إذا ما رفعت فجأة إلى ارتفاع هائل وأمكنك أن تنظر تحتك إلى مشاغل البشر بشتى أصنافها؛ لأن مجال نظرك سوف يضم أيضا حشدا هائلا من الأرواح التي تأهل الفضاء والسماء، ولأنك مهما أعدت الكرة فسوف ترى الأشياء نفسها؛ الرتابة والزوال، هل هذه الأشياء تستدعي الزهو والخيلاء؟!
15 (12-25) اطرح الحكم تجد الخلاص. ومن ذا الذي يمنعك من هذا الاطراح؟
16 (12-26) حين تتكدر في أي ظرف فقد نسيت عدة أشياء؛ نسيت أن كل ما يجري فبإرادة طبيعة الكل، وأن الإثم لا يضير إلا مرتكبه، ونسيت أن كل شيء يحدث فقد كان يحدث هكذا فيما مضى، وسيظل يحدث هكذا في المستقبل، وما ينفك يحدث الآن في كل مكان، وأن الكائن الإنساني وثيق القرابة بالجنس البشري كله، لا قرابة دم أو بذرة؛ بل مجتمع عقلي. ونسيت أيضا أن عقل كل إنسان إله ودفقة من الألوهية، وأن لا شيء ملك لنا، بل حتى طفلنا وجسدنا وروحنا نفسه إنما جاء من ذلك المصدر، وأن كل شيء هو كما أراده التفكير أن يكون، وأن كلا منا لا يعيش إلا اللحظة الحاضرة، ولا يفقد إلا إياها.
17 (12-27) استحضر في ذاكرتك دائما أولئك الذين كانوا يفرطون في الغضب والشكاة، أولئك الذين بلغوا ذرى المجد أو النكبة أو العداوة أو أي صنف آخر من الحظ. ثم توقف وفكر: أين كل أولئك الآن؟ دخان ورماد، حكاية رويت بل حكاية نسيت. واستحضر أيضا في ذهنك طائفة بأسرها من الأمثلة؛ فابيوس كاتولينوس في داره الريفية، لوسيوس لوبوس في بساتينه بالمدينة، ستيرتينيوس في بابي، تيبيريوس في كابري، فيليوس روفوس؛ وبصفة عامة كل سعي محموم تصحبه الخيلاء. تأمل كم هو عبث كل هذا الجهد المضني، وكم هو أجدر بالحكيم أن يستخدم ما يعرض له لكي يجعل نفسه عادلا، معتدلا، مطيعا للآلهة، وأن يفعل هذا ببساطة تامة؛ فالزهو بالخلو من الزهو هو أثقل ضروب الزهو وأصعبها على الاحتمال. (12-28) إلى من يسألون: أين رأيت الآلهة؟ أو كيف عرفت أنهم موجودون فعبدتهم؟ أجيب: أولا، هم قد يرون حتى بالعين. ثانيا، إنني لم أر روحي أيضا ومع ذلك أوقرها. كذلك شأني مع الآلهة؛ فمن معاينتي الدائمة لآثارهم المرة تلو الأخرى أتيقن من وجودهم، وأوقرهم. (12-29) الخلاص في الحياة يكمن في أن ترى كل شيء في ذاته وفي جملته، مدركا مادته وصورته، وفي أن تكرس كل نفسك لفعل الصواب وقول الحق. فماذا يبقى غير متعتك بأن تحيا سلسلة متصلة من الأفعال الصالحة لا تفصل بينها أدنى فجوة. (12-30) ثمة ضوء واحد للشمس وإن تشتت على الجدران والجبال وما لا يحصى من الأشياء. ثمة مادة عامة واحدة وإن تكسرت إلى ما لا يحصى من الأجسام لكل منها صورته وخصائصه. ثمة روح حيوانية واحدة وإن توزعت بين ما لا يحصى من الأنواع والأفراد، وروح عاقلة واحدة وإن بدت مقسمة.
والآن، في الأشياء المذكورة فإن جميع الأجزاء الأخرى - كتلك التي هي حياة محضة أو مادة لا تحس - ليس بينها أخوة؛ ورغم ذلك فحتى هنا ثمة صلة تتكون بنوع من التضام وانجذاب الشبيه إلى الشبيه. أما العقل فلديه هذه الخاصة الفريدة؛ وهي أنه يميل إلى ما هو من عشيرته ويتحد معه؛ بحيث لا تنقطع مشاعر الألفة ولا تنفصم.
18 (12-31) ماذا تريد بعد؟ أن تبقى على قيد الحياة؟ حسن، تريد أن يكون لديك حس؟ حركة؟ نمو؟ ثم تتوقف مرة ثانية عن النمو؟ أن تستخدم صوتك؟ عقلك؟ ماذا في كل هذه الأشياء يستحق أن تصبو إليه وأن تندم على فقده؟ إذا كان كل من هذه الأشياء جديرا بالازدراء فامض إذن إلى الغاية النهائية، وهي أن تتبع العقل وتتبع الرب؛ فإنه لا يتسق مع تمجيدك للعقل والرب أن تبتئس لأن الموت سوف يحرمك من هذه الأشياء الأخرى.
19 (12-32) ما أصغر نصيب كل منا من الزمن؛ حصته الضئيلة من الهوة الزمانية اللانهائية، لسرعان ما تبتلعها الأبدية. وما أضأل حصته من مادة «الكل» وروح «الكل». ما أضألها في جملة الأرض تلك البقعة التي تزحف عليها. تأمل في كل هذا ولا تكبر شيئا سوى الكدح إلى حيث تقودك طبيعتك، والتسليم بما تأتي به طبيعة العالم.
20 (12-33) كيف يوظف عقلك نفسه؟ هذا هو السؤال. وكل ما عداه، سواء كان باختيارك أو لا، فمجرد رماد ميت ودخان. (12-34) أوضح نداء يدعونا إلى ازدراء الموت هو أنه حتى أولئك الذين يعتبرون اللذة خيرا والألم شرا كانوا رغم ذلك يزدرونه.
21 (12-35) بالنسبة إلى هذا الرجل الذي يعد ما يأتي في إبانه هو الخير الوحيد، والذي يستوي لديه أن تكثر أو تقل فرصته لأن يعبر عن العقل السليم في أفعاله، والذي لا يجد فارقا بين أن يتأمل العالم لفترة أطول أو أقصر؛ بالنسبة لهذا الرجل ... حتى الموت ليس بالشيء المخيف.
22 (12-36) أيها الإنسان الفاني، لقد عشت كمواطن في هذه المدينة العظيمة. ماذا يهم إذا كانت هذه الحياة خمسة أعوام أو خمسين؟ على الجميع تسري قوانين المدينة، فماذا يخيفك في انصرافك من المدينة؟ إن من يصرفك ليس قاضيا مستبدا أو فاسدا، إنها الطبيعة ذاتها التي أتت بك. إنها أشبه بمدير الفرقة الذي أشرك ممثلا كوميديا في الرواية وهو يصرفه من المسرح. - «ولكني لم أمثل مشاهدي الخمسة، مثلت ثلاثة فقط.» - حقا، ولكن في الحياة قد تكون ثلاثة مشاهد هي الرواية كلها.
Bilinmeyen sayfa