الهوامش
مراجع
التفكير العلمي
التفكير العلمي
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
ليس التفكير العلمي هو تفكير العلماء بالضرورة؛ فالعالم يفكر في مشكلة متخصصة - هي في أغلب الأحيان منتمية إلى ميدان لا يستطيع غير المتخصص أن يخوضه، بل قد لا يعرف في بعض الحالات أنه موجود أصلا - وهو يستخدم في تفكيره وفي التعبير عنه لغة متخصصة يستطيع أن يتداولها مع غيره من العلماء، هي لغة اصطلاحات ورموز متعارف عليها بينهم، وإن تكن مختلفة كل الاختلاف عن تلك اللغة التي يستخدمها الناس في حديثهم ومعاملاتهم المألوفة. وتفكير العالم يرتكز على حصيلة ضخمة من المعلومات، بل إنه يفترض مقدما كل ما توصلت إليه البشرية طوال تاريخها الماضي في ذلك الميدان المعين من ميادين العلم.
أما التفكير العملي الذي نقصده فلا ينصب على مشكلة متخصصة بعينها، أو حتى على مجموعة المشكلات المحددة التي يعالجها العلماء، ولا يفترض معرفة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة، ولا يقتضي أن يكون ذهن المرء محتشدا بالمعلومات العلمية أو مدربا على البحث المؤدي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو الإنساني، بل إن ما نود أن نتحدث عنه إنما هو ذلك النوع من التفكير المنظم، الذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقاتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا. وكل ما يشترط في هذا التفكير هو أن يكون منظما، وأن يبنى على مجموعة من المبادئ التي نطبقها في كل لحظة دون أن نشعر بها شعورا واعيا، مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد، والمبدأ القائل أن لكل حادث سببا، وأن من المحال أن يحدث شيء من لا شيء.
هذا النوع من التفكير هو ذلك الذي يتبقى في أذهاننا من حصيلة ذلك العمل الشاق الذي قام به العلماء - وما زالوا يقومون به - من أجل اكتساب المعرفة والتوصل إلى حقائق الأشياء؛ فبناء العلم يعلو طابقا فوق طابق، وكل عالم يضيف إليه لبنة صغيرة، وربما اكتفى بإصلاح وضع لبنة سابقة أضافها إليه غيره من قبل، ولكن الأغلبية الساحقة من البشر لا تعرف تفاصيل ذلك البناء، ولا تعلم الكثير عن تلك الجهود المضنية التي بذلت حتى وصل إلى ارتفاعه هذا، وهي تكتفي بأن تستخدمه وتنتفع منه، دون أن تعرف إلا أقل القليل عن الطرق المستخدمة في تشييده، وهذا أمر طبيعي لأن العلم قد تحول - على مر العصور - إلى نشاط يزداد تخصصا بالتدريج ولا تقدر على استيعابه إلا فئة من البشر أعدت نفسها له إعدادا شاقا ومعقدا. ولكن هل يعني ذلك أن جمهرة الناس لم تتأثر بشيء مما زودها به العلم فيما عدا تطبيقاته؟ وهل يعني أن العلم لم يترك أثرا في أية عقول فيما عدا عقول العلماء المشتغلين به؟ الواقع أن العلم - وإن كانت تفاصيله وأساليبه الفنية مجهولة لدى أغلبية البشر - قد ترك في عقول الناس آثارا لا تمحى، أعني أساليب معينة في التفكير لم تكن ميسورة للناس قبل ظهور عصر العلم، وكانت في المراحل الأولى من ذلك العمر مختلطة بأساليب أخرى مضطربة مشوشة وقفت حائلا دون نمو العقل الإنساني وبلوغه مرحلة النضج والوعي السليم.
Bilinmeyen sayfa