدرا لاعتزازنا بأجدادنا في الماضي - أعني الأسلوب العلمي - ينبغي أن يكون هدفا من أهدافنا التي نحرص عليها في الحاضر بدوره، وأن المعركة التي يشنها الفكر المتخلف على كل من يدعو إلى المنهج العلمي في التفكير، ستقف عائقا في وجه جهودنا من أجل اللحاق بركب العصر، بل ستلقي ظلالا من الشك حول مدى إخلاصنا في التغني بأمجاد «ابن حيان» و«الخوارزمي» و«ابن الهيثم» و«البيروني»، الذين كانوا يقفون في الصف الأول من العقول التي تفكر بالأسلوب العلمي في عصورهم.
والحق أن أية محاولة لاعتراض طريق التفكير العلمي في عصرنا الحاضر إنما هي معركة خاسرة؛ فلم يعد للسؤال: هل نتبع طريق العلم أم لا؟ مجال في هذا العصر. بل إن الدول التي تحتل اليوم موقع الصدارة بين بلاد العالم قد حسمت هذا السؤال منذ أربعة قرون على الأقل، ولم تعد هذه المشكلة مطروحة أمامها منذ ذلك الحين. وصحيح أن طريق التفكير العلمي كان في بدايته شاقا، وأن المقاومة كانت عنيفة، والمعركة دامية سقط فيها شهداء كثيرون، ولكن العلم اكتسح أمامه كل عناصر المقاومة، وأصبحت القوى المعادية له والتي كانت في وقت من الأوقات تمسك بزمام السلطة في جميع الميادين؛ أصبحت هي التي تبحث لنفسها عن مكان في عالم يسوده العلم، ومنذ اللحظة التي بدأ فيها عدد محدود من العلماء يكتشفون حقائق جديدة عن الكون بأسلوب منطقي هادئ، وبناء على شواهد قاطعة وبراهين مقنعة لا سبيل إلى الشك فيها. منذ هذه اللحظة أصبحت سيادة العلم مسألة وقت فحسب، ولم يعد في وسع أية قوة أن تقف في وجه هذه الطريقة القاطعة في اكتساب المعارف الجديدة؛ ذلك لأن العلم ليس قوة معادية لأي شيء، ولا منافسة لأي شيء، والعالم شخص لا يهدد أحدا، ولا يسعى إلى السيطرة على أحد، وكل المعارك التي حورب فيها العلم والعلماء كانت معارك أساء فيها الآخرون فهم العلم، ولم يكن العلم ولا أصحابه هم المسئولون عنها. وأعظم خطأ يرتكبه المدافعون عن مبدأ معين أو عن ضرب من ضروب النشاط الروحي للإنسان، هو أن يعتقدوا أن العلم مصدر خطر عليهم، ويضعوا مبدأهم أو نشاطهم الروحي في خصومة مع العلم. فعلت هذا الكنيسة الأوروبية في مطلع عصر النهضة؛ فقام رجالها يحاربون العلم الوليد ويضطهدون رواده، ولم يكن ذلك منهم إلا عن جهل بطبيعة العلم أو طبيعة الدين أو كليهما معا، وربما كان في بعض الأحيان خوفا على نفوذ أو دفاعا عن مصالح يعتقدون أن أسلوب المعرفة الجديدة كفيل بتهديدها، فماذا كانت النتيجة آخر الأمر؟ ظل العلم يسير في طريقه بهدوء وثقة، ويحرز الانتصار تلو الانتصار، وتعاقب ظهور العلماء الأفذاذ، الذين كان معظمهم أشخاصا مخلصين في عقيدتهم الدينية، ولم يكن أحد منهم يتصور أن الجهد الذي يبذله من أجل بسط سيطرة العقل على الطبيعة وتحقيق النفع لإخوته في الإنسانية يمكن أن يغضب أحدا، لا سيما إذا كان من رجال الدين، واضطرت الكنيسة الأوروبية آخر الأمر إلى التراجع أمام قوة الحقيقة التي لا يستطيع أن ينكرها عقل سليم، ولكن تراجعها ربما كان قد أتى بعد فوات الأوان؛ إذ إن الكثيرين يعزون موجات الإلحاد التي اجتاحت أوروبا - منذ القرن الثامن عشر بوجه خاص - إلى تلك الخصومة التي لم يكن لها داع، والتي افتعلتها الكنيسة ضد العلم. كلا، إن العلم لا يهدد أحدا، وإنما هو في أساسه منهج أو أسلوب منظم لرؤية الأشياء وفهم العالم، وكل ما وجه إلى العلم من اتهامات إنما هو في واقع الأمر راجع إلى تدخل قوى أخرى لا شأن للعلم بها، تفسد تأثير العلم أو تسيء توجيه نتائجه، وهو أمر سنتحدث عنه في ثنايا هذا الكتاب بالتفصيل.
Bilinmeyen sayfa