Taammulat
تأملات: في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
Türler
ولكن الذي نعرفه من الماضي أن العالم في حال حرب مستمرة يصلى نارها الأحياء على السواء والغلبة فيها للأقوى، والأسر ثم الرق للضعيف.
ومن الخطأ أن يكون مقياس الضعف والقوة في الأمة هو مقدار عدد النفوس أو الثروة، إنما مقياس عظمة الأمة هو صفاتها العامة الضرورية للنجاح في الزمان الذي تعيش فيه، كان عدد أهل أثينا في أوقات مجدها هو بعينه عددها عند سقوطها، ولم يتغير فيها إلا الصفات التي هي ملاك القوة في الأمم، ولسنا في حاجة إلى استحضار التاريخ القديم فإن الحاضر المشاهد في النسبة بين عدد النفوس في الأمم المستعمرة وبين عدد النفوس في مستعمراتها لا يدع للشك مجالا في أن الكثرة والثراء ليسا هما العلة الأولى في عظمة الأمة وقوتها، ولكن القوة والعظمة في عدد الرجال المهذبين أو الصفات السامية والعقول المنتجة.
لكل زمان ولكل مدنية خواص في الأخلاق والميول تكون هي علل النجاح، ولقد دلتنا الأمثلة اليومية على أن الأمة التي لا تسير في تيار عصرها بل تقف جامدة على قدميها لا ينتظرها العالم في سيره إلى الأمام، بل يتركها منقطعة لا تتجدد فيها قوى الحياة ولا تستطيع أن تأخذ بخواص النجاح في الزمن الجديد، فتقع فيما يشبه الفناء وذلك حظ الضعيف.
في أنفسنا قد رأينا أن كل ما وقعنا فيه من شر الذل وفقد الاستقلال من عدة قرون، إنما كان سببه تفريط المصريين في الاستمساك بالصفات التي كانت يومئذ ضرورية لبقائهم أحرارا. وها نحن أولاء أصبحنا بالتربية الجديدة والأفكار الجديدة نسمع في قلوبنا دبيب الطمع في استقلالنا ببلادنا وتأخذنا الغيرة من الشعوب التي شبت في هذا الزمان الحاضر ورفعت رأسها بين الأمم ولم تكن من الشعب المصري ولا قلامة ظفر، فمن الطبيعي أن يكون نهوضنا متناسبا مع أطماعنا وأن يكون أول ما يجب علينا أن نتحرى في أنفسنا صفات الضعف ننفيها عنها ونحل محلها صفات القوة أو أسباب الرقي.
إننا مهما كان مقدار حبنا للصفات التي ورثناها من الماضي، يستحيل علينا أن نظن أن علة تأخرنا هو شيء آخر غير تلك الصفات.
ومن المستحيل أن يكون الضعف والقوة كلاهما معلولا لسبب واحد في آن واحد باعتبار واحد. فرقينا أو قوتنا رهينة بنفي أسباب الضعف عنا مهما كانت هذه الأسباب أو تلك الصفات داخلة في مشخصاتنا وممتزجة بعاداتنا وأخلاقنا.
سيقولون: هل تريدوننا على أن ننزل عن أفكار آبائنا في تكييف المصالح المصرية، ونترك عاداتنا في حب الاتكال على غيرنا والتباهي بجيراننا واعتبارنا في نظر أنفسنا أقل الشعوب مما يجري على ألسنتنا في الأمثلة وفي المجالس، وما يظهر على حالنا من معاملة غيرنا، ونأخذ بصفات التمدين الجديد؛ هذا التمدين المادي تمدين المنافع والمبالغة في حب الكسب واستخدام العقل البشري والعلوم المختلفة في تحصيل اللذائذ الشخصية والأطماع الاستعمارية؟ إنكم تريدوننا على أن نتغير وفي التغيير نزول عن الشخصية وفناء للأمة؟
نعم، فإننا جربنا أفكار سلفنا الصالح في هذا الماضي القريب فما كانت النتيجة إلا ما نحن فيه، فلم يبق إلا أن ننزل عن الأفكار والصفات التي كانت سببا في تأخرنا ونأخذ في التغير والتطور حتى نستطيع المزاحمة في معترك هذه الحياة المدنية، أو بعبارة أخرى حتى يرجع إلينا ما فقدناه من صفات القوة أو من قوة الأخلاق محافظين دائما على عقائدنا الدينية الأولى التي كان عليها علماء الدين الأولون، قانعين من مشخصاتنا الحالية بما يكفل التمييز بيننا وبين الأمم الأخرى، تلك المشخصات التي لم يثبت لنا أنها كانت سببا في تأخيرنا، ولن تكون مثل لغتنا العربية وعاداتنا في حب الضيافة والمواساة وأريحية الجود وبقية الصفات التي امتزنا بها في حسن العشرة والعادات البريئة التي لها طابع يميزها عما عداها كعاداتنا في شهر الصوم وكيفية احتفالنا بالأعياد والموائد العلنية في المآتم والأفراح! إلخ إلخ.
ولكن الذي يجب علينا أن نساعد المدنية الحاضرة على نفيه عنا هو الصفات التي تولدت من نقص الاعتقاد بمصريتنا، أي بأن لنا وجودا خاصا ومنافع خاصة يجب علينا تحصيلها بصرف النظر عما إذا كان هذا السعي يأتلف مع أفكارنا القديمة أو يختلف عنها - وأن نتشبث بحقوق الشعب المصرية واحترامه فلا نسمح للخواص منا أن يسبوه بإظهار اليأس منه والقنوط من رقيه، ولا لعوامنا أن يجري على ألسنتهم تفضيل غيره عليه، وأن نحارب الجمود على الماضي في إمساك المرأة المصرية على اتباع المعروف في الماضي القريب، بل نسهل لها العمل هي أيضا لمصلحتها ومصلحة المجموع وأن نأخذ أسباب القوة عن التمدن الجديد، طائعين لا كارهين، والزمان وحده كفيل بأن يصبغ الواردات الأوروبية بصبغتنا المصرية، لا شيء من ذلك يأتي بالنتيجة التي يخاف عقلاؤنا منها، نتيجة أننا نفنى في غيرنا، نحن لا نفنى في غيرنا أبدا، ولكن قديمنا يفنى في حاضرنا وحاضرنا يفنى في مستقبلنا كما هي سنة التطور في الوجود.
أقدم كل هذه المقدمات لأقرر أن آمالنا من المستقبل شعب جديد، يكون أقدر منا بصفاته على تحقيق أطماعنا القوية.
Bilinmeyen sayfa