Taammulat
تأملات: في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
Türler
القدوة الحسنى1
الآثار القديمة1
آثار الجمال وجمال الآثار1
ربيع الحياة1
جني القطن1
أول العام1
الرجل السعيد1
الرجل الصريح1
زهر الربيع1
الصداقة1
Bilinmeyen sayfa
سلطة الأمة1
في سبيل الارتقاء1
الحرية1
تضامننا1
مصريتنا1
المصرية1
آمالنا1
التقليد1
سر تطور الأمم1
الحرية الشخصية1
Bilinmeyen sayfa
خبز السجون1
من أجل ذلك نطلب الدستور1
حقوق الأمة1
الكفاءة الاقتصادية1
النظام الاقتصادي1
وفاة فتحي زغلول باشا1
وداع الوزارة1
تأبين أحمد فتحي زغلول باشا1
الحرب1
القدوة الحسنى1
Bilinmeyen sayfa
الآثار القديمة1
آثار الجمال وجمال الآثار1
ربيع الحياة1
جني القطن1
أول العام1
الرجل السعيد1
الرجل الصريح1
زهر الربيع1
الصداقة1
سلطة الأمة1
Bilinmeyen sayfa
في سبيل الارتقاء1
الحرية1
تضامننا1
مصريتنا1
المصرية1
آمالنا1
التقليد1
سر تطور الأمم1
الحرية الشخصية1
خبز السجون1
Bilinmeyen sayfa
من أجل ذلك نطلب الدستور1
حقوق الأمة1
الكفاءة الاقتصادية1
النظام الاقتصادي1
وفاة فتحي زغلول باشا1
وداع الوزارة1
تأبين أحمد فتحي زغلول باشا1
الحرب1
تأملات
تأملات
Bilinmeyen sayfa
في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
تأليف
أحمد لطفي السيد
مقدمة
بقلم إسماعيل مظهر
من مميزات العبقرية الصحيحة، وأعني بها العبقرية الأثينة، لا العبقرية الاصطناعية التي تتولد بكسب المعارف أو الفنون، أن تسبق بأثانتها العصر الذي تنشأ فيه، فإذا كانت العبقرية في إهاب شاعر سبق العصر بأخيلته وسبحاته الشعرية، وإذا كانت في إهاب فنان سبق العصر بما يبدع من الظلال والألوان والتعبيرات التي يفرغها فيما يخرج منه صورة أو تمثال، وإذا كانت في إهاب مفكر، سبق عصره بالتفرد في الحس بما سوف تتمخض عنه النظامات وأوجه التقدم التي تسير فيها خطا الجماعات، بحيث يرى واقعا بالفعل، ما يلوح لغيره من الناس أنه مستحيل الوقوع، أما إذا كانت في إهاب فيلسوف فإنها ترحل به عن عالم الناس إلى عالم هو له وحده، فتخرج آثاره على اكتمال الفكرة فيها تغالب نزع الموت في يد الجماهير، ولا تربي وتؤتي أكلها حتى يكتمل الوعي الجماعي فيدرك ما فيها من جمال أو حق أو صدق. وأستاذنا الكبير صاحب هذه التأملات عبقري أثين بطبعه، ظهرت أصاله عبقريته في كل أطوار حياته العامة، فظهرت في أسلوبه، كما ظهرت في نواحي تفكيره، وفي اتساق فكرته، ورتابة منطقه، ووضوح غاياته، وجلاء مراميه. ففيما نشرنا له من «المنتخاب» قبل عشر سنوات وما نشرنا منها في هذا العام، وما ننشر اليوم في «تأملات» دليل باسم واضح القسمات على أنه سبق عصره بمراحل بعيدة المدى قصية الغايات.
ففي العصر الذي ارتسمت فيه السياسة المصرية في أحضان فرنسا وتركيا، نستنجد الأولى ونستعديها على إنجلترا مستغلين ما بينهما من حزازات ومنافسة ونتعلق بخيط العنكبوت من علاقتنا بالعثمانيين مستغلين سيادتهم الاسمية على مصر، نادى بالاستقلال، محببا بذلك الفكرة الوطنية الصميمة التي قامت عليها الحركة العرابية. وإني لأذكر أن أستاذنا ذكر في مقال له أن مصر تطلب «الاستقلال التام» فاستعدى عليه السيد علي يوسف صاحب المؤيد ورئيس حزب الإصلاح - وهو إذ ذاك حزب السراي - النيابة لتجره إلى موقف الاتهام؛ ذلك بأن الاستقلال التام في ذلك العصر، كان جريمة تستحق الجزاء.
قال بحرية المرأة في عصر أظلمت فيه جوانب الحرية، ودعا الطلبة إلى الاشتغال بالسياسة في عصر كان فصل الطالب من معهده أهون على أصحاب السلطة من قلامة ظفر، وطالب بالدستور وبشر بحرية الفرد وأنحى على تدخل الحكومة في شئون الأفراد؛ لأن ذلك وجه من الاشتراكية التي لا تلائم الطور الذي كانت تجتازه مصر في ذلك العصر، وآمن بالتطور في زمان دعا فيه بعض الزعماء إلى الطفرة، فكأنه بعبقريته الأصيلة قد أدرك أكثر ما خفي على أهل عصره من مستقبل هذه الأمة، ولا نزال حتى اليوم نستقرئ فيما كتب، تنقل الأمة المصرية في مدارج فكراته التي ساورته منذ أكثر من أربعين سنة.
ليس عندي من تعليل لهذا وللكثير بما فاضت به صفحات «المنتخاب» و«التأملات» إلا أن أستاذنا، مد الله في عمره، عبقري أصيل العبقرية، فظهر إثر ذلك صادقا في أسلوبه وتفكيره ومنطقه، وأقول على الجملة: إنه عاش حياته صادقا مع نفسه، فصدق مع الناس، وأيدته في صدقه حوادث هذا الزمان.
القدوة الحسنى1
Bilinmeyen sayfa
الأستاذ عبد العزيز بك فهمي
1
قد يجد المرء ذو الطعم على نفسه غضاضة أن يعلن عن صديقه فضائله لشخصيته أو محامده العامة؛ لأن هذا يمسه عن قرب وينعكس لمعانه عليه على كل حال، فأوشك بالكاتب عن ذاته أو صديقه أن يبتسم له القارئ فيقول: مادح نفسه يقرئك السلام.
غير أن للواجب مآزق تلجئ إليها ضرورة القيام به، وعلي الصحفي أن لا يدع صغيرة ولا كبيرة من الحوادث النافعة في التنبيه على خلق كريم أو الدالة على مشاعر عاليات ليتم للناس القدوة الحسنة، وليكون آية للأعقاب يهتدون بها وتسكن أنفسهم إلى إيثار المنافع العمومية على المنافع الشخصية عليها جميعا، حتى على الصحة وهي أنفس متاع في الحياة، بهذه المثابة يجب علينا الحرص في مسألة الأستاذ عبد العزيز، تلك المسألة التي اشتغل بها الرأي العام نحو أسبوع.
يسرنا كما يسر صديقنا عبد العزيز بك وكل مصري محب لبلاده، أن يكون الرأي العام في بلادنا يقظا ملتفتا لجميع الحوادث مقدرا رجاله الأمناء قدرهم يطالبهم مطالبة رب الدين أن آتوا بلادكم حقها عليكم وافنوا في خدمة الجمعية التي ولدتكم والتي عليكم اعتمادها في تحقيق الآمال، ويعجبنا أن يكون للناس على خدمة الأمة من الدالة ما يبيح لهم المداخلة في شئونهم التي هي أشبه بالشئون الخاصة منها بالأعمال العمومية، اللهم لك الحمد والمنة على أن جعلتنا نسمع بآذاننا ونرى بأعيننا أن يقف الرأي العام لعبد العزيز بك موقف الذي يعتقد أن هذا الرجل الحر ليس له التصرف في نفسه وملكاته، بل هي وقف على خدمة الأمة فيما تشاء الأمة، غبطة تسيل لها الدموع الباردة فرحا بأن زمن الهدم قد تولى - لا رده الله - وقد جاء بدله زمان بناء الرجال.
ليست المسألة في ذاتها من المسائل السياسية الكبرى ولا من العقد الاجتماعية حتى كنت أتوقع أن تردنا من كل ناحية كتب الاستفهام عما تم فيها، بل كتب الاعتراض علينا في أننا لم نتبين رأينا في المسألة كما نصدع به في كل مسألة سواها، ليست المسألة كذلك ولكنها بسيطة في حد ذاتها لم يعقدها إلا مركز الأستاذ عبد العزيز وثقة الأمة في نائبها المحترم، طلبت إليه الحكومة أن يقبل القضاء في محكمة الاستئناف، وإني شاهد رؤية وسماع على أن الحكومة لم يكن لها في ذلك إلا قصد حسن وخدمة للقضاء. أشهد بذلك، ولكني أشهد معه بأننا في الجمعية التشريعية في غاية الحاجة إلى عبد العزيز بك وزملائه كبار العقول أشداء القلوب الذين يفرطون في كل شيء إلا في حق الأمة مهما صغر قدره وقلت قيمته ، وعلى هذا الاعتبار جرى الرأي العام في تقدير المسألة حتى قال لي يوما كبير الحريين لمناسبة هذه المسألة: تلك جناية على الجمعية تبوء أنت بشطر من المسئولية عليها! وإذا كان هذا هو رأي سعد باشا، فما عسى أن يكون رأي الباقين وماذا عساك تسأل عما ورد علينا من الاحتجاجات من قبل الشبيبة المتعلمة في القاهرة ومن أعماق القرى والكفور.
إن عبد العزيز بك بتواضعه المشهور، لعله لم يقدر ضرورة بقائه في الجمعية بالقياس الذي قدره به جميع أعضائها والرأي العام، إنه رجل قانون طلب إليه خدمة القانون بمحكمة الاستئناف، فكان حاله كالجندي طلب منه أن يخدم سلاحه محل جندي آخر في ميدان الجهاد، فما يأخذه زهو الشهرة عن الخدمة الهادئة بين جدران قاعات الجلسات ولا يظنه عاملا لإقامة الحق، أقل منه شرفا حين يعمل لتأييد الحق والعدل بصورة أخرى في الجمعية التشريعية، وأنا ضمين بأن هذا الرجل العالم لم تتجل أمامه تلك الخيالات اللماعة حين يظفر بالوزارة أو حين يسمع صوته الصريح لتحقيق ما يراه لمصلحة البلاد، شغل بشغل وخدمة للحق هنا وهناك، خدمة للأمة في الحالين، فما يكون من التفضيل في نظره إلا اعتبارات شخصية، وليس لديه من طمع إلا العفاف بالكفاف، فلا مفضل إلا ما يتفق مع مزاجه ويتمشى مع حال صحته، ولقد علم أصحابه أن طبيبه قال غير مرة بعدم استمراره في الجمعية التشريعية وهو الدكتور طلعت بك، قالها وقوله حجة، فكان ذلك هو المرجح عند الأستاذ عبد العزيز وأخصائه، فلما رأى أن الأمة التي أنابته تحرص على نيابته، وأصحابه في المجلس يحرصون على الاحتفاظ به بينهم، قال : وصحتي أيضا فداء.
فليعش هذا المثل الصالح، ولتسلم له صحته، وليبق له فداؤه، فإنه قد ضرب لنا مثلا في التضحية كما ضرب لنا صاحب العطوفة شيخ ساستنا على الإطلاق مصطفى فهمي باشا، مثلا للتضحية والاحتفاظ بالكرامة والاستقلال، وما الأمة إلا أمثلة مضروبة من النبلاء، واقتداء صالح من جانب الأبناء، بذلك تتم التقاليد، وعلى هذا تبنى قوة الشعوب.
فنحن نهنئ صديقنا بثقة الأمة وهي أكبر ما يتمنى الرجل من سعادات الحياة، ونهنئ الأمة بأن فيها من أبنائها من يصلحون في أخلاقهم العامة وكفاءتهم، ليكونوا طلائع الرقي المنتظر والفلاح القريب.
2
Bilinmeyen sayfa
وقفت السيدة بهية هانم برهان على الجمعية الخيرية الإسلامية للتعليم سرايها الفسيحة الجميلة بشارع درب الجماميز لتكون معهدا علميا.
وأجرت عليها من ريع وقفها ستمائة جنيه سنويا خلافا لريع البيوت والحوانيت الملحقة بالسراي مما يبلغ ريعه مائتي جنيه في العام.
وقفت كل ذلك وقفا نهائيا خاليا من الشروط العشرة، وقفت كل ذلك وقفا منجزا لا معلقا على انقضاء الذرية ولا على أية حادثة مستقبلة، بل السراي والريع صارا من الآن للجمعية الخيرية.
فما أجدر هذا العمل الصالح بأن يكون للأغنياء والموسرين القدوة الحسنى من وضع الشيء في محله، ودليلا على الإحسان في الإحسان.
إنما الصدقات للفقراء والمساكين حق على الأغنياء والموسرين، كانت ولا تزال، وكذلك تبقى جارية ما دامت في الإنسان عاطفة الحنان إلى الضعيف وإلى الفقير، وما دام الشوق إلى منفعة الوطن يدفع الناس إلى التضحيات المالية وغير المالية، غير أن الصدقة تعظم بكبر قيمتها ومقدار الحاجة إليها وعلى نسبة ما تنتج من الخير العام للأمة، ومن هذا النوع مبرة الأميرة الكبيرة فاطمة هانم أفندي والمحسنة الخالدة الذكر السيدة بهية هانم برهان فإنهما عرفتا كيف يقرضان الله قرضا حسنا؛ ليضاعفه لهما أضعافا مضاعفة، وعلى أي نوع تقدمان لمصر أكبر ما يمكن من المنافع.
برهنت الجمعية الخيرية الإسلامية بالعمل المتواصل في السكون والعزلة عن كل جلبة وضوضاء على أنها أمتن الجمعيات الخيرية نظاما وأكبرهن ثقة وأوسعهن إدارة للتعليم، إنها أخذت على عاتقها تعليم الفقراء منذ قبضت الحكومة يدها على تعليمهم وقبل أن يوجد في البلاد جمعيات أخرى تهتم بأمر الفقير، وقبل أن يكون لمجالس المديريات عناية بأمر التعليم، في مدارس الجمعية الخيرية أكثر من ستة آلاف تلميذ يتعلمون، بعضهم على نفقة أوليائهم، ومن ليس له ولي قادر على تعليمه، فوليه الجمعية تعلمه على نفقتها، ذلك عملها في التعليم، وأما إعانة الفقراء ورعايتهم بالصدقة الخفية والرعاية الصامتة غير المتبوعة بالمن فذلك يعرفه الذين حضرتهم معونة الجمعية في وقت الضيق، والذين جاءتهم رسلها تخلصهم من حيرة الموقف من حيث لا يحتسبون.
لا شك في أن الاعتبارات هي التي حركت عواطف السيدة بهية هانم الشريفة إلى توسيط الجمعية في إيصال برها للفقراء والمساكين، فاختصتها بهذه الهبة العظمى التي لا نسمع بمثلها في بلادنا، وما أجمل أثر البر في نفس فاعله وفي نفس المسدى إليه، ولو رأيت وفد الجمعية الخيرية الإسلامية يتقدمه دولة رئيسها الأمير الجليل حسين كامل باشا ووراءهم أبناء الجمعية الفقراء يحيون باسم الإنسانية تلك السيدة المحسنة في شخص وكيلها الرجل النبيل أمين بك يحيى، وينشد التلاميذ نشيدهم لتمجيد هذا العمل الصالح، لوددت أن تكون لك كنوز الأرض تهبها لتعليم الفقراء، ولانفعلت نفسك بأن في الكرم بسالة تأخذ النفوس بأكبر مما تأخذها بسالة أبطال الحروب وأن له جلالا فوق جلال القدرة والسلطان!
أجل ليس الكرم أو إنفاق المال على حبه لتعليم اليتامى والمساكين ومواساة الفقراء إلا نزولا عن مقومات حفظ الذات وتضحية لا تقل في شيء عن الضحايا التي يقدمها الأبطال لخير الإنسانية.
أحسنت أيتها السيدة المحسنة وليدم برك بالفقراء، القدوة الحسنة للنساء وللرجال جميعا.
الآثار القديمة1
Bilinmeyen sayfa
على الرغم من الضعف الذي وقعت فيه مصرنا، فمن المحقق أن المصري تأخذه هزة الارتياح ويلعب به شعور العزة أمام عظمة المصريين القدماء، ويكون حظه من شعور الفخر أكبر من ذلك، لو أنه عالم بالحوادث المصرية المكتوبة على حيطان المعابد والمحاريب ووجهات القبور، أو قارئ ترجمة تلك النقوش في أشعار المسيو ماسبيرو ومارييت ونافيل ومحاضرات كمال بك ، إذ يعلم أن مصر كانت من العزة في ذلك الزمن الغابر على قدر أن الملك كان له نحو اثني عشر رجلا من الأمراء وغيرهم يقومون بأمر التشريفات، يصل إليه سفراء الممالك الأخرى راكعين ساجدين، يرغمون أنوفهم بالتراب، ويجأرون له بالدعاء، يقطع أصواتهم خوف الملك وجلالته. وأن الملك لم يكن كل شيء في مصر بل كان لأمراء الأمة ووزرائها في كثير من الأحيان أثر عظيم في الإصلاح وفي الحكم، وأن المصريين لم يكونوا - على ما يصفهم عامة الأجانب - مخلدين إلى السكينة كارهين السياحة والتنقل قانعين من الرزق بما تحت متناول اليد، بل كانوا أمة جد واستعمار تجري في استعمارها على أحدث الطرق الأوروبية الآن، إذ يخرج المرسلون من مصر إلى الأقطار المختلفة في إفريقية يجوسون خلالها حاملين إلى أهلها العطر ذا الرائحة النفاذة والأقمشة الزاهية الألوان وغير ذلك مما يحمله الأوروبيون في هذا العصر إلى سكان تلك الأقطار الشاسعة في أفريقية.
ولم تكن أغراض المصريين من فن السياحة قاصرة على الربح التجاري، بل كان أولئك السياح يكسبون بلادهم نفس الفوائد التي جنتها إنكلترا من وراء الشركة التجارية الإنكليزية في بلاد الهند قبل فتحها، وسياحات سيسل رود، وما كسبته فرنسا من بعثاتها في الكونغو والسودان، إذ كان السياح المصريون يدعون الناس لاستماع أخبار مصر والمصريين ودينهم ولغتهم ويبينون عظمة ملكهم وثروة بلادهم حتى يصوروا مصر في أذهان القبائل بصورها القوية القاهرة التي لا يعجزها تحقيق شيء مما تريد، فإذا رجع أولئك المرسلون إلى مصر وصفوا تلك البلاد وأفاضوا للحكومة بكل ما وصلوا إليه من المعلومات فتسير الجنود المصرية على أثر ذلك تفتح البلاد النائية التي صار فتحها بفضل معلومات السياح أمرا هينا، ولقد كان المصريون أسمح الأمم في استعمارهم؛ لأنهم كانوا يسيرون فيه على مذهب اللامركزية يحفظون على الأمة المغلوبة دينها وعاداتها وشكل حكومتها، ويتركونها حرة في بلادها مقابل الاعتراف بالسيادة المصرية، وكما أن مصر تحمي المستعمرة من الاعتداء الأجنبي، كذلك كان يجب على المستعمرة المصرية أن تتعهد بدفع خراج سنوي، وأن تنصر مصر في حربها مع أية دولة أخرى.
لا شك في أن علم المصري بهذه الحقائق المسطورة في نحو القرن الخامس والثلاثين قبل الميلاد، يخرج من نفسه القنوط من ارتقاء مصر، ويجعل آراء الذين يظنون بمصر عدم الاستعداد الطبيعي للاستقلال والسيادة من السخافة بمكان، فإن ما جاز عليه الكون في الماضي، غير ممتنع عليه أن يكون، ولا شك في أن المصريين حتى المتعلمين قليلو الاهتمام بالعلم بمصر القديمة إلى حد حرمنا لذة هذا الاغتباط بما كنا عليه، ولذة التشبث بالعمل إلى استعجال القدر ليذهب بهذا الحاضر التعيس، وليعيد مصرنا إلى الماضي القديم.
أخبرني أحد أصدقائي قال: سافرت في الشتاء إلى الصعيد لزيارة الآثار القديمة والاستراحة من عناء العمل، فلاحظ علي سائح ألماني أن العجب يأخذ مني مأخذا كبيرا عند رؤية الآثار المصرية، فسألني إذا كانت هذه هي المرة الأولى لزيارتي إياها؟ فقلت: نعم، فضحك وقهقه، فسألته عما إذا كان زار هذه المعاهد من قبل؟ قال: زرتها سبعا وعشرين مرة، وهذه الثامنة والعشرون، وعلي أن أجيء كل عام في المستقبل أيضا، فضحكت منه أنا نوبتي، وقلت له: فهمت أنك كنت في المرة الأولى مستطلعا مستفيدا فأتممت في المرة الثانية ما نقصك في الأولى من الاستفادة، ثم أعوزك الوقت لإتمام قصدك فجئت الثالثة وفيها مقنع لمستطلع وقضاء لبغية النفس من تكرير النظر للجميل، فما رأيت أعجب من تسويغي زيارة الآثار إلى هذا اليوم إلا إكثارك من رؤية الشيء الواحد، واستزادتك من ذلك على غير جدوى، قال: أؤكد لك أنني كلما زرت هذه الآثار شعرت بالرضى بل باللذة التي كنت أشعر بها في كل مرة سابقة وما رجعت مرة إلا بفوائد جديدة لم أكن لأحصل عليها من قبل.
هذا حديث له أثر ثابت في فهم هذا الاهتمام الذي يعرفه الألمان والفرنسيون والإنجليز والأميركان في زيارة آثار مصر واستنطاقها عن أخبار العالم الأول، ليضيفوا بذلك صفحة أو صفحات إلى أسفار التاريخ القديم ولينتفعوا بذلك في معرفة قوانين النشوء والارتقاء التي صارت عليه العلوم والفنون والصنائع من نحو سبعين قرنا، وليبحثوا في جوانب العالم عن الحلقات المفقودة من سلسلة الظواهر الاجتماعية والحركات البسيكولوجية التي تطورت بها الأمم حتى صارت إلى ما هي عليه الآن، فإن الذي يجهل ماضي العالم حقيق به أن لا يصح حكمه على حاضره ولا على مستقبله، ومن لا يعرف تطورات الإنسان، لا يستطيع أن يضع له قوانين السلوك في الحياة.
كتب إلي أحد أصدقائي نزيل الأقصر اليوم:
أكتب إليك بعد أن زرت معظم الآثار التي خلفها لنا أجدادنا، زيارة داخلني منها الزهو وتضاعف بها حبي لمصر وطني، ولكن الحب لم يصف من شوائب الحزن؛ لماذا لا تدرس في مصر الإيجيتولوجية كما تدرس بإنجلترا.
هذا الكتاب أيضا تدل عبارته على شعور كل مصري متعلم يقف أمام الآثار المصرية لا يعرف منها إلا ما يعرفه العامي، يعرف من الأثر أنه عظيم متقن دال على أبهة الملك الذي يخبر عنه، هذا كل ما نعرف من آثار بلادنا.
لا أطلب أن يكون كل رجل منا يطاول شامپوليون في دقة ملاحظته وقوى استكشافه، أو يباري ماسپيرو في إحاطته بالآثار المصرية، أو يكاثر كمال بك في معلوماته الأثرية، ولكن المطلوب هو محاضرة مستمرة ودرس دائم في الجامعة المصرية أو غيرها من دور العلم يسهل السبيل على أبناء مصر أن يعرفوا ماضيهم لا على الوجه العلمي الدقيق، ولكن على الوجه الذي يعرفه السياح الأوروبيون من آثار وتاريخ أجدادنا الأقدمين.
ليست أمتنا في هذا الحاضر ذات وجود مستقل عن أمتنا الماضية، ولكن الأمة كل واحد غير منقسم وغير قابل للتجزئة، إنها أمة قد خلق جسمها الاجتماعي من يوم أن استقلت بهذا الوطن المحدود، وكانت ذات نظام اجتماعي معروف، فصارت تنتقل في حياتها من الصحة إلى المرض، ومن المرض إلى الصحة؛ حتى صارت إلى ما هي عليه اليوم، فبعيد على المصريين الذين يريدون ارتقاء بلادهم أن ينجحوا في تحقيق إرادتهم هذه إلا إذا عرفوا حقيقة أمتهم، وحقيقتها هي مجموع ماضيها وحاضرها، فليست معرفة الآثار القديمة فرعونية وعربية - ولو إلماما - قاصرا نفعها على اغتباط النفس برؤية الآثار الجميلة وتحصيل شعور العزة بذكرى ماضي مصر المجيد، بل هناك نفع أعم أثرا وهو الوصول من معرفة الماضي إلى معالجة الحال حتى يتبدل به مستقبل سعيد.
Bilinmeyen sayfa
عسى أن يقع ما نقول من مشاعر الشبيبة موقع القبول؛ فيقبلوا على وسائل العلم بمصر القديمة، وعسى أن يجيب علماء الآثار القديمة الفرعونية والعربية نداءنا فينفعوا الناس بمحاضرتهم وخير الناس أنفعهم للناس.
آثار الجمال وجمال الآثار1
لا أظن أنه يوجد إنسان صحيح لا يشعر في نفسه بتأثير الجمال أو لا تتحرك عواطفه حركة لذيذة أو مقبولة توجب الرضا برؤية الجميل، ولقد تختلف أذواق الأفراد والأمم اختلافا قليلا في تحديد جمال الأشخاص والأشياء تبعا لتربية الخاصة النفسية التي تتعرف الجمال، فكلما كانت هذه الخاصة التي نسميها الذوق مصفاة من شوائب الخشونة بحكم التركيب الجسماني والوراثة ودرس الفنون الجميلة، كانت النفس أكثر إحساسا بالجميل وأدق حكما في الجمال، ومهما كان رأي جماعة الزهاد في الدنيا الذين لا يقيمون وزنا للذائذ الإنسانية ولا يحفلون بالصور الجميلة.
وجماعة الفانين في كسب الأموال الذين يجدون ما عدا ذلك في الحياة من سقط المتاع، فإن إجماع بني آدم أصحاء الأجسام والعقول، واقع على نفوسنا هي أيضا كأبداننا محتاجة إلى الغذاء، ومن أطيب غذائها الجمال، فإن مشاهدته حيث كان تلقي في نفس الإنسان سكونا يلطف آثار حركات المشاغل وينوع حال المشاعر فيحميها من الكلل والسآمة ويعيد قوتها سيرتها الأولى، فإذا كان الجمال على هذا القدر من تغذية الروح الإنسانية، كان تعرفه بمرانة النفس على رؤيته حيثما كان، من الأمور الضرورية للعيشة المدنية والتربية الإنسانية، لا أنه - كما يزعمون - أمر كمالي صرف يتشبث به أهل البطالة وأتباع الهوى وخفاف الهموم.
زعم باطل وإغراق في اعتبار الحياة حمأة آلام يتمرغ فيها الأحياء لا يذوقون فيها من طعوم اللذة إلا تنقلا من ألم قديم إلى ألم جديد! إذ ليس ذلك ما يشعر به عامتنا نحن الأحياء.
نحن لا نعرف ماهية الجمال، ولا يهمنا الآن البحث عن ذلك ما دامت تشعر به أنفسنا من غير تعريف منطقي، يقولون: إن الجمال هو عبارة عن مظهر أسرار الكمال في هذا العالم المادي، أو إنه مرآة حسن التأليف بين الصور والألوان، ويقولون غير ذلك.
ولست أظن أنه يهمنا كثيرا أن نسبح فيما وراء الطبيعة لنرجع بتعريف للجمال، وهو هو بعينه ذلك الذي نشعر به في أنفسنا عند رؤية ما نسميه الجميل، سواء كان هذا الجميل مخلوقا حيا أو جامدا أو فعلا من الأفعال التي تهز عواطفنا، أو معنى من المعاني التي تقع من النفس موقع الجميل بالحس، وإذا كنا حاصلين على معنى الجميل بالفعل داخل نفوسنا فخير من تلمس حدوده فيما وراء معلوماتنا، أن نستمتع بآثاره إذ الواقع أن الجمال معنى من المعاني القدسية التي لا تزال محجبة عن أبصارنا الكليلة، مصونة عن التدهور في هاوية أبحاثنا الوضعية، رفيعة عن إدراكنا المحدود، ومع ذلك فإن آثاره مادية نراها بأعيننا في الصور الحية وفي التماثيل الجميلة، ونسمعها في أصوات الموسيقى، ونشعر بها روحا تفيض على مشاعرنا رضى بمشهد الأعمال العظيمة أو بسماع أخبارها، ذلك الأثر السعيد أثر الجمال، هو الذي يجب علينا أن ننمي مقداره في أنفسنا؛ لنحصل بها على أكثر ما نستطيع من العيشة الراضية.
إن تربية الحس الصادق الذي يتعرف الجمال ويتأثر منه، ليست على ما نظن خاضعة لقوانين معينة؛ لأنها هي تربية الذوق، والذوق شيء ليس في الكتب، على أن نبوغ مصور التماثيل أو رسام الألواح أو صانع التحف أو الموسيقي ليس نتيجة لازمة للعلم بأصول معينة بل هو إلهام من الله وفيض من الفيوض، أو كما يقولون: استعداد خاص قد تفسده قوانين العلم، وينميه في نفس العبقري خروجه في صناعته عن حدود المألوف.
أجل! إن أرباب الفنون الجميلة في كل زمان لم يقيدوا حريتهم عمدا بأقيسة فنية، ولكنهم كانوا دائما خاضعين لانفعالاتهم الذاتية المتولدة عن عقائدهم ومشاعرهم ومشاعر أهل زمانهم وحاجات البيئات التي نشأوا فيها؛ ولذلك كانت آثار الفنون الجميلة في كل عصر من العصور مؤتلفة غاية الائتلاف مع عقائد ذلك العصر ومشاعره وحاجاته واصطلاح الجمال فيه، فترى من السهل على كل ذي إلمام بالتاريخ والآثار أن يعرف الأثر الذي تقع عينه عليه، في أي العصور صنع، ومن أي البلاد هو، فإن هذه الآثار الصامتة تحدث الذي يعرف أن يسمعها، تحدثه بأهل زمانها صادقة، كما قيل: إن أصدق الكتب هو ما كتب بالحجارة.
ليس الحس الصادق الدقيق في معرفة الجمال محلا لتربية معينة ذات أوضاع متفق عليها، كذلك لا يعرف التاريخ أن أمة من الأمم - مهما كانت آثار فنونها الجميلة ذات شخصية مستقلة عن غيرها - قطعت النسب بين فنونها الجميلة وغيرها، ونبغت فيها، بل التاريخ يدل على أن الفنون الجميلة الفرعونية، إنما كان أصلها من أثيوبيا دخلت عند المصريين، فأخذت طابع عقائدهم الخاصة ومشاعرهم وحاجاتهم فتغيرت عن أصلها وصارت ذات شخصية مستقلة، فلما أخذها اليونان عنهم تغير شكلها تبعا لعقائد اليونان ومشاعرهم أيضا، فلما أخذها عنهم الرومان تغيرت تغييرا جديدا، وإن كان هؤلاء لم يتفوقوا فيها على أساتذتهم اليونانيين، وهكذا أخذت الفنون الجميلة العربية من غيرها وكانت في بدئها خليطا ثم أفاضت عليها الروح العربية الإسلامية جمالها الخاص فأصبحت ذات شخصية مستقلة عن غيرها مميزة عما عداها، سواء كان ذلك في الأنغام الموسيقية أو في تحف الآثار والصناعة الفنية والرسم والتماثيل، وإن كانت الصور والتماثيل قليلة في الفنون الجميلة العربية، إلا أن الذي وجد منها في بعض الآثار كالحمراء بغرناطة، والقصر في إشبيلية، وفي دار المستنصر وغيره من بعض الملوك والخلفاء، قد دل أهل الفن على أن الرسم والتصوير في الإسلام لهما طابع خاص.
Bilinmeyen sayfa
على هذا الاعتبار يمكننا أن نقول: إن الحس الصادق الذي يتعرف الجمال من الآثار لا يجوز أن يهمل أمره ويترك للصدفة الصرفة، اعتمادا على أن الذوق ليس في الكتب، بل يجب أن تمرن النفس على رؤية الجميل من الصور والألواح والمصنوعات وسماع الجميل من الغناء حتى يرق شعورها وتحصل لها هذه اللذة التي تأتي من معرفة الجمال وتقديره، فإنها لا تعدلها في صفائها وعلو مكانتها لذة أخرى، لذة ضرورية للفرد نافعة للمجموع.
وأقرب ما يكون هذا المران العملي في زيارة دار الآثار المصرية، ودار الآثار العربية، وزيارة العمارات الأثرية الفرعونية والعربية؛ كالهياكل، والمعابد، والمساجد القديمة، ثم زيارتها في كل فرصة تمكن من ذلك.
يجد الإنسان آثار الجمال في الطبيعة، فإنه إذا صفت نفسه واتسع أفق بصره، وعلت مرتبة إدراكه، يرى الجمال في الطبيعة حيثما أدار عينيه ، يرى في الرياض جمالا، وفي البحر الفسيح جمالا، بل يرى في الطبيعة الجدوب والجبل الأقرع والصحراء الجرداء جمالا من نوع خاص، كما يرى الجمال في بعض الإنسان وبعض الحيوان. غير أن للجمال في نفوس الناس قيدا خاصا يقيدون به معناه العام، وهو جمال الخلقة في بني الإنسان على الخصوص، فإذا أقبلت على أحد الشبان تلقي عليه بغتة هذا السؤال: هل تحب الجمال! تكيف هذا السؤال العام في ذهنه بصورة امرأة حسناء، وكان جوابه عنه مقيدا عنده بهذه الصورة، إلا إذا ألفت ذهنه إلى معنى الجمال على إطلاقه. ذلك أمر مفهوم لا نعنى باستقصاء مصدره في النفس، ولكننا يجب علينا أن نطاوع هذا الاصطلاح العام بعض الشيء في تربية الذوق، ومن غير الممكن أن يوفق المرء إلى رؤية امرأة مثل (زهرة روفائيل) في الجمال، بل قد يكون بين جسم المرأة الحية الجميلة وبين روحها، فوارق واضحة تنقص مقدار جمالها إلى ما دون المرأة العادية، وكذلك الرجل.
أما ذلك التمثال الصامت، فإنه لا يلوح عليه من الآثار المعنوية إلا ما أراد المصور أن يجعله مثلا أعلى للمعاني التي تشف عنها أوضاع الجسم، على أنه من كثير الوقوع أن المرء لا يقصر النظر إلى الأجسام الحية المتحركة على مشاهدة الجمال المجرد، بل قد يشارك معنى الجمال في ذهن الرائي معان شتى تشوش على النفس استطلاع الجمال، وليس الأمر كذلك في رؤية الألواح والتماثيل الجميلة، فإن النظر إليها يكون دائما خاليا عن كل ما يزحم معنى الجمال في خيال الرائي، ولهذا الاعتبار نكاد نقول: إن خير نموذج لتربية الذوق في إدراك آثار الجمال هو استدامة النظر إلى جمال الآثار، وربما كان هذا النموذج هو النموذج الذي اتخذه الناس من قبل عند التشبث بتعلم الفنون الجميلة؛ لأنه لو كانت الطبيعة كفيلة بتقديم نماذج الجمال لاكتفت كل أمة بما لديها من النماذج الطبيعية من غير أن تستعير نماذج الفنون الجميلة من غيرها كما ذكرنا.
لا شك في أن الأمة الأولى أخذت نماذجها عن الطبيعة، ولكن من خلفها من الأمم قد رأى الأخذ عنها أقرب من الأخذ عن نماذج الطبيعة، فإذا كان شباننا المتعلمون يجعلون من بعض همهم زيارة دور الآثار واستقصاء ترقي التصوير والصناعة الفنية فيها من عصر إلى عصر، واعتادوا على ذلك حصلوا لذة لا يحصلها الذين يصرفون وقت الفراغ في غير لذة بريئة، بل في سكون وسآمة، واستفاد منهم المستعد في صحة حكمه عن الأشياء، وزاد علمه بمصر وحبه لها وتقديره تقديرا صحيحا مجدها في المدينتين الفرعونية والعربية، واحترام قومه ونفسه بالتبع، إذ الواقع يشهد أننا لا نعلم من قيمة وطننا ومجده ما يعلمه السائحون، فإذا نحن تتبعنا آثار الجمال وعنينا بجمال الآثار، حصلنا على بزور جديدة تنفعنا في تمصير المدنية الغربية الحالية؛ لأن أذواقنا تكون بعدئذ خليطا مما تعلمناه من المبادئ الغربية، وما كسبته مشاعرنا من التربية الغربية، ومن ذوق مصري ونزعات مصرية مصدرها مشاعر جنسنا الوراثية مضافا إليها المشاعر المصرية التي تتكيف في نفوسنا تكيفا مصريا حقيقيا بالإيغال في تعريف الآثار المصرية فرعونية وعربية.
لا شك في أن آثارنا جميلة ورؤيتها تبعث في النفس الرضى الذي يحصل برؤية الجميل، وخير الفوائد ما وجد منه المستفيد رضى ولذة، فلا يغلو الذي يقول: إن الوقت الضائع هو ذلك الوقت الذي يصرفه أبناؤنا وبناتنا المتروضون في غير مواضع الآثار.
لئن قام عذر علمائنا الأثريين في أنهم لا يظهرون حبهم لنشر معلوماتهم الأثرية بالمحاضرات، فما هو عذر الشبان في هجر دور الآثار التي إن لم يجدوا من يعلمهم فيها، ويوضح لهم جمالها، ولم يستطيعوا أن يستفيدوا مما كتبه العلماء في وصفها وسنها، فلا أقل من أن يدركوا جمالها ويحصلوا لذة رؤية الجميل، إنه لا تتم وطنية المرء إلا إذا عرف أمته قديمها وحديثها، فإن من جهل قديمها فهو مدع في حبها؛ لأن من جهل شيئا عاداه.
ربيع الحياة1
رأيت صباح اليوم أزهار الربيع على أكمل ما تكون، إما في أكمامها وآثار الصحة بادية عليها، وإما زاهية قد مزقت أكمامها وأسفرت من حجابها بين بين، لا هن سوافر خالعات العذار، ولا هن متخذات ستورا من الأكمام والأفنان، أسفرن فكلهن قرة للعين، ولذة للشم، ومبعث لحركات العواطف، لا أعرف عن طريق اليقين الوجه في جمال هذه الزهور، ولكنها في الواقع جميلة، كذلك لا أعرف الصلة الخفية بين رؤية الأزهار وشمها، وبين آيات الحب، جلت حكمة الله أن تتناولها عقولنا، ولكن الاستقراء دل على أن هذا النوع الإنساني منذ نشأ إلى اليوم، يتعشق الزهر ولا يطيب له مجلس لهو إلا إذا كان للزهر فيه المقام الأول منثورا ومنظوما، صحبا أو أشتاتا، بل كلنا يود أن يكون له بستان من زهر، ومن لم يجد هرع وقت فراغه إلى الحدائق العمومية، ومن لم يجد من الفلاحين أعجبه كثيرا أن يقيم وقت أنسه على قرب من زهر الفول، ومن لم يجد اتخذ له صورة بستان أو خيال بستان من الزهر في آنية للفخار يضع فيها القرنفل والورد في شبابيك داره، بل أصبح من القضايا البديهية أن الدلالة الوضعية على رقي أمة عنايتها بالزهر واستمتاعها به، وما هذا الاستقراء التام إلا جاعل نسبا ثابتا بين الزهر وبين الأنس ومسارح العواطف وحركات القلوب.
لقد يسمج التعليل المنطقي في موضوع كهذا خفيف بطبعه لا يحتمل ثقل المنطق ورصانة التدليل، ولكني أستأذن القارئ أن أستدل بهذا الاستقراء على أن الزهر من دواعي التقريب بين القلوب وبين عوامل الائتلاف بين الجنسين، وقد كان دائما مفتاحا تستفتح به هدايا الوداد، بل اتخذت ألوانه المتنوعة وأنواعه المتعددة علامات على المشاعر المختلفة التي لها علاقة بذلك المعنى المعروف بآثاره المجهول بكنهه، وهو الحب.
Bilinmeyen sayfa
وإذا كان الزهر من دواعي الحب ، وكان الحب داعية حفظ النوع، وكان الربيع خير الفصول في وفرة زهره وجماله، فهل يستطاع الأمل بأن هذا الربيع يدعو الغلاة المماطلين من أبنائنا وبناتنا إلى فك (الاعتصاب) الذي لزمهم أو لزموه هذه السنين الأخيرة على أكبر واجب حيوي! فينزل كل منهم عن المثل الأعلى في خياله إلى ما دونه من الأمثلة، ولا يتشدد في التمسك بالاعتبارات الإضافية كفقر الزوج أو مركز أبيها في الحكومة ... إلخ، وأن يتساهلوا بعض الشيء ولو في بعض الشروط المعقولة عندهم غير المقبولة عندنا نحن الآباء، لا بحجة العقل ولا الدين، ولكن بحكم العادة الطويلة.
هل يستطاع الأمل بأن هؤلاء المماطلين المتعصبين يخففون عنا كابوس الخوف من قلة النسل في الفرقة المتعلمة من الطبقة الوسطى؟ إنهم لو ذاقوا تلك السعاة الزوجية وشملهم سلام العيشة العائلية وشعروا بلذة عواطف الأبوة، لما احتاجوا إلى إلحافنا في المسألة، ولندموا على ما ضيعوا من ربيع الحياة.
جني القطن1
لا أجمل من العمل إلا جني ثمراته، وما أسعد صباح الجنائين! يتنادون فيجتمعون، ويتفقد بعضهم بعضا ثم يسيرون، يمشون في طلعة الشمس جماعات جماعات مستبشرين رجالا ونساء فتيانا وفتيات صبيانا وصبيات، يأخذون معهم مواشيهم تأكل تحت أعينهم من حشيش الأرض أو من خف الذرة المجاورة لمزرعة القطن، تتبعهم كلابهم أيضا، فتكاد العائلة لا تخلف في البيت إلا من تصلح لهم الطعام، ترى الأطفال وقد خفت من الفرح جسومهم الصغيرة فهي تنط من هنا إلى هنا، وتثب وتلتفت، يضحكون من لا شيء، يغنون طربين بأنهم تركوا المألوف من تفرق العائلة بكرة النهار كل إلى عمله بعيدا عن الآخر، كبار العائلة إلى المزارع، ونساؤها إلى الأعمال المنزلية، وصغارها بعضهم يذهب إلى المكتب وبعضهم يسرح بالماشية، تنسخ هذه العادة يوم جني القطن، إذ يذهب جميع أفراد العائلة بجملتهم إلى المزرعة، يتسابقون في الجني، ويتبارى فتياتهم في الغناء، وتنافسهم في إجادة النكت الجميلة يضحك منها الجميع.
إن هذا المنظر الجميل لأولئك الرفقات المستبشرة، لا تدع محلا للشك في أن جني القطن هو موسم سعادة الزارعين .
يمشي رب العائلة إلى الغيط أمام عائلته وقلبه مملوء بالرجاء، يرجو أن تكون ثمرة عمله السنوي وفيرة يؤدي المال ويدفع الإيجار ويبقى له من ثمن القطن ما يفي بنفقاته، وكان هذا السرور الداخلي يطبع على وجهه سيما الرضا ويفيض على أخلاقه سعة الصدر، ينظر إلى أهله وذويه نظرات المودة حتى إذا أراد حثهم على العمل لا يكون صيغة الزجر إلا صيغة تلطف وتشجيع ، إذ يدعو لهم بالعافية فيقول (عوافي).
شغل المزارع كله صامت أو قليل الجلبة بطيء الحركات له مسحة من الوقار وعليه أمارات الصبر وسكون الحزن، إلا جني القطن، فإنه كثير الحركة متوالي الجيئات والروحات خفيف الحمل يتخلله طيب الغناء وعذوبة اللحن حينا، وحديث الجنائين بعضهم لبعض حينا آخر، يتجلى فيه الفرح بالجماعة، وإن للجماعة لروحا عامة تفيض على أفرادها حتى إذا مررت بهم من على الطريق، وليس لك في القطن فتيل ولا من ثمنه مليم أفاضوا عليك من فرحهم فشاركتهم فيما هم فيه، ولست أعرف منظرا أروح للنفس من منظر الراضين.
إن لم يكن القطن جميلا عند أهل المعرفة بالجمال، فإن جنيه من أجمل ما يكون، ومع ذلك فهو جميل، إنه نافع وكثيرا ما يكون الشعور بالجمال غير خالص من دواعي المنفعة، كثيرا ما يكون الجميل هو النافع، بل ذهب بعض المتعرفين جمال الأشياء إلى أن أصله في النفس المنفعة لا غيرها، على أن مزرعة القطن المحصورة في ذلك الإطار من التيل القائم عليها قيام السياج على البستان، ليست إلا لوحة من ألوان الطبيعة الجميلة عند القلوب التي تقدر الجمال، لو أن الجمال معروف الأوضاع ومحل للدليل والبرهان، لقلت كيف لا يكون جميلا مجموع تلك الشجيرات مشتبكات على مسافات متساوية سيقانها حمر وأوراقها صفر وخضر ومدهامة وعلى غصونها المترنحة، أبراج القطن الأبيض ... إلخ.
ولكن الجميل هو ما ترضى به النفس وتحبه كذلك، إن شئته روضا فهو كذلك، وإن شئته غلة فهو كل ثروة البلاد، جنيه الظاهرة الاقتصادية الكبرى في مصر، وإلى حاصلها تنسب الشدة والرخاء طول العام، يظن الثقاة من المزارعين أن حاصل هذا العام لا يصل بحال سبعة الملايين، وقد كان في العام الماضي وشيك الثمانية؛ لهذا التقدير ولتقديرات أمريكا، يقولون: إن القطن سيزيد ثمنه زيادة تعوض بعض الخسارة في كميته، ولست أظن هذه التقديرات العابثة محجبة عن أدمغة أرباب المزارع، إنهم يدركونها وهم وسط أولادهم في الجني فتثقل رؤوسهم، فيطرقون بعض الشيء، وكأني برب المزرعة استخفت من حواليه أصوات ذويه الجنائين حين يرهقهم حر الشمس في الظهيرة يكثر تفكيره في تقدير حاصل زراعته، وتتمثل أمامه شخوص الدائنين الملحفين في الطلب فيطرق، ولكنه لا يلبث أن تحجب الشمس غمامة فيمسح الأولاد جباههم بأردانهم، ويعودون إلى غنائهم فينبهوه ويشاطرهم ما هم فيه من الغبطة، وكأني به يقول وهو يطرد عنه هم الوفاء: خلنا نأخذ بطرف من سرور الحياة ولهوها فسرورها قليل وندع الهم إلى ساعة الوزن وتصفية الحساب.
أول العام1
Bilinmeyen sayfa
بالناس في الجديد من الزمان رغبة وإليه شوق، نفرح بالعام الجديد والشهر الجديد، كأن حاضرنا يثقل علينا حمله، نرغب في الفرار منه إلى غيره؛ أو لأن النفوس شيقة إلى معرفة ما يكنه المستقبل في الصحائف المطوية وراء حجب الغيب، في ظرف الزمان نستبطئ الحاضر ونستعجل المستقبل، والذي نرجو أن يحقق فيها كل امرئ آماله وأمانيه، وما أول العام إلا باب هذه المسافة الزمنية؛ لذلك كان استقباله عندنا عيدا من الأعياد.
يا عجبا من الإنسان! هو يحب الحياة ويفرح بانقضاء الزمن وما هو إلا انقضاء الحياة، ولقد جرب ثم جرب أن المستقبل إن حقق له لذة منتظرة، فقد رماه أيضا بألم جديد، وإن أسدى نعمة فقد أتبعها بنقمة، وإن جاء بحسنة فما يلبث أن يصيب بالسيئة، وما هذا المستقبل المنتظر إلا أشبه ما يكون بالماضي بل هو شر منه؛ لأنه زمن الهرم وموطن الضعف والمانع من قدرة التنعم بنعيم الحياة، من الصعب أن ندرك ذلك السر الخفي الذي يجعل المرء يستعجل المستقبل فيما يتعلق بحياته الفردية ويشتغل به إلى حد الانصراف عن كل الحاضر، ما دام المستقبل هو فناء الحياة، نعم تنقضي حياة الفرد وهو يرجو من المستقبل أن يعوض عليه ما فاته فهو لا يفتأ يرجو، والدهر لا يفتأ يخيب ذلك الرجاء.
ولكن الإنسان إذا قصرت حياته عن تحقيق آماله الشخصية فإن الأمم طويلة الأعمار إذا أدركها الهرم لا مانع يمنعها من استعادة شبابها وقوتها، فلا جرم أن ننتظر من المستقبل أن تتحقق فيه آمالنا العامة، وأطماعنا القومية، ويجني شعبنا ثمار ما غرسه آباؤنا، وما يغرس الجيل الحاضر من المبادئ القومية، ونستعجل الأعوام المستقبلة تجيء بالسعادة التي يرجوها المصريون.
أهلا بأول العام مهما نشر لنا عامه من مطوي الحوادث، فإنه يجدد لنا ذكرى جده الأول يوم هجرة نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم ، ذلك اليوم الذي سن فيه النبي للناس كافة أن الحق أحق أن يتبع، وأن المرء يجب عليه أن يضحي في الدفاع عن الحق ما استطاع من الضحايا ولو كلفه هجرة وطنه وأهله، والسلب مما هو فيه من نعمة الطمأنينة والراحة، بل لو كلفه تعريض حياته إلى أشد الأخطار، ذلك اليوم الذي قلب وجه العام، وبدل الشرك توحيدا، والضلال هدى، والظلام نورا، والظلم عدلا، وتفاضل الناس بالأنساب والأموال مساواة، يوم الإخاء والمساواة، يوم الديمقراطية الصحيحة، يوم تقرير سلطة الأمة في شئونها الدنيوية، والدين لله الواحد القهار.
لكل قوم عيد، وهذا عيد الأبرار الذين يقولون بالإخاء والمساواة، ويجرون وراء تحقيق سلطة الأمة، ويسيرون على المبادئ القويمة التي جاء بها الدين الحنيف لخير الأفراد والشعوب.
الرجل السعيد1
لم تك بي حاجة إلى مصباح ديوجين لأبحث عن الرجل الطيب، ولكن بنا حاجة إلى نور الأرض والسماء لنتعرف الرجل السعيد.
إذا كانت السعادة في أفراد الأمم البادية قليلي الحاجة والهموم، يلمع نورها في عيونهم الجميلة السليمة من أذى الإجهاد، ويترقرق ماؤها في جباههم الواضحة، وتتم خفة حركاتهم عن قلوب خفيفة من أوزار الحياة ونفوس طابت عن كثير من عرض الدنيا وشره المدنية، رضيت من مزايا الحياة بالحرية.
ونعم الحال تتقلب النفس على هواها في مراتب العزة وتأخذ من العيش بنصيب صفا من كدر الأحقاد وغصص المزاحمة المستمرة وخلا من الهموم العامة لأهل الحاضرة، إلا مما كان من غارة يقتضيها العيش أو لقاء عدو للدفاع عن الوطن.
Bilinmeyen sayfa
وكلاهما قد يزول همه بانقضائه، لا كأهل المدينة سلمهم حرب وحربهم حرب، فهم في السلم من خوف الحرب في حرب شعواء، أدهى وأمر من الرمي والطعن والضرب، وهم من خوف الفقر ومن المزاحمة على حاجات الحياة وكمالياتها في حرب ، وهم من ثروتهم العلمية والفنية والمالية في فتنة مستطيرة الشرر، تقلق المليء والخالي، وتكد ضمير العظيم والحقير على السواء.
إذا كانت السعادة في أفراد الأمم البادية، فأخلق بها أن لا تكون في مدنيتنا، بعيد عن السعادة، وهي أمنية الحي، رضاء النفس وطمأنينة القلب ونور العين، أن نلقاها في حمأة الشهوات الذي تزحف فيه النفوس، وتتخبط في ملاطمه القوى والملكات، إلا الذين أخلصوا قلوبهم وتعرفوا الحياة بالعقل وبالمثل، فعرفوها عن قرب، يضربون فيها لأشخاصهم هونا ويعملون لسعادة غيرهم جما، ويكبر في صدورهم حب الإنسانية وتنمو في نفوسهم طبائع الخير، فتميت ما عداها من الميول، رضي الله عنهم ورضوا عن أنفسهم، وحققوا سعادتهم في هذه الدار، أولئك هم السعداء.
أين الرجل السعيد الراضي بحاله في هذه الحياة الدنيا؟ وقلب المرء بما أودع من الهموم الحقيرة والجليلة، لا يهدأ روعه ولا يكن هياجه إلا إذا أصاب أغراضه ووصل آماله وبلغ أمانيه وما هو ببالغها؛ وكلما انقضى منها سبب جاءه سبب جديد، إنه لا نهاية لأغراضه ونهاية حياته واقعة لا شبهة فيها، وإن حاول هو أن يؤجل هذا الواقع، وإنه على ذلك ينفطر قلبه حسرات على ما يفوته من مطلوب، وتذوب نفسه شعاعا على فقد محبوب، إن أصابه الخير يزهيه فيركب متن الكبرياء وهو بركوبها شقي، وإن أصابه ما يظنه الشر يتبرم بعدل الوجود ويتغير للجمعية ويركن إلى الخمول أو يجرع كأس الذلة وهو بذلك أيضا شقي، ولو أنصف الإنسان لاعتقد أنه لا قبل له بتغيير مجرى الحوادث، ولا طاقة له على حسن تقدير الخير والشر:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون .
لو أنصف الإنسان لما جعل له من غرض في الحياة إلا القيام بما يعتقده الواجب، يخلص له النية والعمل جميعا، يعمل ثم يعمل، فإذا جاءت النتيجة على وفاق ما يقدر فليرض وليقنع من الرضا وليرضي نفسه على أن لا يخدعها النجاح كي لا تجمح وتتعسر عليه فيضيع من يده زمامها، وإن أكدى العمل وجاء بنتيجة عكسية، فليرض أيضا وليرضي نفسه على أن لا يخدعها الفشل، فتمل العمل وتقصر في أداء الواجب.
ألا إن السعيد هو من يعرف أن يرضى بحاله، فليست السعادة هي الثروة ولا الاستمتاع بها، وليست هي الجاه ولا آثاره، وليست هي الحب ولا لذاته، وليست هي العلم ولا نوره ولا منافعه، وليست هي الجهل ولا جموده وجرائره، وليست هي النباهة ولا كبرياؤها، وليست هي الخمول ولا انزواؤه وتعطيله، وليست هي الحكم، ولا في نظام الاستبداد ولا قدرته، وليست هي الجمال ولا شفاعته، وليست هي الظرف ولا خفته، وبعيد أن تكون هي العقل وحسابه، إن لم تكن هي الخيال وأوهامه، ليست السعادة شيئا من ذلك ولا هي كل ذلك بجمعه، بل السعادة ظن السعيد أنه سعيد.
جلت قدرة الله: إن لم نتعرف السعادة بين البؤساء فنحن لا نعرف لها أثرا بين الأغنياء، وإذا وجدناها من حظ الأغبياء فهيهات أن نجد فيها نصيبا كبيرا للأذكياء! نؤكد أن السعادة هي إحساس الموجودات وليست من الأعدام، ولكنها لا يلقاها إلا ذو حظ عظيم، لا يلقاها إلا من كان لا يعرف الهم، وهذا الصنف من الناس لا تنفعنا سعادته، كما لا يعز علينا شقاؤه، ولا يلقاها إلا رجل ذكي القلب راضى نفسه على الرضا، فرضيت غير كارهة، عرفت الحياة فلم تبالغ في تقديرها، وعلمت قيمة الواجب وقدرت على القيام به حق قيام، وأخذت الحوادث فاستقبلتها كما هي لا كما يجب أن تكون، ذلك هو السعيد الذي نرجو أن تكثر في العالم صورته، حتى لا تكون السعادة بالعلة أو بالجمود وعدم المبالاة، بل لتكون السعادة في العمل لخير الإنسان وبالعمل لرقي الإنسان.
الرجل الصريح1
إذا كنت تقابل الناس بأكثر من المعروف هشا وبشا وتلطفا وتسوم طبعك المزح الذي ليس من خلقك ليقول عنك الناس ما ألطفه وما أرق حاشيته، فإنك بذلك توشك أن تعد في ضمن المخادعين، وما أنت بالرجل الصريح.
إذا كتبت أو خطبت فأخفيت ما تعتقد لتظهر ما لا تعتقد مجاراة لرأي الناس، فما أبعدك عما يشخص الرجل الصريح.
Bilinmeyen sayfa
إن الخداع درع خلقة تكاد لا تستر الخادع إلا ما دام الناس عميا، فإن أبصروا لا يلبث ستر الخداع أن يتمزق إربا ويتلاشى هباء عن الكذب عريان خجلا لا يستطيع بعدها أن يكون مطرحا للثقة ولا محلا للمعاملات.
كأني بالخداع لا يركب نفسا إلا نزلت عن شخصيتها، وضلت في تقدير ماهية المنفعة الشخصية، وجبنت عن احتمال المسئولية عن أعمالها، فضعفت أن تبرز في ميدان المعاملة الإنسانية إلا مقنعة بالزور مشتملة بثوب كثوب الثعبان من النفاق، فلولا رحمة من الله وعقل هاد إلى الصواب وتسامح من طيبات النفوس لهلك المخادع لساعته ضعفا عن الحياة وأسفا على ما فرط في حق نفسه وفي حق الصراحة الإنسانية.
الصراحة ضمير حي وعزة تحمي من المداجاة وشجاعة تكفي لاحتمال مسئولية ما ينكره الناس على الرجل الصريح.
ذكرت جريدة الأهرام أحد نوابنا فقالت: (... حلو الدفاع عذب العبارة شديد العارضة إلا أن له ضميرا حيا لا يخالفه ...) ذلك هو المثل الصريح للرجل الصريح.
كثرة الصرحاء في الأمة أمارة على عزتها، فمتى تكثر فينا صورة الرجل الصريح؟
زهر الربيع1
ليس كل الحياة شقاء للسعي إلى مال ينفق أو يدخر وإلى مباراة في رفعة المناصب، بل الحياة أيضا استمتاع بجمال الطبيعة، فكرة خفيفة الوزن تافهة القيمة عند أهل الوقار، أولئك الذين يرون ركض الدابة ينافي الوقار، ولعب الكرة يذهب بالوقار، ومعظم أسباب التربية البدنية لا يتفق على ما يجب للرجال من إطراق طويل وسكون عميق وجمود على المأثور عن السلف الصالح القريب، كأن الأمة يجب أن تكون كلها من أهل الرياضة والكشف، يضحون قوة البدن لصفاء الروح حتى تنزع بجهتها القدسية عن هذا العالم السفلي إلى الملكوت الأعلى، ولو أنهم أرادونا على احتباس النفس عن لهو الدنيا ولعبها إلى العمل للآخرة ونعيمها، لكان فيما يهدون إليه من التقليد مغنم.
ولكن الحال قد تبدلت إلى صرف النظر عن جمال الطبيعة ونعيم الحياة الإنسانية إلى أخس أطراف هذه الحياة: الحرص على الخدمة في الحكومة ، والحرص على فقد الحرية في كل شيء حتى في اللذات البريئة، حتى في الاشتغال بتربية ملكة الجمال، حتى في العناية بغرس الأشجار وتوليد الأزهار، الحرص على فقد الصراحة في كل شيء حتى في الأعمال الشخصية، تقف عن الظهور بتعرف الجمال حيث كان، وعن إعلان حب الجمال، وعن الظهور بحب الأزهار واستقبال الربيع بالتحية والارتياح، بديل ذلك استغراق في اللذات المخجلة بشرط أن تكون خفية حتى لا تجرح قدسية الوقار.
رب! كل ما خلقت تابع لقانون التطور حتى المعاني والأفكار، فالذين تجردوا من مزايا السلف الصالح في علم يفيد وجد ممتع وسيرة طابت ظواهرها وبواطنها قد اكتفوا من أسلافهم بتقليد شيء واحد لم يقدروا إلا عليه وهو صورة ظاهرة من الإطراق لا في التفكير والسكون، بل هو مظهر يقتضيه الوقار؟ فإذا تحركت النفس الإنسانية في هذا الجسم الوقور فإنما حركتها إلى الشهوات السافلة المنحطة دون الشهوات العالية من اغتباط حقيقي بجمال الطبيعة، وتقدير صحيح لما أودع في الفنون من كنوز الجمال، ذلك جيل ذهب بأهله، ولنا جيل ناهض يجب أن يؤلف بين علمه وبين نزعات نفسه، ويضيف إلى تثقيف عقله تهذيب مشاعره، ويطرح جانبا كثيرا مما ورثناه من ماضينا القريب، فيعمل للمزاحمة العالمية ليكسب قسطه تحت السماء من مال يسد الحاجة وقوة تحمي الوطن ولذة بجمال الطبيعة تعين على فهم الحياة، فيعنى بمظاهر الجمال كما يعنى بزراعة القطن؛ لأن الحياة ليست شقاء خالصا بل هي يومان: يوم للشقاء ويوم للنعيم، ويأخذ بنصيب من الالتفات للظواهر الطبيعية كما يحرص على الاستفادة من الظواهر الاجتماعية والحوادث الاقتصادية.
ها نحن أولاء أمام الربيع، أزهاره تنسم أنفاسها، وتأخذ بأبصارنا ألوانها، وتحرك جدتها عواطف الحنان في قلوبنا كأنها بعض أبنائنا إن مرآها ورياها ينقلان نفوسنا من عالم الشقاء إلى عالم النعيم، ومن أرض الحقيقة الواقعة إلى سماء الخيال الجميل، لا أظن هذا الانتقال وهميا لا وجود له، كلا إنه صحيح واقع فإننا نشعر بوجوده في قلوبنا ونرى آثاره على وجوهنا، إن خيال اللذة البريئة موجود وأثره سعد، ولعله هو نعيم الحياة، فأهلا ومرحبا بأزهار الربيع.
Bilinmeyen sayfa
ليس جديدا علينا بني الإنسان أن نعلن مشاعر الاغتباط، ونسدي عبارات الإعجاب إلى الربيع وجماله، فقد كان ذلك في كل زمان موضوع وصف شعرائنا، والمحرك الأول لعواطف المحبة في صدورنا، وكأن الزهر رسول المودة وهدية الحب بين الأنفس الحساسة التي بينها وبين الجمال نسب متين.
كنا ولا نزال نبتهل إلى الربيع وننسب بالطبيعة؛ فهل لها أذن تسمع تغنينا بجمالها؟ أم هي صماء صادرة عن قوات أزلية سائرة إلى مصير مرسوم لا تلقي نظرة على سكانها المفتونين بزخرفها الفانين في حبها، وهم في الحقيقة ضحايا عدوانها، ليكن كل ذلك، ولكن ذلك غير مانع لنا من أن نستوفي قسطنا من الحياة على أكمل ما نستطيع، نبلو مرها ونطعم حلوها، ننسى آلامنا فيها بما يسحرنا من جمال أزهار الربيع.
علموا أبناءكم حب الجمال، ونموا في نفوسهم ملكته، ليعلموا أن الحياة ليست جحيم الهموم، ولكن فيها لمحات من النعيم، إن حب الجمال يرفع النفس إلى لذائذ أطهر طبعا وأسعد أثرا وأبقى في العواطف نتيجة من كل ما عداه من لذائذ الحياة، وإن أبسط موضوع لتعرف الجمال والمران به أزهار الربيع.
الصداقة1
حدثني صديق ذكي القلب ينتفع بكل الحوادث ويعتبر بكل المشاهدات قال: ركبت الترام إلى جانب السواق فحضرتني طائفة من الأفكار ترجع كلها إلى حال هذا العامل وما يعاني من سفر مستمر خلو مما نجد نحن في أسفارنا من التعزية ببلوغ الغرض، وما يحمل من مسئولية كبيرة مستمرة إذ هو مسئول عن سلامة الراكبي ترامه، مسئول عن المصادمات ، مسئول حتى عن الأطفال المتعسفين يمر أحدهم أمام الترام ليغتبط بخفته في العدو وليهزأ بسرعة الكهرباء، أو يتصدى للتعلق به سائرا من على اليمين حيث يتاح له النزول من غير خطر أو على الشمال إذا زلقت رجله، فهو وشيك أن يلقى بين ترامين، قال: حادثت السائق حيث لا خطر من محادثته وسألته ماذا يجد من عمله وهو يذوق لذة المسئولية التي يحملها والخدمة التي يؤديها؛ فأجاب ببساطة خاصة بالأفندية من درجته ومستوى تربيته: إن عمله شاق ممل، ولكنه يخفف عليه كثيرا هذا الملل أن يقابله سواق آخر من أصحابه يتبادلان في هذه الفرصة الضيقة عبارات التحية لا يتمانها حتى يبعد كلاهما بحيث لا يسمع صوت الآخر، تسلية ضئيلة! ولكنها مع ذلك مثيرة في النفس إكبار الصداقة وإنها من الشروط الأصلية للحياة.
لم ينفرد صاحبنا السواق بالمسئولية بل كلنا في المسئولية سواق ترام يحتمل مسئولية عمله ونتائج أعمال غيره أيضا، وكلنا معذب لا بد له من تعزية تخفف عليه حمل الحياة، والظاهر أن أكثر التعزيات خيرا وأطولها عمرا وأطهرها طبيعة هي الصداقة.
يرد على الخاطر في هذا المقام معنى قلما فات امرأ استعماله: (لا لا، كلنا أصدقاء). يقولها الواحد لصديقه إذا عرض عليه الاشتراك في عمل مالي أو نحو ذلك من الأعمال التي مغبتها عادة الاختلاف على المنافع وتبدل الصفاء كثيرا بين المتعاملين! مهما قيلت هذه الجملة في مقام الاعتذار، ومهما ابتذل استعمالها فصار يتناول علاقات غير الأصدقاء في الحقيقة، إلا أنها مع ذلك لشيوعها في الناس تعتبر من جانبهم إجماعا على أن الصداقة فوق كل المنافع وأغلى ثمنا من أن يشتري بها الرجل كائنا ما كان من الأعراض الإنسانية.
ما هي حياتنا إن لم تكن في الواقع مجموعة من المشاعر المختلفة، بها وحدها نحيا ومن أجل الجمع بينها والحصول على لذتها نتعب وننصب وفيها نحيا ونموت! وما أظن ما في الإنسان من قوى مادية وعقلية إلا خدما لتشبيع مشاعره النفسية: ألا ترانا ننظر إلى ما في الدنيا بنظارات تأخذ ألوانها من صفاء نفوسنا وكدورتها، فالمغتبط بما هو فيه يرى الحياة وردية - كما يقال - ولو كان في فقر الأنبياء أو في غيابات السجون! أما الذي يظن أن تقطعت به أسباب الفوز ولازمته خيبة الرجاء في مقاصده أو في أصدقائه، أو من هو لأي سبب تكدرت مشاعره، فلا يرى ما هو فيه من نعم الحياة إلا جحيما مقيما، إنها مشاعرنا النفسية هي التي عليها العمدة في جعلنا سعداء أو أشقياء ، فليس بعجيب على الإنسان أن يجعل للصداقة وهي أظهر المشاعر الإنسانية هذه القيمة ويفضل الشعور بها والاغتباط بلذتها على كل شيء.
يسرف الناس في استعمال لفظ الصديق مقولا على الزملاء والمعارف بل ومعارف المعارف، وما أرادوا بذلك امتهان الصداقة وابتذال أمرها، فإنهم منذ طفولة الإنسانية إلى الآن، ينشدون الخل الوفي ويقولون بامتناعه بوصف أنه المثل الأعلى للصديق، ولكنهم يريدون أن يشرفوا طبائع علاقاتهم بعضهم ببعض إذ يعطونها لون الصداقة أو لفظ الصداقة، ولو سئلت ما الصديق لما زدت على أنه ذلك الإنسان بعينه الذي تشعر في نفسك بالفرح عند لقائه والشوق للجلوس إليه والإفاضة له بكل ما لديك، تعطيه مفتاح عقلك وقلبك آمنا ليرى فيهما كل شيء. يوحشك بعده ويؤنسك قربه وتجد من نفسك باعثا قويا وحاجة لا يسدها إلا لقاؤه.
ولقد نجد في الأمثلة الصديقين يكون كلاهما للآخر على ما وصفنا، فلا يقع بينهما، إلا أصبحا لا كالمعارف بل كالأعداء، وهذا صحيح مشاهد، ولكنه لا يطعن على معنى الصداقة في شيء، بل هو يدل على أن الصداقة كبقية المشاعر النفسية مختلفة الكم والبقاء باختلاف الاستعداد، فمن الناس من يحب إلى الشوق بل إلى الهيام بل إلى الموت، ومنهم من يحب حبا لا يتعدى المتعارف في القدر ولا يتعدى أياما أو أسابيع في البقاء، ومهما كان من الصعب التفريق التام بين عاطفة الصداقة وعاطفة الحب تفريقا منطقيا ووضعيا، إلا أننا مع ذلك نشعر في نفوسنا بتخالف بين الإحساسين وتباين في الكيف بين موضوعيهما، فالنفس التي لا يمكنها استعدادها إلا من السير في الحياة على مقتضى المصادفة الصرفة، تنتقل في صداقتها كما تنتقل في إذاوق المودة، قل أن ننعم بهذه الصداقة وإن كان من الصعب علينا أن نظن أنه توجد نفس لم تذق لذة الصداقة قليلا أو كثيرا تبعا لمبادئ التربية وفطرة الاستعداد.
Bilinmeyen sayfa
ما أشمل الرضا للنفس تجلس إلى نفس صديقة مجلسا ليس للتكلف في الأوضاع المادية ولا المشاعر المعنوية فيه أثر! روحان اتفقتا في المشاعر وتم بينهما التفاهم في كثير من أمهات المبادئ العلمية والكليات العقلية، لذة يعرفها الذي يعرف لذة الأحلام، فكثيرا ما تجرد النفس من ذاتها في العزلة خيالا تفضي إليه بما فيها وتبدي له ما خفي في طيات أعماقها من المقاصد، وما رسب فيها من الآلام، فإذا وفقت إلى الصديق الموفق كانت هذه المفاجأة الحلمية اللذيذة أشهى متاعا وأقوى لذة من لذة الهواجس الفردية ومسارح الأحلام.
وما الصداقة بقاصرة في آثارها على هذه اللذة، لذة الحديث العذب والبعد مسوقة عن عذاب الحياة اليومية وأثقال التكلف في أوضاع الأعمال، بل كثيرا ما كان صديقك مرآتك ترى فيها عيوبك وفضائلك جميعا، بل طالما كانت الصداقة وتشيع الأصدقاء مصدرا للتفوق والنبوغ. نفعت الصداقة الروح بتخليصها من سآمة الوحدة وألم الوحشة، ولكنها نفعت العلم والأدب أيضا في كثير من الأحيان.
إحساس تلك هي الحاجة إليه، من حقه أن يتعهد أمره في النفس لينمو فيها، فلا يغيرك لصديقك خطأ وقع فيه، فما الكمال بمدرك في هذا العالم، بل يجب أن تكون معاملة الصديقين مبنية على حسن الاعتقاد وقاعدة التسامح.
سلطة الأمة1
لا يزال عندنا كثير من الناس المسئولين عن مصر بحكم مراكزهم من العلم والمعرفة أو من الحياة والمال من إذا حادثته في سياسة البلد تقبض وجهه وأعرض عن حديثك بنظره، كأنما جئت تلقي تحت نظره ميزانية الإفلاس تنطق له بأن ما على مصر أكثر مما لها. يقول لك الأمة ضعيفة لا سلطة لها، والأخلاق متحللة، والاحتلال لا يعمل شيئا لترقيتها، فكل جهد ضائع وكل عمل غير نافع. يقول لك ذلك وزفراته يلحق بعضها بعضا دلالة على أن نفسه تذهب على وطنه حسرات، ومع الأسف أن هؤلاء اليائسين هم بفضل مراكزهم قدوة للكثير من الشبان ينقلون إليهم هذا المعنى، معنى اليأس الذي يبعد عليه أن يأتي بنفع البلاد ... على أن الحس يثبت لنا كل يوم بالأمثلة أن المرء من طبعه أن لا يقنط من أمر محبوب لديه، بل النفس مائلة للاعتقاد بوقوع ما تحب دائما حتى من غير دليل.
وترى الخصم أمام القضاة لا ييأس من كسب قضيته ولو كان مبطلا عالما بباطله، وترى الموظف لا يقنط من الرقي مهما قامت لديه الأدلة على عدم كفاءته وتصميم رؤسائه على عدم ترقيته، والتاجر الذي كثرت عنده البضاعة ونزلت عليه السوق، لا يقنط من ارتفاعها ثانية أي من الربح المنتظر مهما دلت المقدمات على نقيض ذلك حتى يقع في الإفلاس، ذلك بأن الإنسان من دأبه الرجاء، وإنه لحب الخير لشديد، فما أعجب من شيء عجبي لرجل يحب خير وطنه كما يحب الخير لنفسه أو أشد، ومع ذلك سرعان ما يتسرب إليه القنوط من نجاحه لأول صدمة أو لظهور عرض من الأعراض الزائلة غير مناسب لوسائل الارتقاء.
أستغفر الله من أن أقول إن في وطنية أولئك اليائسين دخلا أو في قولهم زورا، ولكن الذي أراه أن ما هم فيه من اليأس ليس نهائيا، ولكنه متقطع يطوف عليهم كلما ظهرت بوادر الفشل، ويذهب عنهم كلما ظهرت طلائع النجاح، فتسميته يأسا فيها تسامح، وأولى بهذه الحال أن تعد ضربا من التردد الذي ينتج دائما عن عدم فهم وسائل الرقي فهما صحيحا، ومن الخطأ في تقدير مركزنا تقديرا تاما، لا يدخل إليه الشك من أي مكان.
إن الحكم على حال مصر الحاضرة حكما صحيحا، وفهم وسائلها للتقدم فهما تاما والعمل لتقويتها عملا متواصلا، يجعل المصري لا يبالغ في نتائج بادرة من بوادر الفشل ولا ينخدع بطليعة من طلائع النجاح، بل يستمر سائرا في عمله الهادي المتين يأخذ من أسباب الفشل درسا نافعا يتقي به أمثالها في المستقبل من غير ضجر ولا فزع، ويستفيد من طلائع النجاح سرورا كامنا وقوة تشجعه على مضاعفة خطاه الثابتة إلى الأمام.
الحكم على حال مصر يتوقف على الحكم على الاحتلال وعلى سلطة الأمة ولست أجد سببا لليأس من قبل الاحتلال الإنكليزي ولا من اليوم القريب الذي تتحقق فيه سلطة الأمة.
حكمنا على الاحتلال الإنكليزي إنما هو كما نحكم على نازلة من السماء لا نستطيع رفعها، ولكننا نستطيع أن نحولها إلى مصلحتنا ونتقي أضرارها كلها أو بعضها، حتى ينقضي أجلها وتمحي آثارها، ولقد صرح الاحتلال بأنه يرمي إلى الغرض الذي نرمي إليه نحن من تقوية مصر حتى تقدر على حماية نفسها، والمصالح الإنكليزية فيها من أن تعبث بها يد قوية. فما علينا إلا أن نطالبه كل يوم بأن يقوم بما افترضه على نفسه وأن يسلك السبل التي توصل إلى هذا الغرض المشترك، وعلينا نحن من جانبنا أن نكون أسرع منه إلى سلوك تلك السبل وأنشط إلى وضع المقدمات، والعمل إلى النتائج، ونبالغ في ذلك حتى نسبقه إلى الإصلاح نحن بأنفسنا؛ لأننا على صدق هذا الوعد نحن المنتفعون أولا وبالذات، لأن الإنكليز لهم غير الهند، وليس لنا إلا مصرنا.
Bilinmeyen sayfa
من المعوقات لنا عن السير إلى الأمام أن نتجاهل وجود الإنكليز في بلادنا وهم موجودون بالحس، وننكر سلطتهم بالفعل جريا وراء قواعد القانون الدولي فنغير القواعد كل يوم، وسلطتهم الفعلية هي المرجح في كل مسائلنا المصرية الداخلية منها والخارجية في يدهم كثير من الوسائل لرقينا، فإعراضنا عن هذه الوسائل لا يفسر إلا بأننا نزهد في نتيجتها وهي القوة والاستقلال، ولو لم نكن جربنا هذا الإعراض لكنا معذورين، ولكننا جربناه فكانت النتيجة ما رأيناه، فليس إلا أن نشتغل من جانبنا لمصلحتنا، ونحملهم - والحالة الدولية الخارجية كما ترى - على أن يسيروا معنا لتحقيق وعودهم ولنسهل عليهم الواجب الذي ادعوا أنهم يحملونه على عاتقهم، لو فهمنا ذلك فهما صحيحا وطالبنا بإلحاح أن يشركونا في التشريع وفي إدارة البلاد على القدر الذي تسمح به الظروف الآن، لاستعملنا وقتنا في مصلحتنا دائما ولما تركنا حاضرا معطلا من العمل والمستقبل ليس بيدنا ولا بيدهم ولكنه بيد الله.
لو سلكنا هذا الطريق ونجحنا فيه لحققنا مقدارا من سلطة الأمة نستخدمه هو نفسه بالعمل للحصول على ما يبقى منها بالزمان.
فأما كون الأمة ضعيفة والروابط الاجتماعية متحللة وسلطة الأمة معدومة فهذا قول سطحي صرف.
لا أستطيع أن أصدق أن أمة كأمتنا جامعة بين الاستعداد الاجتماعي والاستعداد العلمي تفقد قوميتها أو سلطتها متى وقعت في أعراض المرض والضعف بل الواقع يشهد أن أمة كهذه يستحيل أن تحكم عن رغم إرادتها أو تغلب على حريتها إلا إذا كان لرضاها من ذلك نصيب عظيم، وإن سلطة الأمة موجودة بالفعل إن لم تكن معترفا بها بالقانون، موجهة إلى غير طريقها الطبيعي؛ لأن الأحكام الماضية قد وجهتها إلى الرضى بالاستبداد قاعدة للحكم، كما وجهت غيرهم من الأمم العربية إلى ذلك، فليس همنا إيجاد سلطة الأمة من العدم وأستغفر الله - ولكن همنا هو تحويل السلطة الحالية التي تصرفها الأمة تصريفا غير طبيعي في خدمة غيرها إلى الوجهة العليا وجهة الحرية السياسية، وجهة خدمة نفسها واحتمال مسئولية شؤونها، ولا طريق لذلك إلا التعليم والتربية أن نوغل فيهما إلى حد يجعل الاعتقاد عاما بأن السعي في تحقيق سلطة الأمة هو أول الواجبات الوطنية على الوطنيين.
إذا كان الاحتلال الإنكليزي يستحيل أن يدوم إلى الأبد، وإذا كانت سلطة الأمة لا تلبث أن توجه بالتربية والتعليم إلى وجهها العالي النافع؛ وإذا كان عمر الأمة يعد بالأجيال لا بالسنين، فمن قصر النظر وضيق الصدر وقلة التفكير أن ننظر إلى المستقبل بنظارة سوداء أو أن تأخذنا الخفة بالشطط فنتخطى المقدمات إلى النتيجة جهلا بطبائع الوجود، بل الواجب علينا أن نتكاتف جميعا على انتشال الأمة من مراقد الضعف، وأن نغرس اليوم معتقدين أن ما نفعله اليوم نلقاه غدا، وأن نصبر على مبادئنا لا ننتظر أن نجنيها قبل أن تأخذ نماءها الطبيعي وتنتج ثمرها المطلوب.
في سبيل الارتقاء1
يكاد يكون من المضحك أو من المحزن أننا حتى اليوم لا نزال نبحث في وسائل انتقالنا من الحال الأولية - حال الضعف والجهل - إلى حال من القوة والعلم، متناسبة مع مقتضيات الزمن الحاضر، وكان من اللازم أن نكون قد فرغنا من القواعد العمومية من عشرات من السنين وصرفنا كل همنا في تطبيقها على الجزئيات اليومية، ولكننا مع الأسف لا تزال أكثريتنا بين يائس من الإصلاح جهلا بطرائقه، وبين عارف طريق الإصلاح، ولكنه يراه طويل المسافة بعيد النتيجة فينكب عنه إلى طريق خيالي صرف ، طريق التحمس وتنبيه شعور العامة تنبيها لا يجدون من قوتهم له منفذا، ولا من الظروف الحاضرة له مساعدا، فينقلب أمرهم من التنبه الاصطناعي إلى اليأس من كل شيء؛ لأن تنبيه شعور الإنسان تنبيها يوميا مستمرا إلى سوء حالهم مع عدم الانتفاع بهذا التنبه في الأعمال المشروعة الهادئة، إنما يكون في ظروف الاضطراب، وفي حال الاعتقاد بأن طريق الرقي هو استعمال القوة اعتسافا، وهذا طريق خطر السلوك عقيم النتيجة.
نحن لا نعرف في بلادنا أحدا معينا يعتقد أن سبيل ارتقائنا هو غير السلام، فإن الأقلام في مصر مجمعة على أن السلام هو الطريق الوحيد حتى أشدها تحمسا، وأدخلها في باب الطيش والتغرير، ولكن بعض الكتاب من الشبان أو غير المسئولين عن شيء في مصر قد دأبوا على أن يضربوا الأمثال في كتاباتهم بالحركات الأجنبية لا على القدر اللازم الكافي في العبرة والتبصرة، ولكنهم يكيلون منها كل يوم حتى بلغ من بعضهم عدم التبصر أن يبرر عمل الغادرين من غير أن يحسب النتائج التي تترتب على تبريره هذا والمثل السيئ الذي يضربه للشبان، فيقع من حيث لا يشعر في المذهب السيئ من مذهب الذين يظنون أن مصر ترقى بغير السلام.
أعترف أن مذهب التطور والارتقاء مذهب لا تأخذ طرائقه بالأبصار ولا تخلب الألباب، وإن كانت نتائجه باهرة لمن يستطيع العمل من غير جلبة، والصبر اللازم لانتظار نتائج العمل. والواقع أن الارتقاء لا يكون إلا بالتعليم والتربية، فأي مظهر يسحر أنظار الجمهور من مظهر معلم كفء في مدرسته يصلح عقول الأحداث ويهذب طبائعهم ويحول ميولهم إلى حب الخير، والجري في مجرى الحق والعدل؟ فما هو إلا جيل واحد - لا يعد لحظة في حياة الأمة - حتى يتبدل الوطن بساكنيه متحللي الروابط، رجالا قادرين بعقولهم وأخلاقهم وقوتهم على إعلاء شأنه والتشبث بإسعاده نتيجة باهرة، ولكن طريقتها منزوية عن العيون لا تبلغها حواس العوام ولا تحفل بها، بل لا تساوي عندهم في طريق الوطنية والعمل للوطن أصغر القيم، بل لا تساوي في الوطنية أن يجرجروا بأيديهم عربة كاتب يكتب لهم ما يرضيهم لا ما ينفعهم، أو تقليد من يخرج من السجن في جنحة قذف وسام شرف وفخار، أعترف بذلك ولكني لا أعترف من جهة أخرى أن العوام هم الذين نأخذ عنهم سبل تقدم البلاد، فحسبنا ما نألمه إلى اليوم من الطباع التي نقلها لنا العوام بحبهم الظلم وتجافيهم طرائق التربية والتعليم، يفرحون بالتحمس الفارغ، ويفرقون من جرائه، حتى إذا فشل قائدهم أصبحوا عليه أنصارا يحرجون مركزه ويسيئون إليه، ويولونه بعد الاحترام احتقارا وبعد النصرة خذلانا.
طريق التربية والتعليم هو الموصل الوحيد، ولكنه - كما يقولون - لا براق الرداء ولا حاضر النتيجة، فإنه كما لا يفرح به العوام جهلا بنتائجه، ومن جهل شيئا عاداه، كذلك لا تتفق مشاعر الشبيبة الغضة على اتخاذه والإيمان به؛ لأن انتظار نتائجه يخالف مزاج الشباب. وأخص صفات الشباب العجلة، وأخص ميوله الظهور بالقوة والبأس من غير أن يحسب مقدار قوته، والشباب من كرمه وطيب قلبه يحب التضحية يأتيها بغاية السهولة من غير نظر ولا تدبر، فهو بذلك يستسهل الصعب، بل قد يبغي المستحيل؛ لذلك كان الشباب الغض أنفع الأطوار الإنسانية في المخاطرة، ولكنه بقلة تجربته وعدم اعتياده على حساب النتائج، لا بد له ممن يحسب عنه، ويبين له الطريق المنتج من الطريق العقيم.
Bilinmeyen sayfa
كلنا يحب وطنه، وربما كان الرجل أعمق حبا من الشباب، وكلنا يحب سعادته بسعادة وطنه، وربما كان الكهل أشد حبا للسعادة؛ لأنه أشد حبا للحياة، ولكن من الذي يستطيع أن يثبت لنا أنه يوجد لإسعاد وطننا طريق آخر غير طريق التربية والتعليم، أي من ذا الذي يستطيع إقناعنا بل إقناع نفسه هو، بأن استعمال القوة ولو بمظهرها الأدنى ينفعنا ولا يضرنا، أو أن عندنا قوة تستعمل!
لا أحد، ولكن أنصار الحركات - كما قال بعض المحامين الإنجليز - هم غير المسئولين عنها من العجزة والنساء، وغير المفكرين في العاقبة الطامعين في الرقي السريع، وهم شبان الضباط، على ذلك نكرر النصيحة مع اعتقادنا بأن الأقلام والألسن في مصر مجمعة على أن سلوك العسف مهلكة للأفراد وللأوطان - بأن طريقنا هو التربية والتعليم.
قد يقال: رأينا كثيرا من المتعلمين يتمرغون في مراقع الطباع العامية لا يهتمون بكرامتهم ولا يقيمون وزنا للفضائل الاجتماعية، إذ كلفهم الحق فتيلا عافوه واجتنبوه، وإذا حملهم العدل كلفة عادوه، فكيف يكون طريقنا الوحيد هو التربية والتعليم؟
قد يكون ذلك حاصلا في بلادنا وفي غير بلادنا مع فرق كبير في النسبة بالضرورة، ولكن هذا لا يطعن على نظرية الارتقاء بالتربية والتعليم في شيء، فإن العيب إما أن يكون من الاستعداد؛ ولا شبهة في أن مستوى الاستعداد الأمي يرقى بالتربية والتعليم جيلا عن جيل، وإما أن يكون العيب من طريقة التربية والتعليم نفسها، فلا نتكلف إلا إصلاحها وتوجيهها إلى غرضنا منهما، وعلى كل حال، فإننا إذا جعلنا التربية والتعليم غرضنا ووجهنا إليهما العناية التي ننفقها عن سعة في غيرهما مما لا فائدة فيه قدرنا ولا شك على خدمة أنفسنا وسلكنا سبيلنا إلى الارتقاء.
الحرية1
لو كنا نعيش بالخبز والماء، لكانت عيشتنا راضية وفوق الراضية، ولكن غذاءنا الحقيقي الذي به نحيا ومن أجله نحب الحياة ليس هو إشباع البطون الجائعة، بل هو غذاء طبيعي أيضا كالخبز والماء، لكنه كان دائما أرفع درجة وأصبح اليوم أعز مطلبا وأغلى ثمنا، هو إرضاء العقول والقلوب، وعقولنا وقلوبنا لا ترضى إلا بالحرية.
إنا إذا طلبنا الحرية لا نطلب بها شيئا كثيرا، إنما نطلب الغذاء الضروري لحياتنا، نطلب أن لا نموت، ولا يوجد مخلوق أقنع من الذي لا يطلب إلا الحياة ووسائل الحياة، كما أنه لا أحد أقل كرما من ذلك الذي يضن على الموجود الحي بأن يستوفي قسطه من الحياة.
لست أعجب من الذي يستهين بحياة الرجل فيستعجل عليه القدر المحتوم، ولكني أعجب من الذي يبالغ في الرحمة بالإنسان يستحييه شبعان ريان يفهق جيبه بالنقود معطل الحرية، قد ضرب بين عقله وبين الأشياء والمعاني بحجاب، فلا يتناولها، وحيل بين مشاعره وبين موضوعات غذائها فلا تتحرك بل تموت، أعجب من الذي يظن الحياة شيئا والحرية شيئا آخر، ولا يريد أن يقتنع بأن الحرية هو المقوم الأول للحياة ولا حياة إلا بالحرية.
أجل! إن المرء يحفظ حرية الفكر وحرية المشاعر أي يحفظ حرية الطبيعة حتى في غيابة السجن، يحفظها في كل حال هو عليها ما دامت روحه في جسده، إنه خلق حرا، حر الإرادة، حر الاختيار بين الفعل والترك، حرا في كل شيء حتى في أن يعيش وفي أن يموت، غير أن هذه الحرية الطبيعية لا فائدة منها إذا تعطلت من آثارها، فالذي سجن والذي منع الكلام، والذي منع الكتابة، كل أولئك يحفظون حريتهم في نفوسهم، ولكنهم فقدوا الانتفاع بها أي فقدوا بذلك الحرية المدنية.
كذلك الذين تركوا أحرارا كما خلقهم الله، أحرارا يقولون ويكتبون ما يشاءون ويعملون بالمعروف ما يشتهون، ولكنهم ليس لهم في إدارة جمعيتهم إرادة محترمة، أولئك لهم الحرية الطبيعية والحرية المدنية، وهم محرومون من الحرية السياسية.
Bilinmeyen sayfa