الإهداء
مقدمة
التأملات: ماركوس أوريليوس النص الكامل
الكتاب الأول1
الكتاب الثاني
الكتاب الثالث
الكتاب الرابع
الكتاب الخامس
الكتاب السادس
الكتاب السابع
الكتاب الثامن
الكتاب التاسع
الكتاب العاشر
الكتاب الحادي عشر
الكتاب الثاني عشر1
التأملات: ماركوس أوريليوس دراسة وتعليق
الفصل الأول: ماركوس أوريليوس والرواقية
الفصل الثاني: رواقية ماركوس أوريليوس قراءة في «التأملات»
الفصل الثالث: العلاج الرواقي
قطوف من «التأملات»
قطوف من «التأملات»1
الإهداء
مقدمة
التأملات: ماركوس أوريليوس النص الكامل
الكتاب الأول1
الكتاب الثاني
الكتاب الثالث
الكتاب الرابع
الكتاب الخامس
الكتاب السادس
الكتاب السابع
الكتاب الثامن
الكتاب التاسع
الكتاب العاشر
الكتاب الحادي عشر
الكتاب الثاني عشر1
التأملات: ماركوس أوريليوس دراسة وتعليق
الفصل الأول: ماركوس أوريليوس والرواقية
الفصل الثاني: رواقية ماركوس أوريليوس قراءة في «التأملات»
الفصل الثالث: العلاج الرواقي
قطوف من «التأملات»
قطوف من «التأملات»1
التأملات
التأملات
تأليف
ماركوس أوريليوس
مراجعة وتقديم
أحمد عتمان
ترجمة
عادل مصطفى
هذا الكتاب ترجمة للنص الكامل لكتاب «التأملات» للإمبراطور الفيلسوف ماركوس أوريليوس، عن الترجمتين الإنجليزيتين التاليتين:
Marcus Aurelius, Meditations. Translated by Martin Hammond,
Marcus Aurelius, The Meditations. Translated by G. Long, Amherst: Prometheus, 1991.
الإهداء
إلى جيل الأخطار والخطايا - جيل «أهل الثقة» و«ذوي القربى» والولاء والرياء، الجيل الذي حول مصر من مهجر إلى مزجر، من حضن أم رءوم إلى ظهر قط مغضب - عساه أن يتعلم شيئا من ماركوس أوريليوس الذي ارتقى العرش بكفاءته لا بولائه، وكان يفضل خطوة في الواقع على خطوات في الوهم، ويعرف أن ما لا يفيد السرب لا يفيد النحلة، ويتعلم كيف يحكم نفسه قبل أن يحكم العالم، وكيف يتطهر بالاعتراف قبل أن يطهره زواله.
عادل مصطفى
تصدير
تأملات في «تأملات» الإمبراطور الرواقي
بقلم د. أحمد عتمان
يحفل التاريخ الروماني بأحداث وشخصيات عجيبة لا مثيل لها، مما يجعل هذا التاريخ سفرا شائقا إذا شرعت في تصفحه فليس بوسعك أن تتركه دون أن تكمله، بل وتطلب المزيد والمزيد من المعرفة به وملابساته وتطوراته منذ أن كانت روما حصنا صغيرا على نهر التيبر، ثم صارت عاصمة لإمبراطورية ضخمة لا سابق لها في التاريخ؛ فهي تغطي كل العالم المعروف آنذاك من حدود الهند وأواسط آسيا شرقا إلى الجزر البريطانية غربا.
ومن أعجب الشخصيات التي تزين سماء ذلك التاريخ الرائع هو مؤلف هذا النص الذي نقدم لترجمته بهذه السطور البسيطة.
وتعد فترة حكم «الأباطرة الخيرين» أسعد فترة في تاريخ الإمبراطورية الرومانية ويطلق عليها «العصر الأنطونيني». كانت حياة أنطونينوس
Anotoninus
(138-161م)، كلها طاهرة ونقية قضاها في الكفاح من أجل إسعاد رعاياه، فساد النظام والهدوء. كان رجلا واضحا خيرا مرحا، هادئا وبريئا، استطاع أن يقدم صورة مثالية للوثنية في أزهى عصورها. ويأتي عهده هكذا على النقيض من حكم الطغيان الفاسد والمستبد الذي تلا عصر أوغسطس وكذا الفترة الكئيبة والفوضى التي ستسود القرن الثالث الميلادي.
وبناء على رغبة هادريانوس كان أنطونينوس قد تبنى ابن عمه وصهره ماركوس أوريليوس أنطونينوس (الفيلسوف)
Marcus Aurelius Antoninus
الذي امتد حكمه من 161م إلى 180م، وكان رجلا فاضلا بمعنى الكلمة، كرس حياته كلها للأدب والفلسفة ولا سيما المدرسة الرواقية، ووصلنا كتابه «تأملات»
Meditationes
أو باليونانية
Ta eis heauton
أي إلى نفسه) الذي يسجل فيه بالإغريقية أفكاره وأحاسيسه عن المسائل الأخلاقية والدينية. وفي عهده بدأت الأمم على حدود الإمبراطورية الشمالية تثير القلاقل وقامت حروب بين الماركومانيين
Marcomanni (في بلاد تقع الآن على أرض بوهيميا وبافاريا الحديثة) وقبائل جرمانية أخرى وبين الرومان. ومات ماركوس أوريليوس في مارس 180م.
ولعله من المفيد أن نلقي نظرة سريعة على نشأة الفلسفة الرواقية لكي نفهم الأفكار المطروحة في «التأملات».
عاش زينون
Zeno
في كيتيون (335-263ق.م) كان أبوه تاجرا ويدعى مناسياس
Mnaseas
وعمل زينون نفسه في بداية حياته بالتجارة. وفي سن الثلاثين تحول إلى الفلسفة. وهناك رواية تقول إنه كان في سفينة تحمل بضاعة من أرجوان فينيقيا فتوجه بها إلى أثينا فغرقت على مقربة من بيريه. ونجا زينون واستقر في أثينا وكان الأثينيون يلقبونه بالفينيقي. وهو الذي أسس المدرسة الرواقية في أثينا حوالي 301ق.م. لقد بدأ بدراسة فلسفة سقراط عن طريق كتابات كسينوفون ثم انتقل إلى أنتيسثنيس الشكاك (الكلبي) فدرس هذه الفلسفة مع الميجاريين ديودوروس وكراتيس، وكان للأخير التأثير الأكبر على حياته. بعد ذلك تتلمذ زينون على بوليمون
في الأكاديمية، وتأثر بكل من ستيلبو
Stilpo
وكسينوكراتيس
Xenokrates .
كان زينون طويل القامة نحيف الجسم شديد سواد الجلد، رأسه مائل على كتفه. وكان يرتدي الأقمشة البسيطة الرخيصة، ويقنع في مأكله بالقليل من الخبز والتين والعسل والقليل من النبيذ. وكان سلوكه سلوك الرجل الوقور، وتبدو على هيئته سمات الجد والانقباض، ولكنه لم يكن يأنف أن يغشى أحيانا مجالس الأنس والمرح، فإذا سئل في ذلك أجاب بأن طبيعة الترمس المرارة، فإذا نقع بالماء مدة طاب مساغا. وكان زينون يؤثر الصمت على الثرثرة في حين كان الأثينيون يميلون إلى كثرة الكلام. يروون أن زينون قال في ذلك: «إن لنا لسانا واحدا وأذنين؛ لنعلم أننا ينبغي أن ننصت أكثر مما نتكلم.» وكان زينون موجز العبارة، لم يعن في كتابته بفصاحة ولا أسلوب. كان بنشأته يميل إلى السليقة ويحتقر التصنع أو التكلف على أن خشونة الطبع وغلظة القول، وسط قوم مغرمين بالرشاقة والجمال، لم يكونا ليحولا بين زينون وبين التأثير في مستمعيه أبلغ تأثير. أجمع القدماء على أن زينون كان على خلق عظيم، وأن حياته على بساطتها كانت دائما قدوة طيبة ومثالا أخلاقيا عاليا. بلغ هذا الحكيم من قوة الإرادة وطول الصبر وضبط النفس والعفة والسيطرة على الهوى، مبلغا أدهش معاصريه؛ فكان الأثينيون يضربون به المثل قائلين «أضبط لنفسه من زينون!»
عاش زينون حتى بلغ من العمر 98 سنة. ولما مات رثاه الأثينيون رثاء رسميا، وأصدر أولو الأمر قرارا أعلنوا فيه أنه استحق تقدير الوطن لخدماته وحثه الشبيبة على الفضيلة والحكمة؛ ولذلك منحوه تاجا من ذهب وقبرا من مدافن العظماء.
وفي سن صغيرة كتب «جمهورية الحكماء»
والتي من بعض الجوانب قدمت التبرير الفكري لفتوحات الإسكندر الأكبر وحلمه؛ أي الحكومة العالمية والإخاء بين البشر. وبذلك قدم زينون النموذج الذي احتذاه الرومان وغيرهم من مؤسسي الإمبراطوريات فيما بعد. كانت جمهورية زينون الرواقية يوتوبيا أفلاطونية النزعة والنكهة، وإن كان بها ما يتناقض مع أفلاطون ومبادئه فهي تركز على المبادئ الكلبية والأفكار الأقدم عن «الحياة وفق الطبيعة» التي يحياها الحكيم الرواقي، وهو ما صار يعرف فيما بعد في روما
ad naturam vivere . كانت الآلهة عند زينون كائنات كونية وليست أنثروبومورفية هومرية. إنها الشمس والقمر والنجوم، إنها آلهة تعيش في عالم واحد مع البشر
Cosmopolis
حيث تشاركهم كل شيء. وهنا نلاحظ تأثير الفلك البابيلوني على زينون. وهذه المبادئ الرواقية تجسد القانون الطبيعي الإلهي والعدالة الكونية، التي جاءت استجابة أخلاقية للفرد اليائس والمغترب بعد فقدان نظام دولة المدينة
وطغيان القوى الكبرى والضاغطة على الكيانات الصغرى وفي مقدمتها الفرد. في تلك الظروف لم يعد من هاد للبشرية في هذه المتاهة الحديثة سوى اللجوء للمنطق، الحب، الحرية، الوئام وما شابه ذلك. وجمهورية زينون يحكمها الحكماء الممتازون
Spoudaioi
ويتبعهم الباقون ويعتمدون عليهم. كان بوسع أي واحد من هؤلاء الأفراد العاديين أن يصعد إلى قمة الحكمة مثل هؤلاء الحكماء بالتدريب والتمرين والمثابرة وبممارسة الفضيلة أيضا؛ فالسعي في حد ذاته إلى الفضيلة فضيلة.
ولقد ضرب زينون نفسه القدوة التي تحتذى؛ لأنه عاش زاهدا يواصل الليل بالنهار في دراساته وتأملاته التي اعتبرها رسالة سماوية كلف بأدائها. ولقد ورد عند ديوجينيس لائيرتيوس هذه الأبيات في وصف زينون:
لا برد الشتاء القارس ولا وابل السيل المنهمر على الدوام،
ولا شعلة الشمس القائظة ولا المرض العضال،
لا شيء يقهره أو ينال من قواه،
بل إن جمهرة الناس بلا عدد ودون أن ينفد لها دأب،
تزحف إليه وتلتف حول درسه ليل نهار.
ومن بين أتباع زينون لا مفر من الإشارة إلى برسيوس
، من كيتيون؛ فهو من أفضل تلاميذه، وكان قد أرسله إلى أنتيجونوس جوناتاس
Antigonos Gonatas (320-239ق.م) ملك مقدونيا لكي يقوم على تعليم ابنه وتثقيف شعبه. هذا في قبرص أما خارجها فكان أتباع الرواقية من الكثرة بحيث لا يمكن حصرهم. ونشير فقط إلى بعضهم هنا. وكان ديموناكس
Demonax (القرن الثاني الميلادي) من أشهر القبارصة الرواقيين وكان صديقا لإبكتيتوس
Epictetus (50-138م). وكان ألمعيا وساخرا، كان فيلسوفا كلبيا بالأساس وكتب لوكيانوس سيرته. ومع أنه كان من أسرة ثرية إلا أنه فضل العيش في زهد. هذا مع أنه تجنب مغالاة بعض الرواقيين إلا أنه صام وامتنع عن الطعام حتى الموت وهو في سن المائة تقريبا. أما عبارته «محظوظ ذلك الذي لا يخاف ولا يأمل»، فلربما كانت مصدر النقش الموجود على قبر كازانتزاكيس الروائي والشاعر اليوناني الحديث في هيراكليون بكريت «لا أخاف شيئا لا آمل في شيء إني حر.» ومن أتباع الرواقية كذلك فيلولاوس
من كيتيون (القرن الأول الميلادي)، وأريستوديموس
Aristodemos
القبرصي كذلك (القرن الأول-الثاني الميلاديين).
أما سينيكا الفيلسوف الشاعر الروماني (4ق.م-65م)، فهو الشخصية الثانية من حيث الأهمية بعد زينون في سجل المدرسة الرواقية، ويقول عن مؤسسها القبرصي:
نحن بالفعل الذين نقول إن كلا من زينون وخريسيبوس حققا إنجازات أكبر مما لو كانا قد قادا الجيوش أو تقلدا المناصب أو سنا التشريعات؛ لأن السنة التي سناها لم تك لدولة ما بعينها، وإنما للبشرية أجمعين؛ ولذا فلماذا لا يكون وقت الفراغ ملائما للرجل الفاضل، في خلاله يستطيع أن يهيمن على الأجيال القادمة ويوجهها ويخاطب ليس فقط القلة المحدودة حوله، بل أيضا كل البشر في سائر الأمم الموجودة الآن والتي ستأتي من بعد؟ باختصار شديد أسألك: هل عاش كل من كليانثيس وخريسيبوس وزينون وفق التعاليم التي نادوا بها؟ وبدون شك ستجيب أنهم بالفعل عاشوا على النهج الذي قالوا إنه من الواجب اتباعه في الحياة.
وورد عن سينيكا أيضا ما يلي:
من الشائع أن هوميروس لم يمتلك سوى عبد واحد، وكان لأفلاطون ثلاثة، أما زينون مؤسس المدرسة الرواقية الصارمة والرجولية فلم يكن لديه ولا عبد واحد.
ويركز الدكتور عثمان أمين على تأثير زينون في الفلاسفة العرب والمسلمين ويشير إلى ما حفظه الشهرستاني من حكم وأمثال كثيرة منسوبة لزينون؛ فقد ذكر الشهرستاني حكما كثيرة أثرت عن زينون وهي تلائم ما نعرفه من أخلاقه ... ونورد هنا بعضها: رأى زينون فتى على شاطئ البحر محزونا يتلهف على الدنيا، فقال له: «يا فتي، ما يلهفك على الدنيا؟ لو كنت في غاية الغنى، وأنت راكب في لجة البحر، قد انكسرت السفينة وأشرفت على الغرق، وكانت غاية مطلوبك النجاة ويفوت كل ما في يدك ؟» قال: «نعم.» قال: «لو كنت ملكا على الدنيا، وأحاط بك من يريد قتلك، كان مرادك النجاة من يده؟» قال: «نعم.» قال: «فأنت الغني وأنت المالك الآن.» وقيل لزينون: «أي الملوك أفضل: ملك اليونانيين أم الفرس؟» قال: «من ملك شهوته وغضبه.» ونعي إليه ابنه فقال: «ما ذهب ذلك علي، إنما ولدت ولدا يموت وما ولدت ولدا لا يموت!» وقيل له، وقد كان لا يقتني إلا قوت يومه: «إن الملك يبغضك.» فقال: «وكيف يحب الملك من هو أغنى منه؟»
وفي مقامنا هذا لا نملك إلا أن نسلط الضوء في عجالة على بعض مبادئ الرواقية الرئيسة. وأول هذه المبادئ الذي يعد مفتاحا لكل الفلسفة الرواقية هو مبدأ «العيش وفق الطبيعة»:
ad naturam vivere.
to kata physin zein.
وكلمة الطبيعة
natura, physis
تعني هنا طبيعة الإنسان نفسه والطبيعة الكونية؛ ففي إطار الفلسفة الرواقية لا فرق بينهما، وهما متداخلان ومتفاعلان ويشكلان معا كيانا عضويا؛ فالعيش وفق الطبيعة إذن يعني الانسجام والوئام بين الإنسان والبيئة من حوله. وأدعو القارئ الحصيف أن يتأمل الآن فيما يجري في دنيانا الراهنة من تغير مناخي وتلوث البيئة والكوارث الطبيعية المتتالية ...
أفليس هذا كله نذيرا لنا بأننا لا نعيش وفق الطبيعة؟
النار هي خالقة الأشياء، وهي أسمى عناصر الكون. أما النفس الإنسانية فهي من هواء ساخن؛ فهي متصلة بأسمى العناصر وخالق الأشياء أي النار. وأي خلل يصيب النظام الكوني من الطبيعي أن يصيب النفس الإنسانية، التي هي أيضا إذا تعرضت للخلل أصابت النظام الكوني بالخلل. ويتمثل الخلل الذي يصيب النفس الإنسانية في هزيمة العقل أمام العاطفة والأهواء. هذه الهزيمة المنكرة تتجسد شرا مستطيرا في تراجيديات سينيكا؛ فعلى سبيل المثال تعشق فايدرا في المسرحية التي تحمل اسمها (أو اسم هيبوليتوس) عنوانا؛ ابن زوجها الشاب العفيف هيبوليتوس، وعندما يصدها وقبل أن تموت تترك رسالة تتهمه لدى أبيه بأنه اغتصبها. عاطفة مستعرة وشر مستطير حطم الأسرة جميعا والمدينة بأكملها، ثم امتد الشر إلى الطبيعة نفسها حيث خرج من البحر وحش أسطوري لا مثيل له أصاب خيول عربة هيبوليتوس بالجنون، فمزقت الخيول صاحبها إربا إربا ... كوارث طبيعية تصيب النظام الكوني بالخلل؛ لأن العقل داخل النفس الإنسانية تلقى هزيمة فادحة على يد جحافل العاطفة والأهواء الفتاكة.
على أن النار خالقة الأشياء وحارسة النظام الكوني تحرق الأشياء جميعا في حريق كوني هائل
ekpyrosis . هذا الحريق الكوني يحدث على فترات متباعدة جدا بهدف تطهير الكون من أكوام الدنس المتراكمة عبر العصور.
إنها إذن النار الإلهية الخلاقة التي تدمر الكون لتخلقه من جديد. هذه النار الإلهية لا يمكن مقارنتها بالنار البشرية التي نستخدمها كل يوم؛ فهي نار مدمرة تحرق الأشياء ولا تعيد خلقها. ومن هنا كان حرق الموتى - ولا سيما حرق الأباطرة بعد موتهم - جزءا من طقوس تأليههم؛ إذ يخلصهم الحرق من أدران الجسد، ويطير بروحهم إلى السماء لتتحد مع النجوم التي هي إحدى التجليات للنار الإلهية الخلاقة.
الحكيم الرواقي
sapiens stoicus
هو الحر الوحيد، وهو السعيد الوحيد، وهو الملك بحق، وهو المنتصر الأوحد. لماذا؟ لأنه أولا وأخيرا قهر نفسه، ومن قهر نفسه فقد قهر العالم. إنه قهر في نفسه الطمع في أي شيء؛ ولذا فهو حر وسعيد، وقهر في نفسه الخوف من الموت. هو قاهر الموت فماذا يخشى بعد ذلك؟ يقسم الرواقيون الأشياء إلى:
أشياء مهمة وضرورية فهي خير.
أشياء غير مهمة وغير ضرورية فهي شر.
أشياء وسط
media
أو لا هي خير ولا شر؛ أي كما يترجمها المترجم لنص أوريليوس «لا فارقة»
idifferentia
إنها أشياء يمكن أن تكون خيرا ويمكن أن تكون شرا. المهم أن نعرف ما هي هذه الأشياء الوسط بالنسبة للرواقيين هي: الفقر والغنى، المرض والصحة، الحكم والملك ... إلخ.
وأهم شيء في هذه الأشياء الوسط الموت؛ فالموت بالنسبة للرواقيين هو كأي شيء في حياتنا لا هو خير في حد ذاته ولا هو شر في حد ذاته، بل إن الموت أحيانا يكون بابا للحرية والخلاص والسعادة الأبدية، فلماذا نخاف الموت؟ جبان ذلك الذي يقبل الحياة بأي ثمن، وحكيم رواقي بحق من يقدم على الموت، بل يطلبه إذا سدت كل السبل أمامه ولم يعد هناك من وسيلة ليحفظ كرامته وحريته ومبادئه . إذن لا استسلام وإنما إقدام على الموت. ويأخذ البعض على الرواقيين هذه الدعوة إلى الانتحار، وهذا سوء فهم وسوء تفسير؛ فهم أي الرواقيون لا يحبذون الانتحار لأسباب تافهة
ex frivolis causis
وإنما الانتحار هو الحل الأخير لحفظ كرامة الحكيم الرواقي ومبادئه. إنه بهذا الانتحار يقهر قاهره وينتصر عليه؛ فالموت في مثل هذه الحالة هو النصر المبين. ويقول سينيكا في ذلك: «ليس شقيا قط من تيسرت له سبل الموت.» ويقول أيضا إن الطبيعة نفسها تعلمنا. لقد جئنا جميعا للحياة من طريق واحد هو رحم الأم، أما الخروج من الحياة فله آلاف الطرق.
ومن اللافت للنظر في «تأملات» ماركوس أوريليوس أنها أشبه ما تكون بمفكرة دون فيها هذه التأملات، ربما وهو في خضم المعارك وفوق الجبال أو في أعماق الغابات، وربما كان أحيانا في قصره المنيف. المهم أنها تأملات مكتوبة بعيدا عن قصدية الدرس المتعمق أو الخطاب المنمق وما شابه. ومع ذلك فالمرء يدهش من كثرة الإشارات لعيون الكتب والمؤلفات في الأدب الإغريقي واللاتيني؛ فليس الأمر قاصرا على الرواقيين السابقين، بل يشمل كل المدارس الفلسفية والمذاهب الأدبية عند الإغريق والرومان. هذه التعددية في مصادر أوريليوس تدل دلالة واضحة على عمق ثقافته وغزارة اطلاعه.
أما الترجمة التي نقدم لها فتنم عن دارس مجتهد للفلسفة وذواقة للأدب. إنه مترجم يحب المادة التي يترجمها ويعيش المبادئ التي يشرحها؛ لذلك كان أسلوبه في الترجمة مستساغا، ومع أنه يترجم النص الإغريقي عن الإنجليزية فإنه لم يفقد الكثير من روح النص الإغريقي الأصلي الذي وضعته أمامي وأنا أراجع الترجمة.
لقد نجح المترجم في أن يصل إلى صيغة شائقة لأفكار الفيلسوف الرواقي. وأنا على يقين تام من أن القارئ العربي سيجد متعة فائقة، وفائدة ملموسة في قراءة هذا النص الذي يمكن أن نجد فيه العزاء الوافي عما نقاسيه في أيامنا هذه.
والله ولي التوفيق.
الجيزة، فبراير 2010
مقدمة
إذا شئت أن تملك سيطرة على الألم فافتح كتابه المبارك وأوغل فيه، ولسوف يتسنى لك بغدق فلسفته أن ترى كل المستقبل والحاضر والماضي، ولسوف تدرك أن كلا من الفرح والترح لا يعدو أن يكون دخانا.
قارئ يوناني للتأملات
1
نفس كبيرة، تنسل كل يوم من ضجيج الجيش ومن عجيج المعسكر على ضفاف الدانوب، لكي تدون خواطرها، في منبلج الصباح، وتسجل خلجاتها وتقيد أوابدها، وتفرغ بعض حين من حكم العالم لكي تؤكد حكمها لنفسها!
ذلك هو ماركوس أوريليوس (121-180م) الفيلسوف الرواقي ورأس الإمبراطورية الرومانية، الملقب ب «الفيلسوف على العرش»؛ إذ تحققت فيه، إلى حد كبير، صورة الحاكم الفيلسوف التي تمثلها أفلاطون في جمهوريته، وكان «الحاكم المطلق» على العالم المتحضر كله آنذاك، وبلغ من الحكمة والأستاذية ما لم يبلغه أحد من معاصريه، وكان مثالا لرقة القلب، وللعدالة التي لا يشوبها شيء اللهم إلا السماحة الزائدة، على حد قول جون ستيوارت مل.
كتب ماركوس هذه اليوميات باليونانية، لغة الصفوة من مثقفي الرومان في ذلك الوقت، ووسمها بعبارة غامضة:
ta eis heauton
وتعني «إلى نفسه»؛ أي إن «الإمبراطور في هذه الصحائف يخاطب نفسه ولا يخاطب جهة أخرى.» تمييزا لها عن الوثائق الأخرى التي تودع في خزانته، ولا هو يبيت في كتابتها نية النشر على القراء، ولا نية التخطيط لمؤلف يتركه لقومه وللأجيال من بعده. (1) لم الكتابة؟!
الكتابة «تضايف»
2
بقارئ (قراء): الكاتب يعرف أنه جزء من مجتمع، يكتب الكاتب وفي خاطره وضميره قراء يتوجه إليهم بحديثه ويناجيهم بما يجد، فيكون القارئ هو «المكمل الضروري منطقيا» لعلاقة الكتابة؛ كالشراء بالنسبة للبيع، والابن للأب، والتلميذ للأستاذ، والزوج للزوجة، يأخذ كل منهما من الآخر معناه ومأتاه.
فلماذا إذن يكتب ماركوس وقد انتفت لديه نية النشر؟!
وفي غياب القارئ ماذا يبقى من غرض للكتابة؟!
يبقى الكثير. الكتابة ارتقاء من الخصوصية إلى العمومية، تحقيق لما هو كامن في العقل، وتحديد لما هو غائم، وتثبيت لما هو هائم، بل هي بحث عن المجهول من خبايا النفس، ومعرفة بما هو ضائع في تضاعيف الذات.
لست أعرف بالضبط ما أنا أفكر فيه؛ ربما لذلك شرعت في كتابته.
بذلك يتحول «الذاتي» إلى «موضوعي» (ينتقل من «العالم 2» إلى «العالم 3» بلغة كارل بوبر)، فتتملكه الذات بعد أن كان يتملكها! وتتناوله بالاستيعاب والهضم والمراجعة والتصويب، وربما تحوله، بالمران والتكرار، إلى كيانها وبنيتها، فيصير نسيجا من أنسجتها، وعضوا من أعضائها (يتحول «الميروس» إلى «ميلوس» بلغة ماركوس)، عضوا جاهزا للاستعمال طوع إرادتها وتحت إمرتها ورهن إشارتها.
3 (2) لم التكرار في التأملات؟
التكرار بحاجة إلى رد اعتبار. التكرار ضرورة بيداجوجية (تتعلق بأصول التربية والتدريس)؛ فماركوس إذ يخط تأملاته إنما هو في مران وتدريب، إنه يخاطب نفسه، ومن البين أن هذه النفس قد انقسمت قسمين: نفسا عاقلة عليا تواجه نفسا واهنة دنيا انزلقت إلى مواقف غير فلسفية وتنكبت طريق الفضيلة، وتلح عليها بالتنبيه والتذكير: «اذكر ...» «تذكر ...» «ضع في اعتبارك ...» «لا تنس ...» التكرار هنا تدريب رواقي و«صباغة للنفس بالأفكار»، وتحويل ل «المعرفة» الأخلاقية، بالمجاهدة والكدح، إلى خليقة مكينة وسلوك ثابت (تحويل «اللوجوس»
logos
إلى «هكسيس»
hexis
بلغة أرسطو). (3) ماركوس أوريليوس الفيلسوف
الرواقية فلسفة عملية، تعلمنا كيف نتحلى بالثبات ونتحمل المحنة ونخرج من رماد الفشل. نشأت الرواقية بعد أرسطو وامتدت قرونا في الحقبة الهلينستية وما بعدها؛ ومن ثم فقد كانت الرواقية، شأنها شأن المذاهب التي أعقبت أرسطو، فلسفة عملية بالدرجة الأساس؛ إذ كانت، كأخواتها، وليدة اضطرابات وفكر أزمة.
وفي فترات الأزمات الاجتماعية والسياسية العنيفة يلح الجانب العملي للفكر وتعلو نبرته وتحتد، وينتزع الصدارة من الجانب النظري الذي يتراجع إلى الخلفية، وكثيرا ما يبدو كأنه وضع وضعا لكي يدعم المذهب العملي ويلم شعثه ويسد ثلمته. وكثيرا ما تبقى الثمار العملية يانعة نضرة، وتعيش عمرا ثانيا بعد أن يزهق المذهب النظري وتتقوض أركانه.
يقول ثورو: «أن تكون فيلسوفا لا تعني أن تكون لديك أفكار حاذقة، ولا حتى أن تؤسس مدرسة، بل أن تحب الحكمة بحيث تحيا وفقا لإملاءاتها، حياة بساطة واستقلال وسماحة وصدق. أن تكون فيلسوفا هو أن تحل بعض مشكلات الحياة، لا حلا نظريا فقط، بل عمليا أيضا.»
كان ماركوس أوريليوس قائدا عسكريا محنكا، ومنتصرا في كل ما خاض غماره. غير أن موقفه الفلسفي من السلك العسكري تترجمه الشذرة العاشرة من الكتاب العاشر من «التأملات »: «العنكبوت فخورة حين تصطاد ذبابة، والإنسان فخور بصيده - أرنبا مسكينا، سمكة صغيرة في شبكة، خنازير ، دببة، أسرى من الصرامطة.
4
والجميع من حيث الدافع لصوص.»
وكان ماركوس ملكا وحاكما قديرا، يدير شئون إمبراطورية تمتد عرضا من الفرات إلى المحيط الأطلسي، وتمتد طولا من جبال اسكتلندا الباردة إلى رمال أفريقيا المتلظية، ولكن موقفه من الملك كموقفه من الحياة العسكرية: الملك عبء وابتلاء، ولكنه لا يعفيك من الفضيلة، بوسعك أن تحيا حياة فاضلة حتى في قفص البلاط: «حيثما أمكن لإنسان أن يعيش أمكنه أيضا أن يعيش حياة صالحة، ولكن عليه أن يعيش في قصر - إذن بوسعه أن يعيش في القصر حياة صالحة» (التأملات: 5-16). «احذر أن تتقيصر أو تتلطخ بالأرجوان ...» (6-30). «قدر الملوك أن تفعل الخير وتذم عليه» (7-36).
القيادة العسكرية والحكم المدني كانا عبئين اضطلع ماركوس بحملهما بمهارة واقتدار، امتثالا للواجب الاجتماعي وليس شغفا بالقيادة والملك. أما الفلسفة فإنه لينتحي إليها ببوصلة روحه، ويعدها أمه إذا كانت الوظيفة هي زوجة أبيه. كانت الفلسفة ملاذه وراحته، كيما يحتمل القصر ويحتمله القصر. الفلسفة هي الشيء الوحيد الذي يمكنه أن يخفرنا في مغترب وجودنا.
تأثر ماركوس بكثير من الفلاسفة السابقين عليه، ولكن أكثرهم تأثيرا كان سقراط، وهيراقليطس، وإبكتيتوس. أما سقراط فقد كان التجسيد الحي لمثال «الحكيم»
Sophos
عند الرواقيين عبر تاريخهم كله؛ موقفه عند المحاكمة، رفضه للهرب وقد عرض عليه، ثباته ورباطة جأشه في مواجهة الموت، ويقينه بأن مرتكب الظلم إنما يؤذي نفسه أكثر مما يؤذي ضحيته، وأن الفضيلة علم والرذيلة جهل، وأن لا أحد يرتكب الإثم عن قصد أي عن علم، وعدم اكتراثه بالحر والبرد، وبساطة مأكله وملبسه، وتجرده من كل ضروب الترف والرفاهية الجسدية.
5
وأما هيراقليطس فقد أخذ عنه نظرية اللوجوس، والعود الأبدي، ونهر التغير، واغتراب المنبت (عن مجموع البشر)، والأسلوب المقطعي. وأما إبكتيتوس فقد أخذ عنه مواضيع
topoi
الدراسة الثلاثة: الانفعال (الرغبة والنفور) وهو منوط بعلم الطبيعة، والنزوع (الإقدام والإحجام) وهو منوط بعلم الأخلاق، والحكم
judgement
أو التصديق
assent
ومجاله علم المنطق. وعنه استمد التدريبات الفلسفية التي تترجم هذه المباحث النظرية إلى سلوك وأفعال.
ثمة تناقضات في فكر ماركوس النظري أشرنا إليها في مواضعها . غير أن ما يعنينا من «التأملات» ليس المذهب النظري بل الحكمة العملية. ولعل هذه التناقضات عينها هي ما أضفى على «التأملات» جاذبية باقية على مر العصور، وحفظ لها مكانها الراسخ في «الفلسفة الخالدة»
philosophia perennis ، فلو أن ماركوس ظل متسقا مع نفسه إلى نهاية الشوط لما خرج علينا إلا بمذهب رواقي متحجر، يولد ميتا، أو يزول على أفضل تقدير بزوال مبرراته التاريخية. يقول رسل: «إن منطق المدرسة الرواقية قد أفضى إلى مذاهب متصلبة هذبتها إنسانية أتباعها، الذين كانوا أفضل حالا بكثير مما كان يمكن أن يكونوا عليه لو أنهم كانوا متسقين مع مذهبهم.»
6
لعلها فرصة لمدح التناقض!
أليس التناقض، أحيانا، أنبل وأحمد من التمادي في الاتساق حيث يفضي الاتساق إلى نهايات وبيلة؟ أليس التطرف المقيت، أحيانا، هو ثمرة التعنت في الاتساق والتشبث به إلى نهاية الشوط؟ يبدو أن ذكاء الفكر لا يستغني عن ذكاء الشعور، كما يقول السيكولوجيون هذه الأيام، ويبدو أن من اعتاد الفضيلة ولم يحد عن سواء الفطرة يعرف بالسليقة متى يتمسك بالاتساق ومتى يدعه، ويعرف أن لكل قاعدة شواذ ولكل تعميم «مقيدات»
qualifications ، وأن الفضيلة شيء علوي لا يصطدم بغثائنا الأرضي ولا يعرفه. يقول ماركوس في «التأملات»: «أعلى وأسفل، هنا وهناك، تمضي حركة العناصر. أما حركة الفضيلة فلا تتخبط هكذا أبدا؛ فهي شيء أكثر قدسية، وعلى طريق ليس من السهل تبينه تمضي قدما في غبطة» (6-17).
توفي ماركوس في معسكره على جبهة الدانوب في السابع عشر من مارس عام 180م، وقد ناهز التاسعة والخمسين، تاركا في خاتمة التأملات أذانا برحيله: «أيها الإنسان الفاني، لقد عشت كمواطن في هذه المدينة العظيمة. ماذا يهم إذا كانت هذه الحياة خمسة أعوام أو خمسين؟ على الجميع تسري قوانين المدينة. فماذا يخيفك في انصرافك من المدينة؟ إن من يصرفك ليس قاضيا مستبدا أو فاسدا، إنها الطبيعة ذاتها التي أتت بك. إنها أشبه بمدير الفرقة الذي أشرك ممثلا كوميديا في الرواية وهو يصرفه من المسرح. - ولكني لم أمثل مشاهدي الخمسة، مثلت ثلاثة فقط. - حقا، ولكن في الحياة قد تكون ثلاثة مشاهد هي الرواية كلها.
استئناف الحياة إنما يحدده الكائن الذي ركبك أول مرة والذي هو الآن يفنيك، وما لك من دور في أي من العلتين، اذهب بسلام إذن؛ فالرب الذي يصرفك هو في سلام معك» (التأملات: 12-36).
جاد ماركوس بنفسه «فاتحا ذراعيه لشيء أبعد، حبا في الشاطئ الأبعد.»
7
كما يقول ماثيو أرنولد، حقا إن ما تشير إليه «التأملات» لأرحب كثيرا مما تقوله.
يقول ماثيو أرنولد عن ماركوس أوريليوس: «ربما يكون أجمل الشخصيات في التاريخ كله. إنه واحد من تلك العلامات التي تواسي وتبث الأمل، وتقف إلى الأبد لتذكر جنسنا البشري الواهن والمنخذل - تذكره بالأعالي التي بلغتها الفضيلة الإنسانية والدأب البشري ذات يوم، ويمكن أن يبلغاها مرة ثانية.»
8 (4) ظل من التأملات
الذات الخالية من الانفعالات قلعة وحصن ومنتجع. «الآخر» قريبك في العقل، ولا يأثم إلا عن جهل منه بما هو خير، إذن علمه أو احتمله.
لا تنبت عن إخوانك في البشرية فتكون ورما على جسم العالم.
ألا تصير مثل الذي أساء إليك ... ذلك هو خير انتقام. «التغير» أنطولوجيا ... أسلوب للطبيعة في عملها. فلتألفه مثلما تألف وجودك.
العقل مبثوث كالهواء في كل مكان طوع من يريد أن يتشرب به.
اللحظة الحاضرة هي ملكك النهائي. اقبض على اللحظة. أطياف الماضي وهواجس المستقبل تجتمع على التهام الحاضر الذي لا نملك سواه.
لا تعلق سعادتك على آراء الآخرين فيك ولا تضع هناءك في أيديهم. ذلك «استرقاق» طوعي و«مصادرة» حياة و«نفي» خارج الذات. وما كنت لترضى أيا من ذلك لو كنت تعرف اسمه الحقيقي.
لكل شيء في الطبيعة دوره في حبكة «الكل»، حتى النائم وحتى المخرب، حتى مخلفات الطبيعة وعوارضها الضارة هي نواتج بعدية للنبيل والجميل.
فعل الخير ثواب ذاته.
أحب قدرك: قدر الإنسان هو رفيقه وحاديه معا. القدر يحدو العقلاء ويجرجر الحمقى.
اصطبغ بالأفكار الصائبة حتى تصبح فيك طبيعة وسوية. مبادئك الرواقية هي عدتك في الطوارئ .
طول الحياة غير فارق. لا جديد. إذا بلغت الأربعين فقد رأيت كل شيء، وقد أفرغت دنياك طرافتها. الموت فعلك الطبيعي الأخير، فلتنجزه ولتتقنه.
لا تكن دمية تحركها خيوط الرغبة.
العالم وطنك، والبشر إخوتك، «وخير البلاد ما حملك.»
لا تزايد على المدركات بما ليس منها. الأذى لا يأتيك إلا من ذاتك. الأشياء بريئة وخاملة ومحايدة. ليست الأشياء ما يكربك بل فكرتك عنها.
ناور العقبات، واتخذ منها وقودا لفضيلتك، واسع إلى مقاصدك بتحفظ يخفف عنك صدمة الإخفاق.
لا مجد لك بمعزل عن مجد قومك. ما لا يفيد السرب لا يفيد النحلة. لا مجد لنحلة في خلية منهارة.
الزهو بالخلو من الزهو هو أثقل ضروب الزهو وأصعبها على الاحتمال. أثقل الغرور التواضع الزائف.
خذ نظرة من فوق لترى الأشياء بحجمها الحقيقي كما تتراءى في أعين الأفلاك.
هذا غيض من فيض «التأملات» التي دونها ماركوس أوريليوس في أضابير كتب عليها «إلى نفسه»، ولدينا ما يدل بقوة على أنه لم يقصد بها أن تكون كتابا يقرأ أو مذهبا فلسفيا يشيد ويذاع على الناس؛ فهي في أغلب الأحيان شخصية للغاية وموجهة إلى الداخل، وهي كثيرة التكرار، ولا ينتظمها نسق معين، وهي في بعض الأحيان اقتباسات مشفوعة باسم صاحبها، وفي أحيان أخرى اقتباسات غير مشفوعة باسم، وهي غامضة مبهمة في غير موضع لا نعرف فيها ماذا يقصد ومن يعني وإلام يشير، مما يدل على أنه يكتب حقا لنفسه، ولا يملي على سكرتيره اليوناني أبولونيوس. •••
مؤتنسا بخلوته، وبعقله الثري ونفسه الرحبة، راح ماركوس أوريليوس يخط على صحائفه: «قل لنفسك حين تقوم ... تمادي في إيذاء ذاتك أيتها النفس ... إنهم يطلبون منتجعات لهم ... كن مثل رأس الأرض في البحر ... تأمل مليا كيف يزاح كل ما هو قائم ... لكأنما ألقي على الأشياء حجاب كثيف ... طريق الطبيعة قصير، نقب في ذاتك ... الأشياء واقفة خارجنا ... أتقن الموت ...»
لم يكن هناك من أحد يشوب خلوة ماركوس، غير «كائن اعتباري» مهيب كأني به قد أقحم نفسه على هذه الوحدة الجلل: إنه «التاريخ» بلحيته الشهباء وقوامه السامق النحيل. إنه «الزمان»، «غزل القدر»، يشهد ميلاد الأحرف ويرمقها من وراء كتفه، فيكتم غبطته ويسر إلى نفسه:
هذا كلام أكبر من زمنه، ونغم أفسح من عوده. ليست «إلى نفسه» هذه الصحائف بل «إلى الأجيال» جميعا. سأدبر لها سببا وأحفظها من عوادي الضياع؛ لتكون لمن خلفه مثلما كانت له.
عادل مصطفى محمد
الكويت في 1 / 12 / 2008م
التأملات: ماركوس أوريليوس النص الكامل
كانت كتابات ماركوس أوريليوس هي أرفع ما أنتجه العقل القديم في الفكر الأخلاقي، ولم تكن تختلف اختلافا يذكر عن أخص تعاليم المسيح.
جون ستيوارت مل، عن الحرية
الكتاب الأول1
(1-1) من جدي
2
فيروس
Verus
تعلمت الدماثة وضبط النفس. (1-2) ومما سمعت عن أبي،
3
وما أتذكره عنه، تعلمت التواضع والنخوة. (1-3) ومن والدتي تعلمت التقوى والإحسان والتعفف عن فعل السيئات وعن مجرد التفكير فيها. وتعلمت منها أيضا بساطة العيش؛ بساطة غير معهودة في الأثرياء على الإطلاق. (1-4) ومن جدي الأعلى
4
تعلمت ألا أختلف إلى المدارس العامة، وأن يكون لدي معلمون ممتازون بالمنزل، وأن أعرف أنه في مثل هذا يليق بالمرء أن ينفق بسخاء. (1-5) ومن معلمي تعلمت ألا أكون من مشجعي «الأخضر» أو «الأزرق» في السباقات، ولا أشايع «الخفاف» أو «الثقال» من المجالدين في المدرج، وأن أحتمل المشاق وأكتفي بالقليل، وأن أعمل بيدي وأن أنصرف إلى شأني وأترك ما لا يعنيني.
5 (1-6) من ديوجنيتوس
Diognetus
6
تعلمت ألا أنشغل بالتفاهات، وألا أصدق حديث المشعوذين والدجالين عن الرقى والتعاويذ وطرد الشياطين وما شابه، ولا أربي طيور العراك
7
ولا أتحمس لمثل هذه الرياضات، وألا أضيق بالصراحة، وأن أنجذب إلى الفلسفة، وأحضر أولا محاضرات باخيوس ثم تانداسيس وماركيانوس، وأكتب محاورات منذ نعومة أظفاري، وأحب السرير النقال والدثار وكل ما ينتمي إلى نظم التدريب اليوناني.
8 (1-7) من رستيكوس
Rusticus
9
تلقيت الانطباع بأن شخصيتي بحاجة إلى تحسين وتدريب، وتعلمت ألا أنجذب إلى الخطابة فأكتب خواطري أو ألقي خطبي الوعظية الصغيرة، أو آرائي بمظهر المتنسك أو المحسن، وأن أبتعد عن البلاغة وقرض الشعر وكتابة الإنشاء، وألا أتجول في البيت بالملابس الرسمية، أو أفعل فعلا من هذا القبيل، وإذا كتبت رسائل أن أكتبها بأسلوب بسيط مثل رسالته التي كتبها إلى والدتي من سينوئيسا، وأن أكون مرحبا بالصلح مع من أساءوا إلي بمجرد أن يجنحوا للسلم، وأن أقرأ بتمعن ولا أكتفي بأفكاري السطحية أو أسارع بقبول آراء المتفيهقين، وإنني لمدين له بتعرفي على «مذكرات إبكتيتوس»
10
التي تفضل علي بنسخته الخاصة منها. (1-8) ومن أبولونيوس
Apollonius
11
حرية الإرادة، وعدم الحيود عن الهدف أو التعويل على أي شيء آخر سوى العقل، وأن أظل كما أنا لا يبدلني الألم المفاجئ أو فقدان طفل أو المرض الطويل، وأن أرى فيه مثالا حيا يبين أنه بوسع المرء أن يجمع بين الشدة واللين، ولا يكون فظا في إصدار تعليماته، وأرى أمام عيني إنسانا يعتبر خبرته ومهارته في بسط نظراته الفلسفية هي أقل مواهبه. وتعلمت منه أيضا كيف أتلقى من الأصدقاء أفضالا عظيمة فلا يحط ذلك من قدري عندهم ولا أنا أنكر فضلهم أو أغفله. (1-9) من سكستوس
Sextus
12
تعلمت الأريحية، ونمطا من العائلة التي تحكم بطريقة أبوية، ومفهوم الحياة التي تعاش وفقا للطبيعة، ووقارا في غير تكلف، ورعاية مصالح الأصدقاء، والتسامح تجاه الجهال من الناس وتجاه راكبي رءوسهم، والتلطف مع الجميع بحيث كانت متعة الحوار معه أعظم من أي تملق، وكان مجرد حضوره يجلب إليه الإجلال من جميع جلسائه. كان لديه ملكة اكتشاف وتنظيم المبادئ الضرورية للحياة بطريقة ذكية ومنهجية. لم يتملكه الغضب قط أو أي انفعال آخر، بل كان خليا تماما من الانفعال وشدة الرقة والعطف، وكان بوسعه أن يعبر عن استحسانه بلا صخب، وكان يمتلك معرفة عريضة بلا تظاهر ولا ادعاء. (1-10) ومن الإسكندر النحوي تعلمت ألا أتسقط الأخطاء، وألا أقرع من يرتكب خطأ في المعجم أو التركيب أو النطق، بل أدخل بحذق نفس التعبير الذي كان ينبغي استخدامه، وذلك في شكل إجابة أو توكيد، أو بالاشتراك في مناقشة حول الشيء نفسه لا حول الصياغة، أو بأي لون آخر من مثل هذا التنبيه اللبق. (1-11) ومن فرونتو
Fronto
13
تعلمت أن أفهم فعل الشك والهوى والنفاق في ممارسة الاستبداد، وأن أغلب من نسميهم «النبلاء»
يفتقرون إلى العطف الإنساني. (1-12) ومن الإسكندر الأفلاطوني تعلمت ألا أقول أو أكتب لأي شخص بأني مشغول جدا ما لم تكن هناك ضرورة فعلية، وألا أنتحل أعذارا قهرية للتنصل من واجباتي تجاه إخواني وتجاه من أعيش معهم. (1-13) ومن كاتولوس
Catulus
14
تعلمت ألا أرفض أي نقد موجه من صديق، حتى لو كان نقدا لا مبرر له، بل أؤلف قلبه وأعيده إلى صفائه المعتاد، وأن أذكر أساتذتي بخير وعرفان قلبي، مثلما كان يذكر دوميتيوس وأثينودوتوس، وأن أحب أبنائي حبا حقيقيا. (1-14) ومن أخي سيفيروس
Severus
تعلمت أن أحب أقربائي وأحب الصدق وأحب العدل، ومن خلال عونه لي صرت أفهم ثراسيا وهيلفيديوس وكاتو وديو وبروتوس، ومنه تلقيت فكرة دولة يسري فيها القانون الواحد على الجميع، دولة تقوم على المساواة في الحقوق والمساواة في حرية الرأي، وفكرة حكومة ملكية تحترم حرية المحكومين فوق كل شيء. وتعلمت منه أيضا توقير الفلسفة توقيرا دائما وثابتا لا يتزعزع. وتعلمت منه الإحسان والكرم والتفاؤل، والثقة بشعور الأصدقاء، والصراحة في الانتقاد، والوضوح فيما يريد وما لا يريد بحيث لا يلجئ أصدقاءه في ذلك إلى الحدس والتخمين. (1-15) ومن مكسيموس
Maximus
15
تعلمت ضبط النفس، والتمنع على النزوات العابرة، والمرح في جميع الظروف حتى في المرض، وتوازنا حميدا في الشخصية بين اللطف والوقار، وأن أؤدي ما ينبغي أداؤه مهما كلفني ذلك من جهد، والثقة التي يبثها في الجميع بأنه يعني ما يقول وأنه حسن النية فيما يفعل، لا تتملكه الدهشة ولا الهلع، ولا يعرف العجلة ولا التردد، ولا يكل ولا يتوانى، ولا يرتبك ولا يغتم، ولا يضحك ليداري غيظه، ولا ينفعل في الوقت نفسه ولا يشك. وقد دأب على فعل الخير وكان سمحا وصادقا، يتخذ الطريق المستقيم طوعا لا كرها، لم يشعر أي إنسان قط أنه ازدراه يوما أو استعلى عليه، وكان فكها رقيق الحاشية. (1-16) من أبي
16
تعلمت الرفق، وصحة العزم في القرارات التي يخلص إليها بعد ترو تام، وألا أنخدع بتلك الأشياء التي يسميها الناس مبعث فخر، وتعلمت منه حب العمل والمثابرة، والإصغاء لكل من لديه اقتراح من أجل الصالح العام، وأن أعطي كل ذي حق حقه، وأن أعرف متى أشتد ومتى ألين، وأن أتعفف عن الغلمان. كان يعفي من بالبلاط من ضرورة الحضور الدائم معه على العشاء أو مرافقته خارج المدينة، ولم يجد الذين يضطرهم التزام آخر بالابتعاد أي حرج في ذلك ولا آنسوا منه استنكارا. وكان دقيق البحث في كل الأمور التي يتشاور حولها في المجلس، ولا يقنع بالانطباعات الأولى ويترك أمرا دون تدبر، وكان حريصا على أصدقائه، لا يضجر منهم سريعا ولا يسرف في محاباتهم، متماسكا مرحا في جميع الظروف، بعيد النظر في الأمور الطويلة الأمد، حاسبا لأدق التفاصيل دون تنطع، يلجم أي تهليل أو مداهنة، ساهرا على احتياجات الإمبراطورية، مدبرا في الإنفاق، متسامحا تجاه نقد البعض له في هذه المسألة. لم يكن مشعوذا تجاه الآلهة، ولا متقربا للناس بالهدايا لاسترضائهم، ولا مداهنا للجماهير، بل كان رصينا في كل شيء وحازما لا تسهويه المباذل والبدع.
وكل ما يفضي إلى لين العيش، وقد منحه الحظ الكثير؛ فقد كان يستمتع به من غير تباه ولا اعتذار، فإذا جاءه تمتع به دون تكلف، وإذا غاب عنه لم يطلبه. لم يكن يوما مخادعا أو دجالا أو متحذلقا، بل كان محنكا خبيرا لا ينطلي عليه التملق، وقادرا على إدارة شئونه وشئون غيره.
وبالإضافة إلى ذلك فقد كان يوقر من هم فلاسفة حقيقيون، ولا يغلظ القول لأدعياء الفلاسفة وإن كان يكشفهم بسهولة. وكان اجتماعيا أيضا وذا حس فكاهي من غير أي تكلف ممجوج. وكان يهتم بصحته الجسدية اهتماما معقولا، لا عن حرص زائد على الحياة أو على المظهر الشخصي، ولا بإهمال أيضا؛ بحيث إن اعتناءه بنفسه لم يترك لديه أدنى حاجة إلى الأطباء ولا إلى الجرعات الدوائية ولا الدهانات.
وأهم من ذلك جميعا استعداده للإذعان بلا تحفظ لأولئك الذين لديهم قدرة خاصة معينة، في البلاغة مثلا أو في دراسة القوانين والعادات أو أي موضوع آخر، وكان يدعمهم ويساعدهم على أن يصلوا في مجالاتهم إلى ما يستحقونه من مكانة. وكان دائما يراعي التقاليد وإن لم يجعل الحفاظ على التقاليد هدفا معلنا. وكان لا يحب التغيير ولا يعتمد على الحظ بل على المثابرة والدأب في نفس المواقع ونفس الممارسات. وكان إثر نوبات الشقيقة التي تنتابه يعود للتو نشطا وعفيا إلى استئناف أعماله المعتادة. لم يكن يخفي أسرارا إلا أقل القليل، وذلك في شئون الدولة فحسب. وكان حصيفا مقتصدا في المظاهر والعروض والمشاهد الشعبية وتشييد المباني العامة والعطايا والمنح، وما شابه؛ فقد كان ينظر إلى ما يلزم عمله لا إلى مجرد الصيت المستفاد من عمله.
لم يكن يغشى الحمامات طوال الوقت، ولم يكن مغرما ببناء منازل واستراحات، ولا مغرما بالطعام، ولا مهتما بلون ثيابه وخامتها، ولا بجمال عبيده. كان كساؤه يأتي من لوريوم ويرسل من مقره الريفي هناك. وانظر إلى طرائق عيشه في لانوفيوم، وكيف تعامل مع اعتذار المراقب الحكومي في توسكولوم، ومثل هذه الأنماط السلوكية جميعا.
لم يكن فيه أي جفاء أو غلظة أو عنف، أو قل أي شيء يخرج به عن طوره، بل كان يمنح كل شيء حظه من الوقت والفحص وكأنه متفرغ له. كان ديدنه المهل والنظام والنشاط والاتساق في كل شيء. وقد ينطبق عليه ما عرف عن سقراط من أنه كان بوسعه الامتناع والاستمتاع تجاه الأشياء التي يضعف أمامها الكثيرون ولا يستطيعون الانغماس فيها من غير إفراط.
أما أن تكون قويا بما يكفي لاحتمال هذا والامتناع عن ذاك حسب الحالة، فتلك شيمة الإنسان ذي النفس الكالة التي لا تقهر، مثلما تجلى في مرض ماكسيموس. (1-17) وأنا مدين للآلهة التي منحتني أجدادا صالحين وآباء صالحين وأختا صالحة، ومعلمين وأسرة وأقارب وأصدقاء صالحين؛ كل شيء تقريبا، وأحمدها على أنني لم أزل بالإساءة إلى أي منهم رغم أن بي نزعة كانت كفيلة بأن تحملني على مثل ذلك الزلل إذا دعت الظروف؛ ولكن من فضل الآلهة أنها لم تضعني قط في هذا الامتحان. ومن فضل الآلهة أنها لم تطل نشأتي في كنف خليلة جدي، وأنني حافظت على زهرة شبابي، وحافظت على براءتي، ولم أشرع في ممارسة رجولتي إلا في الوقت الصحيح، وربما بعده بقليل. وأحمد أنني نشأت في كنف حاكم وأب انتشلني من الغرور وبصرني بأنه بوسع المرء أن يعيش في قصر دون أن يشعر بحاجة إلى حرس شخصي أو ملابس مزركشة، أو شمعدانات أو تماثيل أو الزخارف الأخرى لمثل هذه الأبهة، بل بوسعه أن يعيش حياة قريبة جدا من حياة المواطن العادي دون أن يفقد أي كرامة أو بأس في إدارة مسئوليات الحاكم تجاه الصالح العام.
وقد أنعمت علي بأخ
17
كان قادرا بشخصيته القويمة على أن يحثني على الاهتمام بنفسي، وكان يغدق علي في الوقت نفسه احترامه وعطفه. وأحمدها على أن أبنائي لم يكونوا محدودي الذكاء أو مشوهي الجسم.
18
وأحمدها على أنني لم أتماد في طلب البلاغة والشعر وغير ذلك من الأغراض التي كنت حريا أن أستغرق فيها لو آنست أنها طريقي الصحيح. وأنني لم أبطئ في ترقية معلمي إلى المناصب العامة التي كانوا يصبون إليها ولم أسوف ذلك بحجة أنهم صغار السن مع وعود بالترقية في المستقبل. وأنني عرفت أبولونيوس وروستيكوس وماكسيموس.
وأنني اكتسبت صورة واضحة وثابتة عما تعنيه الحياة وفقا للطبيعة، بحيث إنه من ناحية الآلهة وعطاياها وعونها وإلهامها فلا شيء يعوقني الآن عن حياة الطبيعة، وإذا كنت مقصرا عن ذلك بعض الشيء فالخطأ خطئي والتقصير تقصيري في الالتفات إلى إشارات الآلهة ولا أقول تعليماتها.
19
وأحمد الآلهة أن جسدي قد صمد حتى الآن في حياة مثل حياتي. وأنني لم أمس قط بنديكتا أو ثيودوتوس،
20
وأنني شفيت بعد ذلك من سعار الشبق بعد أن وقعت فيه. وأنني رغم كثرة خلافاتي مع روستيكوس فلم أفعل في ذلك قط ما أندم عليه. وأن والدتي رغم وفاتها المبكرة فقد عاشت سنيها الأخيرة معي.
وأنني ما رغبت في مساعدة أحد في عوز أو أي حاجة أخرى فقيل لي إن الموارد لا تسمح، وأنني شخصيا لم أقع قط في عوز واحتياج إلى عون مالي من أحد، وأن زوجتي،
21
مثلما هي، جد مطيعة ومحبة وتلقائية . وأنني وجدت لأبنائي كثيرا من المعلمين الممتازين.
وأن العلاجات كانت توصف لي في الأحلام، وبخاصة كيف أتجنب بصاق الدم ونوبات الدوار. وأنني حين شغفت بالفلسفة لم أقع في يد سفسطائي، ولم أضع وقتي في تحليل الأدب أو المنطق، أو أشغل نفسي ببحث الظواهر الكونية؛ فهذه الأشياء تحتاج إلى «عون الآلهة ومحاباة الحظ».
الكتاب الثاني
كتب بين القادي
Quadi
1
على نهر جران
2 (2-1) قل لنفسك حين تقوم في الصباح: اليوم سألقى من الناس من هو متطفل ومن هو جاحد ومن هو عات عنيف، وسأقابل الغادر والحسود ومن يؤثر نفسه على الناس. لقد ابتلي كل منهم بذلك من جراء جهله بما هو خير وما هو شر،
3
أما أنا وقد بصرت بطبيعة الخير وعرفت أنه جميل، وبطبيعة الشر وعرفته قبيحا، وأدركت أن مرتكب الرذائل لا يختلف عني أدنى اختلاف في طبيعته ذاتها - فنحن لا تجمعنا قرابة الدم والعرق فحسب بل قرابة الانتساب إلى نفس العقل ونفس القبس الإلهي - أما أنا وقد بصرت بهذه القرابة فلن يسوءني أي واحد من هؤلاء ولن يعديني بإثمه. وليس لي أن أنقم منه قرابتي أو أسخط عليه؛ فقد خلقنا للتعاون، شأننا شأن القدمين واليدين والجفنين وصفي الأسنان. التشاحن ضد للطبيعة، وضدها، من ثم، العداوة والبغضاء.
4 (2-2) أيا ما كنت فإنني مجبول من قطعة لحم ونفس وعقل موجه. ألق بكتبك وأقلع عن تعطشك إليها ... لا تشتت نفسك ... لات حين
5 ... بل انظر إلى الأمر نظرة المودع الراحل: احتقر الجسد ... إنه دم وعظام ... مجرد نسيج وشبكة من الأعصاب والأوردة والشرايين. وتأمل النفس أيضا ما هو ... إنه هواء، وليته ثابت دائم، إنما هو يزفر كل حين ويشهق مرة ثانية. لم يبق الآن إلا الشطر الثالث: العقل الموجه. لقد بلغت من الكبر عتيا فلا تدع عقلك الموجه يستعبد مرة ثانية؛ لا تحركك نوازع الجسد مثل الدمى تحركها الخيوط،
6
لا تبرم بحاضرك أو توجس من المستقبل. (2-3) أعمال الآلهة مفعمة بالعناية، وأعمال القدر ليست منفصلة عن الطبيعة أو عن النسيج الذي تنسجه العناية. من ذلك تصدر الأشياء جميعا ، إلى جانب مصدرين آخرين هما الضرورة ومصلحة «الكل» الذي أنت جزء منه. على أن كل جزء من الطبيعة يستفيد مما تحدثه طبيعة «الكل» ومن كل ما يحفظ هذه الطبيعة. ونظام العالم تحفظه التغيرات التي تعتور العناصر مثلما تحفظه التغيرات التي تعتور الأشياء المكونة من هذه العناصر،
7
بحسبك هذه المبادئ ولتكن لديك بمثابة مذهب ثابت، وأقلع عن تعطشك للكتب حتى لا تموت محنقا بل تلقى الموت بابتهاج وتسليم وحمد للآلهة من القلب. (2-4) كم ذا تسوف هذا وترجئه، وكم ذا تمنحك الآلهة فرصة فتضيعها. ألم يأن لك أن تفهم هذا العالم الذي أنت جزء منه وتفهم مدبر هذا العالم الذي أنت فيض منه؟ ألا تدرك أن هناك حدا لعمرك، فإذا لم تستغله لتبديد غيومك فسوف يذهب العمر وسوف تذهب ولن تعود الفرصة مرة أخرى؟ (2-5) في كل لحظة من حياتك أول كل انتباهك، كروماني وكإنسان، إلى أن تؤدي المهمة التي بين يديك بتحليل دقيق، ورزانة غير متكلفة، وتعاطف إنساني، وعدالة ونزاهة، وأن تفرغ عقلك من كل أفكاره الأخرى. ولسوف تمنح عقلك انفراجا إذا أديت كل فعل كما لو كان آخر شيء تؤديه في حياتك؛ نافضا عنك روح الإهمال وانعدام الهدف، وكل نفور عنيف من أوامر العقل، وكل رياء وكل أثرة، وكل تبرم من نصيبك المقسوم. أرأيت كم هي قليلة تلك الأشياء التي تلزم المرء لكي يعيش حياة هادئة تقية؟ الآلهة نفسها لا تطلب من المرء أكثر من أن يراعي هذه الأشياء. (2-6) تمادي في إيذاء ذاتك أيتها النفس
8 ... إن هي إلا لحظة ولن يعود لديك متسع لاعتبار ذاتك. الحياة لحظة، ولحظتك الخاصة توشك على النهاية. والسعادة تتعلق على تقدير الذات لذاتها، وما زلت تحرمينها من ذلك وتعلقين سعادتك على الآخرين؛ ذواتهم وآرائهم وتقديراتهم.
9 (2-7) لماذا تشتتك الماجريات الخارجية كل هذا التشتيت؟ أعط نفسك قسطا من الفراغ لكي تتعلم درسا جديدا مفيدا، وكف عن التخبط هنا وهناك. وعليك بعد ذلك أن تحذر ضربا آخر من التخبط. إنه لضرب آخر من الكسل والموات ما يأتيه أولئك الذين يكدحون بلا هدف ويضربون في الأرض بلا وجهة، لا وجهة في الفعل، ولا وجهة، بالأحرى، في القول والتفكير . (2-8) ما كان يوما جهل المرء بما يدور في رءوس الآخرين سببا للتعاسة والشقاء. إنما الشقي من لا ينتبه إلى خطرات عقله هو، ولا يهتدي؛ من ثم، بهديه وإرشاده. (2-9) ضع نصب عينيك دائما هذه الأشياء: ما هي طبيعة «الكل»؟ ما هي طبيعتي الخاصة؟ ما علاقة هذه الطبيعة بتلك؟ أي صنف من الجزء لأي صنف من الكل؟ وأن ليس بإمكان أحد أن يحول بينك وبين أن تقول ما تقول وتعمل ما تعمل وفقا لتلك الطبيعة التي أنت جزء منها. (2-10) في مقارنته بين مختلف الذنوب، تلك المقارنة التي تتفق فيها الفلسفة مع رأي الرجل العادي، يقول ثيوفراسطس
Theophrastus
10
إن ارتكاب الخطيئة بدافع الرغبة أشد من ارتكابها بدافع الغضب؛ إذ يبدو أن من أثاره الغضب إنما يحيد به عن العقل شيء من الألم والتشنج غير الإرادي، أما المدفوع إلى الخطيئة بالرغبة فيبدو إذ يستسلم للذة أكثر تهتكا في إثمه وأقل رجولة. كان ثيوفراسطس إذن مصيبا وفيلسوفا بحق حين قال إن خطيئة الرغبة أجدر باللوم من خطيئة الغضب؛ إذ إن الأول أشبه بشخص أوذي فاضطره الألم إلى الغضب، أما الثاني فإنه هو هو مصدر نزوته ومنشأ اندفاعته إلى الإثم حين تحدوه الشهوة إلى ارتكاب ما ارتكب.
11 (2-11) ربما تغادر الحياة في أية لحظة؛ فلتضع هذا الاحتمال نصب عينيك في كل ما تفعل أو تقول أو تفكر به. غير أن مغادرة دنيا البشر ليست بالأمر المخيف إذا كان الآلهة موجودين، فما كان الآلهة ليضيروك في شيء. أما إذا كان الآلهة غير موجودين، أو كانوا لا يلقون بالا لبني البشر؛ فما قيمة الحياة لي في عالم خلو من الآلهة أو خلو من العناية؟ غير أن الآلهة موجودون حقا، ويلقون بالا لبني الإنسان. ولقد جعلوا بمقدور الإنسان أن يتجنب السقوط في الشرور الحقيقية. فإذا كان هناك أي شيء ضار في بقية الخبرة فلا بد أنهم قدموا ما يلزم لذلك أيضا لكي يجعلوا بقدرة أي إنسان أن يتجنب السقوط فيه. ومن حيث إنه لا يمكن لأي شيء أن يجعل الإنسان أسوأ فكيف يمكنه أن يجعل حياته أسوأ؟
وما كان لطبيعة العالم أن تغفل عن ذلك، لا من خلال الجهل ولا من خلال العجز عن تفادي هذه الأشياء وتصحيحها. ولا هو من الممكن أن تكون قد ارتكبت خطأ بهذه الجسامة، لا من خلال الضعف ولا من خلال الرعونة؛ بحيث يحل الخير والشر بالأخيار والأشرار من غير تمييز. صحيح أن الموت والحياة، النباهة والخمول، الألم واللذة، الغنى والفقر؛ صحيح أن كل هذه الأشياء تقع بالأخيار والأشرار على السواء، غير أنها ليست في ذاتها حسنة أو سيئة، وبالتالي ليست في ذاتها خيرا ولا شرا.
12 (2-12) سرعان ما تزول الأشياء جميعا، في العالم تزول الأجساد نفسها، وفي الزمن تزول ذكراها، ما هي الأشياء المحسة - وبخاصة تلك التي تغري باللذة أو تروع بالألم أو تزدهي ببريق الغرور - كم هي حقيرة تافهة زائلة وميتة؛ عبر لمن يعتبر. ومن يكونون أولئك الذين تتوقف سمعتنا على أحكامهم وأصواتهم؟
وما الموت؟ إن من يتأمل الموت في ذاته، ويعمل فيه التحليل العقلي ليجرده مما يرتبط به من دلالات سوف يخلص إلى أنه لا يعدو أن يكون وظيفة طبيعية. ومن يرتاع لوظيفة من وظائف الطبيعة فهو طفل غرير. ليس الموت وظيفة طبيعية فحسب بل إنه أيضا لخير الطبيعة وصالحها.
تأمل أيضا كيف يدنو المرء من الألوهة، بأي شطر من وجوده؟ ومتى يدنو هذا الشطر وأي ميل يميل؟ (2-13) ما أشقى ذلك الإنسان الذي يظل دوما لائبا محوما حول كل شيء، كما يقول بنداروس،
13 «منقبا في أحشاء الأرض». متحرقا إلى استشفاف ما يدور ببال جيرانه. وما يدري أن بحسبه أن ينصرف إلى الألوهة التي بداخله ويكون لها خادما حقيقيا
14
تلك الخدمة هي أن يظل مبرءا من الانفعال والطيش والسخط على ما قسمته له الآلهة؛ فما يأتي من الآلهة يستحق الإجلال من أجل عظمتهم، وما يأتي من البشر ينبغي أن نعزه أيضا من أجل قرابتهم لنا، بل أحيانا ما يثير شفقتنا، بشكل ما، بسبب جهلهم بالخير والشر. وهو ضرب من العجز لا يقل بحال عن العجز الذي يحرمنا من القدرة على تمييز الأبيض من الأسود.
15 (2-14) حتى لو قدر لك أن تعيش ثلاثة آلاف عام، أو عشرة أضعاف ذلك، فاذكر دائما أن لا أحد يفقد أي حياة غير تلك التي يحياها، أو يحيا أي حياة غير تلك التي يفقدها. ينتج من ذلك أن أطول حياة وأقصرها سيان؛ فاللحظة الحاضرة واحدة في الجميع؛ ومن ثم فإن ما ينقضي متساو أيضا. يتبين إذن أن الفقدان إنما هو فقدان لحظة لا أكثر؛ ذلك أن المرء لا يمكن أن يفقد الماضي ولا المستقبل، فكيف يمكن أن يسلب ما ليس يملك؟!
16
تذكر إذن هذين الشيئين: (1) أن الأشياء جميعا هي ما هي منذ الأزل، تبدأ وتعود دواليك، وسيان أن يرى المرء نفس المشهد لمائة عام أو مائتين أو ما لا نهاية من الأعوام.
17 (2) أن ما يسلب من المعمر هو ما يسلب من أقصر الناس عمرا؛ فليس غير اللحظة الحاضرة ما يمكن أن يسلب من الإنسان. فإذا صح أن هذه اللحظة هي كل ما يملكه فمن غير الممكن أن يفقد ما ليس يملك. (2-15) ثمة اعتراضات واضحة على مقولة مونيموس
18
الكلبي «كل شيء هو كما يريده الفكر أن يكون». ولكن قيمة هذه الحكمة واضحة أيضا إذا أخذنا لبابها، بقدر ما فيه من حق. (2-16) إنما تؤذي النفس نفسها، أول ما تؤذي، عندما تصبح - ما أمكنها ذلك - كيانا منفصلا، أشبه بورم على جسد العالم؛ فالسخط على أي شيء تجري به الأقدار هو تمرد انفصالي عن الطبيعة التي تضم معا الطبائع الجزئية لجميع الأشياء الأخرى. وتؤذي النفس نفسها ثانيا حين تنأى بجانبها عن كائن إنساني آخر أو حين يلج بها الخصام فتعمد إلى إيذائه. تلك هي حال الأنفس التي استبد بها الغضب. وتؤذي النفس نفسها، ثالثا، حين تستسلم للذة أو للألم. وتؤذي نفسها رابعا حين تتكلف وترائي، وتفعل أو تقول غير الصدق وغير الحق. وخامسا عندما تفقد الهدف في أي فعل من أفعالها أو ميل من ميولها، فتحيد عن القصد وتخبط خبط عشواء؛ فالفعل مهما صغر ينبغي أن يؤدي لغاية ويرمي إلى هدف. وغاية الكائنات العاقلة هي أن تتبع العقل وتلتزم قانون أقدم دولة وحكومة؛ العالم. (2-17) المرء في الحياة زمانه لحظة، ووجوده في انسياب، وإدراكه في ضباب، وبدنه كله في اندثار، وعقله دوامة، ومصيره غير معروف، ومجده غير متيقن. وباختصار، كل ما في الجسد ينساب بعيدا وكل ما في العقل أحلام وأوهام. الحياة صراع ومقام غربة، والمجد الوحيد الباقي هو الخمول. أي شيء إذن بوسعه أن يخفرنا في طريقنا؟ شيء واحد، وواحد فقط: الفلسفة. وما الفلسفة سوى أن تحفظ ألوهتك التي بداخلك سالمة من العنف والأذى، وأن ترتفع فوق الألم واللذة، ولا تفعل شيئا بلا هدف أو بلا صدق أو بلا أصالة، وأن تترك ما لا يعنيك مما يفعله الآخرون أو لا يفعلونه. وأن تقبل كل ما يجري عليك ويقدر لك بوصفه آتيا من نفس المصدر الذي منه أتيت. وأخيرا أن تنتظر الموت بنفس منشرحة على أنه مجرد انحلال للعناصر المكونة لكل شيء حي. فإذا لم يكن بأس في التحرك الدائم للعناصر من عنصر إلى آخر ففيم التوجس من تغير العناصر جميعا وانحلالها؟ ذلك شيء موافق للطبيعة، ولا ضير البتة في أي شيء موافق للطبيعة.
الكتاب الثالث
كتب في كارننتم
1 (3-1) ينبغي أن نضع في حسباننا، ليس فقط أن الحياة تنقضي يوما بعد يوم وأن رصيدنا الباقي يتناقص، بل أيضا أننا إذا امتد بنا الأجل فلا ضامن لنا أن عقولنا ستظل محتفظة بالقدرة على فهم العالم وتأمله، تلك القدرة التي تشكل خبرتنا بالأمور الإلهية والإنسانية. فإذا أدركنا العته فلن يتوقف فينا التنفس ولا الغذاء ولا الخيال ولا الرغبة، بل قبل أن تذهب هذه سيذهب استخدام المرء لنفسه استخداما صحيحا، تقديره الدقيق لما يتوجب فعله، قدرته على تحليل الانطباعات، وعلى معرفة هل عليه أن يرحل مختارا عن الحياة
2
أو لا، هذه وكل الأمور الأخرى التي تتطلب حسابا حصيفا. فلنعجل إذن، ليس فقط لأن الموت يدنو حثيثا، بل أيضا لأن قدرتنا الفكرية على معرفة الطبيعة الحقة للأشياء وتسيير أفعالنا وفقا لهذه المعرفة سيعروها الزوال قبلنا.
3 (3-2) شيء آخر عليك أن تلحظه؛ أنه حتى النواتج العرضية لما يتم وفقا للطبيعة لا يخلو من فتنة وجاذبية. حين يخبز رغيف، على سبيل المثال، فلا بد من أن تحدث تشققات هنا وهناك ضد ما يقصده الخباز. على أن هذه التشققات غير المتعمدة تجذب العين بطريقة ما وتثير الشهية. التين أيضا ينفلق عند تمام نضجه. وفي حالة الزيتون الذي ينضج على شجرته فإن قرب التحلل نفسه يمنح ثمرته رونقا معينا. كذلك سنابل القمح المنحنية إلى الأرض، وجفن الأسد المغضن، والزبد المتدفق من فم الخنزير، وغير ذلك كثير؛ كل أولئك أشياء تبدو بعيدة عن الجمال حين تؤخذ على حدة، ولكن ترتبها على عمليات الطبيعة يضفي عليها جمالا وجاذبية. ومن ثم فأي إنسان لديه شعور واستبصار عميق بتشغيلات «الكل» سوف يجد لذة ما في كل جانب منها تقريبا، بما في ذلك النواتج العرضية. مثل هذا الإنسان سوف تبهجه زمجرة الوحوش بهجة لا تقل عن بهجته بكل تمثيلات المصورين والمثالين، سوف يرى لونا من التفتح والوسامة في امرأة أو رجل عجوز. ومثل هذا الإنسان سيكون قادرا على أن ينظر بتوقر إلى الفتنة الآسرة في غلمانه أنفسهم. وكثير من مثل تلك المدركات لن تروق كل إنسان بل ذلك الذي أصبح على ألفة حقيقية مع الطبيعة ومع أعمالها. (3-3) شفى أبقراط
4
ما لا يحصى من الأمراض ثم مرض هو نفسه ومات.
5
تنبأ المنجمون الكلدانيون بموت الكثير من الناس ثم لم يلبث كل منهم أن وافته منيته. الإسكندر، وبومبي، ويوليوس قيصر، أفنوا مدنا بكاملها يوما بعد يوم وذبحوا عشرات الآلاف من الفرسان والرجل في ميادين المعارك، غير أن أجلهم هم أيضا قد حان لكي يفارقوا الحياة. طويلا ما تأمل هيراقليطس
6
في الحريق النهائي للعالم، غير أن ماء الاستسقاء ملأ بطنه ومات مكسوا بكمادة من روث البقر. مات ديمقريطس بالقمل، وقتلت سقراط حشرات من صنف آخر.
7
ماذا يعني كل هذا؟ لقد صعدت السفينة، أقلعت، رسوت، فارحل الآن. فإذا كان لحياة أخرى فلن يخلو حتى هذا الشاطئ من الآلهة، وإذا لم يكن هناك أي حياة أو حس فلن تعود تعاني من الآلام واللذات،
8
ولن تعود مستعبدا لوعاء جسدي هو سيد بالغ الدناءة بقدر ما إن عبده بالغ الرفعة؛ فهذا عقل وروح، وذاك مجرد تراب ودم.
9 (3-4) لا تضيع ما تبقى من عمرك في الانشغال بالغير، ما لم يكن ذلك تصلا بوجه ما من أوجه الخير العام. لماذا تجرد نفسك من الوقت من أجل مهمة أخرى؟ أعني أن التفكير حول فلان، ماذا عساه يفعل ولماذا يقول أو يضمر أو يخطط وكل هذا الخط من التفكير، يضل بك عن التأمل الدقيق في عقلك الموجه نفسه.
لا ... عليك أن تجتنب في مسار فكرك كل ما ليس له هدف أو فائدة، وبخاصة كل ما هو فضولي خبيث. رض نفسك على ألا تجيل بخاطرك إلا تلك الأفكار التي بوسعك إن سئلت فجأة: «فيم تفكر الآن؟» أن تقول لتوك ما هي بصراحة فتكون إجابتك دليلا على أن أفكارك مستقيمة وحسنة وتليق بكائن اجتماعي لا يلقي بالا لخيالات اللذة أو المتع الحسية على الإطلاق، ومبرأ من أي غيرة أو حسد أو شك أو أي شيء يخجل المرء من أن يعترف أنه خطر له.
فإنسان مثل هذا، إذا لم يعد يتنازل عن مكانه بين الصفوة الأخيار، هو أشبه بكاهن وخادم للآلهة، إنه يلبي نداء الألوهة القابعة داخله، والتي تجعل المرء غير ملطخ بالملذات وغير منغص بالآلام، لا تناله الإهانة ولا يعرف الخبث ... مقاتلا في أنبل حرب ... لا يجرفه أي انفعال، متشربا بالعدل حتى النخاع، يتقبل بملء قلبه كل ما يصيبه وكل ما هو مقسوم له، وقلما يتطلع إلى الآخرين ما عساهم يقولون أو يفعلون أو يفكرون؛ فبحسبه ما يكب عليه من عمل لكي يتمه، وبحسبه نصيبه المقدور من «الكل» لكي ينصرف إليه بهمة لا تنقطع. فأما عمله فيتقنه أيما إتقان، وأما نصيبه المقدور فهو قانع به؛ فنصيب كل امرئ هو رفيق رحلته وهو حاديه في آن معا.
وهو يذكر أيضا أن كل كائن عاقل هو قريبه، وأن رعاية جميع البشر هي أمر تقتضيه طبيعة الإنسان. وعلى المرء ألا يتخذ آراء الجميع بل آراء الذين يعيشون وفق الطبيعة فحسب. أما أولئك الذين لا يعيشون كذلك فإنه ليذكر دائما أي صنف من البشر هم في بيوتهم وخارجها، في ليلهم ونهارهم، يذكر ماذا يكونون ومع من يعيشون حياتهم الآثمة؛ وبالتالي فهو يزدري أي إطراء يأتي من مثل هؤلاء، إنهم أناس غير راضين حتى عن أنفسهم.
10 (3-5) لا تفعل شيئا ضد إرادتك، أو دون اعتبار للصالح العام، أو دون روية، أو بدوافع مصطرعة. لا تصغ أفكارك في أسلوب متكلف مبهرج.
11
لا تكن ثرثارا متطفلا، ثم لتكن الألوهة التي داخلك هي حارسة الكائن الذي تكونه؛ كرجل، مسن، سياسي، روماني، حاكم، رجل يقوم بوظيفته مثل جندي رهن إشارة استدعاء من الحياة، ومستعد للذهاب،
12
لا يحتاج إلى قسم ولاء ولا إلى شهادة أي إنسان. كن مرحا أيضا، وغنيا عن أي عون خارجي وعن أي سكينة تأتيك من الآخرين. واجبك أن تقوم بذاتك ولا تقوم بغيرك.
13 (3-6) إذا عثرت في حياة الإنسان على أي شيء يفضل العدالة والصدق والاعتدال والشجاعة - وباختصار شيء يفضل اكتفاء عقلك بذاته، ذلك الاكتفاء الذي يمكنك من العمل وفقا للعقل الصحيح ومن قبول ما ليس لك به يد من أحكام القضاء - أقول إذا أمكنك أن ترى شيئا أفضل من هذا فاتجه إليه بكل قلبك وتمتع بما وجدته أفضل. ولكن إذا لم يتبين لك ما يفضل الإله نفسه القابع في داخلك والذي يحكم جميع اندفاعاتك، ويمحص أفكارك، والذي نأى بنفسه، على حد قول سقراط، عن كل إملاءات الحواس، والذي يعنو للآلهة ويرعى بني الإنسان؛ إذا وجدت كل ما عداه ضئيلا حقيرا بالقياس إليه فلا تأبه لكل ما عداه؛ فأنت إذا ملت مرة إلى أي بديل آخر فسيكون من العسير والمعنت أن تستعيد الصدارة لذلك الخير الذي تملكه ولا تملك غيره؛ ذلك أن من الضلال أن يوضع أي شيء آخر، من مثل إطراء الناس أو السلطة أو الثروة أو اللذة، في منافسة مع الخير العقلي والاجتماعي. قد تروقك كل هذه الأشياء لحظة صغيرة، ولكنها قد تأخذ بزمامك فجأة وتحملك بعيدا؛ فعليك، مرة أخرى، ببساطة وحرية، أن تختار الأفضل وتتشبث به. - «ولكن الأفضل هو ما ينفع.» - إذا كان نافعا لك ككائن عاقل فاتخذه، ولكن إذا كان نافعا لك كمجرد حيوان فانبذه وتمسك بحكم العقل دون مكابرة. كن فقط على بينة من أنك قد أعملت الرأي على نحو صحيح. (3-7) لا تعده نافعا لك أي شيء سوف يضطرك يوما إلى أن تخلف وعدك، أو تتخلى عن وقارك، أو تكره أحدا، أو تشك، أو تلعن، أو ترائي، أو تشتهي أي شيء يتطلب التستر بالحيطان والحجب؛ فالرجل الذي أسلم قياده لعقله وألوهته وقدس علوها وامتيازها، لا يجعل من حياته مأساة، ولا يئن، ولا يلجأ إلى الوحدة ولا إلى الصحبة الزائدة. والأهم أنه سوف يعيش دون سعي إلى الموت ولا فرار منه، ولن يبالي على الإطلاق بما إذا كانت مدة إقامة روحه في جسده ستطول أو تقصر. وحتى إذا تعين عليه أن يرحل هنا والآن فسوف يرحل بسهولة كما لو كان يؤدي أي عمل آخر تقتضيه الأمانة واللياقة. إن شغله الوحيد طول حياته هو ألا يحيد بفكره عن أي شيء ينتمي إلى الكائن العاقل والاجتماعي. (3-8) في عقل من هذب وطهر لن تجد أثرا لصديد أو لقروح متهيجة أو لتهيج مؤلم تحت الجلد. إن أجله لا يوافيه قبل أن تكتمل حياته كشأن ممثل يغادر المسرح قبل أن ينتهي دوره وتتم المسرحية. وفضلا عن ذلك، فلن تجد فيه أي تذلل عبودي أو تصنع أو اعتماد على الآخرين أو انفصال عنهم، أو أي شيء يستجوب عليه أو أي شيء يتستر له. (3-9) احترم ملكة الرأي؛ فإليها يرجع كل شيء وعليها يتوقف ما إذا كان عقلك الموجه ما زال يضمر أي حكم غير متفق مع الطبيعة أو مع جبلة الكائن العاقل. وهذه الملكة هي التي تكفل لك التفكير المتأني، والألفة بالآخرين والطاعة للآلهة. (3-10) تمسك بهذه الأشياء المعدودة وأعرض عما سواها؛ اذكر أن كلا منا لا يعيش إلا اللحظة الحاضرة، وما أضألها في الزمن، وأن كل ما سواها من العمر هو إما ماض غير عائد وإما مستقبل غير معلوم؛ فما أقصر مدة المرء إذن في هذه الحياة، وما أصغر البقعة التي يقطنها على الأرض! وقصير أيضا مجده بعد وفاته مهما امتد،
14
فهو قائم على تعاقب قليل من البشر سرعان ما يموتون ولا يعودون يعرفون أنفسهم ناهيك بمن مات منذ زمن بعيد! (3-11) أضف هذا إلى القواعد المذكورة للتو؛ ضع لنفسك دائما تعريفا أو وصفا للشيء الذي يعرض لعقلك؛ بحيث يمكنك أن تتبين بوضوح أي صنف من الأشياء هو في جوهره وتجرده، وفي كليته وفي أجزائه، وبحيث يمكنك أن تفضي إلى نفسك باسمه الصحيح وأسماء تلك العناصر التي يتركب منها والتي سوف ينحل إليها.
15
لا شيء يؤدي بك إلى سمو العقل مثل قدرتك على أن تعرض كل عنصر من عناصر خبرتك في الحياة على الفحص المنهجي والصادق، وقدرتك على أن تنظر إلى الأشياء دائما بحيث يمكنك في الوقت نفسه أن تتأمل أي صنف من العوالم هذا وأي دور يسهم به هذا الشيء أو ذاك في هذا العالم، وأي قيمة يتحلى بها كل شيء بالنسبة إلى «الكل» وبالنسبة إلى الإنسان الذي هو مواطن هذه المدينة العليا التي تعد سائر المدن مجرد عائلات فيها.
سل نفسك إذن ماذا يكون هذا الشيء الذي يعرض لي الآن؟ وأي نوع من الفضائل يلزمني لمواجهته؛ اللطف مثلا أم الشجاعة أم الصدق أم الولاء أم البساطة أم الاكتفاء الذاتي ... إلخ. إذن علينا في كل حالة أن نقول: هذا جاء من الله، هذا من تصريف القدر وغزله، أو شيء أشبه بالمصادفة والاتفاق، وهذا من أحد إخوتي من بني الإنسان، قريبي وزميلي، وإن كان لا يعرف ما يليق بطبيعته ذاتها. غير أني أعرف؛ ومن ثم أعامله برفق وعدل، متبعا في ذلك القانون الطبيعي للأخوة، على أن أحاول برغم ذلك أن أعطيه ما يستحقه بالضبط في الأمور المحايدة أخلاقيا. (3-12) إذا ما انصرفت إلى المهمة التي بين يديك ، متبعا العقل الصحيح بكل العزم والجد وخلوص النية، دون أن تسمح لأي شيء أن يشتتك، بل حافظت على الجانب الإلهي فيك نقيا ثابتا كما لو كان مقدرا عليك أن تقبض حالا، إذا تمسكت بذلك غير طامع في شيء ولا متوجس من شيء، بل راضيا بما تفعله الآن وفقا للطبيعة وبصدق بطولي في كل ما تقول وتقصد، فلسوف تعيش سعيدا، ولم يملك أي إنسان أن يصدك عن ذلك. (3-13) تماما مثلما أن الأطباء دائما جاهزون بأدواتهم ومباضعهم لعلاج أي حالة طوارئ، ينبغي أن تكون لديك مبادؤك العقلية جاهزة لفهم الأمور الإلهية والإنسانية،
16
وأداء كل فعل، مهما كان ضئيلا، بوعي بالرابطة التي تربط الإلهي بالإنساني؛ فلن يتسنى لك أن تجيد أي عمل يتعلق بالإنسان دون أن يكون لديك أيضا مرجعية إلى الأمور الإلهية، والعكس بالعكس. (3-14) لا تتخبط ولا تخدع نفسك أكثر من ذلك؛ فما أحسبك سوف تقرأ مدوناتك، ولا تواريخك عن قدماء الإغريق والرومان، ولا مختاراتك من الأدب التي أعددتها لزمن شيخوختك. أسرع إذن إلى النهاية، وأقلع عن الآمال الزائفة. أنقذ نفسك إن كان لنفسك عندك أدنى اعتبار، قبل أن يفوت الأوان. (3-15) إنهم
17
لا يعرفون كل ما تعنيه هذه الكلمات؛ السرقة، والبذر، والشراء، والاستجمام، والواجب؛ فذاك شيء يحتاج إلى رؤية أخرى غير رؤية العين. (3-16) الجسد، النفس، العقل. إلى الجسد تنتمي إدراكات الحس، وإلى النفس تنتمي النوازع، وإلى العقل تنتمي الأحكام. أما استقبال انطباعات الحس فتشارك فيه الأنعام. وأما الاستجابة لخيوط دمى الرغبة فتشارك فيه الوحوش والمأبونون ومن على شاكلة فالاريس
18
أو نيرون. وأما امتلاك العقل كمرشد إلى ما يبدو فعلا مناسبا فيشارك فيه أولئك الذين لا يؤمنون بالآلهة، والذين يخونون أوطانهم، والذين يقترفون الإثم من وراء الأبواب المغلقة.
فإذا كان كل شيء آخر مشتركا مع كل ما ذكرت، يبقى هناك ذلك الذي يميز الإنسان الصالح؛ أن يرضى ويقنع بما يجري عليه به القضاء وتنسجه خيوط قدره، وألا يدنس ألوهته التي تقبع داخل صدره أو يعكر صفوها بخليط من الانطباعات المشوشة، بل يحفظها في سكينة واتصال وثيق بالله، لا يقول غير الحق ولا يفعل غير العدل.
وإذا أنكر كل الناس أنه يعيش حياة بسيطة ومتواضعة وراضية فإنه لا يغضب على أي منهم، ولا يتنكب الطريق التي تؤدي إلى الغاية النهائية للحياة؛ إلى هذه الغاية ينبغي أن يأتي نقيا، مطمئنا، متأهبا للرحيل، مصطلحا تماما مع قدره دون أي إكراه.
الكتاب الرابع
(4-1) تلك القوة الحاكمة بداخلنا، حيثما كانت في توافق مع الطبيعة، تتخذ موقفا مرنا مع الظروف وتكيف نفسها دائما بسهولة ويسر مع ما يعرض لها من أحداث،
1
فهي لا تتطلب مادة معينة لعملها، بل تتجه إلى غرضها بأسلوب تكيفي فتحول أي عقبة في طريقها إلى مادة لاستعمالها. إنها أشبه بنار تسيطر على أي شيء يسقط في جوفها. قد تنطفئ الجذوة النحيلة إثر ذلك، أما النار المضطرمة فتتملك المادة التي تركم عليها، وتلتهمها وتنزو فوقها بفضل هذه المادة نفسها. (4-2) لا تفعل شيئا من غير هدف، أو من غير وفاق مع مبادئ الفن؛ فن الحياة. (4-3) إنهم يبحثون عن منتجعات لهم؛ في الريف، على البحر، على التلال، وأنت بصفة خاصة عرضة لهذه الرغبة المشبوبة، ولكن هذا من شيم الطغام؛ فما زال بإمكانك كلما شئت ملاذا أن تطلبه في نفسك التي بين جنبيك؛ فليس في العالم موضع أكثر هدوءا ولا أبعد عن الاضطراب مما يجد المرء حين يخلو إلى نفسه، وبخاصة إذا كانت نفسه ثرية بالخواطر التي إذا أظلته غمرته بالسكينة التامة والفورية،
2
ولست أعني بالسكينة إلا الحياة التي يحكمها العقل ويحسن قيادها.
فلتمنح نفسك دائما هذا الاستجمام، ولتجدد نفسك. ولتكن المبادئ العقلية التي سوف تعود إليها هناك وجيزة وأساسية وكافية لأن تذهب بكل ألمك في الحال وتعيدك إلى أمورك المستأنفة خاليا من السخط عليها أو التبرم بها.
فعلام أنت ساخط؟ على اللؤم البشري؟ تذكر أن الكائنات العاقلة قد خلقت من أجل بعضها البعض، وأن الصفح جزء من العدل، وأن الناس تفعل الشر عن غير عمد، واذكر كم من الناس قد قضوا حياتهم في عداوة وشك وبغضاء وحرب معلنة ، ثم لفتهم الأكفان وصاروا رمادا، وكف عن لجاجتك.
أم تراك ساخطا على ما قسم لك من نصيب في «الكل»؟ إذن فاذكر أنك مضطر إلى أن تختار؛ فإما عناية مدبرة وإما ذرات عمياء تلتقي كيفما اتفق وتفترق. واذكر البينات الكثيرة على أن العالم نوع من المجتمع السياسي وكف عن لجاجتك، أم لعلك ما تزال واقعا في قبضة الحاجات الجسدية؟ إذن فاذكر أن العقل ما إن يسل نفسه ويكتشف قواه الخاصة حتى ينفصل بذاته عن حركة النفس الجسدية سواء أكانت هذه الحركة هادئة أم عنيفة. واذكر أيضا كل ما سمعته وتبينته عن الألم واللذة، وكف عن لجاجتك.
أم لعلك إذن تتحرق إلى شيء من المجد، فاذكر كم هو سريع النسيان هذا العالم، واذكر الفجوة الزمنية السابقة للحاضر واللاحقة عليه، وكم هو فارغ ذلك الإطراء الذي تجده من الآخرين وكم هم متقلبون وعديمو الرأي أولئك الذين يتظاهرون بتأييدك، وكم هي ضيقة تلك المساحة التي يجول فيها مجدك. الأرض برمتها مجرد نقطة في الفضاء؛ فما أهون ذلك الركن الذي تقطنه وما أقلهم وأهونهم أولئك الذي ترتقب منهم ها هنا التمجيد والمدح.
لن يبقى سوى هذا؛ حصنك الصغير الذي بين جنبيك، فأو إليه ... حيث لا كرب، على الأقل، ولا وصب. كن سيد نفسك، وانظر إلى الأشياء كرجل، كإنسان، كمواطن، ككائن فان. وبين أسرع الأفكار تلبية وإسعافا لك اتجه إلى هاتين؛ الأولى: أن الأشياء لا يمكنها أن تمس العقل؛ إنها خارجية وخاملة، والاضطرابات لا تأتي إلا من رأيك الداخلي. والثانية: أن جميع تلك الأشياء التي تراها حولك ما تكاد تنظر إليها حتى تتغير ثم تزول. واعتبر دائما بكل ما شهدته بنفسك وقد تغير وزال، العالم هو التغير ... والحياة هي الرأي. (4-4) ما دام الجزء المفكر مشتركا بيننا، فالعقل مشترك أيضا، وهو ما يجعلنا كائنات عاقلة. ومشترك بيننا أيضا الآمر الذي يملي علينا ما نفعل وما لا نفعل. وإذا صح ذلك فبيننا أيضا قانون مشترك؛ ومن ثم فنحن مواطنون، نستظل معا بدستور واحد. إذا صح ذلك فالعالم كله كأنه دولة واحدة وإلا فكيف يمكن للمرء أن يقول إن الجنس البشري كله يشارك في دستور عام؟ من هناك إذن، من هذه المدينة؛ الدولة المشتركة، نستمد عقلنا نفسه، قانوننا، وإلا فمن أين نستمد؟ فكما أن الشطر الترابي مني مستمد من تراب ما، والمائي من عنصره، والنفس الهوائي من مصدر ما، والحار الناري من مصدره الخاص (فلا شيء يأتي من لا شيء، ولا يعود إلى لا شيء) كذلك العقل لديه أيضا مصدره. (4-5) الموت، شأنه شأن الميلاد، سر من أسرار الطبيعة؛ تضام، ثم انحلال، للعناصر نفسها. لا عار في الأمر بكل تأكيد؛ فلا شيء فيه مناقض لطبيعة الكائن العاقل، أو مناقض لمبدأ تكوينه.
3 (4-6) من الطبيعي، والضروري، أن تأتي مثل هذه الأفعال من مثل هؤلاء الناس، وإلا فهل تؤمل في التين ألا يعود ينتج أنفحته؟ تذكر على كل حال أن كليكما سوف يموت وشيكا جدا، ولن يعود يذكر بعد ذلك حتى اسماكما. (4-7) أزل الحكم، تكن قد أزلت فكرة «لقد تضررت». أزل فكرة «لقد تضررت» بنا يكون الضرر نفسه قد أزيل.
4 (4-8) ما لا يجعل المرء أسوأ لا يمكن أن يجعل حياته أسوأ؛ فليس بوسعه أن يضيره لا من داخل ولا من خارج. (4-9) كان من المفيد للطبيعة أن يكون (الشيء) هكذا؛ ومن ثم كان من الضروري. (4-10) «كل ما يحدث في العالم فهو حق.» تأمل هذا القول بعناية ولسوف تجد أنه حق. لست أعني بالحق هنا مسار الأسباب، بل أعني به «العدل» - وكأن قاضيا ما يحصص لكل شيء استحقاقه.
5
ضع هذا إذن نصب عينيك كلما شرعت في عمل، أيا كان، وأيما شيء تؤديه فأده أداء رجل صالح بالمعنى الدقيق للرجل الصالح، والزم ذلك في كل فعل. (4-11) لا تحكم على الأمور كما يحكم عليها من آذاك، أو كما يريدك أن تحكم، بل انظر إلى الأشياء كما هي عليه في الحقيقة. (4-12) كن دائما على استعداد للعمل بهذين المبدأين؛ أولا: ألا تفعل إلا ما يملي عليك العقل الحاكم والمشرع أن تفعله لخير الإنسانية. ثانيا: أن تغير موقفك إذا كان هناك في الحقيقة من يصحح لك رأيا ما ويرشدك إلى ما هو أقوم. على أن ينبع هذا التحول عن اقتناع بالعدل أو بالخير العام، وأن تعدل مسارك وفقا لذلك وليس لمجرد اللذة أو الشعبية. (4-13) هل تملك عقلا؟ - «نعم.» - ولماذا لا تستعمله إذن؟ فإذا كان هذا يؤدي وظيفته فماذا عساك تطلب أكثر من ذلك؟ (4-14) لقد وجدت كجزء من الكل. ولسوف تتلاشى في ذلك الذي أتى بك، أو بالأحرى سوف تسترد مرة ثانية، بالتحول العنصري، إلى المبدأ المولد (للعالم). (4-15) حبات بخور كثيرة على نفس المذبح. إحداها تسقط أولا، الأخرى لاحقا ... لا فرق.
6 (4-16) خلال عشرة أيام سوف تبدو إلها لأولئك الذين تبدو لهم الآن بهيمة أو قردا، إذا ما عدت إلى مبادئك وإلى عبادة العقل. (4-17) لا تتصرف كما لو كنت سوف تعمر آلاف السنين. الموت يترصدك؛ فما دمت تعيش، وما دام بإمكانك ... كن خيرا. (4-18) ما أهنأ باله ذلك الذي لا يتطلع إلى ما يقوله جيرانه وما يفعلون وما يفكرون، بل ينصرف إلى أفعاله هو ليجعلها عادلة موقرة مشربة بالخير. لا تلتفت إذن إلى الشخصيات السوداء عن يمينك وشمالك، بل امض أمامك سعيا في الطريق المستقيم لا تنحرف عنه. (4-19) لا يدرك المتلهف على المجد وبقاء الذكر أن كل واحد من مخلدي ذكره سوف يموت هو نفسه عاجلا جدا، وكذلك سيكون حال الأخلاف جميعا إلى أن تنطفئ ذكراه تماما في انتقالها عبر أناس يعجبون ببلاهة ويفنون. وحتى لو افترضنا خلود من يذكرونك وخلود ذكراك فماذا يجديك من ذلك؟ وليست أعني مجرد جدواه للموتى بل للأحياء أيضا؛ ما جدوى المديح (إلا أن يكون ذا نفع إجرائي معين)؟ لكأني بك ترفض هبة الطبيعة التي أودعتك إياها والتي لا تعتمد على أقوال الآخرين، وتتشبث بشيء آخر ...
7 (4-20) كل ما هو جميل على أي نحو من الأنحاء إنما هو جميل «في ذاته»، يذخر جماله في لبه وصميمه وليس المديح جزءا منه؛ فالمديح لا يجعل الشيء أفضل مما هو ولا أسوأ،
8
يسري ذلك على ما درج الناس على اعتباره جميلا؛ كالأشياء المادية والأعمال الفنية. الجميل حقا هو في غنى عما سواه ... شأنه في ذلك شأن القانون، وشأن الحقيقة، أو الإحسان أو التواضع. فهل مثل هذه الأشياء تجمل بالمدح أو تذوي بالدم؟ هل ينتقص من قيمة الزمردة ألا تزجي لها المديح؟ أو ينتقص من الذهب أو العاج أو الأرجوان أو القيثار أو الخنجر أو الزهرة أو الشجيرة؟ (4-21) لعلك تسأل: إذا كانت الأرواح خالدة فكيف يمكن للهواء أن يستوعبها جميعا منذ بداية الزمان؟ حسن ... فكيف تستوعب الأرض كل تلك الأجساد التي تدفن بها منذ تلك البداية السحيقة؟ فمثلما هو الحال هنا على الأرض؛ إذ تتحول الأجسام بعد مقامها على الأرض، طال أو قصر، وتتحلل فتترك مكانا لغيرها، كذلك الشأن بالنسبة للأرواح المرتحلة إلى الهواء؛ تبقى ردحا من الزمن ثم تتغير وتندثر وتتخذ طبيعة نارية إذ يتلقاها المبدأ المولد للعالم، بذلك تترك مكانا للمقيمين اللاحقين، هذا هو الجواب عن مسألة خلود الأرواح.
ينبغي ألا نقتصر على النظر إلى الأجساد التي تدفن هكذا بل نتأمل أيضا كم من الحيوانات تؤكل كل يوم، نأكلها نحن وتأكلها المخلوقات الأخرى؛ مقادير ضخمة تستهلك وتدفن، بمعنى ما، في أجساد آكليها. ومع ذلك فهناك مكان لها؛ لأنها تتحول إلى دم وإلى عنصري الهواء والنار.
كيف نتحقق من صدق هذه المسألة؟ بالتمييز بين ما هو مادي وما هو صوري سببي.
9 (4-22) لا تتخبط هنا وهناك، ولكن في كل حركة من حركاتك كن عادلا، وفي كل خطرة من خطراتك التزم ملكة الرأي والفهم. (4-23) أيها العالم، كل شيء يلائمني إذا لاءمك، وكل ما هو في أوانه بالنسبة إليك فهو كذلك عندي، لا متقدم لدي ولا متأخر. أيتها الطبيعة، كل ما تجلبه مواسمك فهو ثمرة لي: كل شيء منك يأتي وفيك يعيش وإليك يعود. يقول الشاعر:
10 «عزيزتي مدينة كيكروبس
Cecrops »،
11
ألا تقول أنت: «عزيزتي مدينة زيوس»؟
12 (4-24) يقول ديمقريطس «إذا شئت أن تعيش سعيدا فلا تعمل إلا أقل القليل .» ولكن أليس من الأفضل أن تقول «لا تعمل إلا ما هو ضروري» إلا ما يتطلبه عقل كائن اجتماعي بالطبيعة وكيفما يتطلبه؟ فمن شأن هذا أن يجلب السكينة الناجمة عن الفعل الصحيح وعن الفعل القليل أيضا. الحق أن أكثر ما نقول وما نفعل هو غير ضروري. فإذا اطرحت الزائد فسوف يكون لديك وقت أكثر وعسر أقل؛ لذا ففي كل حالة على المرء أن يسأل نفسه: «هل هذا شيء ضروري؟» وعليه ألا يطرح غير الضروري من الأفعال فحسب بل من الأفكار أيضا؛ حتى لا تحمله الأفكار الزائدة على أعمال لا لزوم لها.
13 (4-25) جرب أيضا كيف توافقك حياة الإنسان الصالح، حياة ذلك القانع بنصيبه المقسوم من «الكل»، وبأفعاله العادلة وميوله الخيرة. (4-26) أرأيت إلى ذلك؟ فانظر إلى هذا أيضا: لا ترهق نفسك، كن بسيطا دائما. هل أساء إليك أحد؟ إنما إلى نفسه أساء، هل ألم بك شيء؟ حسن، كل ما ألم بك كان مقدرا لك من «الكل» منذ البداية ومنسوجا لك. وباختصار، الحياة قصيرة؛ اغتنم اللحظة الحاضرة بالعقل والعدل. كن صاحيا في استرخائك. (4-27) إما عالم منظم وإما خليط من العناصر المضطربة. غير أنه عالم. وإلا فكيف يمكن أن يبقى داخلك نظام معين بينما الاضطراب يعم «الكل». وهذه أيضا: أن جميع الأشياء، رغم انفصالها وتمايزها، يتخلل بعضها بعضا ويستجيب بعضها لبعض.
14 (4-28) شخصية سوداء، مخنث، عنيد، وحشي، صبياني، غبي، محتال، فظ، مرتزق، مستبد.
15 (4-29) إذا كان غريبا في العالم من لا يعرف مكوناته، فليس أقل غربة من لا يعرف ماجرياته. إنه هارب إذا تملص من المبدأ الاجتماعي، أعمى إذا غض عين العقل، شحاذ إذا اعتمد على الآخرين ولم يذخر في نفسه كل ما يحتاج في الحياة، ورم في الكون إذا انسحب وفصل نفسه عن مبدأ طبيعتنا المشتركة بتبرمه بنصيبه (إذ إن الطبيعة هي التي تجيء بنصيبك مثلما تجيء بك)، إنه منشق خارج على المجتمع إذا سل روحه من روح الكائنات العاقلة جميعا، والتي هي وحدة. (4-30) هذا فيلسوف لا يملك لباسا،
16
وآخر لا يملك كتابا، وهذا نصف عريان يقول «ولكني ملتزم بالعقل.» أما أنا فأقول: إنني أفتقر إلى الغذاء التربوي والتعليمي، ولكني لا أحيد عن العقل . (4-31) أحب الفن الذي تعلمته، أيا كان، وارض به، واقض ما تبقى من حياتك كإنسان نذر نفسه للآلهة بكل قلبه واحتسب عندها كل ما لديه، ولا تجعل من نفسك طاغية على أي إنسان ولا عبدا له. (4-32) تأمل مثلا عصر فيسباسيانوس،
17
فسوف ترى الأشياء نفسها؛ ناس تتزوج، وتنجب أطفالا، ويدركها المرض، وتموت، وتقاتل، وتعيد، وتتاجر، وتفلح الأرض، وتجامل، وتتدافع، وتشك وتتآمر، وتتمنى موت الآخرين، وتتذمر على نصيبها المقسوم، وتقع في الحب، وتكنز المال، وتتوق إلى منصب القنصل والملك، والآن انقضت حياتهم وزالت.
ثم عرج على زمن ترايانوس،
18
سترى أيضا الأشياء نفسها، والحياة انقضت أيضا.
وانظر كذلك في الأزمنة الأخرى، والأمم كلها في الحقيقة، وسترى حيوات كثيرة من الكدح تنتهي بسقوط سريع وتحلل إلى العناصر،
19
وأهم من كل شيء أن تستعرض في ذهنك أولئك الذين رأيتهم بنفسك في صراعات فارغة، لا يسلكون وفقا لفطرتهم الطبيعية ولا يتمسكون بها ولا يرضون عنها. وعليك في هذا المقام أن تأخذ كل شيء بقيمته وحجمه، فبذلك لن تبتئس إذا عبرت على التوافه ولم تعرها وقتا أطول مما تستحق. (4-33) الألفاظ التي كانت شائعة قديما هي الآن مهجورة، كذلك أيضا أسماء الذين كانوا مشاهير ذات يوم هي بمعنى ما مهجورة؛ كاميللوس، كايسو، فوليسوس، دينتاتوس، وبعدها بقليل سكيبيو وكاتو، ثم أوغسطس أيضا، ثم هادريان وأنطونينوس. كل الأشياء تتلاشى وسرعان ما تتحول إلى أسطورة سرعان أيضا ما يلفها النسيان. هذا بالنسبة للذين تألقوا على نحو مدهش. أما البقية فما يكادون يلفظون أنفاسهم الأخيرة حتى يختفون عن العين والفكر؛ فماذا تكون الذكرى الخالدة إذن؟ لا شيء؟
وإلى أين إذن ينبغي على المرء أن يسعى؟ إلى هنا فقط؛ فكر صائب وفعل للخير العام، وقول لا يعرف الكذب، وتقبل لكل ما يجري كشيء ضروري وعادي ونابع من مبدأ ومصدر من الصنف نفسه. (4-34) أسلم نفسك طواعية إلى كلوثو
Clotho ،
20
إحدى إلهات القدر، ودعها تغزل خيط عمرك على أي شكل شاءت. (4-35) الكل زائل، الذاكر والمذكور معا. (4-36) تأمل دائما كل ما يأتي به التغير، ورض نفسك على فكرة أن طبيعة «الكل» لا تولع بشيء قدر ولعها بتغيير كل شكل من الوجود إلى شكل آخر، شبيه ولكن جديد. كل ما يوجد هو بمعنى ما بذرة لما يأتي بعده؛ فإذا كان مفهوم «البذرة» عندك محصورا فيما يوضع في الأرض، أو في الرحم، فذاك لعمري تفكير مغرق في السوقية. (4-37) ستموت وشيكا وما زلت لا تتمتع بوضوح الفكر وصفاء النفس، ولم تتحرر بعد من الخوف من الأذى الخارجي، وما زلت غير ودود تجاه الجميع، وغير موقن بأن العدل هو ملاك الحكمة. (4-38) انظر إلى عقولهم الموجهة، حتى أولئك الذين يعدون حكماء، انظر أي الأشياء يجتنبونها ويفرقون منها، وأي الأشياء يلتمسونها ويسعون إليها. (4-39) لا أذى لك يقبع في عقل غيرك، ولا حتى في أي تبدل أو تغير لغطائك الجسدي، أين إذن يقبع الأذى؟ في ذلك الجزء منك الذي يضطلع بتكوين الأحكام عن الأذى. كف عن الحكم بأن بك إذن تكون قد سلمت منه.
21
ولو أن أقرب شيء منه، وهو جسدك، تعرض لسكين أو كي، أو ترك ليتقيح أو يموت؛ فإن الملكة التي تحكم هذه الأحكام ينبغي أن تظل هادئة؛ أي ينبغي ألا تعتبره خيرا ولا شرا ذلك الذي يمكن أن يصيب الأشرار والأخيار على حد سواء؛ ذلك لأن ما يمكن أن يصيب الإنسان بغض النظر عن مدى إذعانه للطبيعة ليس بحد ذاته متفقا مع الطبيعة أو مضادا لها.
22 (4-40) انظر دائما إلى العالم على أنه كائن حي واحد، يتكون من مادة واحدة وروح واحدة. انظر كيف يذوب الكل في هذا الوعي الواحد، كيف تخضع كل أفعاله لنزوع واحد، كيف تتعاون الأشياء جميعا في كل ما يحدث، انظر أيضا الغزل الدائم لخيط الشبكة ونسيجها. (4-41) أنت روح ضئيلة هنا وهناك ... حاملة جثة. (كما اعتاد إبكتيتوس أن يقول). (4-42) التغير: لا شيء في العملية شيء في ذاته، ولا شيء في النتيجة خير في ذاته. (4-43) الزمن أشبه بنهر من الأحداث الجارية وتيار عنيف،
23
فما يكاد شيء يعن حتى ينجرف بعيدا (إلى الماضي) ويحل غيره محله، فما يلبث أن ينجرف بدوره . (4-44) كل ما يحدث فهو معتاد ومألوف كالزهر في الربيع والفاكهة في الصيف، كذلك أيضا المرض والموت، الافتراء والتآمر؛ وكل ما يسر الحمقى أو يؤلمهم. (4-45) في سلاسل الأشياء فإن اللاحق يكون دائما مرتبطا بما سبقه، لا مجرد إحصاء بسيط لأشياء منفصلة ومجرد تعاقب ضروري، بل ارتباط عقلي، ومثلما أن الأشياء الموجودة مترابطة بينها بانسجام، كذلك عمليات الصيرورة لا تعرض مجرد تتابع، بل انسجاما صميما مدهشا. (4-46) تذكر دائما قول هيراقليطس: «موت التراب هو أن يصبح ماء، وموت الماء ميلاد الهواء، وموت الهواء هو النار، وعود على بدء.» تذكر أيضا تصوره عن الإنسان الذي نسي طريقه إلى داره، وقوله إن الناس في خصام مع ألصق رفيق؛ «العقل» الذي يحكم العالم، وأن الأشياء التي يصادفونها كل يوم تبدو لهم غريبة. وتذكر أننا ينبغي ألا نعمل أو نتحدث كما لو كنا نياما، وأن النوم يجلب الوهم القولي والفعلي، وأننا ينبغي ألا نحذو حذو الأطفال مع آبائهم؛ فنقبل ببساطة كل ما يقال لنا. (4-47) كما لو أن إلها أخبرك أنك ستموت غدا أو بعد غد على الأكثر فلم تعلق أهمية على فرق يوم واحد (ما لم تكن مفرطا في الهلع، فما أضيق الفرق)؛ كذلك ينبغي عليك ألا تتصور فارقا يذكر بين أن تموت بعد سنين طويلة وأن تموت غدا. (4-48) اذكر دائما كم من الأطباء ماتوا بعد أن عقدوا الحاجبين فوق مرضاهم، كم من المنجمين ماتوا بعد أن تنبئوا بموت غيرهم بخيلاء عظيمة، وكم من الفلاسفة بعد مداولات لا نهاية لها عن الموت أو الخلود، وكم من الطغاة بعد أن تسلطوا على حياة الناس بغطرسة وحشية كما لو كانوا هم أنفسهم مخلدين في الأرض، واذكر أيضا كم مدن بأسرها قد زالت؛ هيليكي،
24
بومبي، هيركيولانيوم،
25
وغيرها مما لا يحصى. وأضف إلى الإحصاء كل أولئك الذين عرفتهم، واحدا تلو الآخر، يمشي أحدهم في جنازة الآخر، ثم ما يلبث أن تلفه الأكفان بدوره ويشيعه آخر،
26
وكل ذلك في زمن وجيز. وصفوة القول أن انظر دائما كم هي قصيرة رخيصة حياة الإنسان ، بالأمس كان بذرة وغدا مومياء أو رمادا.
عليك إذن أن تقضي هذه الكسرة الضئيلة من الزمان في انسجام مع الطبيعة، وغادرها راضيا، مثلما تسقط زيتونة حين تبلغ النضج، مباركة الأرض التي حملتها، وشاكرة للشجرة التي منحتها النماء. (4-49) كن مثل رأس الأرض في البحر تتكسر عليه الأمواج بلا انقطاع وهو ثابت وطيد يخمد من حوله جيشان الماء،
27
أفتقول «ما أتعس حالي إذا أصابني هذا»؟ لا بل قل: «ما أسعدني إذ أصابني هذا الأمر وما زلت خاليا من الحزن والأسى، لم يحطمني الحاضر ولم يخفني المستقبل.» فقد ينزل مثل هذا المصاب بأي إنسان ولكن ليس كل إنسان بقادر على أن يحتمله من غير ألم. لماذا إذن تبتئس بالمصاب أكثر مما تستبشر بقدرتك على احتماله؟!
28
وهل تسميه مصابا للإنسان، على كل حال، ذلك الذي لا يشذ عن طبيعة الإنسان؟ أو تسميه شذوذا عن طبيعة الإنسان ذلك الذي لا يتعارض مع أهداف طبيعته؟ حسن إذن. لقد تعلمت ما هي هذه الأهداف، هل ثمة من شيء في هذا المصاب يمنعك من أن تكون عادلا وشهما ومعتدلا وحصيفا وصادقا وشريفا وحرا، أو غير ذلك من الصفات التي تحقق في اجتماعها طبيعة الإنسان الحقة؟ تذكر إذن في كل حدث منغص هذا المبدأ: «ليس هذا بالحظ السيء، بل احتمال هذا بنبالة وكرم هو حظ سعيد.» (4-50) ثمة طريقة سوقية على أنها مسعفة لك في أن تضع الموت في حجمه الصحيح؛ وهي أن تستعرض في ذهنك قائمة بأولئك الذين تشبثوا بالحياة فترة طويلة. ماذا ربحوا من ذلك أكثر مما ربح من مات مبكرا؟ من المؤكد أنهم يرقدون الآن جميعا في قبورهم؛ كايديكيانوس، فابيوس، يوليانوس، ليبيدوس،
29
وأمثالهم جميعا من الذين ساروا في جنازات كثيرة ثم جاءت جنازة كل منهم، ما أقصر المسافة بين الميلاد والموت، انظر أي عناء نحتمله في هذه المسافة، وأي صحبة تكتنفنا فيها ومع أي صنف من الناس، وفي أي جسد واهن نقطعها بجهد جهيد، ليست الحياة إذن بالشيء الثمين، انظر إلى هول فجوة الماضي من ورائك وإلى اللانهاية الأخرى من أمامك. ما الفرق من هذا المنظور بين رضيع عاش ثلاثة أيام ونستور
30
عاش ثلاثة أجيال؟ (4-51) اسلك دائما الطريق القصير، وطريق الطبيعة قصير،
31
وابتغ ما هو أقوم وأسلم في كل قولك وعملك؛ فمثل هذا العزم كفيل بأن يحرر المرء من العناء والجهد والاضطرار إلى التحايل والرياء.
32
الكتاب الخامس
(5-1) في الصباح، عندما تجد نفسك غير راغب في القيام، قل لنفسك: «إنني أصحو من نومي لكي أؤدي عملي كإنسان، أما زلت كارها أن أذهب لكي أؤدي ما خلقت من أجله وما وجدت في العالم لكي أؤديه؟ أم تراني خلقت لكي ألف نفسي بالأغطية وأبقى دافئا؟ - «ولكن هذا أهنأ وألذ.» - أتراك إذن خلقت لكي تنعم باللذة من دون أي شيء من العمل والكد؟ ألا تنظر إلى الأشياء من حولك؛ النبت، والطير، والنمل، والعناكب، والنحل؛
1
كيف تسعى سويا، كل في عمله الخاص؛ لكي تحفظ نظام العالم، بينما تعرض أنت عن عملك ككائن إنساني، ولا تخف إلى أداء ما تقتضيه طبيعتك ذاتها؟ - «ولكن المرء بحاجة إلى الراحة أيضا.» - حقا إنه لبحاجة إلى الراحة، غير أن الطبيعة وضعت حدودا للراحة، مثلما وضعت حدودا للطعام والشراب، بينما أنت تتجاوز هذه الحدود، تتجاوز حاجتك. أما في الأعمال المنوطة بك فأنت تقصر عن الحد وتقف دون الحد الأدنى من قدراتك. إنك إذن كاره لنفسك؛ فلو كنت تحبها لأحببت طبيعتك وإملاءاتها. - «ولكن أولئك المحبين لصنائعهم يرهقون أنفسهم في أدائها فلا يغتسلون ولا يطعمون.» - ولكن اعتبارك لطبيعتك أدنى من اعتبار الحداد لحرفة الحدادة، والراقص لحرفة الرقص، ومحب المال لماله، ومحب الظهور لمجده الضئيل. على أن هؤلاء حين يأخذهم الحماس يتجافون عن الطعام والنوم حتى يتقنوا الأشياء التي يصبون إليها. أترى أنت أن العمل لصالح الجماعة هو أقل أهمية من هذا وأقل استحقاقا للجهد؟! (5-2) ما أيسر أن تطرد من عقلك كل انطباع منغص أو عارض وتمحوه محوا، وتنعم للتو بلحظة حاضرة مفعمة بالراحة والسكينة.
2 (5-3) قل وافعل كل ما تقتضيه الطبيعة واعلم أنه ملائم لك أيضا، ولا يصرفك عنه ملام تتوقعه من الناس أو من كلامهم؛
3
فما دام الشيء خيرا فافعله أو قله ولا تستنكف من ذلك؛ فأولئك الناس إنما تحدوهم عقولهم وتسوقهم أهواؤهم. فلا تأبه لها وامض قدما في طريقك، متبعا طبيعتك الخاصة والطبيعة العامة؛ فطريق هاتين الطبيعتين واحد. (5-4) سأبقى سائرا في طريق الطبيعة حتى أسقط وأخلد إلى الراحة، فألفظ أنفاسي الأخيرة في هذا الهواء ذاته الذي تنفسته عبر أيام عمري، وأسقط على ذات الأرض التي منحت أبي بذرته ومنحت أمي دمها ومنحت مرضعتي لبنها، الأرض التي أطعمتني يوما بعد يوم وسقتني سنوات طوالا، الأرض التي احتملت وطأتي عليها واحتملت مني كل ضروب الإساءة. (5-5) تقول إنك تفتقر إلى حضور البديهة التي تنتزع به إعجاب الناس. حسن، ولكن هناك خصالا كثيرة لا يمكن أن تتذرع بأنها لا تدخل ضمن قدراتك الطبيعية، فلتطهر إذن تلك الفضائل التي هي في حوزتك بالكامل؛ الإخلاص، الوقار، الكد، إنكار الذات، الرضا، الإحسان، الصراحة، القناعة، الطيبة، الاستقلال، البساطة، التعقل، الشهامة. أرأيت كم من الفضائل بوسعك أن تأتيها ولا تتملص منها بحجة افتقاد الموهبة أو الملكة ثم ما تزال راضيا بأن تقصر فيها عن الحد؟ وهل حقيقة افتقادك الموهبة الفطرية تبيح لك أن تتذمر وتقتر وتتزلف وتنحي باللوم على جسدك وتتملق الناس وتتباهى وتوقع عقلك في هذا الاضطراب؟ كلا، بحق السماء، لعله كان بوسعك أن تتخلص من كل هذا منذ زمن طويل فلا تعاب، إن أعبت، إلا بالعي والفهاهة. وحتى هذان بمقدورك أن تعالجهما ما لم تستنم إلى العي وتستمرئ الفهاهة. (5-6) من الناس من إذا أسدى جميلا إلى شخص سارع بتسجيله في حسابه كدين مستحق. ومنهم من لا يسارع بذلك غير أنه يضمر في نفسه أن هذا الشخص مدين له ويعي جيدا بما فعله. وهناك صنف ثالث هو بمعنى ما لا يعي ما أتاه ولا يحشد له ذهنه، وإنما هو كالكرمة التي أهدت عناقيدها ولا ترتقب أي مقابل.
4
الفرس وقد أتم السباق، والكلب وقد طارد «اللصوص»، والنحلة وقد أفرغت عسلها، والإنسان الذي أسدى معروفا؛ لا يلحظ أي من هؤلاء ما صنع ولا يلتمس عليه شهودا، بل يمضي إلى فعل جديد كما تمضي الكرمة لتقدم عناقيد جديدة في الموسم الجديد. فلتكن واحدا من هؤلاء الذين يجترحون الخيرات دون أن يلاحظوها. - «نعم ولكن هذا بالضبط ما يجب أن يكون المرء واعيا به؛ لأن من شأن الإنسان؛ الحيوان الاجتماعي، أن يكون على دراية بفعله الاجتماعي، وأن يهيب برفاقه حقا أن يكونوا واعين به أيضا.» - حقا، غير أنك أسأت فهم ما أعنيه الآن؛ ولذا فسوف تقع ضمن إحدى الفئات الأولى التي ذكرتها؛ فهم أيضا قد أضلهم نوع ما من المنطق المعقول، ولكن إن شئت أن تتبع ما أعنيه فلا تخش من أن يفضي بك إلى أي تقصير في الفعل الاجتماعي. (5-7) يقول دعاء الأثينيين: «أمطر ... أمطر أيها العزيز زيوس،
أمطر على حقول القمح،
وعلى سهول أثينا.»
هكذا يجب أن يكون دعاؤنا، بسيطا وصريحا، وإلا فلا كان الدعاء.
5 (5-8) مثلما نقول جميعا إن الطبيب
6
قد «وصف» لهذا ركوب الخيل، ولهذا حمامات باردة، ولهذا المشي حافي القدمين؛ فإن لنا أن نقول بنفس المعنى إن طبيعة الكل قد «وصفت» لهذا المرء المرض أو العجز أو الفقدان أو أي شيء آخر من هذه البلايا. في الحالة الأولى تعني كلمة «وصف» شيئا من هذا القبيل؛ أن الطبيب قد أوصى بهذا الإجراء لهذا الشخص لكي يجلب له الصحة. وفي الحالة الثانية تعني أن ما يقع لكل شخص هو مدبر بطريقة ما لكي يفضي إلى مصيره. ونحن نتحدث عن ملاءمة هذه الأحداث مثلما يتحدث البناءون عن ملاءمة قوالب الحجر في الجدران أو الأهرامات عندما يتراص بعضها فوق بعض في وضع معين.
ذلك أنه في كلية الأشياء ثمة توافق واحد. ومثلما تتحد الأجسام المادية جميعا لتجعل العالم جسما واحدا، كلا منسجما، كذلك تتحد الأسباب جميعا لكي تجعل القدر سببا منسجما واحدا. ذلك شيء يفهمه حتى أقل الناس علما؛ فهم يقولون: «القدر أحدث له هذا .» فإن كان القدر «أحدث» فقد «وصف» أيضا. ولنقبل هذه الوصفات مثلما نقبل وصفات الطبيب؛ فكثيرا ما تكون قاسية ولكننا نقبلها التماسا للشفاء.
فلتأخذ تمام الأشياء وكمالها في تقدير الطبيعة مأخذك لصحتك: واقبل إذن كل ما يحدث لك حتى لو بدا قاسيا بعض الشيء، ما دامت غايته تؤدي إلى صحة العالم وازدهاره وهنائه،
7
فما كان لزيوس أن يحدث هذا لذاك لو لم يكن فيه صالح الكل. وما كان لأي مبدأ طبيعي أن يحدث شيئا غير ملائم لما يحكمه.
ثمة إذن سببان يحملانك على الرضا بما يجري لك؛ الأول أن ما حدث لك كان موصوفا لك، وهو متعلق بك، خيط من القدر مغزول لك منذ الأزل بأقدم الأسباب. والثاني أن ما يصيب كل شخص هو جزء ضالع في صلاح الكل واكتماله بل اتساقه مع نفسه؛ ذلك أن «الكل» يتشوه إذا أنت قطعت أدنى كسرة من سياقه واتصاله؛ يصدق هذا على أجزائه المكونة كما يصدق على أسبابه. وإنك لتقطع شيئا - بقدر ما يمكنك ذلك - كلما تبرمت بنصيبك. إنك تدمر، بمعنى ما، وتخرب! (5-9) لا تنفر وتقنط وتسخط إذا لم تنجح في عمل كل شيء كما تقتضي المبادئ الصحيحة، ولكن كلما فشلت فعد مرة ثانية، واقنع إذا كان الشطر الأكبر من عملك متسقا مع طبيعة الإنسان، وأحب هذا الذي تعود إليه. لا تعد إلى الفلسفة كما يعود الطفل إلى المعلم، بل كما يعود الأرمد إلى إسفنجته ومرهمه، أو يعود آخر إلى كمادته وغسوله، بذلك سوف تبرهن على أن إطاعة العقل ليست عبئا كبيرا، وإنما هي مصدر راحة.
8
تذكر أيضا أن الفلسفة لا تريد إلا ما تريده طبيعتك، في حين تطلب أنت شيئا يجافي هذه الطبيعة؛ فأي شيء أدعى إلى القبول من حاجات طبيعتك نفسها؟ هذه هي ذات الطريقة التي تخدعنا بها اللذة، ولكن انظر ألست ترى شيئا أكثر قبولا في الشهامة والكرم والبساطة والاتزان والتقوى؟ وأي شيء أكثر قبولا من الحكمة ذاتها إذا كان ما يهمك هو التدفق المطمئن والدائم لملكتنا الخاصة بالفهم والمعرفة؟ (5-10) لكأنما ألقي على الأشياء حجاب كثيف حتى لقد بدت لعدد غير قليل من كبار الفلاسفة غير قابلة للفهم على الإطلاق. وحتى الرواقيون أنفسهم بدت لهم الحقائق عصية على الفهم، وبدا لهم كل تصديق عقلي لإدراكاتنا شيئا عرضة للخطأ.
9
فليس هناك من هو معصوم. التفت إذن إلى الأشياء ذاتها؛ كم هي زائلة وتافهة، حتى ليملكها المأبون والبغي واللص، ثم التفت إلى أخلاق من يعيشون معك. إنه لمن الصعب احتمال حتى أفضلهم،
10
دعك من أن المرء ليشق عليه حتى احتمال نفسه.
في كل هذا الضلال والتخبط، في كل هذا التدفق للوجود، الزمن، الحركة، الأشياء المتحركة، يعجزني أن أجد أي شيء جدير بالثمين أو جدير حتى بالسعي الجاد، بل، على العكس، ينبغي على المرء أن يعلل نفسه بارتقاب الخلاص الطبيعي، وألا يضجر من انتظاره، وإنما يلتمس السلوى في هاتين الفكرتين فحسب؛ الأولى: أنه لن يصيبني إلا ما هو متناغم مع طبيعة «الكل»، والثانية: أن بوسعي ألا أقترف أي شيء فيه عصيان لإلهي وللألوهة التي بداخلي. لا يمكن لأحد أن يرغمني على هذا الإثم. (5-11) في أي شيء أستعمل نفسي الآن؟ سل نفسك هذا السؤال في كل مناسبة. تفحص نفسك. ماذا يدور الآن في ذلك الجزء من نفسي الذي يسمونه العقل الموجه؟ أي صنف من النفوس لدي الآن؟ نفس طفل، أم صبي، أم امرأة، أم طاغية، أم حيوان مستأنس أم حيوان وحشي؟ (5-12) هاك طريقة لفهم نوعية الأشياء التي تعتبرها الأغلبية خيرا؛ فأنت إذا تصورت في ذهنك الخيرات الحقيقية - من مثل الحكمة والتعقل والاعتدال والعدل والشجاعة - فلن يسعك عندئذ قبول القول الشائع «ثراء طائل لا يترك محلا لقضاء الحاجة.» إذ لا ينطبق هذا المثل في هذا المقام. غير أنك حين تتصور في عقلك ما تعده الأغلبية ضمن الخيرات فإنه ما يزال بوسعك أن تسمع هذا القول من الشعر الكوميدي وتقبله من فورك كتعليق صائب.
11
حتى الأغلبية بوسعها أن تدرك الفرق، وإلا لما كنا نأخذ هذا القول، على ما يثيره فينا من استياء وامتعاض، كتعليق دال وظريف يصف حال الثروة وامتيازات الفخامة والشهرة. امض إذن واسأل هل ينبغي أن نثمنها ونعدها خيرات تلك الأشياء التي إذا ما تصورناها في أذهاننا جاز لنا بحق أن نصف صاحبها بأنه «بلغ من الوفرة مبلغا لم يترك له محلا يقضي فيه حاجته»؟ (5-13) مكون أنا من صورة ومادة، ولن تفنى أي منهما وتصير إلى عدم، كما أن أيا منهما لم تأت من عدم. إذن كل جزء مني سوف يقيض له مكانه الجديد في جزء ما من العالم، وهذا الجزء سوف يتغير بدوره إلى جزء آخر من العالم، وهكذا إلى غير نهاية. وثمة تسلسل مماثل من التغير أتى بي إلى الوجود، وبوالدي من قبل، وهكذا رجعا إلى ما لا نهاية في الاتجاه المقابل. هذا حكم لا ينقضه شيء حتى لو كان العالم مقدرا له أن يمر بدورات من العود الأبدي. (5-14) العقل وفن إعمال العقل هما ملكتان تكفيان ذاتهما بذاتهما وبعملياتهما الخاصة؛ فهما تبدآن من المقدمة المعينة وتتخذان طريقهما إلى الغاية المقدرة لهما؛ لهذا السبب تسمى أعمال العقل «أعمالا صائبة أو صحيحة»
catorthoseis
وهي لفظة تدل على أنهما تمضيان في الطريق الصحيح.
12 (5-15) لا شيء من هذه الأشياء ينبغي أن يسمى «إنسانيا» تلك التي لا تنتمي إلى الإنسان بما هو إنسان. إنها لا تلزمه كإنسان، ولا تهيب بها طبيعة الإنسان. إنها ليست كمالات لهذه الطبيعة؛ ومن ثم فهي لا تشكل غاية الإنسان أيضا، ولا حتى أية وسيلة لهذه الغاية الإنسانية التي هي الخير. وفضلا عن ذلك، إذا كانت أي من هذه الأشياء تنتمي إلى الإنسان لما حق لأي امرئ أن يزدريها أو يصدف عنها، ولما كنا نطري أي امرئ يبدي استغناءه عنها لو صح أنها خيرات حقا، ولما أمكن لمن يزهد في أي منها أن يكون امرءا صالحا، ولكن الحقيقة أنه كلما حرم المرء نفسه من هذه الأشياء وأشباهها، أو حرم من أي منها، كان أصبر عنها وأكثر احتمالا لفقدانها، وكان بنفس الدرجة ... أكثر إنسانية. (5-16) كيفما تكون أفكارك المعتادة تكون طبيعة عقلك؛ فالنفس تصطبغ بالأفكار،
13
اصبغ نفسك إذن بسلسلة متصلة من الأفكار مثل هذه؛ حيثما أمكن الإنسان أن يعيش أمكنه أيضا أن يعيش حياة صالحة ، ولكن عليه أن يعيش في قصر؛ إذن بوسعه أن يعيش في القصر حياة صالحة.
مرة ثانية: كل مخلوق إنما خلق من أجل مخلوق آخر، ومساره موجه إلى ذلك الذي خلق من أجله، وغايته تكمن في ذلك الذي يتجه إلى مساره، وحيثما كانت غايته فثم أيضا خيره وصلاحه. ينتج من ذلك أن خير المخلوق العاقل هو الجماعة. ولقد طالما انعقد الدليل على أننا خلقنا للجماعة. أليس من الواضح أن المخلوقات الدنيا جعلت من أجل المخلوقات العليا، والعليا من أجل بعضها البعض؟ ولكن الأشياء الحية أعلى من غير الحية، والأشياء العاقلة أعلى من مجرد الحية.
14 (5-17) طلب المحال جنون، ومحال على الشرير أن يعمل على غير شاكلته. (5-18) لن يصيب الكائن أي شيء لم تؤهله الطبيعة لتحمله، هاك شخص آخر أصابه ما أصابك. ولأنه لا يدرك ما وقع له أو لأنه يتجمل ويتظاهر بالشجاعة فهو يبقى هادئا. أليس من المؤسف إذن أن يكون الجهل والادعاء أقوى من الحكمة؟! (5-19) لا يمكن للأشياء ذاتها أن تمس النفس أقل مساس. ليس لدى الأشياء مدخل إلى النفس وليس بمكنتها أن تدير النفس أو تحركها. إنما النفس تدير ذاتها وتحرك ذاتها، وتقيم لنفسها ما تراه ملائما من الأحكام على ما يعرض لها من أشياء.
15 (5-20) من جهة، أعد الإنسان هو أقرب شيء لي ما دام علي أن أفعل الخير للبشر وأن أحتملهم، ولكن إذا جعل البعض من أنفسهم عقبات أمام أفعالي الصالحة يصبح الإنسان بالنسبة لي شيئا من ضمن «الأشياء الأسواء»،
16
غير الفارقة
indifferentia ، شأنه شأن الشمس أو الريح أو الحيوان البري. قد تعيقني هذه الأشياء عن بعض نشاطي، نعم، ولكنها لا تشكل عوائق أمام وجداناتي ونوازعي؛ من حيث إن بها يقبع الالتزام المشروط وقوة التكيف. إن العقل ليتكيف ويدور حول أي عائق للفعل لكي يخدم هدفه؛ فيحول ما هو عائق عن عمل معين إلى معين على ذلك العمل، ويحول العقبة في طريق ما إلى تقدم على تلك الطريق. (5-21) وقر القوة الجوهرية في العالم؛ إنها ما يصرف الأشياء جميعا ويوجه الأشياء جميعا، على أن توقر بالمثل القوة الجوهرية في نفسك؛ فهذه مثيلة لتلك. وهذه فيك أيضا هي ما يصرف كل ما عداها، وحياتك موجهة بها.
17 (5-22) ما لا يضير المدينة لا يضير مواطنيها أيضا. ومتى وقع في ظنك أن قد مسك ضر فطبق هذا المعيار: إذا كانت المدينة بخير فأنا إذن بخير. أما إذا لحق أذى حقا بالمدينة فإن عليك ألا تغضب بل أن تبين لمرتكبه ما عجز عن رؤيته بنفسه. (5-23) انظر مليا كيف يزاح كل ما هو قائم وكل ما هو قادم ويصير ماضيا ويزول زوالا. الوجود مثل نهر في تدفق دائم، وأفعاله تعاقب ثابت للتغير! وأسبابه لا تحصى في تنوعها. لا شيء يبقى ثابتا حتى ما هو حاضر عتيد. تأمل أيضا الهوة الفاغرة للماضي والمستقبل التي تبتلع كل شيء. أليس بأحمق من يعيش وسط هذا كله ثم تحدثه نفسه أن يلج في الأمل أو يهلك في الكفاح أو يسخط على نصيبه؟! وكأن أي شيء من هذا دائم له أو مقدر أن يؤرقه طويلا. (5-24) انظر في الوجود كله؛ الذي أنت أصغر أجزائه، وانظر في الزمان كله، الذي قسمت لك منه لحظة وجيزة وهاربة، وانظر في القدر وما هو معقود بالقدر، وكم أنت جزء ضئيل منه. (5-25) هل أساء إلي شخص آخر؟ دعه وشأنه. إنه سيد نزعاته وسيد أفعاله. أما أنا فأملك ما تقتضيني الطبيعة الكلية أن أملك، وسوف أفعل ما تقتضيني طبيعتي أن أفعل. (5-26) ينبغي أن يبقى الجزء الموجه والحاكم من نفسك محصنا من أي مجرى يجري في الجسد. (5-27) «عش مع الآلهة»، وإنه ليعيش مع الآلهة ذلك الذي يرون أن روحه قانعة بنصيبها، تؤدي ما تمليه الألوهة ... ذلك الشطر من نفسه الذي وهبه زيوس لكل شخص لكي يحرسه ويرشده. هذه الألوهة في كل منا هي فهمه وعقله. (5-28) هل أنت محنق على الرجل المنتن أو الأبخر؟ ماذا تريده أن يفعل؟ هكذا حال فمه وهكذا حال آباطه. ومن المحتم أن تنبعث هذه الروائح من هذه الأشياء. - «ولكنه أعطي عقلا بوسعه إذا شاء أن يكتشف مكمن الأذى منه.» - أفادك الله، إذن أنت أيضا لست أقل منه عقلا. فليكن عقلك محفزا لعقله وأظهره على خطئه، ابذل له النصح. فإذا ما استمع إلى نصحك فسوف تبرؤه من دائه، ولا داعي إلى الغضب. لا تكن منافقا (تتجنب المسألة) ولا بغيا (تحتملها)! (5-29) بمقدورك أن تعيش هنا في هذا العالم تماما مثلما تعتزم أن تعيش إذا ما غادرته، ولكن إذا لم يكن ذلك متاحا لك فإن عليك أن ترحل عن الحياة ذاتها. على ألا ترحل كما لو كان ذلك إحدى البلايا «الحريق يدخن فأغادر المنزل».
18
لماذا تعد ذلك أمرا جللا؟
ولكن ما دمت غير مضطر لمثل ذلك فلسوف أبقى رجلا حرا لا يملك أحد أن يمنعني من أن أفعل ما أود فعله؛ وما أود فعله هو أن أتبع ما تمليه طبيعة الكائن العاقل والاجتماعي. (5-30) فكر «الكل» هو فكر اجتماعي. ومن المتيقن أنه جعل الأشياء الدنيا من أجل الأشياء العليا، وسلك الأشياء العليا في تناغم بعضها مع بعض. ألا ترى كيف سخر بعض المخلوقات، ونسق بين البعض، ووضع كلا في مكانه اللائق، وضم الكائنات العليا معا في وحدة العقل؟ (5-31) كيف كان مسلكك حتى الآن تجاه الآلهة، وتجاه والديك وإخوتك وزوجك وأبنائك ومعلميك ومربيك وأصدقائك وأقاربك وخدمك؟ هل كان مبدؤك مع كل هؤلاء هو «لا تؤذ إنسانا بالقول ولا بالفعل»؟ ذكر نفسك كم قاسيت وكم تحملت، وأن رواية حياتك قد تمت الآن وخدمتك قد انتهت، وكم شهدت من جمال، كم ازدريت من لذة وألم، وكم ازدريت من مجد، وكم كنت طيبا مع غير الطيبين. (5-32) لماذا تعمد النفوس الجاهلة والحمقاء إلى مضايقة من لديه معرفة وحكمة؟ حسن، أية نفس إذن تلك التي لديها معرفة وحكمة؟ إنها تلك النفس التي تعرف الأصل والغاية، وتعرف «العقل» الذي يتخلل الوجود كله ويدير العالم عبر الزمان كله في دورات ثابتة. (5-33) سرعان ما ستصير رمادا أو عظاما، مجرد اسم أو حتى لا اسم، والاسم ماذا يكون غير صوت وصدى؟ وكل ما نعليه ونغليه في الحياة هو شيء فارغ وعفن وتافه؛ جراء يعض بعضها بعضا، وأطفال تتشاجر ... تضحك ... وما تلبث أن تبكي. أما الإخلاص والشرف والعدل والصدق فتفر «إلى أوليمبوس من كل أرجاء الأرض المترامية».
19
إذن ماذا تبقى لنا هنا لنبقى؟ إذا كانت موضوعات الحس متبدلة دوما ولا تبقى على حال، وأعضاء الإدراك كليلة مضللة، والنفس المسكينة ذاتها مجرد بخرة من الدم، والصيت في هذا العالم شيئا فارغا. لماذا إذن لا ترتقب نهايتك ساكنا مطمئنا فإما فناء وإما تحول، وإلى أن يحين ذلك فماذا يلزمنا؟ أن نمجد الآلهة ونحمدها،
20
وأن نصنع الخير للبشر، وأن نتحمل ونتزهد،
21
وأن نتذكر أن كل ما يقع في حدود جسمنا المسكين وأنفاسنا القليلة ليس ملكا لنا ولا في طائلة قدرتنا. (5-34) بوسعك أن تقضي حياتك في فيض متدفق من السعادة إذا أمكنك أن تمضي في الطريق القويم، وأن تتبع طريق العقل في أحكامك وأفعالك، ثمة شيئان تشترك فيها جميع الأنفس العاقلة؛ بشرا وآلهة؛ أنها محصنة من العوائق الخارجية، وأن الخير الذي تطلبه يقبع في النزوع إلى العدالة وممارستها، وأنها لا ترغب فيما عدا ذلك. (5-35) ما دام هذا ليس إثما من جانبي ولا هو نتاج لإثمي، وما دامت الجماعة بخير، فلماذا أعني نفسي به؟ وأي ضير منه على الجماعة؟ (5-36) لا تدع انطباع الحزن لدى الآخرين يأخذك بعيدا دون تمييز، أعنهم نعم، كأفضل ما يكون العون وبقدر ما يقتضي الموقف، حتى لو كان حزنهم هو لفقدان شيء «غير فارق»
indifferent ، ولكن لا تتوهم أن ما فقدوه يمثل ضررا حقيقيا؛ تلك عادة سيئة في التفكير، بل عليك أن تقتدي بذلك الرجل العجوز في المسرحية إذ طلب استرداد لعبة متبناه في النهاية، دون أن ينسى قط أنها مجرد لعبة.
22
فلتفعل أنت أيضا في حالتك هذه مثل فعله. عندما كنت تصرخ على المنبر أكنت قد نسيت كم تساوي هذه الأشياء؟ - «حسن، ولكنها مهمة عند القطيع.» - وهل هذا يبرر أن تشارك القطيع حماقته؟ (5-37) «كنت ذات يوم رجلا محظوظا، لا يتخلى عني الحظ في كل صغيرة وكبيرة، واليوم تخلى عني لا أعلم كيف .» - ولكن كلمة محظوظ تعني ذلك الرجل الذي حدد لنفسه حظا سعيدا، والحظ السعيد هو نزوع النفس إلى الخير، هو الوجدانات الخيرة والأفعال الخيرة.
الكتاب السادس
(6-1) مادة «الكل» مذعنة مطواع. والعقل الذي يوجه هذه المادة ليس لديه ما يدعوه إلى فعل الشر؛ فليس به شر ولا يلحق شرا بأي شيء ولا يضار به أي شيء. غير أن كل الأشياء تبدأ وتنتهي وفقا لهذا العقل. (6-2) ما دمت تؤدي واجبك فلا تعبأ بما إذا كنت باردا أو دافئا، نعسان أو يقظا، يمدحك الناس أو يذمونك، وبما إذا كنت تحتضر أو تفعل شيئا آخر! فحتى هذا ... فعل الاحتضار ... هو أحد أفعال الحياة ... وبحسبك هنا أيضا أن تتقن ما تفعله جهد ما تستطيع. (6-3) انظر إلى الداخل؛ لا تدع نوعية أي شيء ولا قيمته تفلتان منك. (6-4) يوشك كل ما هو موجود أن يتغير؛ فإما أن يتحول بخارا، إذا كانت المادة حقا واحدة، وإما يتبدد ذرات. (6-5) العقل المدبر يعرف ما يريد، وما يعمل، وعلى أي مادة يعمل. (6-6) أن تأبى أن تكون مثل من أساء إليك ... ذلك هو خير انتقام. (6-7) لتكن بهجتك وراحتك في شيء واحد؛ أن تمضي من عمل اجتماعي إلى عمل اجتماعي آخر، والله في خاطرك وضميرك. (6-8) العقل الموجه هو ذلك الذي يوقظ نفسه ويكيف نفسه، ويضفي على نفسه الطبيعة التي يريدها، ويجعل كل ما يحدث له يبدو على النحو الذي يريده. (6-9) كل شيء يتم وفقا لطبيعة «الكل»؛ فمن المؤكد أنه لا يتم وفقا لأي طبيعة أخرى سواء كانت طبيعة تفهم هذه من الخارج، أو كانت طبيعة تفهم داخل هذه الطبيعة، أو طبيعة خارجة عن هذه ومستقلة عنها. (6-10) الكون لا يخرج عن حالين اثنين؛ فإما أنه فوضى واضطراب وتشتت (إلى ذرات)، وإما أنه وحدة ونظام وعناية. فإذا صح الافتراض الأول فلماذا أرغب في المكوث في عالم مركب عشوائيا ويعاني من مثل هذا الاختلاط؟ ولماذا أعني نفسي بشيء آخر غير تحول التراب إلى تراب؟ وفيم يخالج نفسي اضطراب؟ فالتناثر سوف يصيبني إذن مهما فعلت. وإذا صح الافتراض الثاني أقدم إجلالي، واقفا ثابتا لا أتزعزع، متوكلا على من بيده تصريف كل الأمور. (6-11) إذا قذفت بك الظروف في نوع من الكرب فعد إلى نفسك سريعا، ولا تبق خارج الإيقاع أطول مما ينبغي؛ فسوف يزداد تمكنك من التناغم بدوام العودة إليه. (6-12) إذا كان لك زوجة أب وأم في الوقت نفسه، فسوف ترعى زوجة أبيك ولكن التجاءك الدائم سيكون إلى أمك، فليكن البلاط والفلسفة بالنسبة لك كزوجة الأب والأم، لتكن الفلسفة لك ملاذا دائما ومستراحا وموئلا، حتى تجعل القصر يبدو محتملا لك، وحتى تبدو أنت محتملا في القصر. (6-13) ما أطيب، عندما يكون أمامك لحم مشوي أو ما شابه من الأطايب، أن تستحضر في ذهنك أن هذا جثة سمكة، وهذا جثة طائر أو خنزير، ثم أن هذا النبيذ الفاليرني
1
مجرد عصير عنب، وأن رداءك الأرجواني ليس أكثر من فراء خروف منقوع في دم المحار! وفي الجماع أنه ليس أكثر من احتكاك غشاء ودفقة مخاط. ما أنجح هذه الإدراكات في الوصول إلى قلب الشيء الحقيقي والنفاذ فيه ورؤيته كما هو. كذلك فليكن دأبك طوال حياتك؛ حيثما تبدت الأشياء خلابة المظهر فجردها وتفرس في طبيعتها الزائفة واخلع عنها كل دعاوى الزهو والخيلاء.
2
الخيلاء هي أعظم مفسد للعقل؛ وحيثما تكن واثقا كل الثقة في أهمية عملك تكن في الوقت نفسه مخدوعا بها كل الخداع. فلتنظر إذن ماذا قال أقراطيس (كراتيس) عن زينوقراطيس (كيسنوكراتيس) نفسه.
3 (6-14) معظم الأشياء التي تعجب العوام تنتمي إلى أشد الفئات عمومية، تلك التي تنضوي معا ب «التماسك»
cohesion ، أو بالنماء الطبيعي؛ مثل الحجارة والخشب وشجر التين والكروم والزيتون. أما الأشياء التي تعجب من هم أكثر عقلانية بقليل فتنتمي إلى فئة الأشياء التي يجمعها مبدأ الحياة: كالقطعان والأسراب. أما التي تعجب من هم بعد أكثر رقيا فتنحصر في المخلوقات العاقلة، ولكن بقدر ما يسعفها العقل في حرفة يدوية أو أية مهارة أخرى، أو شأن المولعين بمجرد امتلاك جمع من العبيد. أما الإنسان الذي يقدر الروح حق قدرها من حيث هي عاقلة وسياسية في آن فلا يعنيه إلا أن تظل روحه في حالة نشاط عقلي واجتماعي دائم، وأن يتعاون مع أضرابه من أجل هذه الغاية. (6-15) بعض الأشياء تحث الخطو إلى الوجود، وبعضها يحث الخطو إلى الخروج منه، وبعض ما يولد يكون هالكا من الأصل. التجدد والتغير يجدد العالم على الدوام، كما يجدد المسير الدائب للزمن أمد العصور إلى الأبد. في هذا التيار المتدفق؛ حيث لا ثبات لقدم، ماذا يمكن للمرء أن يجل من كل ما يتدافع أمامه؟ لكأنه ما يكاد يولع بعصفور يطير أمامه حتى يكون قد اختفى عن بصره. شبيه بذلك حياتنا نفسها؛ عابرة كزفير من الدم أو كشهيق من الهواء. لا فرق بين شهقة تأخذها وتعيدها إلى الهواء، مثلما تفعل كل لحظة، وبين أن ترد كل قدرتك التنفسية، التي اكتسبتها عند ولادتك أمس أو أمس الأول، إلى العالم الذي سحبتها منه أول مرة. (6-16) لا فضل في النتح، كما هو الحال في النبات، ولا في التنفس كما في الأنعام والوحوش، ولا في تلقي الانطباعات الحسية بمظهر الأشياء، ولا في التحرك بالرغبات كما تتحرك الدمى بالخيوط، ولا في التجمع القطيعي، ولا في تناول الغذاء (فلا فرق في شيء بين فعل الغذاء وفعل إخراج فضلات الغذاء)، أي شيء إذن ينبغي أن نفضله ونعلي قدره؟ أن نستقبل بالتصفيق؟ كلا، ولا أن نستقبل بهتاف الألسنة؟ فهتاف الجماهير هو مجرد تصفيق بالألسنة. إذن فقد اطرحت زيف المجد أيضا. فماذا يبقى هناك ذا قيمة حقيقية؟ يبقى هذا من وجهة نظري؛ أن تفعل، أو تحجم عن الفعل، وفقا لفطرتك الحقة، الفطرة التي إلى غايتها تفضي كل الأعمال والفنون؛ فكل فن يتغيا أن يكيف الشيء المصنوع للعمل الذي من أجله صنع. الكرام الذي يعتني بالكرم، وسائس الخيل ومربي الكلاب ... كلهم يرمون إلى هذه الغاية، فماذا تكون الغاية التي ترمي إليها تربية النشء وتعليمهم؟
ها هنا إذن تكمن القيمة الحقيقية؛ وإذا أنت قبضت على هذه القيمة فلن تصبو إلى اكتساب أي شيء آخر، ولن تعود تعلي من شأن كثير من الأشياء الأخرى إلى جانبها. وإلا فلن تكون حرا أو مكتفيا بذاتك أو خاليا من الانفعال، وستضطر إلى الحسد والغيرة والتوجس ممن لديهم القدرة على أن يسلبوا منك هذه الأشياء، والتآمر على من يملكون ما تراه ثمينا. وباختصار، فكل من يشعر بالحاجة إلى أي شيء من هذه الأشياء يكون بالضرورة منغص العيش، بل سيدفعه ذلك في أحيان كثيرة إلى أن يتذمر على الآلهة. أما توقيرك لعقلك وإكبارك له فسوف يجعلك راضيا منسجما مع رفاقك متوافقا مع الآلهة؛ أي حامدا لهم كل ما يمنحون وكل ما قضوا به.
4 (6-17) أعلى وأسفل، هنا وهناك، تمضي حركة العناصر. أما حركة الفضيلة فلا تتخبط هكذا أبدا؛ فهي شيء أكثر قدسية، وعلى طريق ليس من السهل تبينه تمضي قدما في غبطة. (6-18) عجبا لبني الإنسان ... إنهم لم يمجدوا من يعيش بين ظهرانيهم في زمان واحد، ولكنهم يصبون إلى أن تمجدهم الأجيال القادمة التي لا يرونها ولن يروها أبدا، ولكن، هل يسوءك أن الأجيال السابقة لم تسمع بك ولم تمجدك قط؟ فهذا وذاك سيان. (6-19) لا تتصور أن ما هو صعب عليك تحقيقه هو مستحيل على أي إنسان، بل إذا كان شيء ممكنا للإنسان وملائما لطبيعته فاعتبره أيضا ممكنا لك وداخلا في نطاق قدرتك ومنالك. (6-20) في حلبة اللعب قد يخدشك خصم بأظافره، أو ينطحك برأسه. غير أننا لا نصمه من أجل ذلك ولا نتأذى ولا نتوجس منه بعد ذلك كرفيق خائن. صحيح أننا قد نأخذ حذرنا منه، لا كعدو أو مريب، بل بمودة وهدوء نتنحى عن طريقه فحسب. كذلك ينبغي أن يكون الحال في جوانب الحياة الأخرى؛ هناك أناس هم «خصوم في اللعب» وعلينا أن نغضي عما يفعلونه، وبوسعنا أن نتجنبهم، كما قلت، من غير ارتياب أو عداوة. (6-21) إذا ما استطاع إنسان أن يثبت لي أني على خطأ ويبين لي خطئي في أي فكرة أو فعل، فسوف أغير نفسي بكل سرور، إن أريد إلا الحق ، وهو مطلب لم يضر أي إنسان قط، إنما الضرر هو أن يصر المرء على جهله ويستمر في خداع ذاته. (6-22) إنني أؤدي واجبي، ولا تعنيني الأشياء الأخرى؛ فهي إما أشياء غير حية، وإما غير عاقلة، وإما تاهت ولا تعرف الطريق. (6-23) تعامل مع الحيوانات العجماء، وجميع الأشياء بعامة، بكرم وتسامح، ما دمت تملك عقلا وهي محرومة منه. أما البشر، من حيث إن لديهم عقلا، فتعامل معهم بروح اجتماعية. وادع الآلهة في كل أمر. ولا تكرث نفسك بطول الزمن الذي سوف تحياه في هذا العمل؛ فمجرد ساعات ثلاث تقضيها هكذا تكفي. (6-24) الموت سوى بين الإسكندر المقدوني وسائس بغاله؛ فإما أنهما استردا إلى نفس المبدأ المولد للعالم، وإما تشتتا معا بين ذرات الكون. (6-25) تأمل كم من الأحداث، الجسدية والعقلية، يجري في داخل كل منا في نفس الآنة الزمنية الضئيلة. عندئذ لن يأخذك العجب إذا كانت أحداث أكثر، أو بالأحرى كل ما يأتي إلى الوجود، تعيش معا في الواحد والكل الذي نسميه العالم. (6-26) إذا سألك سائل كيف يكتب اسم «أنطونينوس» فسوف تبين له ذلك بتشديدك على مقاطع الكلمة. فماذا لو ماراك الناس في ذلك؟ أستغضب أنت أيضا، أم تمضي بهدوء فتبين لهم تعاقب الأحرف الواحد تلو الآخر؟ كذلك الحال في حياتك هنا، تذكر أن كل مهمة هي المجموع المكتمل لأفعال معينة. عليك أن تراعي ذلك وألا تضطرب أو تجيب على غضب الآخرين بغضب مثله، بل تمضي في كل مهمة أمامك بمنهجية حتى تتمها. (6-27) ما أقسى أن تمنع الناس من السعي إلى ما يبدو لهم مسايرا لمصلحتهم ونفعهم. غير أنك تمنعهم، بمعنى ما، حين يغضبك أنهم على خطأ؛ فمن المتيقن أنهم مدفوعون إلى صالحهم ونفعهم. - «ولكنهم مخطئون في ذلك.» - إذن علمهم، وأرشدهم، دون أن تغضب عليهم.
5 (6-28) الموت انعتاق من الاستجابة للحواس، ومن خيوط دمى الرغبة، ومن العقل التحليلي، ومن خدمة اللحم.
6 (6-29) من العار أن تخذلك الروح في هذه الحياة قبل أن يخذلك جسمك. (6-30) احرص ألا تتحول إلى قيصر،
7
وألا تصطبغ بهذه الصبغة؛ فقد تقع في ذلك إذا لم تتوخ الحذر. فكن دائما بسيطا، طيبا، جادا، غير مراء، محبا للعدل، خاشعا لله، لينا، رفيقا، ذا همة في كل ما تندب له. كن موقرا للآلهة وراعيا للناس؛ فالحياة قصيرة والتقوى والعمل الصالح هما الثمرة الوحيدة لهذه الحياة الأرضية.
كن تلميذا لأنطونينوس
8
في كل شيء؛ في مضاء عزمه في كل ما يأمر به العقل، وفي رصانته الدائمة، وتقواه، وصفاء محياه، وعذوبته، وتواضعه، واجتهاده في فهم الأمور حتى لا يدع أمرا يمر دون أن يمحصه بدقة ويفهمه بوضوح. واذكر كيف كان يحتمل من يلومه ظلما دون أن يرد على الملام بمثله، ولا يندفع في أي شيء، ولا يصغي إلى الافتراءات ولا ينافق، وكيف كان يقنع بالقليل في سكناه وفراشه ولباسه وطعامه وخدمه. واذكر حبه للعمل وصبره وجلده.
لقد كان رجلا يكب على الأمر سحابة يومه فلا يتركه حتى يحل المساء، ولا يفكر حتى في قضاء حاجته إلا في ساعته المعتادة. كذلك كان مقتصدا في طعامه. وكان مخلصا وعادلا في صداقاته، متسامحا مع المعارضة السافرة لآرائه، مرحبا بالمشورة التي ترشده إلى ما هو أقوم، خاشعا لله من غير شعوذة أو خرافة.
فلتكن لك فيه أسوة حسنة؛ حتى تلقى الله وأنت على ضمير نقي كهذا النقاء. (6-31) أفق من نومك، وعد إلى رشدك، لتدرك أن كل الذي عكر صفوك كان أضغاث أحلام. والآن وقد استعدت وعيك مرة ثانية انظر إلى هذه الأشياء مثلما كنت تنظر إلى تلك الأحلام.
9 (6-32) لقد جبلت من جسد وروح؛ فبالنسبة لهذا الجسد الهزيل كل الأشياء سواء (غير فارقة)
indifferent ؛ فهو لا يستطيع أن يميز أي فارق. أما بالنسبة للعقل فاللافارق هو ما ليس داخلا ضمن نشاطه الخاص؛ وكل ما هو من نشاطه هو تحت سيطرته، ولكن من بين هذه الأشياء فإن العقل لا يعنيه إلا الحاضر؛ فأنشطته في المستقبل وفي الماضي هي أيضا لا فارقة في أية لحظة حاضرة. (6-33) ما دامت القدم تعمل عمل القدم واليد تعمل عمل اليد فإن عملهما، أيا كان، غير مضاد للطبيعة. كذلك الإنسان ما دام يعمل عمل الإنسان فإن عمله لا يمكن أن يكون ضد الطبيعة. وما دام عمله ليس ضد الطبيعة فهو غير مشين له أيضا. (6-34) أما اللذة فإن القراصنة والمأبونين وقتلة آبائهم والطغاة ليتمتعون بها غاية المتعة، لو كانت السعادة هي اللذة لكان اللصوص والمأبونون وقتلة آبائهم والطغاة هم أسعد الناس.
10 (6-35) ألا ترى كيف يطاوع الحرفيون عامة الناس إلى حد معين، على أنهم يتمسكون بمبدأ الحرفة ولا يطيقون تركه،
11
أليس غريبا إذن أن يولي النحات والطبيب احتراما لمبدئهما الحرفي الموجه أكثر مما يوليه الإنسان لمبدئه الموجه - العقل - الذي يشارك فيه الآلهة؟! (6-36) آسيا وأوروبا مجرد ركنين صغيرين من العالم. كل محيط هو نقطة في العالم. جبل أثوس
Athos
12
حفنة تراب في العالم. الزمن الحاضر كله هو ثقب دبوس في الأبدية. كل الأشياء ضئيلة وسريعة التغير وزائلة، كل الأشياء تأتي من هناك ... من ذلك العقل الكلي الحاكم، إما مباشرة وإما كنتيجة؛ لذا حتى فكا الأسد المفتوحان، وحتى السم، وكل مؤذ من الأشياء، كالشوك، كالطين، هي نواتج بعدية للنبيل والجميل.
13
فلا تحسبنها غريبة عما تقدسه، بل تأمل، وأنصف، ينبوع الأشياء جميعا.
14 (6-37) من رأى الحاضر فقد رأى الأشياء جميعا؛ كل ما كان من الأزل، وكل ما سيكون إلى الأبد؛ كل الأشياء عشير واحد وصورة واحدة. (6-38) تأمل مليا ترابط الأشياء جميعا في العالم وقرابتها. جميع الأشياء، بطريقة ما، متواشجة، ولديها من ثم مشاعر ود بعضها تجاه بعض؛ فالشيء يتلو الشيء في نظام منضبط، من خلال توتر الحركة والروح الشاملة التي تلهمها ووحدة الوجود كله. (6-39) تلاءم مع الأشياء التي قسمت لك، وأحب هؤلاء الناس الذين ألقى بك القدر بينهم. على أن يكون حبك صادقا مخلصا. (6-40) أداة، عدة، وعاء ... كل هذا جيد ما دام يؤدي الوظيفة التي من أجلها صنع. على أن الصانع في مثل هذه الحالات خارج عن الشيء المصنوع. أما في حالة الأشياء التي تمسكها معا طبيعتها العضوية فإن القوة التي صنعتها باطنة فيها ومحايثة لها.
15
ولذا فإن عليك أن توقرها أكثر، وترى أنك إذا امتثلت لإرادتها في وجودك وفعلك سيكون كل شيء فيك موافقا للعقل. كذلك الأمر أيضا في «الكل»؛ فكل الأشياء التي تنضوي فيه تمتثل لعقل «الكل». (6-41) إذا كنت تعدها خيرا أو شرا تلك الأشياء الخارجة عن سيطرتك فسوف يترتب على ذلك بالضرورة أن تتذمر على الآلهة وتبغض البشر كلما أصابك هذا الشر أو كلما فقدت ذلك الخير (باعتبار سبب المصاب أو الفقدان). إننا لنرتكب ظلما عظيما باكتراثنا بهذه الأشياء واعتبارها «فارقة». أما إذا قصرنا صفة الخير والشر على ما يقع في نطاق قدرتنا فلن يعود ثمة مبرر لاتهام إله أو لاتخاذ موقف عدائي من إنسان. (6-42) كلنا نعمل معا للغاية نفسها، البعض عن قصد ودراية، والبعض عن غير دراية؛ تماما كما قال هيراقليطس، فيما أعتقد، إنه حتى النائمون هم عمال مشاركون في صنع كل ما يحدث في العالم، لكل واحد عمله المقيض له، وهناك وظيفة حتى للمناوئ الذي يريد أن يفسد الإنتاج؛ فالعالم بحاجة إليه أيضا. يبقى إذن أن تقرر في أية فئة من العاملين تريد أن تضع نفسك؛ فمن المؤكد أن حاكم «الكل» سوف يجد لك استخداما نافعا وسوف يسلكك في القوة العاملة لأداء دور ما في هذا العمل المشترك، ولكن احرص ألا تكون البيت الرديء والمبتذل والمسف في المسرحية، على حد تعبير خريسيبوس.
16 (6-43) هل تضطلع الشمس بعمل المطر؟ أو إسكليبوس
17
بعمل إلهة الحصاد؟ وماذا عن كل نجم من النجوم؟ أليست هذه مختلفة متمايزة ولكن تعمل سويا لنفس الغاية؟ (6-44) إذا كانت الآلهة قد فكرت في شأني وفي شأن الأمور التي يجب أن تحدث لي فإن قضاءها الخير؛ فليس من اليسير أن نتصور، مجرد تصور، إلها بلا فكر. ثم ماذا يدعو الآلهة إلى أن تريد بي الأذى؟ أية جدوى تعود من ذلك عليها أو على الخير العام الذي هو الغاية الرئيسة للعناية؟ وحتى إذا لم أكن قد خطرت بفكرها كفرد فمن المؤكد أنها قد فكرت في خير «الكل» على أقل تقدير. وما دام الذي يصيبني إنما هو نتاج لهذا الخير العام فإن علي أن أقبله وأرحب به .
أما إذا كانت الآلهة لا تفكر في أي شيء ولا يعنيها أمر أحد - وهو اعتقاد باطل وضلال - لكان لنا أن نكف عن تقديم الضحايا، ورفع الدعاء والصلوات، والقسم بالآلهة، وكل الشعائر التي تقوم على افتراض أن الآلهة حاضرة معنا ومشاركة في حياتنا. فإذا لم تكن تعنيها شئوننا فإن لي أن أعنى بشأني؛ وشأني ما هو خير. وما هو خير لكل فرد هو ما يلائم حالته وطبيعته. وطبيعتي هي طبيعة عقلية واجتماعية معا.
فبصفتي أنطونينوس فإن مدينتي هي روما، وبصفتي إنسانا فمدينتي هي الكون.
18
لذا فإن ما هو خير لهاتين المدينتين هو وحده الخير بالنسبة لي. (6-45) كل ما يحدث للفرد هو لمنفعة «الكل». إلى هنا كل شيء واضح، ولكن إذا أمعنت النظر فسوف ترى أيضا، كقاعدة عامة، أن ما ينفع شخصا ينفع الآخرين أيضا. على أن «المنفعة» هنا يجب أن تؤخذ بمعناها الدارج إذ تقال عن أشياء لا فارقة - لا هي خير ولا هي شر. (6-46) مثلما يحدث لك في المدرج
amphitheater
وما شابه ذلك من الأمكنة؛ حيث ثبات المنظر ورتابة المشهد يبعثان على الضجر، كذلك الحال في خبرتك بالحياة ككل؛ كل شيء، هنا وهناك، هو نفس الشيء، وبنفس الأسباب. فإلى متى؟! (6-47) تأمل مليا في كل ضروب البشر، ومختلف المهن، وشتى أمم الأرض التي بادت؛ ثم اهبط إلى فيليستيون وفويبوس وأرويجانيون،
19
وعرج الآن على الفئات الأخرى من الناس. نحن أيضا مقدر علينا أن نغير مقامنا إلى ذلك العالم الآخر؛ حيث هناك الكثير الكثير من الخطباء المفوهين والفلاسفة الأعلام - هيراقليطس، فيثاغوراس (ميثاجوراس)، سقراط - وأبطال من الأزمنة القديمة وقادة من بعدهم وملوك. أضف أيضا يودوكسوس،
20
وهيبارخوس،
21
وأرشيميدس،
22
وأضف رجالا آخرين خارقي الذكاء، ورجالا ذوي رؤى عظيمة، ورجالا مكرسين لعملهم. وأضف أوغادا ومتعصبين، وحتى هجائين لهذه الحياة الفانية العابرة مثل مينيبوس
23
وأضرابه. وتأمل كيف طواهم الموت منذ زمان وغيبهم التراب. فهل خسروا بذلك من شيء؟ بل هل خسر شيئا أولئك الخاملون الذين ضاعت أسماؤهم ذاتها؟ لا قيمة في هذه الحياة إلا لشيء واحد؛ أن تقضي عمرك في صدق وعدل، متسامحا حتى مع أولئك الذين لا يعرفون الصدق ولا العدل. (6-48) كلما أردت أن تبهج نفسك فاستحضر في ذهنك فضائل الذين يعيشون معك؛ نشاط هذا، وتواضع ذاك، وكرم ثالث، ومنقبة أخرى لرابع ... ليس أبهج للنفس من طابع الفضيلة يتجلى في خصال رفاقنا - وحبذا لو تكاثر عليك منها المزيد. فلتكن حاضرة لديك دائما. (6-49) تراك تتبرم بوزن جسمك؛ بأن تزن كذا من الأرطال ولا تزن ثلاثمائة رطل مثلا؟! لماذا إذن تتبرم بأمد حياة من عدد كذا من السنين وليس أكثر؟ فمثلما تقنع بمقدار المادة المقسومة لك ينبغي أن تقنع بحصتك الزمنية من العمر.
24 (6-50) حاول أن تقنعهم، ولكن عليك أن تعمل ضد إرادتهم، إذا ما كان مبدأ العقل والعدل يقضي بذلك. فإذا اعترض أحد طريقك بالقوة فتذرع بالهدوء وحول العائق إلى تمرس بصنف آخر من الفضيلة.
25
وتذكر أن محاولتك كانت بتحفظ، أنك لم ترد أن تعمل المستحيل. ماذا تريد إذن؟ جهدا ما مقيدا بشرط. ولقد حققت هذا. (6-51) كيف تفهم خيرك الخاص؟ عاشق الشهرة يجعل خيره في استجابات غيره. وعاشق اللذة يجعل خيره في خبرته السلبية. أما الحكيم فيرى خيره هو أفعاله ذاتها. (6-52) ما يزال في إمكاننا أن نجهل شيئا ونظل مع ذلك في صفاء عقلي؛ ذلك أنه ليس لدى الأشياء نفسها خاصة طبيعية تجعلها قادرة على تشكيل أحكامنا.
26 (6-53) تعود أن تصغي بانتباه إلى ما يقوله آخر، وانفذ، قدر المستطاع، في عقل المتحدث.
27 (6-54) ما لا يفيد السرب لا يفيد النحلة.
28 (6-55) إذا ما سب البحارة قبطانهم، وسب المرضى طبيبهم، فإلى من عساهم يصغون؟ أو كيف يتسنى للقبطان أن يضمن سلامة الرحلة لركابه؟ أو يتسنى للطبيب أن يضمن الصحة لعملائه؟ (6-56) كم رفاق أتيت معهم إلى العالم هم الآن غيب. (6-57) مظاهر:
العسل مر لدى المصابين باليرقان.
والماء رعب لدى من عضتهم كلاب مسعورة.
الكرة بهجة لدى صغار الأطفال.
لماذا أنا غاضب إذن؟ أم ترى أن الحكم الزائف أقل تأثيرا من الصفراء للمصاب باليرقان، أو السم في المصاب برهاب الماء. (6-58) لن يمنعك أحد من أن تعيش وفقا لمبدأ طبيعتك الخاصة. ولن يحدث لك شيء مخالف لمبدأ طبيعة العالم. (6-59) أي صنف من البشر أولئك الذين يسترضيهم الناس؟ ومن أجل أية أهداف؟ وبأي صنف من الأفعال؟ ما أسرع ما يهيل الزمن التراب على كل شيء. وما أكثر ما أهيل عليه التراب بالفعل.
الكتاب السابع
(7-1) ما الشر؟ إنه ما رأيت مرارا وتكرارا. فلتكن هذه تذكرة لك كلما صادفك أي شيء من هذا: «لقد رأيت هذا من قبل مرارا.» وأينما تول فسوف تجد الأشياء ذاتها التي يعج بها تاريخ العصور، القديمة منها والوسيطة والحديثة، وتعج بها المدن والديار في يومنا هذا. لا جديد ... كل شيء مألوف ومعروف ... وزائل. (7-2) كيف يمكن أن تموت مبادؤك ما لم تمت التصورات العقلية المناظرة لها؟
1
ولكن بيدك أن تروح هذه التصورات باستمرار وتحيي ضرامها، «بوسعي أن أتخذ هذا الرأي الذي ينبغي اتخاذه في هذا الشيء، وما دام ذلك بوسعي فلماذا أبتئس؟ كل ما يقع خارج عقلي لا شأن له به على الإطلاق.» تعلم هذا تقف ثابتا. بوسعك أن تعيش مرة أخرى. انظر إلى الأشياء مرة ثانية كما اعتدت أن تنظر إليها، فهكذا تسترد حياتك وتستأنفها. (7-3) الأبهة الفارغة للمواكب والاحتفالات، عروض المسرح، القطعان والأسراب، عروض المبارزة (المقارعة بالسيف)، عظمة ملقاة للجراء،
2
فتات ملقى لسمك البركة، نمل يكدح وينوء بأحماله، عدو فئران مذعورة، دمى ترقصها خيوطها، هكذا أشياء العالم. عليك أن تظل سمحا بين هذا كله، وألا تسخر منه. على أن تضع في اعتبارك أن قدر المرء إنما يقاس بقيمة الأشياء التي يقدرها. (7-4) في مجال القول عليك أن تصغي إلى ما يقال، وفي مجال الفعل عليك أن تلاحظ ما يفعل. في الثاني أن تدرك مباشرة الغاية التي يرمي إليها الفعل، وفي الأول أن تشهد بدقة المدلول الذي يشير إليه القول. (7-5) هل فهمي قادر على هذه المهمة أو لا؟ إذا كان قادرا فسوف أستخدمه كأداة للعمل وهبتني إياها طبيعة «الكل». وإذا لم يكن فإما سوف أتنحى عنها وأتركها لمن هو أقدر عليها مني، وإما، إذا لزم الأمر، سوف أحاول أن أنفذها جهد ما أستطيع بالاستعانة بمن يمكنه بالتعاون مع عقلي الموجه أن يحقق ما هو ملائم للمجتمع في هذه اللحظة المحددة ومفيد للصالح العام. وأيا كان ما أفعل، بنفسي أو مع غيري، فينبغي أن ينصب على شيء واحد؛ ما هو مفيد وملائم للمجتمع. (7-6) ما أكثر الذين حلقوا إلى أعالي المجد يوما ما وهم الآن في غمرة الخمول! وما أكثر الذين تغنوا بمجد هؤلاء واندثروا منذ زمن طويل! (7-7) لا تستح من طلب العون.
3
إن مهمتك أن تؤدي الواجب المنوط بك، شأنك شأن جندي في مفرزة ارتقاء حصن؛ فماذا إذن لو كنت أعرج ولا تستطيع تسلق الجدار بنفسك بينما يمكنك ذلك بمساعدة آخر؟ (7-8) لا تحمل هم الأمور القادمة، فلسوف تأتي إليها، إذا لزم الأمر، مسلحا بنفس العقل الذي تستخدمه الآن في الأمور الحالية. (7-9) جميع الأشياء متواشجة متشابكة، يربطها معا رباط مقدس، لا شيء غريب عن الأشياء الأخرى؛ فجميعها قد رتبت معا لكي تتعاون على تحقيق «النظام» الواحد للعالم؛ ذلك أن «العالم» المؤلف من جميع الأشياء واحد،
4
والإله المنبث في كل الأشياء واحد، والمادة واحدة، والقانون واحد، والعقل الشائع في جميع الموجودات العاقلة واحد، والحقيقة واحدة؛ لأن الحقيقة هي كمال الموجودات العاقلة المشاركة في عقل واحد. (7-10) كل شيء مادي سرعان ما يتبدد في مادة العالم. وكل شيء سببي (صوري) سرعان ما يرد إلى عقل العالم، وذكرى كل شيء سرعان ما تطمر في الأبدية. (7-11) بالنسبة لكل كائن عاقل فالعمل وفقا للطبيعة هو أيضا العمل وفقا للعقل. (7-12) قم بنفسك ... أو بغيرك.
5 (7-13) الكائنات العاقلة كأعضاء الجسد الواحد خلقت للتعاون، ستتبين هذا بوضوح شديد كلما قلت لنفسك إنني «عضو»
melos
في منظومة الكائنات العاقلة. أما إذا قلت إنني «جزء»
meros ... بتغيير الحرف الواحد
1
إلى
r ، فأنت بعد لا تحب رفاقك البشر من قلبك، وفعلك الخير لا يبهجك كغاية في ذاته ... ما زلت تفعل البر بوصفه أدبا وواجبا وليس بوصفه برا بنفسك. (7-14) دع ما يصيبك من الخارج يصيب، ودع الأجزاء التي يمكن أن تتأثر به تشكو ما شاءت، فلست مضارا إلا إذا عقدت الرأي بأنه ضرر، وبوسعي ألا أرى هذا الرأي.
6 (7-15) مهما يقل أي شخص أو يفعل فإن علي أن أكون رجلا صالحا، شأنه شأن زمرد أو ذهب أو أرجوان ما فتئ يقول: «مهما يقل أي شخص أو يفعل فإن علي أن أكون زمردا وأن أحتفظ بلوني.» (7-16) العقل الموجه لا يكرث نفسه؛ فلا هو يروعها ولا هو يسوقها إلى الرغبة. فليروعها ما شاء أو يؤلمها فإنه بذاته وبحكمه الخاص لن يعمد إلى الالتفات إلى مثل هذه الحالات. فليحرص الجسد على تجنب الألم ما وسعه ذلك، ولتقل النفس الحاسة إني أخاف أو أتألم. أما ذلك العقل الذي يضع التقييم العام لكل هذه الأشياء فلن يعاني على الإطلاق؛ لن يندفع بنفسه إلى أي من هذه الأحكام؛ فالعقل الموجه بحد ذاته ليس به حاجة ما لم يخلق الحاجة بنفسه؛ ومن ثم فهو لا يضر ولا يعاق ما لم يضر نفسه أو يعق نفسه. (7-17) السعادة إله طيب أو شيء طيب. لماذا إذن، أيها الخيال، تفعل ما تفعله؟ اذهب، ناشدتك الآلهة، اذهب من حيث أتيت، فلست بحاجة إليك. لقد أتيت على عادتك القديمة ... ولست غاضبا منك. فقط دعني واذهب.
7 (7-18) هل يخشى أحد من التغير؟ حسن، فأي شيء يمكن أن يحدث من دون تغير؟ أو أي شيء أعز على طبيعة «الكل» وأقرب إليها من التغير؟ هل بوسعك أنت نفسك أن تغتسل إذا لم ينل التغير خشب الموقد؟ هل بوسعك أن تأكل دون أن يتغير ما تأكله؟ هل يمكن أن يتحقق أي شيء نافع في الحياة بدون تغير؟ ألست ترى، إذن، أن التغير بالنسبة لك هو الشيء نفسه، وأنه ضروري بنفس الدرجة لطبيعة «الكل»؟
8 (7-19) في مادة العالم، كما في تيار جارف، تذهب جميع أجسادنا؛ فهي بطبيعتها متحدة بالكل ومتعاونة معه، مثلما تتعاون أعضاء الجسد الواحد بعضها مع بعض، كم خريسيبوس، وكم سقراط، وكم إبكتيتوس ابتلعته الأبدية؟
9
وليبدهك هذا التصور بخصوص كل إنسان وكل شيء. (7-20) لا أخشى إلا من شيء واحد؛ أن أفعل شيئا ما؛ لا تسمح به فطرة الإنسان، أو بطريقة لا تسمح بها الفطرة، أو أفعل ما لا تسمح به الآن. (7-21) سرعان ما ستكون قد نسيت كل شيء، ويكون قد نسيك كل شيء. (7-22) من الطبيعة الإنسانية أن تحب حتى من يزلون ويسقطون. يتبين ذلك إذا ما أخذت باعتبارك، حين يخطئون، أن البشر إخوة، وأنهم يخطئون عن جهل وليس عن عمد، وأن الموت لا يلبث أن يطويك ويطويهم. والأهم، أن المخطئ لم يضرك، ولم يجعل عقلك الموجه في وضع أسوأ مما كان عليه من قبل.
10 (7-23) تستخدم الطبيعة مادة العالم مثلما يستخدم الشمع؛ فتارة تخلق منه كهيئة حصان، ثم تصهره وتستخدم مادته لخلق شجرة، ثم إنسان، ثم شيء آخر. كل شيء من هذه الأشياء لا يدوم إلا قليلا. ليس صعبا على الوعاء أن ينحطم، مثلما لم يكن صعبا عليه أن يستوي من قبل وعاء. (7-24) التجهم شيء مضاد للطبيعة. وإذا أصبح عادة متكررة فإن صباحة الوجه وتعبيره يموتان رويدا رويدا. وربما ينطفئان في النهاية انطفاء لا ضرم بعده. حاول أن تخلص من هذه الحقيقة ذاتها إلى أن التجهم شيء مضاد للطبيعة؛ ففي مجال السلوك الأخلاقي فإننا لو فقدنا إدراكنا لفعل الشر فلن يبقى لنا أي سبب للعيش بعد ذلك. (7-25) كل ما تراه سوف يتغير في لحظة، تغيره الطبيعة التي تحكم «الكل»؛ ستخلق أشياء أخرى من هذه المادة، ثم أشياء أخرى من هذه، وهكذا بحيث يبقى العالم صبيا على الدوام.
11 (7-26) إذا ألحق بك شخص أذى ما، فانظر للتو أي حكم عن الخير أو الشر أدى به إلى إيذائك. عندئذ سوف ترثي له ولن يأخذك شعور بالعجب أو بالغضب؛ ذلك أنك إما تشاركه رأيه في الخير أو ترى رأيا قريبا منه، فتكون قمينا إذ ذاك أن تعذره، وإما أنك لا ترى في مثل هذه الأشياء خيرا ولا شرا، هنالك سيكون بميسورك أن تصبر على جهل الجاهل.
12 (7-27) لا تحلم بامتلاك ما لا تمتلكه، بل تأمل النعم الكبرى فيما تملكه. وذكر نفسك كم ستفتقد هذه الأشياء لو لم تكن لديك.
13
ولكن احرص ألا تدع التنعم بها يجعل منك مدمنا لها معتمدا عليها؛ كيلا تبتئس إذا ما فقدتها يوما ما.
14 (7-28) اتجه إلى ذاتك.
15
إن من طبيعة العقل الموجه أن يكون قانعا بنفسه حين يعمل ما هو صالح، وينعم في ذلك بالسكينة. (7-29) امح أثر الخيال. أوقف حركة خيوط الدمى التي تتجاذبك. انصرف إلى اللحظة الحاضرة، تفهم جيدا ما يحدث لك أو لغيرك. حلل الحدث وقسمه إلى شطر صوري (سببي) وشطر مادي. فكر في ساعتك الأخيرة. وأعرض عن الشر الذي فعله آخر واتركه حيث فعله.
16 (7-30) ركز انتباهك على ما يقال. ودع فهمك ينفذ إلى ما يحدث وإلى ما يحدثه. (7-31) تجمل بالبساطة والتواضع وعدم الاكتراث بما ليس خيرا ولا شرا.
17
أحب البشر، أطع الله. يقول ديمقريطس: «كل ما عدا ذلك خاضع لقانون العرف، وحدها العناصر هي مطلقة وحقيقية.» ولكن بحسبك أنت أن تذكر أن الكل خاضع للقانون؛ فالقواعد ترد إلى عدد قليل جدا. (7-32) عن الموت؛ سواء كان الأمر تشتتا أو تحللا إلى ذرات أو عدما فإنه إما فناء وإما تغير. (7-33) عن الألم: الألم إن زاد عن الحد وضع نهاية لحياتنا، أما إذا كان مزمنا فمن الممكن احتماله. والعقل بترفعه بنفسه يحتفظ بسكينته. العقل الموجه لا يعوقه الألم، وللأجزاء المتأثرة بالألم أن ترى فيه ما تراه.
18 (7-34) عن الشهرة: انظر إلى عقولهم، أولئك الذين يبتغون الشهرة، إلى طبيعة تفكيرهم، وأي صنف من الأشياء يريدون وأي صنف يتجنبون. وانظر كيف تغشي الأحداث اللاحقة على السابقة، كما تتراكم أكوام الرمال فينهال لاحقها على سابقها ويواريه.
19 (7-35) «إذن، لدى إنسان أوتي عقلا ساميا ورؤية للزمان كله؛ ترى هل ستبدو هذه الحياة الإنسانية على أي درجة من الأهمية؟»
20 - محال. - «إذن هل يمكن لمثل هذا الإنسان أن يرى في الموت ما يدعو إلى الفزع؟» - بالطبع لا. (7-36) «قدر الملوك أن تفعل الخير وتذم عليه.»
21 (7-37) من المخجل أن يطيع الوجه أوامر العقل ويشكل تعبيراته وفق إملاءاته، بينما يعجز العقل عن أن يفرض شكله ونظامه على نفسه. (7-38) «لا ينبغي أن تسخط على الأشياء والوقائع المحضة؛ لأنها لا عقل لها حتى تكترث بسخطك.»
22 (7-39) «هلا أرضيت الآلهة الخالدة وأرضيتنا؟»
23 (7-40) «السنابل الناضجة ينبغي أن تحصد، وكذلك حياة كل منا؛ واحدة تقوم، وأخرى تسقط.»
24 (7-41) «إذا لم تعبأ الآلهة بي ولا بأبنائي، فثمة ما يبرر ذلك.»
25 (7-42) «لأن الخير والحق يقفان إلى جانبي.»
26 (7-43) لا تشارك الآخرين في النحيب، ولا في الانتشار الصاخب. (7-44) ولكن بوسعي أن أقدم لهذا الرجل جوابا شافيا فأقول له: «لقد جانبك الصواب يا صديقي إذا حسبت أنه يجب على أي إنسان على أي قدر من الصلاح أن يحسب حسابا لمخاطر الحياة أو الموت. إنما عليه في أي فعل من أفعاله ألا ينظر إلا إلى شيء واحد؛ هل ما يفعله صواب أو خطأ؟ فعل إنسان صالح أو إنسان شرير؟ (7-45) «فالحق أقول لكم، إخوتي الأثينيين، أينما كان الموقع الذي اتخذه امرؤ، سواء رآه الأفضل له أو حدده له قائده، هنالك يتوجب عليه، فيما أرى، أن يثبت ويصمد للمخاطر، لا يقيم وزنا للموت ولا لغيره بالقياس إلى عار التخلي عن موقعه.»
27 (7-46) «ولكن، يا صديقي العزيز، ألا يمكن أن تكون النبالة والفضيلة شيئا آخر غير السلامة والنجاة؟ وأن الرجل الحقيقي ينبغي ألا يكترث بمدة الحياة، أو بمجرد العيش من أجل العيش؟ إنما عليه أن يترك ذلك لله وأن يعتبر بقول النساء إنه لا مهرب لأحد من أجله. إنما يجب أن ينصرف فكره إلى هذا السؤال الثاني: كيف يعيش على أفضل نحو ذلك الزمن المقدر عليه أن يعيشه؟»
28 (7-47) تأمل مسارات النجوم كما لو أنك تسير معها حيث تسير، وتأمل دوما تحولات العناصر بعضها إلى بعض. جديرة هذه التأملات أن تغسل عنك أدران الحياة الأرضية.
29 (7-48) ثم عندما تتحدث عن بني الإنسان فلتنظر إلى الأشياء الأرضية كأنك تنظر إليها من نقطة عالية - الجموع، الجيوش، المزارع، أحداث الزواج والطلاق والميلاد والموت، صخب المحاكم، الصحاري، شتى الأمم الأخرى، الاحتفالات، الجنازات، الأسواق؛ خليط كل الأشياء والاتحاد المنظم للأضداد.
30 (7-49) انظر وراءك إلى الماضي؛ إلى كل تلك التحولات الشديدة للأسر الحاكمة، وبوسعك عندئذ أن تتنبأ أيضا بما سوف يكون؛ فمن المؤكد أنه سيكون مشابها لذلك تماما وأنه لا يمكن أن يحيد عن إيقاع الحاضر؛ ومن ثم فإنه سيان أن تتأمل الحياة البشرية أربعين سنة وأن تتأملها لعشرة آلاف من السنين؛ فأي جديد عساك تراه؟ (7-50)
ما يأتي إلى الأرض فإلى الأرض يعود،
أما ما يشطأ من بذرة سماوية،
فيعود إلى حيث جاء؛ إلى السماء.
31
وإلا فهو هذا؛ انحلال رابطة الذرات، وتشتت مماثل للعناصر غير الحاسة. (7-51)
بطعام أو شراب، أو بسحر ماكر،
يريد أن يشق طريقا للهروب من الموت.
32
الريح التي أرسلها الله،
علينا أن نتحملها ... وأن نكدح،
دون أن نشكو.
33 (7-52) أكثر قدرة على الإطاحة بخصمه أرضا، ولكن ليس أكثر قدرة على الود أو التواضع، أو دربة على مواجهة الأحداث، أو العفو عن زلات جيرانه.
34 (7-53) حيثما أمكننا أن ننفذ مهمة ما وفقا للعقل، الذي يشارك فيه الآلهة والبشر، فليس ثمة شيء نخشاه؛ فما دام بإمكاننا أن نجني فائدة من عمل يمضي في الطريق القويم والمساير لفطرتنا البشرية فليس علينا أن نتوجس من أي أذى يترصدنا. (7-54) أينما كنت ووقتما كنت فإن بوسعك أن تمجد الله راضيا بحالك، وأن تعامل من معك من الناس بالعدل، وأن تنعم النظر في كل انطباع راهن في عقلك بحيث لا تدع شيئا يفلت من منال فهمك. (7-55) لا تتلفت حولك لكي تنقب في عقول الآخرين، بل انظر أمامك إلى هذا، ما تقودك إليه الطبيعة؛ إلى طبيعة العالم فيما يحدث لك، وإلى طبيعتك فيما يجب أن تفعله، كل مخلوق ينبغي أن يفعل ما تمليه عليه فطرته الخاصة، ولقد جبلت بقية المخلوقات على خدمة الكائنات العاقلة (مثلما أنه في كل شيء آخر يوجد الأدنى من أجل الأعلى)، أما الكائنات العاقلة فقد جبلت على أن يخدم بعضها بعضا.
المبدأ الرئيس، إذن، في جبلة الإنسان هو المبدأ الاجتماعي. والمبدأ الثاني هو ألا يستسلم لإلحاحات الجسد؛ فمن الخصائص التي ينفرد بها العقل أنه يعزل نفسه ولا يتأثر بنشا الحواس أو نشاط الرغبات؛ فهذان النشاطان حيوانيان، بينما غاية النشاط العقلي أن يتسيد عليهما ولا يسلم قياده لهما ؛ لأن طبيعته ذاتها هي أن يضع كل هذه الأشياء تحت إمرته. والعنصر الثالث في الجبلة العقلية هو الحكم المتأني الحصيف، فليبق عقلك الموجه، إذن، أمينا لهذه المبادئ، وليتخذ الطريق المستقيم، حتى يبلغ ما هو أهل له. (7-56) تخيل أنك الآن ميت، وأن حياتك انتهت في هذه اللحظة، ثم عش ما تبقى لك من العمر في وفاق مع الطبيعة. (7-57) لا تحب إلا ما ألم بك ونسج لك من خيط مصيرك؛ فأي شيء أنسب لك من هذا؟ (7-58) في كل حادث يطرأ عليك ضع نصب عينك أولئك الذين مروا من قبل بنفس الخبرة واستجابوا لها بالحنق أو بعدم التصديق أو بالشكوى. فأين هم الآن؟ في لا مكان. هل تريد، إذن، أن تفعل مثلهم؟ لماذا لا تدع هذه الأمزجة الغريبة عن الطبيعة لمن أثارها ولمن أثير بها، وتنصرف بكل همتك إلى كيف تستخدم هذه الأحداث التي ألمت بك؟ فعندئذ ستستخدمها استخداما حسنا، وستكون مادة خاما في يديك. فقط انتبه وحاذر وحاول، جهد ما تستطيع، أن تكون إنسانا صالحا في كل فعل تفعله.
35 (7-59) نقب في ذاتك. ها هنا بالداخل ينبوع خير جاهز لأن يتدفق في أي لحظة إذا ما بقيت تنقب. (7-60) الجسد أيضا يجب أن يبقى متماسكا، وألا يتقلب في الحركة أو في الوضع. ومثلما يمارس العقل تأثيرا على الوجه فيضفي عليه سيماء الذكاء والجاذبية، فإن شيئا كهذا ينبغي أن يطلب أيضا للجسد ككل، على أن يلحظ كل هذا من دون تعمل أو تكلف. (7-61) فن الحياة أشبه بفن المصارعة منه بفن الرقص؛ فهو أيضا يتطلب أن يكون المرء مستعدا لمواجهة ما يحدث بغتة وعلى غير انتظار. (7-62) عليك دائما أن تلحظ من هؤلاء الذين تريد أن تحظى بإطرائهم، وما هي العقول التي توجههم. فإذا ما نظرت إلى مصادر حكمهم ورغباتهم فلن تلوم من ينالك منهم دون قصد ولن تشعر بحاجة إلى استحسانهم. (7-63) يقول أفلاطون: «ليست هناك نفس تريد عمدا أن تحرم من الحقيقة.» والشيء نفسه ينسحب على العدالة، والاعتدال، والإحسان، وكل هذه الفضائل. من المهم للغاية أن تضع هذا دائما باعتبارك؛ فبذلك سوف تكون أرفق بالجميع. (7-64) كلما عانيت ألما فاذكر أن الألم لا يشينك ولا يمس فكرك الموجه بأذى، لا من حيث طبيعته العقلية ولا الاجتماعية. وفي أغلب حالات الألم سوف يسعفك قول إبكتيتوس: «ليس الألم بالشيء غير المحتمل ولا هو بالشيء الدائم ما دمت تذكر حدوده ولا تضخمه في خيالك.» وتذكر أيضا أن كثيرا من الأشياء التي نجدها غير مريحة هي في حقيقة الأمر تشارك الألم في طبيعته؛ الخمول الزائد مثلا، والحر الشديد، وفقدان الشهية؛ لذا كلما وجدت نفسك تشكو من أي من هذه الأشياء قل لنفسك: «إنك تستسلم للألم.» (7-65) إياك أن تعامل مبغضي البشر مثلما يعاملون البشر. (7-66) كيف لنا أن نعرف أن شخصية
Telauges
36
لم تجعل منه إنسانا أفضل من سقراط؟ ليس يكفي أن سقراط مات ميتة أمجد، أو أنه كان يجادل السوفسطائيين جدلا أكثر براعة؟ أو أنه كان أكثر جلدا إذ قضى ليلة كاملة في الصقيع، أو أنه كان أشجع إذ قرر رفض الأمر باعتقال ليون من سلاميس، أو أنه كان يمشي مختالا في الشوارع
37 (وإن كان للمرء أن يشك تماما في صحة ذلك). كلا ... إن ما يلزمنا بحثه هو طبيعة نفس سقراط. علينا أن نسأل: هل كان بوسعه أن يقنع بأن يكون عادلا تجاه الناس وتقيا تجاه الآلهة، فلا هو يشجب نقائص الناس جملة ولا هو يتملق جهل أي شخص، ولا يستنكر أي نصيب مقسوم له من «الكل» أو يراه حملا ينوء به، ولا يسمح لعقله أن يميل مع الأهواء البائسة للجسد؟ (7-67) ما كان للطريقة التي مزجتك بها الطبيعة بالكل المركب أن تحول بينك وبين أن ترسم حدا يحدك ويحفظ ما هو لك تحت سيطرتك. تذكر هذا دائما. وتذكر أيضا أن الحياة السعيدة تعتمد على أقل القليل. ولا تظن أنك لمجرد يأسك من أن تصبح فيلسوفا أو عالما ينبغي أن تيأس من أن تكون ذا روح حرة، وتواضع، وضمير حر، وطاعة لله. إن بإمكانك تماما أن تكون «إنسانا إلهيا» دون أن يلحظ ذلك أحد ! (7-68) اذرع حياتك دون أي ضغط قهري، وفي أتم سكينة عقلية، حتى لو هتف العالم كله ضدك، وحتى لو مزقت الوحوش أعضاء هذه الكتلة الجسدية البائسة الملتحمة حولك؛ فأي شيء في كل هذا يحول بين عقلك وبين أن يبقي نفسه في سكينة، وأن يحتفظ بالحكم السليم على الظرف والاستعداد لأن يستعمل أي حدث يقدم له؛ بحيث يقول «الحكم»
Judgement
ل «الظرف»
Circumstance : هكذا أنت في الحقيقة وإن ظهرت في رأي الناس على أنك من صنف آخر»، ويقول «الاستعمال»
Use
ل «الحدث»:
Event «أنت ما كنت أبتغيه ... فأنا من يأخذ دائما ما يعرض له ليجعل منه مادة خاما لممارسة الفضيلة العقلية والاجتماعية؛ وباختصار، لممارسة الفن الذي ينتمي إلى الإنسان أو الإله.» ذلك أن كل شيء يحدث يتعلق إما بالإله أو بالإنسان، وليس هو بالشيء الجديد ولا العصي على التناول، إنما هو معتاد ومادة طيعة للعمل.
38 (7-69) كمال الخلق في هذا؛ أن تعيش كل يوم كما لو كان آخر أيامك، بغير سعار، وبغير بلادة، وبغير رياء.
39 (7-70) الآلهة، الذين لا يموتون، لا يضيقون بواجبهم طوال الزمان في أن يتحملوا البشر كما هم وعلى ما هم عليه من الشر. وفوق ذلك فإنهم يرعونهم بكل الطرق. أما أنت، أيها المقدر عليه أن يزول سريعا، تراك تضيق بتحمل الأشرار؟ وتضيق بهم وأنت واحد منهم؟! (7-71) عيب على الإنسان ألا يفر من رذائله، وهو ممكن، بينما يحاول الفرار من رذائل الآخرين، وهو غير ممكن. (7-72) أيما شيء تجده الملكة العاقلة والاجتماعية غير عاقل ولا اجتماعي، فإنها تعده، بحق، دونها في الدرجة. (7-73) ما دمت فعلت خيرا وتلقاه آخر، فمالك لا تزال تترقب، كالأبله، شيئا ثالثا إلى جانب هذين؛ أن تنال صيتا بفعل الخير، أو تتلقى مقابلا؟ (7-74) لا أحد يسأم من تلقي ما هو نافع. والعمل وفقا للطبيعة هو منفعتك الخاصة. لا تسأم إذن من المنافع المحصلة بواسطة المنافع المبذولة. (7-75) طبيعة «الكل» هيأت نفسها لتخلق عالما؛ فالآن إما أن كل شيء أتى إلى الوجود قد صدر من ذلك كنتيجة منطقية، وإما أنه حتى الغايات الرئيسية التي هيأ لها العقل الموجه للعالم حركته الخاصة هي غايات لا عقلانية. إذا تذكرت هذا فسوف يعينك على أن تكون أكثر سكينة في أمور كثيرة.
الكتاب الثامن
(8-1) هذه الخاطرة أيضا قد تذهب عنك الزهو والادعاء؛ إذ لم يعد بوسعك الآن أن تقضي حياتك كلها، أو فترة الرشد من حياتك على الأقل، كفيلسوف؛ فقد بات واضحا للكثيرين، وأنت منهم، أنك أبعد ما تكون عن الفلسفة. لقد تبدد أملك إذن وتقطعت بك السبل وصار من الصعب عليك الآن أن تنتزع لقب فيلسوف، كما أن خطك في الحياة يمضي عكس ذلك،
1
فإذا كنت ما تزال على تبصر بحقيقة الأمور فأقلع عن الرغبة في الصيت، واقنع بأن تعيش ما تبقى من حياتك، أيا كان ما تبقى منها، مثلما تريد لك طبيعتك. عليك إذن أن تلحظ ما تريده هذه الطبيعة وألا تدع شيئا يصرفك عنه. لقد طوفت ما طوفت ومضيت في دروب كثيرة ولم تعثر على السعادة في أي درب منها؛ لم تعثر عليها في المنطق، ولا في الثروة، ولا في المجد، ولا في المتعة، ولا في أي شيء. أين إذن يمكن أن تجدها؟ في أن تفعل ما تقتضيه طبيعة الإنسان. وكيف تفعل ذلك؟ بأن تكون لديك مبادئ تحكم رغباتك وأفعالك. ما هي هذه المبادئ؟ تلك المتصلة بالخير والشر؛ اليقين بأنه لا شيء يعد خيرا للإنسان ما لم يجعله عادلا، ومعتدلا، وشهما، وحرا، ولا شيء يعد شرا ما لم يجعله عكس ذلك. (8-2) في كل فعل تهم به اسأل نفسك: «هل يلائمني ذلك؟ هل سأندم عليه؟ لسوف أموت بعد برهة وينقضي كل شيء. ماذا أطلب أكثر إذا كان هذا العمل الذي أؤديه هو عمل كائن عاقل واجتماعي، يشارك الله قانونا واحدا؟» (8-3) الإسكندر، يوليوس قيصر، بومبي؛ فيم يختلف هؤلاء عن ديوجينيس
2
وهيراقليطس وسقراط؟ لقد بصر هؤلاء الأخيرون بالواقع وصورته ومادته، ولم يكن لهم سيد سوى عقلهم الموجه. أما الثلاثة الأول فكانوا عبيدا لطموحاتهم جميعا.
3 (8-4) حتى لو انفجرت من الغيط فسوف يمضون على سنتهم ويعملون على شاكلتهم. (8-5) قبل كل شيء لا تبتئس، فكل شيء يمضي وفق طبيعة العالم. وبعد برهة ستكون لا شيء وفي لا مكان، مثلما هو الآن هادريانوس وأوغسطس. ثم انصرف إلى عملك الذي تؤديه وانظر إليه ماذا يكون. وتذكر أن واجبك أن تكون رجلا صالحا وتذكر ما يقتضيه ذلك. ثم امض في عملك لا تلوي على شيء. وتحدث بما تراه الأصوب. على أن تفعل ذلك دائما برفق وتواضع وبغير رياء. (8-6) تنشغل طبيعة العالم بهذا العمل؛ أن تحول الواقع إلى آخر، أن تغير الأشياء، أن تأخذها من هنا وتضعها هناك. كل الأشياء تغير.
4
على أن هناك اطرادا في توزيعها. كل شيء مألوف؛ وليس ثم ما يدعونا إلى الخوف من أي شيء جديد.
5 (8-7) كل كائن حي قانع بنفسه إذا هو اتبع الطريق الصحيح لطبيعته. والطريق الصحيح للطبيعة العاقلة هو ألا تساير أي شيء زائف أو مبهم فيما ينطبع على عقلها، وأن توجه نزعاتها إلى الفعل الاجتماعي وحده. وألا ترغب أو تتجنب إلا في حدود قدرتها، وأن ترضى بكل ما قسمته لها طبيعة العالم؛ ذلك أنها جزء من طبيعة العالم، مثلما أن طبيعة الورقة جزء من طبيعة النبات؛ عدا أن طبيعة الورقة تفتقر إلى الإدراك أو العقل، وأنها عرضة للإعاقة. أما طبيعة الإنسان فهي جزء من طبيعة غير معاقة، طبيعة عاقلة وعادلة؛ فهي تقدر لكل كائن قدره العادل من الزمن والمادة والصورة والنشاط والخبرة، ولكن هيهات أن تجد تناظر واحد لواحد بين كل شيء وضريبه من الأشياء، بل ستجد بالأحرى تكافؤا كليا بين هذا الشيء وذاك في جملتهما وعمومهما. (8-8) ليس لديك متسع للدرس والتحصيل، ولكن لديك متسع لأن تكف الغطرسة، ولديك متسع لأن تعلو فوق اللذة والألم، ولديك متسع لأن ترتفع فوق حب الشهرة والمجد، وألا تحنق على البليد والجاحد، بل - حقا - أن ترعاهما.
6 (8-9) لا تعد تسمع أحدا تذمرا من حياة البلاط، ولا حتى نفسك.
7 (8-10) الندم هو نوع من توبيخ الذات على إهمالها شيئا ما نافعا. غير أن ما هو خير ينبغي أن يكون شيئا نافعا يحرص عليه الشخص الخير جد الخير، ولكننا لا نرى إنسانا خيرا جد الخير يندم على فوات لذة حسية. اللذة إذن ليست خيرا ولا نفعا.
8 (8-11) هذا الشيء؛ ما هو في ذاته، في جبلته؟ ما جوهره ومادته؟ ما وظيفته في العالم؟ وكم من الزمن يعمر؟
9 (8-12) إذا وجدت نفسك تقوم من النوم كرها فتذكر أن من جبلتك وطبيعتك البشرية أن تؤدي أفعالا اجتماعية، في حين أن النوم شيء مشترك أيضا مع الحيوانات غير العاقلة. ولكن ما يتفق مع طبيعة كل فرد هو أيضا شيء ألصق بهذه الطبيعة وأنسب لها وأكثر قبولا وسواغا في حقيقة الأمر.
10 (8-13) اختبر دوما انطباعاتك الذهنية - كل انطباع على حدة إذا أمكن - طبق عليها مبادئ الفيزياء والأخلاق والجدل.
11 (8-14) كلما قابلت شخصا اسأل نفسك أولا هذا السؤال المباشر: «ما هي الأحكام التي يأخذ بها هذا الشخص حول الخير والشر في الحياة؟» ذلك أنه إذا كان يعتقد هذا الاعتقاد أو ذاك عن اللذة والألم ومكوناتهما، وعن الشهرة والخمول، وعن الحياة والموت، إذن فلن يكون مستغربا لدي أو عجيبا إذا ما تصرف بهذه الطريقة أو تلك، وسوف أتذكر أنه ليس لديه خيار إلا أن يسلك كما سلك.
12 (8-15) أعجيب أن تنبت شجرة التين تينا؟ فأي عجب في أن ينتج العالم هذه الأشياء أو تلك مما هو منتجه؟ أيعجب الطبيب لحمى مريض، أويعجب القبطان لريح معاكسة؟ (8-16) تذكر أن تغييرك لرأيك أو قبولك لتصويب يأتي من غيرك هو شيء يتسق مع حريتك قدر اتساق عنادك وإصرارك على خطئك؛ فالفعل فعلك، تحثه رغبتك أنت وحكمك، وفهمك في حقيقة الأمر. (8-17) إذا كنت مخيرا في هذا الشيء فلماذا فعلته؟ أما إذا كان غيرك هو المخير فيه فمن تراك تلوم؛ الذرات (المصادفة) أم الآلهة؟ كلاهما حماقة؛ فلا محل للوم، بل قوم هذا الفاعل إن استطعت، فإذا لم تستطع فقوم الشيء على الأقل. فإذا لم تستطع فأي هدف يحققه اللوم؛ إذ كل فعل ينبغي أن يتم لهدف. (8-18) كل ما مات لا يسقط خارج العالم، بل يبقى هنا ويتغير، وهنا أيضا يتحلل من مكوناته الصحيحة التي هي عناصر العالم وعناصرك. هذه أيضا تتغير ولا تتذمر. (8-19) كل شيء إنما أتى إلى الوجود لهدف. الحصان مثلا ، الكرمة، أتعجب لهذا؟ فحتى الشمس ستقول «أتيت إلى الوجود لهدف.» وكذلك بقية الآلهة، فلأي هدف إذن أتيت أنت؟ من أجل لذتك؟ انظر هل يقبل العقل هذا؟
13 (8-20) تقيض الطبيعة لكل شيء نهايته مثلما تقيض له بدايته ودوامه. الأمر هنا أشبه برجل يقذف كرة إلى أعلى؛ فأي فضل للكرة إذ تقذف إلى أعلى، وأي ضير عليها إذ تهبط إلى أسفل أو حتى إذ ترتطم بالأرض؟ أي خير للفقاعة إذ تنتفخ، وأي شر إذ تنفجر؟ الشمعة أيضا شأنها شأن الكرة وشأن الفقاعة. (8-21) قلب الجسد ظهرا لبطن، وانظر أي صنف من الأشياء هو، أي صنف من الأشياء إذ يكبر، وأي صنف إذ يمرض، وإذ يموت.
قصيرة هي حياة المادحين والممدوحين معا، الذاكرين والمذكورين. كل هذا في مجرد ركن من قارة واحدة. وحتى هنا ليس الجميع في تناغم بعضهم مع بعض، ولا حتى الفرد في تناغم مع نفسه، والأرض برمتها مجرد نقطة في الفضاء. (8-22) انصرف إلى المسألة التي أمامك، سواء أكانت رأيا أم عملا أم كلمة، إنك تستحق ما أنت فيه؛ لأنك اخترت أن تكون صالحا غدا لا أن تكون صالحا اليوم. (8-23) هل أنا فاعل شيئا؟ أفعله وعيني على خير البشرية، هل ألم بي شيء؟ أتلقاه فأنسبه إلى الآلهة وإلى المصدر الكلي الذي تصدر منه الأشياء جميعا مرتبطة متواشجة. (8-24) ماء الغسل؛ زيت، عرق، قذر، أسن؛ كل ما هو مغث. كذلك حال كل جزء من الحياة، وحال كل شيء فيها.
14 (8-25) دفنت لوكيلا فيروس، ثم ما لبثت لوكيلا أن ماتت ودفنت. وسيكوندا دفنت ماكسيموس، ثم ماتت هي بدورها. كذلك إبيتينخانوس وديوتهوس، وأنطونينوس وفاوستينا. القصة هي القصة دائما وأبدا. مشى كيلير في جنازة هادريانوس، ثم مضى فيما بعد إلى قبره. أين هم الآن، أين تلك العقول الذكية، سواء المتنبئون أو المتزمتون؟ لا شك أن خاراكس وديميتريوس ويودايمون وأمثالهم كانوا عقولا ذكية، ولكن الكل زائل، والكل ميت منذ زمان. البعض اختفى الآن حتى من الأسطورة.
إذن تذكر هذا؛ أن هذا المركب الهزيل، الذي هو أنت، لا بد أنه سوف يتبدد، أو أن روحك الضئيلة سوف تبيد، أو ستهاجر وتتخذ مقاما آخر. (8-26) بهجة الإنسان أن يؤدي العمل اللائق بالإنسان. والعمل اللائق بالإنسان هو الإحسان إلى جنسه الإنساني، وازدراء نزغات الحواس، وتكوين حكم سليم من الظواهر المقبولة، والتفكر في طبيعة العالم وكل ما يجري فيه. (8-27) لديك ثلاث علاقات؛ الأولى بالجسد الذي يحيط بك، والثانية بالسبب الإلهي الذي يصدر عنه كل ما يجري للبشر، والثالثة برفاقك ومعاصريك من الناس. (8-28) إما أن الألم شر للجسد؛ إذن فلتدع الجسد يقول فيه ما يراه، وإما للروح، ولكن بوسع الروح أن تحتفظ بصفائها وسكينتها وألا تقيم الألم على أنه شر؛ لأن كل رأي وحركة ورغبة ونفور هو في الداخل، حيث لا شر يمكن أن يبلغ إليه. (8-29) امح خيالاتك، بأن تقول لنفسك دوما: «بمقدوري الآن أن أحفظ روحي بعيدة عن أي رذيلة أو انفعال، أو أي اضطراب على الإطلاق، فأرى الأشياء كما هي في طبيعتها وأستخدم كلا منها بحسب قيمته.» تذكر هذه القدرة التي منحتك إياها الطبيعة. (8-30) عندما تتحدث في مجلس الشيوخ، أو إلى أي شخص كان، كن جادا مستقيما غير متحذلق. استخدم لغة واضحة تنضح بالصدق. (8-31) بلاط أوغسطس قيصر؛ الزوجة، الابنة، الأحفاد، أبناء الزوجة، الأخت، أجريبا، الأقارب، الأهل، الأصدقاء، أريوس، مايكيناس، الأطباء، العرافون؛ البلاط كله ميت، والتفت الآن إلى الباقين، غير ناظر إلى موت إنسان واحد، بل إلى موت أسرة حاكمة بأسرها، مثل آل بومبي. والتفت إلى النقش الذي تراه على أحجار القبور: «آخر سلالته.» تأمل كم اهتم السابقون بأن يتركوا وراءهم وريثا على العرش، وكيف أن واحدا لا بد من أن يكون آخر العائلة الحاكمة. هنا أيضا انظر إلى موت عائلة بأسرها. (8-32) من واجبك أن تنظم حياتك تنظيما جيدا في كل فعل مفرد، وأن تقنع إذا كان كل فعل يحقق هدفه على أفضل نحو ممكن، وليس بمكنة أحد أن يحول بينك وبين تحقيق هذا الهدف. - «ولكن عائقا خارجيا ما سوف يقف في طريقي.» - لا شيء سيقف في طريق الفعل العادل الرصين الحصيف. - «ولكن ربما أعيق أي مصدر آخر للنشاط.» - حسن، تقبل العائق كما هو، وحول جهدك بحكمة ليواجه الظرف القائم، وسرعان ما سوف يحل فعل جديد محل السابق متلائما مع هذا الوضع الذي نتحدث عنه.
15 (8-33) بلا زهو تقبل الرخاء إذا أتى، وكن مستعدا لفقدانه إذا ذهب. (8-34) إذا كنت قد رأيت يوما ما يدا مقطوعة أو قدما، أو رأسا مفصولا واقعا في مكان ما بعيدا عن بقية الجسم، فهذا مثل ما يفعله بنفسه، ما وسعه ذلك، من لا يرضى بقسمته ويعزل نفسه عن الآخرين أو يقوم بأي فعل غير اجتماعي. هبك قد فصلت نفسك عن وحدة الطبيعة - فلقد ولدت جزءا منها ولكنك الآن فصلت نفسك عنها - فثمة رغم ذلك مفارقة، وهي أن الخيار ما زال مفتوحا لك بأن تعود إلى تلك الوحدة مرة أخرى. لم يمنح الله هذه الميزة لأي جزء آخر؛ وهو أن يلتئم بالكل مرة ثانية بعد أن انفصل عنه. انظر إلى مدى النعمة التي اختص بها الإنسان؛ لقد جعله غير منفصل عن الكل، وجعله قادرا إذا انفصل أن يعود ويتحد ويسترد مكانه كجزء من الكل.
16 (8-35) مثلما أن طبيعة «الكل» هي مصدر جميع الملكات الأخرى في كل مخلوق عاقل فقد وهبتنا هذه القدرة أيضا - بنفس الطريقة التي تحول بها الطبيعة أي شيء معيق أو مضاد إلى غرضها الخاص واضعة إياه في المخطط المقدور للأشياء وجاعلة إياه جزءا منها - كذلك بوسع الكائن العاقل أن يحول كل عائق إلى مادة لاستعماله الخاص، وأن يستخدمه لمصلحة غرضه الأصلي أيا كان هذا الغرض. (8-36) لا تزعج نفسك بالتأمل في المشهد الكلي لحياتك، لا تدع فكرك يضم في آن معا كل ما أزعجك فيما مضى وكل ما يمكن أن يزعجك فيما بعد، بل اسأل نفسك في كل ظرف حاضر: «أي شيء في هذا يفوق احتمالي وينوء بي؟» ولسوف تخجل من مثل هذا الإقرار. ثم ذكر نفسك أنه لا المستقبل ولا الماضي هو ما يثقل عليك، بل الحاضر وحده، وكم يهون عبء الحاضر إذا أمكنك فقط أن تحدده وتضعه في حجمه ، وأن توبخ عقلك إذا كان يكل عن الصمود لشيء مخفف كل هذا التخفيف. (8-37) ألا تزال بانثيا أو بيرجاموس تقعد عند قبر فيروس؟ أو تجلس خابرياس أو ديوتيموس عند قبر هادريان؟ وا أسفاه. وإذا كن جالسات هناك فهل يدري الموتى بذلك؟ وإذا كانوا يدرون فهل يسرهم ذلك؟ وهل سرورهم يخلد الباكين على موتهم؟ أليس مصير هؤلاء أيضا أن يكبروا ويصيروا شيوخا وشيخات ثم يموتون؟ وماذا عسى موتاهم السابقون أن يفعلوا عندئذ؟ الأمر كله عفن وفساد في كيس من العظام. (8-38) إذا كنت ذا بصر حاد فاستعمله، ولكن، كما يقول الشاعر،
17
أضف إليه البصيرة والحكمة. (8-39) لست أرى في جبلة الكائن العاقل فضيلة مضادة للعدل، ولكني أرى فضيلة مضادة للذة؛ وهي فضيلة الاعتدال. (8-40) إذا نحيت حكمك على أي شيء يبدو مؤلما فأنت نفسك ستكون محصنا تماما من الألم. - «نفسك؟ أية نفس؟» - العقل. - «ولكني لست مجرد عقل.» - حسن، إذن دع عقلك بمعزل عن الألم، وإذا كان جزء آخر منك يتضرر فدعه يكون حكمه لنفسه.
18 (8-41) إعاقة الإدراكات الحية شيء مؤذ للطبيعة الحيوانية. وإعاقة الرغبات شيء مؤذ بالمثل للطبيعة الحيوانية (شيء آخر سيكون كذلك معيقا ومؤذيا لطبيعة النبات). يترتب على ذلك أن إعاقة العقل شيء مؤذ للطبيعة العاقلة.
الآن طبق كل هذا على نفسك؛ هل يؤثر فيك الألم أو اللذة الحسية؟ ذلك شأن الحواس، هل اعترضك عائق في سعيك إلى شيء ما؟ إذا كان سعيك حقا غير مشروط فسيكون هذا العائق بالتأكيد مؤذيا لك ككائن عاقل. أما إذا قبلت المسار المعتاد للأشياء فليس ثمة من أذى بعد ولا عائق، أترى ... لا أحد سواك سوف يعوق الوظائف القويمة للعقل؛ فلا الناس ولا الحديد ولا الطغيان ولا السب يمكن أن يمس العقل.
19
فمنذ أصبح العقل دائرة مكتملة فإنه ما يزال في وحدته دائرة مكتملة.
20 (8-42) ليس لدي ما يدعوني إلى إيلام نفسي؛ فأنا لم أتعمد حتى إيلام شخص آخر. (8-43) تختلف المباهج من شخص إلى آخر. أما أنا فبهجتي في أن أحتفظ بعقلي الموجه نقيا فلا أزدري أي إنسان أو أي شيء يحدث لإنسان، بل أنظر إلى كل شيء نظرة احتفاء وأستخدم كل شيء بحسب قيمته. (8-44) اغتنم اللحظة الحاضرة؛ فإن الذين ينصرفون عنها ابتغاء المجد بعد الموت لا يقدرون أن الأجيال التالية سيكون بها أناس يشبهون تماما أولئك الذين يبغضونهم الآن. وهؤلاء أيضا سوف يموتون. وماذا يجديك على كل حال إذا كان هؤلاء القادمون في مقبل الأيام يلهجون بهذا أو ذاك ويرون فيك هذا الرأي أو ذاك؟ (8-45) خذني وارم بي في أي مكان شئت؛ فأينما كنت فسوف أحفظ الجانب الإلهي مني سعيدا؛ أي قانعا، ما دام وجداني وفعلي يتبعان فطرته الخاصة.
هل هذا التغير في المكان سبب كاف لأن تشقي نفس ويسوء مزاجها فتكتئب أو تتوق أو تنكمش أو تخجل؟ وهل ستجد في المكان الجديد أي سبب يدعو إلى ذلك؟ (8-46) لا شيء يحدث للإنسان خارج نطاق الخبرة الطبيعية للإنسان. كذلك الأمر في الثور فلا شيء في خبراته غريب على طبيعة الثور، والكرمة لا شيء لديها غريب على طبيعة الكرم، والحجر لا شيء لديه خارج خصائص الحجر. فإذا كان كل شيء يخبر ما هو معتاد وطبيعي بالنسبة له ففيم تشكو؟ ما دامت طبيعة العالم لم تجلب لك شيئا فوق احتمالك. (8-47) إذ كان بك كرب من شيء خارجي فإن ما يكربك ليس الشيء نفسه بل رأيك عن الشيء؛ وبوسعك أن تمحو هذا الرأي الآن. فإذا كان ما يكربك هو شيء في موقفك أنت فمن ذا الذي يمنعك من أن تصحح رأيك؟ وحتى لو كنت محزونا لأنك لا تحقق شيئا معينا ترى أنه ذو فائدة، فلماذا لا تواصل السعي بدلا من الشكوى؟ - «ولكن أمامي عقبة كئودا لا أستطيع التغلب عليها.» - إذن ليس لك أن تبتئس ما دام الأمر خارجا عن إرادتك. - ولكن الحياة لا تستحق أن تعاش إذا ما فشلت في ذلك». - حسن، فلترحل إذن عن هذه الحياة راضيا مثلما يرحل عنها من يحقق كل أهدافه ، وفي وئام أيضا مع تلك الأشياء التي وقفت في طريقك.
21 (8-48) تذكر أن عقلك الموجه لا يقهر إذا ما اعتصم بنفسه مكتفيا بذاته غير فاعل شيئا لا يريد أن يفعله، حتى لو كان موقفه مجرد عناء؛ فما بالك إذا كان الحكم الذي يكونه مؤيدا بالعقل والروية؛ لذا فإن العقل الخالي من الانفعالات هو قلعة؛ ليس ثمة ملاذ للناس أقوى منه، ومن يأوي إليه فهو في حصن حصين؛ فما أجهله من لا يرى هذه القلعة، وما أتعسه من لا يلوذ بهذا الحصن.
22 (8-49) لا تزايد على رواية الانطباع الأول بشيء من عندك. افترض أنه قد جاءك أن شخصا ما يعيبك؛ هذا ما روي، أما أنك قد أضرت فهذا ما لم يرو. أو هبني أرى طفلي مريضا، هذا ما أراه، أما أنه في خطر فشيء لا أراه. هكذا التزم دائما بالانطباع الأول ولا تضف عليه شيئا من أفكارك أنت. وهكذا كل ما في الأمر، وإلا فإن بوسعك أن تضيف ما لا نهاية له إضافة من يعرف كل ما يجري في العالم.
23 (8-50) القثاءة مرة؟ ألق بها. أغصان شائكة في الطريق؟ تنح عنها. هذا كل ما يلزمك، ولا داعي لأن تسأل «ولماذا جعلت مثل هذه الأشياء في العالم؟» فهذا سؤال مضحك عند دارس الطبيعة، مثلما يضحك عليك النجار أو الإسكاف إذا رآك تستاء لمنظر قشارة أو قصاصات، متخلفة عن عملهما، على أرض الورشة. على أن لدى هذين مكانا ما لإلقاء مخلفاتهما، أما طبيعة «الكل» فلا شيء لديها خارج ذاتها. والعجيب في فنها أنها حددت حدودها، وكل ما يفسد داخلها أو يشيخ أو ينتهي استعماله فإنها تعيد دورته داخلها وتخلق أشياء جديدة أخرى من هذه المادة نفسها؛ بحيث لا تحتاج إلى مادة من الخارج ولا إلى مكان تلقي فيه نفاياتها، إنها تامة إذن ومكتفية بمكانها، ومادتها، وفنها.
24 (8-51) لا تكن متثاقلا في فعلك، ولا مشوشا في محادثتك، ولا غامضا في تفكيرك. ولا تترك عقلك نهبا للانقباض ولا للتيه، واجعل في وقتك ساعة للفراغ والترويح. - «إنهم يقتلونني، يمزقونني، يلعنونني .» - وكيف يمكن لكل ذلك أن يحول بين عقلك وبين الصفاء والحكمة والرصانة والعدل؟ هب واحدا أتى إلى نبع من الماء النمير وأخذ يلعنه، فهل سيمنع النبع من أن يظل يتدفق بالماء الزلال؟ وهبه ألقى فيه بشيء من الطين والروث ... فلن يلبث النبع أن يفتته ويزيحه ويعود إلى نقائه. كيف إذن تؤمن لنفسك نبعا دائما لا مجرد صهريج؟ بأن توطن نفسك طول الوقت على الحرية، وتظل قانعا، بسيطا، متواضعا. (8-52) من لا يعرف ما هو العالم لا يعرف أين هو. ومن لا يعرف لأي غاية وجد العالم لا يعرف من هو ولا ما هو العالم. ومن يجهل أي شيء من هذه لا يمكنه حتى أن يقول لماذا وجد هو ذاته. ما رأيك إذن في ذلك الرجل الذي يتجنب أو يطلب المديح من أناس لا يعرفون أين هم ومن هم؟! (8-53) هل ترغب في أن يمدحك إنسان يلعن نفسه ثلاث مرات كل ساعة؟ هل تود أن ترضي إنسانا لا يستطيع أن يرضى عن نفسه؟ وهل يمكن أن يرضى عن نفسه من يندم على كل شيء يفعله؟ (8-54) لا تعد تتنفس فقط من الهواء المحيط، بل خذ فكرك أيضا من العقل الذي يضم الأشياء جميعا؛ فالقوة العاقلة منتشرة، كالهواء، في كل مكان ومتخللة في كل شيء، طوع من يشاء أن يتشربها، تماما كالهواء لمن يستطيع أن يتنفسه. (8-55) عموم الشر لا يضر العالم بشيء على الإطلاق، والشر المفرد لا يضر متلقيه بشيء، إنما يضر مرتكبه فحسب. وبوسع هذا أن يتخلى عنه، بمجرد أن يقرر ذلك.
25 (8-56) بالنسبة لإرادتي الحرة فإن إرادة جاري غير فارقة
indifferent ، شأنها في ذلك شأن نفسه وجسده. صحيح أننا خلقنا من أجل بعضنا البعض، ولكن لعقل كل منا سيادته الخاصة. وإلا لكان خبث جاري هو ألمي أنا، والله لم يرد هذا ولم يدع شقائي في يد شخص آخر. (8-57) تبزغ الشمس لكي تريق نفسها. ينتشر ضياؤها حقا في كل اتجاه ولكن تياره لا ينفد؛ فهذا التدفق امتداد خطي؛ لذا تسمى خطوطه أشعة؛ لأنها تشع في خطوط ممتدة،
26
يمكنك أن تعرف ما هو الشعاع إذا لاحظت ضوء الشمس ينفذ إلى حجرة مظلمة من خلال فتحة ضيقة. إنه يمتد في خط مستقيم وحين يلتقي بجسم صلب أصم ينقسم وينقطع ولكنه لا ينزلق ولا يسقط بل يبقى هناك.
شيء شبيه بذلك ينطبق على تدفق عقل العالم وانتشاره؛ ليس تيارا ينفد بل إشعاع دائم. ولن يكون ثمة قهر أو عنف في اصطدامه بالعقبات التي يلتقي بها؛ لن يسقط بل سيستقر هناك ويضيء كل شيء يتلقاه. وكل ما هو غير عاكس سوف يحرم نفسه من هذا الضياء. (8-58) من يخشى الموت إنما يخشى فقدان الحس أو يخشى حسا من صنف آخر. فإذا كنت سوف تفقد الحس فلن تشعر أيضا بأي أذى. أما إذا كنت ستكتسب شعورا مختلفا، فسوف تكون كائنا آخر ولن تتوقف الحياة. (8-59) خلق البشر من أجل بعضهم البعض. إذن علمهم أو تحملهم.
27 (8-60) يتحرك السهم بطريقة، ويتحرك العقل بطريقة أخرى. ومع ذلك فإن العقل، حتى عندما يمارس الحيطة أو يدور حول بحث معين، إنما يتحرك بنفس الاستقامة، ويمضي قدما إلى هدفه. (8-61) انفذ إلى العقل الموجه لكل إنسان، ودع كل إنسان ينفذ إلى عقلك الموجه.
28
الكتاب التاسع
(9-1) الظلم إثم. فإذا كانت طبيعة العالم قد فطرت الكائنات العاقلة من أجل بعضهم البعض وعلى أن يعين بعضهم بعضا وفق ما يستحق، لا أن يؤذيه بأي شكل من الأشكال؛ فإن من يتعدى على إرادتها فهو مذنب على نحو واضح تجاه أكبر الآلهة؛ ذلك أن طبيعة العالم هي طبيعة الواقع النهائي الذي ينتمي إليه كل وجود راهن.
الكذب أيضا إثم تجاه نفس الإلهة. إن اسمها «الحق»
Aletheia = Veritas ، وهي السبب الأصلي لكل ما هو حق. إن من يكذب عن عمد فهو آثم بقدر ما يسببه كذبه من ظلم، ومن يكذب بلا عمد آثم بقدر ما هو خارج عن التناغم مع طبيعة «الكل» وبقدر ما يربك النظام بمناوأته لطبيعة العالم. وهو مناوئ حين يسمح لنفسه أن تمضي ضد الحقيقة؛ فلقد وهبته الطبيعة قدرة أهملها فلم يعد قادرا على التمييز بين الحق والباطل.
كما أن السعي إلى اللذة على أنها خير وتجنب الألم على أنه شر يمثل إثما ؛ فمن يفعل ذلك قمين أن يتبرم بطبيعة العالم للتوزيع غير العادل بين الأشرار والأخيار ما دام شرار الناس كثيرا ما يتقلبون في اللذات والممتلكات التي توفر اللذة بينما نصيب الأخيار في الأغلب هو الألم والأحوال التي تورث الألم.
كذلك من شأن من يخشى الألم أن يخشى أحيانا بعض الأشياء التي ستقع في العالم، وهذا إثم مباشر. ومن شأن من يقتفي اللذة ألا يقلع عن الظلم - وهو إثم مبين. أما الذين يريدون أن يتبعوا الطبيعة ويشاركوا في عقل الطبيعة فيجب أن يكونوا هم أنفسهم غير مكترثين بتلك الأزواج من الأضداد التي لا تكترث لها طبيعة العالم؛ فما كانت الطبيعة لتخلق هذه الأضداد لو لم تكن غير مكترثة بأي منها؛ لذا فإن كل من يكترث بالألم واللذة، الحياة والموت، الشهرة والخمول - تلك الأشياء التي تعاملها الطبيعة بعدم اكتراث - إنما يرتكب إثما على نحو قاطع.
وحين أقول «طبيعة العالم تعامل هذه الأشياء بعدم اكتراث» فإنما أعني أن هذه الأشياء تحدث بدون تحيز بواسطة السبب والنتيجة لكل ما يأتي إلى الوجود وتدين بوجودها لتحقق دفعة أصلية من «العناية». تحت هذه الدفعة شرعت العناية من مقدمة أولى لتؤسس النظام الحالي للعالم. لقد ارتأت مبادئ معينة لما سيكون وحددت قوى مولدة لكي تخلق المواد والتحولات والتجدد المتعاقب. (9-2) أسعد الحظ كله أن تغادر الناس ولم تعرف قط طعم الكذب ولا الرياء ولا الأبهة ولا الغرور. ويلي هذه الرحلة في السعد أن تغثى، على الأقل، من هذه الأشياء قبل أن تلفظ آخر أنفاسك. أم تراك تفضل أن تبقى مقيما مع الخبث، ولم تقنعك الخبرة أن تنأى عن هذا الوباء؟ ذلك أن فساد العقل وباء أشد وأنكى من ذلك التلوث الذي يصيب الجو المحيط الذي نتنفسه؛ فهذا ينال الكائنات الحيوانية ويصيبها في طبيعتها الحيوانية. أما ذلك فينال الكائنات الإنسانية ويصيبها في إنسانيتها. (9-3) لا تحتقر الموت، بل رحب به لأنه جزء أيضا مما تريده الطبيعة؛ فمثلما نشب ونشيخ، ومثلما نكبر وننضج، وتنمو أسناننا ولحانا وشعرنا الرمادي، ومثلما نتزوج وننجب، كذلك نموت ونتحلل؛ فمن ألف التفكير والتعقل لا يجزع من الموت ولا يبتئس له ولا ينفر منه، بل ينتظره كما ينتظر فعلا من أفعال الطبيعة.
1
وكما أنك الآن قد تكون منتظرا طفلا حملته امرأتك أن يولد من رحمها، كذلك ينبغي لك أن تتشوف إلى اللحظة التي تنسل فيها روحك من هذا الغلاف.
2
أما إذا كنت تريد معيارا آخر، سوقيا على أنه يمس القلب، فسوف يهون عندك لقاء الموت إذا نظرت إلى الأمور التي سوف يعفيك منها والشخصيات التي لن تعود تنغص روحك. صحيح أنك ينبغي ألا تسيء إليهم بل ترعاهم وتتحملهم بلطف ورحمة؛ ولكن تذكر أن رحيلك لن يكون رحيلا عن أشباهك في المبدأ (فهذا هو الشيء الوحيد، إن وجد، الذي يمكن أن يشدنا إلى الحياة؛ أن يتاح لنا أن نعيش مع أشباهنا في المبدأ)، ولكن ها أنت ترى كم هو مضجر أن تعيش في غير تناغم مع رفاقك، بحيث يحق لك أن تقول: «أقبل وعجل أيها الموت، وإلا نسيت نفسي أنا أيضا.» (9-4) المذنب يذنب في حق نفسه، والظالم يظلم نفسه لأنه يجعلها آثمة.
3 (9-5) قد يرتكب الظلم بالإحجام عن الفعل، مثلما يرتكب بإتيانه. (9-6) بحسبك ثلاث؛ أن يكون حكمك الراهن قائما على الفهم، وفعلك على الخير الاجتماعي، وميلك على الرضا بكل ما يحدث. (9-7) امح الخيال، اكبح الرغبة، أخمد الشهوة؛ حتى يظل عقلك الموجه سيد نفسه. (9-8) تشترك المخلوقات غير العاقلة في حياة واحدة، وتشترك المخلوقات العاقلة في روح عاقلة واحدة، تماما مثلما أن هناك أرضا واحدة لكل الأشياء الأرضية، ونورا واحدا نرى به، وهواء واحدا نتنفسه جميعا نحن ذوي البصر والحياة. (9-9) كل شيء منجذب إلى صنوه. كل شيء ترابي يميل إلى التراب. وكل مائي يتفق معا، وكذلك الهواء؛ لذا يستلزم فصلها عوائق فيزيائية. ويرتفع اللهب إلى أعلى بسبب عنصر النار، غير أنه ميال بشدة إلى أن يشعل أي نار في الأسفل بحيث إن أي مادة بلغت مبلغا من الجفاف تشتعل بسهولة، بسبب نقص المكونات التي تعوق الاحتراق.
وعليه فإن كل الأشياء التي تجمعها طبيعة عاقلة مشتركة تميل بنفس الدرجة، بل بدرجة أكبر، إلى الانجذاب بعضها إلى بعض. وبقدر ارتفاع منزلتها على بقية الموجودات فإنها أكثر استعدادا للائتلاف والامتزاج بجنسها.
فبداية من المخلوقات غير العاقلة بوسعنا أن نرى خلايا النحل وقطعان الماشية، وطيورا ترعى صغارها، وبمعنى ما؛ ضروبا من الحب؛ فثمة أرواح حيوانية تعمل عملها. وبارتفاع المرتبة تزداد الرابطة الجمعية قوة لا نجدها في النباتات أو الأحجار أو الأشجار. حتى إذا بلغنا الكائنات العاقلة وجدنا المجتمعات السياسية، والصداقات، والعائلات، والاجتماعات. وفي الحروب نجد المعاهدات والهدنات. وبمزيد من الارتقاء في المنزلة ثمة نوع من الاتحاد حتى على بعد، كما هو الحال بين النجوم. إذن يمكن للمراتب العليا من الوجود أن تضفي شعورا بالزمالة حتى إذا كان الأعضاء منفصلين بعضهم عن بعض.
انظر إذن إلى ما يحدث الآن. وحدها المخلوقات العاقلة قد نسيت ذلك الميل المتبادل إلى الاتحاد، وحدها من افتعل الفرقة والتباعد. غير أنهم مهما جهدوا لتجنب الوحدة فإنهم مأخوذون بها؛ فتلك هي قوة الطبيعة.
4
دقق النظر ولسوف ترى ما أعنيه. إنه لأيسر لك أن ترى التراب يشيح عن التراب من أن ترى الإنسان منبتا عن الإنسان. (9-10) الإنسان، والله، والعالم؛ كل يثمر أو يؤتي أكلا في أوانها، ولا يهم إذا كان الاستخدام الشائع يقصر معنى الإثمار على الكروم وأشباهه؛ فالعقل أيضا له ثمره، العمومي والخاص؛ ثمة أشياء أخرى تنمو منه وتشارك في طبيعته. (9-11) إذا استطعت فبين لهم الطريق الأقوم، وإذا لم تستطع فتذكر أنه لذلك السبب قد أوتيت ملكة السماحة.
5
والآلهة أيضا متسامحون مع هؤلاء الناس، وربما شملوهم بإحسانهم فأعانوهم على تحقيق بعض أهدافهم؛ الصحة، الثروة، المجد. وبوسعك أيضا أن تفعل ذلك. وإلا فقل لي ماذا يعيقك؟ (9-12) العمل؛ لا تمارس العمل كبائس معذب، أو ملتمسا أي شفقة أو إعجاب. ليكن هدفك الوحيد هو أن تدفع نفسك أو توقفها حسبما يقتضي الفعل الاجتماعي. (9-13) اليوم هربت من كل المنغصات ، أو بالأحرى نحيتها جانبا، لم تكن هذه شيئا خارجيا، بل كانت بداخلي ... إنها أحكامي ليس إلا.
6 (9-14) جميع الأشياء كما هي؛ مألوفة في الخبرة، عابرة في الزمن، دنيئة في المادة. كل شيء الآن هو كما كان في أيام من دفناهم.
7 (9-15) الأشياء واقفة خارجنا، قائمة بذاتها، لا تعرف شيئا عن نفسها ولا تدلي بشيء. ما الذي يدلي إذن؟ عقلنا الموجه. (9-16) الخير أو الشر بالنسبة للكائن الاجتماعي العاقل لا يكمن في الانفعال بل في الفعل، مثلما أن فضيلته أو رذيلته ليست فيما يحسه بل فيما يفعله. (9-17) حجر ملقى في الهواء؛ ليس شرا له أن يهوي إلى أسفل، ولا هو خير أن يصعد إلى أعلى. (9-18) انفذ إلى عقولهم الموجهة ولسوف ترى أي صنف من النقاد تخشى وأي صنف من النقاد هم لأنفسهم.
8 (9-19) جميع الأشياء في عملية تغير. أنت نفسك في تبدل مستمر وتفسخ تدريجي. كذلك هو العالم بأسره. (9-20) عليك أن تترك خطأ غيرك حيث ارتكب.
9 (9-21) انتهاء عمل، توقف نشاط أو حكم ... هذا نوع من الموت، ولكن لا ضير فيه. تحول الآن إلى أطوار حياتك؛ الطفولة مثلا، المراهقة، الشباب، الشيخوخة. هنا أيضا كل تغير هو موت (المرحلة): هل ثمة من شيء مخيف؟ وتحول الآن إلى حياتك مع جدك، ثم مع أمك، ثم مع أبيك. وحيثما وجدت أمثلة أخرى عديدة للتحلل أو التغير أو الانتهاء فاسأل نفسك: «هل كان ثمة أي شيء يدعو إلى الخوف؟» بالمثل؛ فلا شيء مخيف في انتهاء، وتوقف، وتغير حياتك بأسرها.
10 (9-22) هلم إلى عقلك الموجه، وإلى عقل «الكل»، وإلى عقل هذا الشخص بعينه؛ إلى عقلك لتقومه، وإلى عقل الكل لتتذكر الأصل الذي أنت جزء منه، وإلى عقل هذا الشخص عساك تعرف هل تصرف عن جهل أو عن علم، وعساك تتبين أيضا أن عقله قريب لعقلك. (9-23) مثلما أنك أنت نفسك جزء مكمل بمنظومة اجتماعية، كذلك كل فعل من أفعالك يجب أن يكمل حياة مبدأ اجتماعي. فإذا لم يكن لأي فعل من أفعالك صلة، مباشرة أو غير مباشرة، بغاية اجتماعية، فإنه يمزق حياتك إربا إربا ويحطم وحدتها. إنه نوع من التمرد، كشأن من يحب أن ينشق عن الجماعة ويشذ عن التناغم العام .
11 (9-24) تشاغب أطفال ولعبهم،
12 «أرواح ضئيلة تحمل جثثا.»
13
هكذا شأن كل شيء؛ إن العالم السفلي في «الأوديسية» ليبدو للعين أكثر واقعية!
14 (9-25) إذا شئت أن تتأمل شيئا ما فاتجه مباشرة إلى صورته وقيمها بمعزل عن العنصر المادي، ثم حدد الزمن؛ أقصى زمن قدرت الطبيعة لشيء على هذه الصورة أن يدوم.
15 (9-26) لقد احتملت من الكوارث ما لا يحصى عددا؛ لأنك لم تدع عقلك الموجه يفعل ما خلق لكي يفعله، ولكن بحسبك ذاك. (9-27) إذا لامك شخص آخر أو كرهك، أو تحدث الناس عنك بما يسوء، فاقترب من نفوسهم المسكينة وانفذ إليها لترى أي صنف من البشر هم. ولسوف تكتشف أنه ليس ثم ما يدعو إلى الابتئاس لرأيهم فيك، ولكن عليك أيضا أن ترفق بهم؛ فهم رفاقك بالطبيعة. والآلهة أيضا تعينهم بشتى الطرق، بالأحلام، بالرؤى، للحصول على ما يروقهم.
16 (9-28) يكرر العالم نفس الحركات الدورية، أعلى وأسفل، من عصر إلى عصر؛ فإما أن عقل العالم يتحرك خصيصا لكل حالة على حدة، وفي هذه الحالة عليك أن ترضى بالنتيجة. وإما أنه تحرك حركة أصلية واحدة يتسلسل عنها كل شيء كنتيجة، وماذا يضيرك في ذلك؟ وباختصار؛ إذا كان ثمة إله فبها ونعمت، وإذا كانت المصادقة هي التي تسير العالم لغير غاية، فإن عليك أن تخلق غايتك لنفسك.
توشك الأرض أن تطمرنا جميعا، ثم ما تلبث الأرض أيضا أن تتغير، ثم تتوالى التغيرات إلى غير نهاية. فإذا ما تأمل المرء التبدلات والتحولات التي يتلو بعضها بعضا كالأمواج، وحين يتأمل سرعة تدفقها، فلسوف تهون في عينه كل الأشياء الفانية الهالكة. (9-29) السبب الكوني أشبه بسيل جارف يكتسح كل شيء في طريقه. إذن، ماذا يعني ذلك عندك أيها الإنسان؟ اعمل ما تقتضيه الطبيعة في هذه اللحظة. شمر للأمر ما دام في قدرتك ولا تنظر حولك لترى هل كان أحد يلحظك. لا تؤمل في جمهورية أفلاطون الطوباوية، بل اقنع بأصغر خطوة إلى الأمام، ولا تستهن بهذا الإنجاز. ما أتفه أولئك البؤساء الذين ينخرطون في الأمور السياسية ويظنون أن أعمالهم لها صفة فلسفية! إنهم جميعا يهرفون. ومن ذا يستطيع أن يغير آراءهم؟ وبدون تغير الرأي ماذا هناك غير العبودية؛ أناس يئنون وهم يتظاهرون بالطاعة؟
17
امض إذن، وحدثني الآن عن الإسكندر وفيليب
18
وديميتريوس الفاليري؛ فقد كنت خليقا أن أتبعهم لو أنهم رأوا ما تريده طبيعة العالم وتتلمذوا عليها. أما إذا كانوا ببساطة يمثلون أدوار أبطال الدراما، فأنا بحل من أن أقلدهم. بسيطة هي ومتواضعة مهمة الفلسفة، فلا تمل بي إلى الخيلاء والغرور. (9-30) خذ نظرة من فوق؛ انظر إلى ألوف القطعان والأسراب، وألوف الشعائر والاحتفالات الإنسانية، وما لا يحصى من ضروب الترحال في العاصفة والهدأة، وألوان الاختلاف بين من يولدون ومن يعيشون معا ومن يموتون. واذكر أيضا الحيوات التي عاشها أناس قبلك بزمن طويل، وتلك التي ستعاش من بعدك، وتلك التي تعاش الآن بين الأمم البربرية، وكم من الناس لم يسمع حتى باسمك، وكم منهم سوف ينسى اسمك في القريب العاجل، وكم من الناس قد يمدحك الآن ثم لا يلبث أن يلومك، وأن لا قيمة البتة لأي ذكرى (بعد الوفاة) أو شهرة أو أي شيء آخر على الإطلاق.
19 (9-31) لا تعكر صفوك بأي شيء يأتي من الأسباب الخارجية، وتقبله بهدوء. أما الذي تأتيه أنت بسبب من إرادتك الداخلية فليكن كله عدلا وقصدا. وبعبارة أخرى، ليكن سعيك وفعلك مفضيا إلى المسلك الاجتماعي الذي هو تعبير عن طبيعتك الخاصة. (9-32) بوسعك أن تنحي الكثير من المنغصات غير الضرورية التي تكمن بأكملها في حكمك أنت. عندئذ ستوفر لنفسك مكانا رحبا بأن تفهم الكون كله وتستوعبه في عقلك، وبأن تتفكر في أبدية الزمان، وتتأمل في التغير السريع الذي يعتري كل شيء في كل جانب؛ ما أضيق البون بين الميلاد والفناء، وما أوسع الفجوة الزمنية التي سبقت مولدك والفجوة اللانهائية المماثلة التي تعقب فناءك. (9-33) كل ما تراه سوف يزول سريعا، وأولئك الذين يشهدون زواله سوف يزولون هم أنفسهم. مت في أرذل العمر أو مت قبل أوان موتك ... كلاهما سيان. (9-34) ما الذي يوجه عقول هؤلاء الناس؟ ماذا يشغل بالهم؟ ماذا يحكم خياراتهم وتفضيلاتهم؟ درب نفسك على أن تنظر إلى نفوسهم عارية مجردة. فإذا كانوا يظنون أنهم يضرون بملامهم أو ينفعون بمديحهم، فهم جد واهمين. (9-35) الفقدان ليس أكثر من تغير. طبيعة العالم تفرح بالتغير، وكل ما يجري من الطبيعة إنما يجري من أجل الخير.
20
مثل هذا حدث منذ الأزل، ومثله سوف يحدث إلى الأبد. لماذا تقول إذن إن كل شيء كان وسيظل دائما شرا، وما كان لكل تلك الآلهة قدرة على إصلاحه، وإن العالم مقدر عليه أن يكون في شقاء أبدي؟!
21 (9-36) تعفن المادة الأصلية لكل شيء؛ الماء، التراب، العظام، القذر. مرة أخرى؛ الرخام مجرد راسب في الأرض، الذهب والفضة مجرد رواسب، رداؤك شعر حيوان، أرجوانك دم محارة، وهلم جرا.
22
والروح الحية هي أيضا من نفس الصنف، تتغير من هذا إلى ذاك. (9-37) كفاك من هذه الطريقة البائسة في الحياة، من هذا التذمر والتصنع. ماذا يشقيك؟ ما الجديد في هذا؟ ماذا يقض مضجعك؟ صورة الشيء؟ إذن واجهها. أم تراها المادة؟ إذن واجهها، ولا شيء هناك عدا هذين. توجه إلى الآلهة إذن، وإن تكن قد تأخرت، وكن أكثر بساطة وخيرا. سيان أن نبحث هذه الأشياء مائة عام، أو نبحثها ثلاثة أعوام. (9-38) إذا كان هذا قد أخطأ، فالضرر يقع عليه، ولكن يجوز أنه لم يخطئ. (9-39) إما أن جميع الأشياء تفيض من مصدر عاقل وتعرض كأنها في جسد واحد، فلا ينبغي للجزء أن يبتئس لما يحدث لمنفعة الكل. وإما أن الكل ذرات وأن الأمر لا يعدو أن يكون خلطا ثم تبديدا، ما الذي يشقيك إذن؟ قل لعقلك الموجه: «أأنت ميت، متحلل، هل تحولت إلى حيوان، هل تتظاهر وترائي، هل تنضوي مع القطيع وتشاركه طعامه؟»
23 (9-40) إما أن الآلهة قادرة أو غير قادرة. فإذا لم تكن قادرة فلماذا أدعوها؟ وإذا كانت قادرة فلماذا لا أدعوها لكي تهبني نعمة ألا أخاف من أي شيء مما أخاف منه، وألا أرغب في الأشياء التي أرغبها، وألا أتألم من أي شيء؛ لا أن تجعل أي شيء من هذه الأشياء يحدث أو لا يحدث؛ فمن المؤكد أنها إذا كانت تعين البشر فإن بوسعها أن تعينهم على هذه الغايات.
ولكن لعلك قائل: «لقد جعلت الآلهة هذه الأشياء في قدرتي.» حسن، أليس أليق بك إذن أن تستعمل ما في قدرتك كرجل حر من أن ترغب على نحو عبودي دنيء ما ليس في قدرتك؟ ومن قال لك إن الآلهة لا تعيننا حتى في الأشياء التي في قدرتنا؟ ابدأ الآن على كل حال وادع هذه الدعوات وسوف ترى. من الناس من يدعو: «كيف السبيل إلى أن أضاجع هذه المرأة؟» فادع أنت: «كيف السبيل إلى أن أفقد الرغبة في أن أضاجعها؟» وآخر يدعو: «كيف أنقذ طفلي الصغير؟» وأنت: «كيف أتعلم ألا أخاف من فقده؟» وهكذا. حسن، جرب أن تحول دعواتك على هذا النحو وانظر ماذا يكون. (9-41) يقول أبيقور: «أثناء مرضي لم يكن حديثي يدور حول آلام جسمي، ولم أكن أخوض مع عوادي في هذا المزاج، بل أمضي في شرح المبادئ الرئيسية للفلسفة الطبيعية مع إشارة خاصة إلى هذه النقطة عينها؛ كيف يشارك العقل في مثل هذه الاضطرابات الجسدية بينما يظل محتفظا بهدوئه وساعيا إلى خيره.» ويستطرد أبيقور قائلا: «ولا كنت أترك لأطبائي فرصة لكي تعلوهم سيماء الوجاهة والجلال لأي إنجاز عظيم، غير أن حياتي مضت سليمة ومعافاة.» هذا مثال لك إذن في المرض، إذا كنت مريضا، وفي أي ظرف آخر. تتفق جميع المدارس على أنك ينبغي ألا تهجر الفلسفة تحت أي ظرف من الظروف، وألا تشارك الجهال والعوام لغوهم الفارغ، بل انصرف إلى عملك الذي أنت فيه، وإلى السبل التي تتخذها في إنجازه.
24 (9-42) كلما أساء إليك شخص وقح فإن عليك أن تبادر إلى سؤال نفسك: «إذن أكان من الممكن ألا يكون في العالم وقحون؟» غير ممكن. فلا تطلب غير الممكن؛ فهذا الشخص مجرد واحد من الوقحين الذين لا بد من وجودهم في العالم. والأمر نفسه ينسحب على الأوغاد، والخونة، وكل صنف من الآثمين. وإدراك أن هذه الطائفة من الناس لا بد من وجودها حري أن يجعلك أكثر رفقا بكل فرد منهم.
ومن المفيد عمليا أيضا أن تعي هذا كلما صادفته؛ وهو تلك الفضيلة التي وهبتنا إياها الطبيعة لكي نقابل بها كل فعل خبيث. وهبتنا الرفق ليكون ترياقا للقسوة، وخصالا أخرى نواجه بها إساءات أخرى. وبصفة عامة، بوسعك دائما أن تعيد تعليم من ضل طريقه، وكل من يفعل الشر فقد أخطأ هدفه الحقيقي وضل طريقه.
وأي أذى، بعد، قد لحق بك؟ فلسوف تجد أن لا أحد ممن أثار غضبك قد فعل أي شيء يمكن أن ينال عقلك بأي سوء؛ إنما العقل، والعقل وحده، هو محل الأذى أو الضرر الذي يمكن أن ينالك؛ فليس للأذى والضرر أي وجود آخر.
أين هو الأذى، بعد، وما هو الغريب في أن يسلك الجاهل مسلك الجهال؟ تأمل ذلك وانظر: ألا ترى أنك أحق باللوم لأنك لم تتوقع من هذا الرجل أن يفعل هذا الخطأ؟ فلقد كان لديك من العقل ما تبصر به أن هذا الخطأ حقيق أن يأتي من هذا الرجل، ولكنك نسيت وجعلت تعجب من أنه أخطأ.
وفوق كل ذلك، إذا اتهمت أحدا بالخيانة والجحود فالتفت إلى نفسك؛ فمن الواضح أن الخطأ خطؤك إذا كنت قد وضعت الثقة في رجل بهذا الخلق، أو إذا كنت قد أسبغت معروفا دون أن تجعل هذا المعروف غاية في ذاته، وتجعل فعلك هو ثواب ذاته الذي لا يفتقر إلى أي ثواب آخر؛ فأي شيء آخر تريده أيها الإنسان من فعل المعروف؟ أليس بكاف أنك قد فعلت شيئا متناغما مع طبيعتك ذاتها؛ أتريد الآن أن تضع ثمنا له؟! وكأن العين تطلب مقابلا على الرؤية، أو القدم على المشي! فمثلما خلق هذان لغرض معين ويحققان طبيعتهما القويمة بأن يعملا وفقا لفطرتهما الخاصة، كذلك الإنسان خلق لكي يفعل الخير، وحيثما فعل خيرا أو أسهم في الخير العام فقد فعل ما خلق من أجله ونال ما هو له.
25
الكتاب العاشر
(10-1) أيتها النفس، أما آن لك أن تكوني صالحة، بسيطة، واحدة، متجردة، أوضح وأجلى من الجسد الذي يغلفك؟ أما آن لك أن تذوقي حلاوة النزوع إلى الحب والعطف؟ أما آن لك أن تصبحي كاملة خلية من الحاجة لا تفتقدين أي شيء ولا ترغبين في أي شيء، حي أو غير حي، تلتمسين فيه اللذة، ولا ترغبين في مهلة لمزيد من المتعة، أو لين المكان والمناخ، أو الصحبة الهانئة؟ أما آن لك أن تقنعي بحالك الراهن وتجدي متعة فيما هو الآن بين يديك؟ ألن تقتنعي بأن لديك كل شيء، وأن كل ما يأتي فهو من الآلهة، وكله خير لك وسيكون خيرا لك أي شيء يرضيهم وأي شيء سوف يمنحونه لحفظ الوجود الحي الكامل، الخير والعادل والجميل، الذي يولد ويحفظ معا كل الأشياء، ويحتوي ويضم كل الأشياء بينما تندثر لتنتج أشياء أخرى مماثلة؟ أما آن لك أن تصبحي جديرة بالمقام مع الآلهة والبشر من دون أي انتقاد لهم أو إدانة منهم؟ (10-2) لاحظ ما تتطلبه طبيعتك المادية ككائن خاضع لشرط الحياة المحضة، ثم افعله واقبله ما دامت طبيعتك ككائن حي لن تضار به في شيء، ثم لاحظ ما تتطلبه طبيعتك ككائن حي، واقبل كل ذلك لنفسك ما دامت طبيعتك ككائن عاقل لن تضار به في شيء. على أن «الكائن العاقل» يتضمن مباشرة «الكائن الاجتماعي». اتبع هذه القواعد ولا تكرث نفسك بأي شيء آخر. (10-3) أيما شيء يحدث فهو إما يحدث بطريقة من شأن طبيعتك أن تتحملها، وإما بطريقة لم تفطر بالطبيعة على تحملها. فإذا كان الحدث من الصنف الأول فلا تبتئس منه، بل تحمله كما أهلتك الطبيعة لذلك. أما إذا كان من الصنف الثاني فلا تبتئس أيضا؛ فلسوف يأتي عليك قبل أن يترك لك مجالا للابتئاس. تذكر رغم ذلك أنك خلقت بالطبيعة لكي تتحمل كل ما تراه ملكة الرأي عندك محتملا إذا ما وعيته كشيء من مصلحتك، أو من واجبك، أن تأتيه.
1 (10-4) إذا كان على خطأ فعلمه برفق وبين له خطأه. فإذا كنت لا تستطيع ذلك فلتوجه اللوم لنفسك، أو لا تلم حتى نفسك. (10-5) أيما شيء يحدث لك فقد كان يعد لك منذ الأزل، وكان مقتضى الأسباب يغزل لك منذ الأزل خيط وجودك وخيط هذا الحدث المحدد. (10-6) سواء أكان الأمر ذرات عشوائية أم نظاما طبيعيا، فينبغي أن تكون المقدمة الأولى أنني جزء من «الكل» المحكوم بالطبيعة، والثانية أن لي صلة وثيقة بالأجزاء الأخرى التي هي من نوعي. من هاتين المقدمتين أخلص إلى أنني بصفتي جزءا لن أستاء لأي شيء يقيضه لي «الكل»؛ فلا شيء مفيدا للكل يمكن أن يضر بالجزء، ولا «الكل» يتضمن شيئا لا يفيده. لجميع الطبائع العضوية هذه الصفة المشتركة، غير أن طبيعة العالم تتسم بصفة إضافية هي أنه لا يمكن لأي سبب خارجي أن يقهرها على أن تخلق أي شيء ضار بها.
إذن بتذكر أنني جزء من «كل» سأكون راضيا بكل ما يحدث لي. وبقدر ما لي من صلة قرابة بالأجزاء الأخرى فلن أفعل أي شيء غير اجتماعي، بل سأضع نصب عيني خير عشيرتي وأوجه كل سعيي للصالح العالم وأصرفه عما دون ذلك. إذا ما تم ذلك فإن الحياة سوف تسير سيرا حسنا، مثلما ترى أن حياة مواطن ما تسير سيرا حسنا عندما يواصل سعيا فيه مصلحة لرفاقه من المواطنين ويرضى بكل ما تخصصه له مدينته. (10-7) أجزاء «الكل» - كل ما يكون الطاقم الطبيعي للعالم - يتعين بالضرورة أن تهلك. و«تهلك» يجب أن تؤخذ هنا بمعنى «تتغير». والآن إذا كانت الطبيعة قد جعلت هذا «الهلاك» للأجزاء متلفا لها وضروريا أيضا فلن يتسنى البقاء للكل ما دامت أجزاؤه دائما على شفا التغير ومؤهلة خصيصا للهلاك، فهل تعمدت الطبيعة أن تتلف أجزاءها وتجعلها عرضة للأذى وصائرة إليه بالضرورة؟ أو حدثت مثل هذه النتائج دون علمها؟ الحق أن كلا الافتراضين بعيد عن التصديق.
ولكن إذا رفض أحد مفهوم الطبيعة وفسر هذه الأشياء على أنها «هكذا هي لا أكثر ولا أقل.» فليس له أن يعجب أو يستاء من القول بأن أجزاء الكل عرضة بطبيعتها للتغير كما لو كان هذا التغير شيئا مضادا للطبيعة؛ خاصة أن تحلل كل شيء هو إلى العناصر التي يتكون منها؛ فالتحلل هو إما تشتت العناصر المكونة أو تحول الصلب إلى تراب والروح إلى هواء؛ بحيث ينضوي هذان في عقل «الكل»، سواء أكان الكل يتحول دوريا إلى نار أم يجدد نفسه من خلال التحولات الأبدية.
ولا يتصورن أحد أن هذا الصلب وهذه الروح هما نفس الشيء الذي كاناه في الأصل عند الولادة؛ فكل هذا لم يجتمع إلا أمس أو أمس الأول من تدفق الغذاء المستهلك والهواء الذي شهق؛ فالذي يتغير هو التدفق المجتمع وليس الشيء الذي ولدته أمك. افترض الآن أن هذا التدفق متضمن في صميم نفسك الفردية، فما أرى أن ذلك يؤثر في الحجة.
2 (10-8) إذا ما اكتسبت النعوت: «صالح»، «متواضع»، «صادق»، «عقلاني»، «متزن»، «شهم»؛ فاحرص على ألا تتنازل عنها، وإذا خسرتها فعجل بالعودة إليها. تذكر أيضا أن لفظة «عقلاني» قد قصد منها أن تدل على الانتباه المميز لكل التفاصيل والفكر النشيط، وأن «الاتزان» هو القبول الطوعي لما قسمته لك طبيعة العالم، وأن «الشهامة» هي علو التفكير فوق مؤثرات الجسد السارة أو المؤلمة، وفوق المجد الفارغ أو الموت أو أي شيء آخر غير فارق
indifferent . فإذا بقيت مخلصا لهذه النعوت، لا عن مجرد رغبة في أن يناديك بها الآخرون، فسوف تكون إنسانا جديدا وتدخل حياة جديدة.
أما أن تظل نفس الإنسان الذي كنته حتى الآن، أن تتمزق وتتشوه في هذه الحياة التي تحياها، فهو مجرد حرص بليد على الحياة، أشبه بحال المجالدين
gladiators
الذين أكلت الوحوش نصف أبدانهم وهرستهم وسربلتهم بالدم، ولا يزالون يتوسلون للإبقاء على حياتهم إلى اليوم التالي رغم أنهم في اليوم التالي سيتعرضون في نفس الحالة إلى نفس المخالب والأنياب.
تشبث إذن بهذه النعوت. وإذا أمكنك البقاء فيها فابق كما لو أنك نقلت إلى فردوس ما؛ «جزر السعداء».
3
أما إذا أحسست أنك تسقط وتفقد اتزانك فالجأ بنفس راضية إلى ركن ما حيث تستعيد توازنك. وإلا فاجعل لك مخرجا عاجلا من الحياة، لا بانفعال بل ببساطة وحرية وتواضع، جاعلا هذا الرحيل إنجازا واحدا مشرفا في حياتك على أقل تقدير.
4
وسوف يعينك كثيرا على تذكر هذه النعوت أن تتذكر الآلهة، وتتذكر أنها لا تريد منا التملق الذليل بل تريد لكل الكائنات العاقلة أن تصبح على صورتها الخاصة؛ تريد لشجرة التين أن تؤدي عمل شجرة تين، وتريد للكلب عمل كلب، وللنحلة عمل نحلة؛ وتريد من الإنسان أن يؤدي العمل الصحيح لإنسان. (10-9) الفارس (الهزل)
farce ، والحرب، والسعار، والبلادة، والعبودية!
5
ستمسح يوما بعد يوم مبادئك المقدسة، كلما تصورتها وسلمت بها دون أن تخضعها لاختبار الفلسفة الطبيعية، ولكن واجبك أن تجمع بين النظر والعمل، فتكون لديك القدرة على التعامل مع الظروف بما تقتضيه، وأن تمارس التأمل النظري، فتحتفظ بالثقة التي تأتي من الإحاطة بكل شيء خاص، دون أن تظهرها ودون أن تخفيها.
فمتى سوف تتمتع بالبساطة؟ ومتى ستتمتع بالرصانة؟ ومتى ستتمتع بمعرفة كل شيء مفرد؛ ما هي طبيعته الجوهرية، ومكانه في العالم، والعمر الطبيعي لوجوده، وما هي مكوناته، ولمن يمكن أن ينتمي، ومن القادر على منحه وعلى منعه؟ (10-10) العنكبوت فخورة حين تصطاد ذبابة. والإنسان فخور بصيده؛ أرنب مسكين، سمكة صغيرة في شبكة، خنازير، دببة، أسرى من الصرامطة.
6
والجميع من حيث الدافع لصوص. (10-11) اتخذ طريقة منهجية لترى كيف تتحول الأشياء جميعا الواحد منها إلى الآخر. أول انتباها دائما لهذا الجانب من الطبيعة ودرب نفسك عليه؛ فلا شيء أقدر منه على السمو بالعقل. يسمو من يتدرب عليه كأنما نضا عنه جسده، فيتبين أنه، بأسرع مما يتصور أحد، لا بد تارك كل هذا وراءه وراحل من عالم البشر. ويكرس نفسه تماما للعدل في أفعاله، ويذعن لطبيعة العالم في كل شيء يحدث. ولا يفكر أدنى تفكير فيما عسى أن يقوله الآخرون عنه أو يفترضوه فيه أو يدبروه ضده، بل يكتفي بهذين الشيئين؛ أن يتحرى العدل في كل ما يفعله الآن، وأن يتقبل بسرور رزقه الآني. لقد صرف عنه كل المشاغل والأطماع، ولم يعد يرغب إلا في أن يسير على الطريق المستقيم وفقا للقانون، وفي سيره المستقيم يتبع طريق الرب. (10-12) فيم التوجس والشك إذا كان بوسعك أن تبحث وتدرك ما ينبغي فعله، وبوسعك أن ترى طريقك وتمضي فيه راضيا ولا تتلفت وراءك. إذا كنت لا تتبين الطريق فتوقف وخذ مشورة أفضل ناصحيك. فإذا حالت حوائل أخرى دون النصيحة فامض وفق قدراتك الحالية ولكن بترو واجب، ملتزما دائما بما يبدو لك عدلا؛ فالعدل هو أفضل ما تتغياه، والعدل هو الشيء الذي يحق أن يقال إننا نفتقده، وإذا أخفقنا أن يكون إخفاقنا هو في السعي إليه.
من يتبع العقل في كل شيء فإنه يجمع في نفسه بين السكينة والإقدام، وبين الحماسة والاتزان. (10-13) سائل نفسك فور يقظتك من النوم: «هل ثمة من فارق بالنسبة لك إذا ما انتقد الآخرون ما هو في الحقيقة عدل وصدق؟» كلا ... لا فارق. ولعلك لم تنس قط ماذا يكون هؤلاء الذين يصهلون في مدح الآخرين ولومهم، وما شأنهم في الحل والترحال، وماذا يفعلون وماذا يتجنبون أو يطلبون، وكيف يغشون وكيف يسرقون، لا بالأيدي والأقدام بل بأعز جزء من أنفسهم؛ الجزء الذي به، إذا شاء المرء، تتأتى الأمانة والتواضع والصدق والقانون وروح السعادة. (10-14) الطبيعة تعطي كل شيء وتسترد كل شيء مرة ثانية. يقول لها من تعلم وتواضع: «هبي ما شئت واستردي لك ما شئت.» يقولها لا بروح التحدي، بل ببساطة كأحد رعاياها المخلصين. (10-15) قصير هو ما تبقى لك من العمر، عشه كما لو كنت فوق جبل؛ هنا أو هناك لا فرق، ما دمت حيثما عشت تتخذ العالم كوطن لك، فليشهدك الناس، وليعرفوا رجلا يعيش وفقا للطبيعة. فإذا لم يطيقوه فليقتلوه؛ فلهذا أفضل من أن يعيش حياة كحياتهم. (10-16) بحسبك من كلام عما ينبغي أن يكون عليه الرجل الصالح؛ كن رجلا صالحا. (10-17) تأمل دوما الزمان كله والوجود كله، تجد كل شيء مفرد بمقياس الوجود مجرد بذرة تينة، دورة مخرز. (10-18) انظر إلى أي شيء موجود ولاحظ أنه منذ الآن في عملية فناء وتغير، يتجدد، بمعنى ما، من خلال الفساد أو التبدد، وبعبارة أخرى؛ انظر إلى أي ضرب من «الموت» يولد كل شيء. (10-19) أي صنف من الناس هم حين يأكلون ويرقدون ويضاجعون ويقضون حاجتهم ... إلخ؟ ثم أي صنف من الناس هم حين يتولون السلطة على الناس؟ متجبرين، متحجري القلب. ورغم ذلك كيف كانوا منذ قليل عبيدا لكل تلك الحاجات وكل تلك الأشياء. وأي منقلب، بعد قليل، سينقلبون. (10-20) ما تقدمه طبيعة العالم لكل شيء فهو لخيره، وإنه لخيره في لحظة تقديمه. (10-21) «الأرض تحب المطر، والسماء الجليلة تحب أن تمطر.»
7
العالم كله يحب أن يخلق المستقبل. أقول للعالم إذن: «إنني أبادلك الحب.» أليس هذا ما قيل أيضا من أن «هذا يحب أن يحدث»؟
8 (10-22) إما تعيش هنا، وقد ألفت العيش، وإما تتقاعد، وهذا قرارك، وإما تموت، فقد انتهت خدمتك. وليس من خيار آخر. ابتهج إذن ... ابتهج. (10-23) ليكن واضحا لك دائما أن العشب ليس أكثر خضرة في أي مكان آخر.
9
وأن كل شيء هنا مثل كل شيء على قمة جبل أو على شاطئ بحر أو حيثما شئت.
10
فلن تجد قدامك إلا قول أفلاطون: «السكنى بين جدران مدينة كالسكنى في شق جبل.»
11 (10-24) ماذا يكون عقلي الموجه الآن بالنسبة لي؟ ماذا أجعل منه وفيم أستعمله؟ هل نضب فيه الفهم؟ هل انبت عن حياة المجتمع؟ هل انصهر في الجسد الهزيل والتحم به فجعل يتأرجح على تياراته؟ (10-25) العبد الذي يهرب من سيده هو آبق، والقانون هو سيدنا؛ من يخالف القانون، إذن، فهو آبق. كذلك من يأسى أو يغضب أو يخاف إنما يرفض نظاما ما، في الماضي أو الحاضر أو المستقبل، فرضه مدبر الأشياء جميعا؛ وهو القانون، الذي يقسم لكل إنسان نصيبه، من يخاف إذن أو يحزن أو يغضب إنما هو آبق. (10-26) يودع الرجل بذرته في الرحم ويرحل. بعدها يتولى الأمر سبب آخر ويؤدي عمله وينتج طفلا. أية نتيجة هائلة من أية بداية! ثم يزدرد الطفل الغذاء في زوره، وهنا يتولى الأمر تعاقب سببي آخر فيخلق إحساسا وحركة، وحياة بأسرها وقوة وشتى الأشياء الأخرى الرائعة.
تأمل إذن ما يجري في مثل هذا الأمر الخفي. وانظر «القوة» وهي تفعل فعلها، تماما مثلما نرى «القوة» وهي تحمل الأشياء إلى أسفل وإلى أعلى. انظر «القوة» لا بالعين، وإن لم تكن أقل وضوحا. (10-27) تأمل دوما كيف أن ما يحدث الآن قد حدث من قبل، وسوف يحدث في المستقبل بنفس الطريقة. شاهد بعين عقلك مسرحيات كاملة، بنفس المشاهد - كل ما تعرفه من خبرتك أو من التاريخ الأقدم - كل بلاط هادريان على سبيل المثال، بلاط أنطونينوس بأكمله، بلاط فيليب، الإسكندر، كرويسوس.
12
كل أولئك كان مسرحيات كالتي تراها الآن، ولا اختلاف إلا في فرقة الممثلين. (10-28) ما أشبه الإنسان المتبرم بكل شيء والساخط على كل شيء بخنزير الأضحية يرفس ويصرخ. كهذا الخنزير أيضا ذلك الإنسان الذي يندب، صامتا، في مخدعه كل القيود التي تربطنا بها. وحده الإنسان العاقل من ألهم أن يختار الاستسلام طوعا لما يحدث. على أن الاستسلام المحض ضرورة مفروضة علينا جميعا.
13 (10-29) في كل شيء تقوم به تعود أن تسأل نفسك: «ترى هل الموت أمر يدعو إلى الخوف لأنه سيحرمني من هذا؟»
14 (10-30) كلما أخطأ شخص في حقك التفت فورا إلى نفسك وانظر كيف تخطئ أنت أيضا بنفس الطريقة؛ قد يكون ذلك بإسباغ قيمة على المال أو اللذة أو الصيت، أو ما شابه.
15
بالتفاتك إلى نفسك سيخمد غضبك في الحال، وبخاصة إذا أضفت إلى ذلك أن الإنسان مدفوع إلى ما يفعله؛ فماذا عساه أن يفعل غير هذا؟ أو، إذا كان بوسعك، فأزح عنه هذا الدافع. (10-31) عندما ترى ساتيريون أو يوتيخيس أو هيمن، فتصورهم في حلقة سقراط؛ عندما ترى يوتيخيون أو سيلفانوس فتصور إيوفراتيس
Euphiate ، وعندما ترى تروبايوفوروس تصور ألكيفرون، وعندما ترى سيفيروس تصور كريتو أو كسينوفون؛ لكل واحد إذن ضريب في الماضي. عندئذ تأمل هذا أيضا؛ أين أولئك الناس الآن؟ في لامكان، أو لا أحد يعرف أين. هكذا ستنظر دائما إلى الحياة الإنسانية كمجرد دخان ولا شيء، وبخاصة إذا تذكرت أيضا أن ما تبدل ذات يوم لن يعود إلى أبد الدهر. لماذا إذن هذا الكرب؟ لماذا لا تقنع بأن تقضي أمدك الزمني القصير بسلاسة ونظام؟
ومن أي موقف مادي أو أي فرصة للفعل تريد أن تتهرب؟ وهل كل ذلك غير تدريب لذلك العقل الذي تفحص كل شيء في الحياة بنظرة دقيقة وعلمية؟ ابق إذن حتى تتمثل كل هذا أيضا، كالمعدة القوية تتمثل كل طعام، أو كالنار الذكية تحيل كل ما يلقى فيها إلى لهب وضياء. (10-31) لا تجعل نفسك عرضة لأن يقال عنك بحق إنك غير مخلص أو غير صالح، بحيث لا ينالك بهذا إلا كاذب أفاك. إن هذا الأمر راجع إليك بالكامل، فمن ذا الذي يحول بينك وبين أن تكون صالحا أو مخلصا؟ عليك فقط أن تقرر ألا تظل على قيد الحياة ما لم تمتلك هذه الخصال؛ فالعقل أيضا لا يحبذ أن يعيش من لا يمتلكها.
16 (10-33) في أي ظرف مادي معطى؛ ما الذي بوسعك أن تفعله أو تقوله بأقصى انسجام مع العقل والرشد؟ فأيا ما كان ذلك فإن بإمكانك أن تفعله أو تقوله، ولا تنتحل عذرا بأي «عوائق في طريقك»؛ فما أراك تكف عن عويلك ما لم يذق عقلك نفس اللذة التي يجدها المنغمسون في الترف حين يستجيب لأي ظرف عارض استجابة إنسانية قويمة منسجمة مع الفطرة؛ إذ ينبغي على المرء أن يعده متعة أي فعل يمكنه أن يؤديه وفقا لطبيعته. وإن بوسعه ذلك في كل مكان.
والآن، إذا كانت العجلة لم تمنح القدرة على مواصلة حركتها حيثما أرادت، ولا الماء ولا النار ولا أي شيء محكوم بالطبيعة أو غير عاقل فما أكثر العقبات والعوائق التي تعترضها؛ فإن العقل لديه القدرة، بطبيعته وبإرادته، على أن يمضي خلال كل عقبة.
17
ضع نصب عينيك هذه الإمكانية التي تمكن العقل من أن يمضي خلال كل الأشياء، كالنار إلى أعلى، كالحجر إلى أسفل، كالعجلة تنزلق على المنحدر، ولا تبحث عن أي شيء آخر؛ فأي عوائق أخرى إما أن يقتصر تأثيرها على الجسد الذي هو شيء ميت، وإما ألا تأثير لها على الإطلاق إلا من خلال الحكم (الرأي) ومن خلال استسلام العقل نفسه.
وإلا فإن كل من يصادف عقبة سيصبح هو نفسه سيئا في الحال. والآن، في جميع الكائنات العضوية الأخرى فإن أي أذى يلحق بأي منها يجعلها أسوأ في ذاتها. أما في حالة البشر فإن الشخص في الحقيقة يصبح أفضل وأجدر بالثناء إذا استخدم الظروف التي تصادفه استخداما صحيحا. وتذكر بعامة أن لا شيء يضر مواطن الطبيعة إلا ما يضر الدولة، ولا شيء يضر الدولة إلا ما يضر القانون. ولا شيء مما نسميه المحن يضر بالقانون. إذن ما هو غير ضار بالقانون فهو لا يضر الدولة ولا المواطن.
18 (10-34) من تشرب المبادئ الصحيحة تكفه تذكرة شديدة الاختصار والشيوع لكي يتخلص من كل ألم وخوف. مثال ذلك:
أوراق
19
البعض تبعثره الريح على الأرض ...
هكذا هي أجيال البشر.
20
أطفالك أيضا مجرد «أوراق». «أوراق» أيضا تلك الأصوات التي تهتف بمدح الملك، وتلك اللعنات من مناوئيك، وهذا الملام الصامت أو السخرية المكتومة ... مجرد «أوراق» مماثلة أيضا أولئك الذين سيتلقون وينقلون مجدك المستقبلي للأزمنة التالية؛ فكل هذه الأشياء «تنتج في فصل الربيع»، كما يقول الشاعر،
21
ولكن لا تلبث الريح أن تذروها، ثم تنتج الغابة أوراقا أخرى مكانها. كل الأشياء قصيرة العمر، فما لك تلتمس وتتجنب كل شيء كما لو كانت الأشياء باقية إلى الأبد. بعد برهة ستغمض أنت أيضا عينيك، وسرعان ما سيأتي آخرون ينعون الرجل الذي يدفنك. (10-35) العين السليمة ينبغي أن ترى كل ما هو قابل للرؤية ولا تقول: «أريد الأشياء الخضراء فقط.» فهذا حال عين مريضة، والسمع السليم والشم السليم يجب أن يكون مؤهلا لإدراك كل ما يمكن أن يسمع أو يشم. والمعدة السليمة ينبغي أن تتقبل كل الطعام بنفس الطريقة التي تتقبل بها الطاحونة كل ما صنعت لطحنه. وكذلك العقل السليم ينبغي أن يكون مستعدا لكل الاحتمالات. العقل الذي يقول: «أطفال يجب أن يعيشوا.» أو «ينبغي أن يمتدح الناس كل ما أفعل.» هو عين تريد الألوان الخضراء أو أسنان تطلب الطري من الطعام. (10-36) ليس ثمة من بلغ من السعد بحيث لا يقف حول فراش موته من هو سعيد بما سيحيق به. هبه كان صالحا وحكيما، ألن يكون هناك واحد لحظة وفاته يقول لنفسه: «أخيرا يمكننا أن نتنفس الصعداء، ألا بعدا لهذا «الناظر»، صحيح أنه لم يكن فظا تجاه أي منا، ولكني كان بوسعي أن أحس بنقده الصامت لنا جميعا.» هذا ما يقال عن رجل صالح. أما في حالتنا نحن فكم من أشياء أخرى تجعل الكثيرين يرغبون في التخلص منا. تذكر ذلك إذن عندما يحين موتك ولسوف تكون في رحيلك أكثر ارتياحا إذا قلت لنفسك: «إنني راحل عن مثل هذه الحياة التي يتمنى فيها حتى رفاقي الذين جاهدت كثيرا من أجلهم وصليت لهم ورعيتهم؛ يتمنون أن أرحل عنها عسى أن يجدوا في موتي بعض الفرج والفائدة؛ ففيم التشبث بهذه الأرض والرغبة بهذه الحياة؟»
على ألا يدفعك هذا الشعور بأية جفوة تجاههم وأنت راحل من هذه الحياة، بل كن وفيا لمبدئك وخلقك؛ ودودا، رفيقا، محسنا، ومن جهة أخرى لا يكن تركك إياهم كأنه انخلاع من الحياة، بل انسلال يسير للروح من غلاف الجسد كما يخبره من يموتون في هدوء؛ فقد ربطتك الطبيعة بهم وجعلتهم رفاقك ويحلو لها الآن أن تحل هذا الرباط. فليكن انصرافك كانصراف المرء عن أهل وعشير، ولكن من غير مقاومة أو إرغام؛ فهذه أيضا واحدة من طرق اتباع الطبيعة. (10-36) تعود، جهد ما تستطيع، أن تسأل نفسك كلما فعل أي شخص فعلا: «ماذا يرمي هذا الشخص بهذا الفعل؟ ما هي نقطته المرجعية هنا؟» ولكن ابدأ بنفسك ووجه السؤال إلى نفسك قبل أي شخص آخر. (10-37) تذكر أن ما يحركنا ويشد خيوطنا هو ذلك الجزء الخفي في داخلنا؛ إنه القوة على الفعل، إنه مبدأ الحياة، إنه، إذا جاز القول، الإنسان نفسه؛ لذا تلتفت وأنت تتأمله إلى الوعاء الذي يحتويه والأعضاء المشيدة حوله؛ فهذه أداة، كالفأس، لا تختلف إلا في أنها متصلة بالجسد. ولا جدوى في هذه الأعضاء من دون القوة الفاعلة التي تحركها وتوقفها أكثر من جدوى المكوك من دون النساج، أو القلم من دون الكاتب، أو السوط من دون الحوذي.
22
الكتاب الحادي عشر
(11-1) هذه خصائص الروح العاقلة: إنها ترى ذاتها، وتشكل ذاتها، وتجعل نفسها أي شيء تريد، وتجمع لنفسها الثمار التي تحملها (بينما لغيرها تحمل النباتات ثمارها، والحيوانات نتاجها ). وهي تحقق غايتها حيثما وضع حد الحياة. فإذا كان من شأن الانقطاع في باليه أو مسرحية أن يجهض العمل كله، فإن الروح العاقلة، في أي مشهد حيثما قوطعت، تكون قد أكملت عملها بتمامه؛ بحيث يحق لها أن تقول «هذا ما عندي.»
1
والروح العاقلة، فضلا عن ذلك، تجتاز العالم كله والخلاء المحيط به، وتستكشف شكله، وتمد نفسها في لانهاية الزمان،
2
وتحيط بالتجدد الدوري ل «الكل» وتفهمه. وتفهم أن من سيأتي بعدنا لن يشاهد شيئا جديدا، مثلما أن من سبقنا لم يشهد أكثر مما نشهده. هكذا اطراد الأشياء؛ فمن بلغ الأربعين ولديه أدنى درجة من الفهم فإنه بمعنى ما قد شهد كل ما كان وكل ما سيكون.
3
من خصائص الروح العاقلة أيضا حب الجار، والصدق، والتواضع، وأن ترفع نفسها فوق كل شيء، وهذه الأخيرة من خصائص القانون أيضا. لا فرق إذن بين مبدأ الفلسفة الحقيقي ومبدأ العدالة. (11-2) سترخص عندك قيمة الأغنية أو الرقصة المسلية، أو مباراة المصارعة، إذا ما فككت الخط اللحني للأغنية إلى نغمات مفردة وسألت نفسك في كل واحدة: «هل هذا شيء يتملكني؟» ولسوف تتراجع عن الاعتراف بذلك. كذلك الأمر إذا أخذت الرقصة بتحليل مماثل لكل حركة وكل رقصة، وكذلك الأمر في المصارعة. تذكر إذن، باستثناء الفضيلة والأفعال الفاضلة، أن تتجه مباشرة إلى الأجزاء المكونة لأي شيء، وفي تشريحك له ستتخلص من سحره. وعليك أن تطبق المنهج نفسه على الحياة كلها.
4 (11-3) ما أنبل النفس التي تكون مستعدة، إذا اقتضى الأمر، أن تفارق البدن لساعتها لكي تفنى أو تتناثر أو تبقى بعد البدن.
5
ولكن ليكن ذلك الاستعداد نابعا من رأي المرء ذاته واقتناعه الخاص، لا من مجرد الرغبة في المعارضة ومخالفة المألوف، كما هو شأن المسيحيين.
6
ليكن استعدادا متعقلا جادا صادقا طبيعيا خاليا من التصنع والمسرحة.
7 (11-4) هل صنعت شيئا ما من أجل الصالح العام؟ إذن فقد تلقيت أجري. لتكن هذه دائما قناعتك ولا تكف أبدا عن صنع الخير. (11-5) ما هي حرفتك؟ أن أكون إنسانا صالحا، ولكن هذا لا يتأتى إلا خلال المفاهيم الفلسفية؛ المفاهيم الخاصة بطبيعة العالم، والمفاهيم الخاصة بالطبيعة الحقة للإنسان. (11-6) في البداية عرضت التراجيديات على المسرح لكي تذكر الناس بالأمور التي يمكن أن تحدث لهم، وبأن هذه الأحداث تحتمها الطبيعة، وأن ما يؤثر فيك في المسرح ينبغي ألا يكرثك على المسرح الأكبر للحياة. بوسعك أن ترى كيف يتعين على الأشياء أن تتبدل وأنه حتى من يصيحون،
8 «أي كيثايرون!» ينبغي عليهم أن يتحملوها.
ثمة أيضا بعض الأقوال المفيدة عند التراجيديين، وبخاصة: «إذا لم تعد الآلهة تكترث بي وبطفلي؛ فهذا أيضا له ما يبرره.»
9
ثم: «الأشياء المجردة، الوقائع العجماء، ينبغي ألا تثير غضبك.»
10
ثم: «السنابل الناضجة تحصد، وكذلك حياة الكائنات.»
11
وبعد التراجيديا أدخلت الكوميديا القديمة.
12
وكان ثمة قيمة تعليمية في صراحتها غير المحددة، وهذا الكلام المكشوف كان بنفسه تحذيرا مفيدا من الغرور - ديوجينيس أيضا تبنى هذه السمة لهدف مماثل.
13
وبعد هذا انظر في طبيعة الكوميديا الوسيطة، والغرض من التبني اللاحق للكوميديا الجديدة، التي انحدرت بالتدريج إلى مجرد فن التقليد. صحيح أن هؤلاء الكتاب أيضا قالوا بعض الأشياء الجيدة، ولكن انظر إلى أية غاية انتهت الحركة بأكملها لهذا الصنف من الشعر والدراما؟ (11-7) من الجلي البين أنه ليس ثمة حالة حياتية أنسب لممارسة الفلسفة من هذه الحالة التي تمر بها الآن.
14 (11-8) الفرع الذي ينبت عن الفرع المجاور ينبت بالضرورة عن الشجرة كلها. كذلك الإنسان الذي ينفصل عن إنسان آخر، يكون قد سقط من المجتمع كله. وإذا كان فرع الشجرة ينقطع بفعل غيره فإن الإنسان يفصل نفسه بنفسه عن جاره، بسبب كراهيته هو ورفضه، غير مدرك أنه بذلك إنما فصل نفسه عن المجتمع الأوسع لرفاقه المواطنين. غير أن هناك هبة منحنا إياها زيوس الذي جمع المجتمعات؛ وهي أن بوسعنا أن نلتئم مرة أخرى بجارنا ونستعيد مكاننا في الكيان الكلي. غير أنه إذا تكرر ذلك مرارا فإن مثل هذا الانفصال يجعل من الصعب على من عزل نفسه أن يندمج مرة ثانية ويستعيد وضعه السابق. جملة القول أن الفرع الذي ينمو مع الشجرة منذ البداية ويشاركها حياتها ليس كالفرع الذي انفصل ثم أعيد وصله، إنما ينطبق عليه قول البستانيين: «إنه يشارك بقية الأفرع في الجذع ولكن لا يشاركها في العقل.»
15 (11-9) كما أن أولئك الذين يقفون في طريقك ليصدوك عن المضي في الطريق المستقيم لن يستطيعوا أن يصرفوك عن الفعل القويم؛ كذلك ينبغي عليك أن توازن بين الجانبين، فتكون ثابت الرأي والفعل من جهة ورفيقا من جهة أخرى بمن يضع العثرات في طريقك أو ينقم عليك تقدمك؛ فأن تسخط عليهم هو أيضا ضعف منك، مثله مثل أن تنحرف عن مسارك أو ترتدع عنه؛ فكلاهما بمثابة إهمال الواجب؛ أن ترعوي عنه أو أن تصطدم بعشيرتك ورفاقك في الطبيعة. (11-10) «ليست هناك طبيعة أدنى من الفن.»
16
فالفنون ما هي إلا محاكاة لطبيعة الأشياء. فإذا صح ذلك فإن تلك الطبيعة التي هي الأكمل والأشمل بين كل الطبائع لا يمكن أن تكون أقل شأنا من أي ابتكار فني. فإذا كانت الفنون جميعا تنتج الأدنى من أجل الأعلى، فإن هذا أيضا هو سبيل الطبيعة الكونية. والحق أنه ها هنا يكمن مصدر العدالة الذي تستمد منه بقية الفضائل وجودها؛ إذ لن يكون للعدالة أثر إذا نحن ركزنا اهتمامنا على الأشياء اللافارقة
indifferentia
أو إذا كنا سذجا لا نثبت على مبدأ.
17 (11-11) لا تفرض الأشياء الخارجية، التي تطلبها أو تتجنبها، نفسها عليك فرضا، إنما أنت، بمعنى ما، من يخرج إليها. فليهدأ حكمك عليها وسوف تهدأ هي بدورها، ولن تراك تسعى إليها بعد ولا تتجنبها.
18 (11-12) الروح كروية الشكل تظل محتفظة بهيئتها ما لم تنتأ تجاه شيء أو تنكمش من شيء، وما لم تشب أو تخمد، بل تبقى محتفظة بنور دائم ترى به حقيقة الأشياء جميعا وترى به «الحقيقة في ذاتها». (11-13) فلان يحتقرني؟ هذا شأنه. أما أنا فسأظل حريصا على ألا يبدر مني أي لفظ أو فعل يستوجب الازدراء. سيكرهني فلان؟ هذا شأنه. أما أنا فسأظل رفيقا حسن النية تجاه الجميع ، ومستعدا لأن أظهر فلانا هذا على خطئه؛ لا بتأنيب ولا بتصنع التسامح، بل بنبالة وإخلاص حقيقيين، مثل فوكيون العظيم (ما لم يكن متهكما في قوله).
19
هكذا ينبغي أن يكون ضميرنا الباطن، الذي تراه أعين الآلهة: ينبغي أن ترانا الآلهة غير ساخطين ولا شاكين. وماذا يضيرك إذا كنت الآن تفعل ما تسيغه طبيعتك وما يفي بالغرض الحاضر لطبيعة العالم - إنسانا أسند إليه تحقيق الخير العام على هذا النحو أو ذاك؟ (11-14) يحتقر بعضهم بعضا، وينافقه رغم ذلك. يريدون العلو والترقي، وينبطحون رغم ذلك! (11-15) ما أشد كذبه وتصنعه ذلك الذي يقول: «لقد عقدت النية على أن أكون مخلصا لك.» ماذا تفعل أيها الرجل، وما الداعي لهذه المقدمات؟ الأفعال سوف تكشف كل شيء. الإخلاص ينبغي أن يكون مكتوبا على جبينك، متجليا في نغمة صوتك وبريق عينيك، تماما كما يقرأ المحبوب كل شيء في أعين محبيه. للصلاح والإخلاص شميم نافذ لا يخطئه العابر. أما تكلف الإخلاص فأشبه بالخنجر. لا شيء أكثر شينا من صداقة الذئاب. فبعدا لها. الرجل الصالح والطيب والخير تنضح نظرته بهذه الصفات كلها ولا تخطئه العين. (11-16) عش الحياة على أفضل نحو ممكن. بوسع الروح أن تفعل ذلك إذا كانت غير مكترثة بالأشياء غير الفارقة
indifferent . وستكون غير مكترثة بهذه الأشياء إذا نظرت إليها ككل وإلى كل منها على حدة، وتذكرت أن لا شيء من هذه الأشياء يصدر حكما عن نفسه أو يفرض نفسه علينا؛ فالأشياء ذاتها خاملة. وإنما نحن الذين ننتج الأحكام عنها ونطبعها في عقولنا. وإن بوسعنا ألا نطبعها على الإطلاق، وأن نمحو في الحال أي حكم تصادف انطباعه. تذكر أيضا أن انتباهنا إلى هذه الأشياء لا يمكن أن يدوم إلا لحظة قصيرة ثم تنتهي الحياة. وما الصعب في ذلك على أية حال؟ فإذا كانت هذه الأشياء متفقة مع الطبيعة فتقبلها وستجدها سهلة يسيرة، وإذا كانت ضد الطبيعة فابحث عما هو متفق مع طبيعتك واسع في طلبه حتى لو لم يأت معه بمجد؛ فمن حق كل إنسان أن يلتمس ما هو خير له. (11-17) في كل شيء يعرض للخبرة انظر في مصدره الذي منه أتى، وفي مكوناته، وإلى أي شيء يتحول ، وأي صنف من الأشياء سيكون بعد أن يتحول، وأن التغير لن يضيره شيئا. (11-18) إذا ما أساء إليك أي شخص فانظر:
أولا:
ماذا تكون، في نظري، علاقتي بهم، وحقيقة أننا خلقنا من أجل بعضنا البعض، ومن جهة أخرى أنني خلقت لأكون قائدهم، مثلما يقود الكبش سربه والثور قطيعه؟ ولكن ابدأ من المبادئ الأولى. إذا كانت الأشياء جميعا ليست مجرد ذرات عشواء، إذن فالطبيعة تحكم الكل، والأدنى، بالتالي، خلق من أجل الأعلى، والأعلى من أجل بعضهم بعضا.
ثانيا:
أي صنف من الناس هم على موائدهم، وفي فراشهم ... إلخ؟ والأهم، أي صنف من السلوك تمليه آراؤهم عليهم. وبأي اعتزاز ورضا ذاتي يفعلون ما يفعلون؟
ثالثا:
إذا كان ما يفعلونه صوابا، فبها ونعمت، وإذا كان خطأ فمن الواضح أنهم يفعلونه عن جهل ومن غير قصد؛ فمثلما تكره النفس أن تحرم من الحقيقة، كذلك تكره أن تحرم من القدرة على أن تعامل كل شخص كما يستحق؛ وبالتالي فإن الناس يسوءهم أن يوصفوا بالظلم أو الجحود أو الطمع. وباختصار؛ أن يوصفوا بأنهم يسيئون لجيرانهم.
رابعا:
أنت نفسك ترتكب أخطاء كثيرة، وإن كنت تحجم عن ارتكاب مثل أخطائهم بدافع الخوف أو اعتبار السمعة أو غير ذلك من الدوافع الدنيئة.
خامسا:
لست حتى واثقا من أنهم يخطئون؛ فكثير من الأشياء يجري فعلها كجزء من خطة أكبر. وعلى المرء بصفة عامة أن يعرف الكثير قبل أن يمكنه أن يقطع بحكم على أفعال شخص آخر.
سادسا:
عندما يأخذك الحنق أو الضجر فتذكر أن حياة المرء مجرد لحظة وسرعان ما سنكون جميعا في قبورنا.
سابعا:
ليست أفعالهم هي ما يسوءنا؛ لأن لها أساسها في عقلهم الموجه، بل حكمنا نحن على هذه الأفعال. فامح هذه الأحكام، واعقد العزم على أن تتخلى عن تقييمك لجرم مفترض، وسيذهب غضبك في الحال. وكيف تمحو الأحكام؟ بأن تذكر أن جرم غيرك لا يلحق بك عارا؛ فالعار هو الضرر الوحيد وإلا لكنت أنت أيضا مذنبا بإلحاق الكثير من الضرر وصرت لصا وغدا.
ثامنا:
أكبر الألم إنما يأتي من الغضب والحنق الناتجين، لا من الأسباب الأصلية لغضبنا وحنقنا.
تاسعا:
للرفق تأثير فعال لا يقهر، بشرط أن يكون أصيلا لا تصنع فيه ولا نفاق؛ فماذا عسى أن يفعل لك أعنف الناس إذا ما بقيت رفيقا به، وبذلت له النصح ما استطعت وبينت له خطأه في نفس الوقت الذي يحاول فيه إيذاءك؟ «لا يا بني إنما خلقنا لغايات أخرى غير هذا. لا سبيل إلى أن تصيبني بأذى؛ فما تؤذي إلا نفسك يا ولدي.» وترفق إليه في الحديث وبيدك المبدأ العام الذي يقضي بذلك؛ فالنحل لا تفعل ذلك ولا أي مخلوقات جبلتها الطبيعة على الاجتماع. ولا يشوبن نصحك أي شيء من السخرية أو التوبيخ. وليكن نصحا مترفقا غير جارح، ولا تحدثه كأنك تلقي محاضرة تريد أن تنتزع بها إعجاب الآخرين، بل تحدث إليه وكأنه وحده من غير شهود.
تذكر هذه المبادئ التسعة كأنها هدايا من ربات الفنون. ولتكن إنسانا ما حييت. وتجنب التملق بقدر ما تتجنب الغضب في التعامل معهم؛ فكلاهما ضار ولا يؤدي إلى الصالح العام. وتذكر في نوبات غضبك أن الغضب ليس من الرجولة في شيء، وأن الرحمة واللين أكثر إنسانية وبالتالي أكثر رجولة؛ فالرحماء هم ذوو القوة والبأس والشجاعة وليس القساة ولا الساخطون. فكلما تحكمت في انفعالاتك كنت أقرب إلى القوة.
20
فالغضب دليل ضعف شأنه شأن الجزع؛ فالغاضب والجزع كلاهما أصيب وكلاهما استسلم.
ودونك هدية عاشرة من قائد ربات الفنون (أبولو)؛ أن من الجنون أن تتوقع من الأشرار ألا يقعوا في الخطأ؛ أن تطلب ذلك هو أن تطلب المستحيل، ولكن أن تسمح لهم أن يفعلوا مثل ذلك بالغير ولا يفعلوه بك هو خطل واستبداد. (11-19) ثمة أربعة أدواء أساسية تصيب العقل الموجه كن على حذر دائم منها كلما صادفتها، وقل في كل حالة: «هذه الفكرة لا لزوم لها.» «هذه قد تضعف وشائج المجتمع.» «هذا الذي تهم بقوله لا يعبر عن قناعتك الحقيقية.» (أن تقول ما لا تقتنع به هو قمة التناقض). أما الرابع فهو عندما تبكت نفسك على أي شيء؛ فهذا دليل على أن الجزء الأكثر ألوهة فيك قد خضع واستسلم للجزء الأدنى والفاني - أي الجسد - ولذاته العنيفة. (11-20) كل ما هو من عنصري الهواء والنار فيك يميل بطبيعته إلى أعلى. ورغم ذلك فهو يطيع ميل «الكل» ويظل راضخا هنا في الكتلة المركبة (الجسد). وكل ما هو من التراب والماء فيك، رغم ميله إلى الهبوط إلى أسفل، يرفع إلى أعلى ويبقى في وضع غير طبيعي بالنسبة له. إذن حتى العناصر تعنو ل «الكل»، وترغم على البقاء في موضعها المخصص لها، حتى يأتي نذير الفناء مرة أخرى من المصدر نفسه.
أليس من العجيب إذن ألا يتمرد، ويتبرم بمكانه الممنوح له، إلا الجزء العاقل منك؟ ورغم ذلك فليس مفروضا عليه شيء غير ما يتفق مع طبيعته، ولكنه ما يزال يأبى أن يذعن، وما يزال يرتد في الاتجاه المعاكس؛ فكل اتجاه نحو الظلم والإفراط والغضب والأسى ما هو إلا ردة عن الطبيعة. وفضلا عن ذلك، فمتى أحس العقل الموجه بالاستياء من أي حدث فهذا أيضا تخل عن واجبه المنوط به؛ فهو لم يفطر على العدل إلى البشر فحسب بل فطر أيضا على تمجيد الرب وخدمته؛ فهذا أيضا شكل من أشكال التناغم مع الفطرة ولعله أهم وأوجب من أفعال العدل. (11-21) «من لا يثبت على غاية واحدة في الحياة لا يمكن أن يبقى هو نفسه واحدا طوال حياته.»
21
لا يكتمل هذا المبدأ ما لم تضف إليه أيضا ماذا ينبغي أن تكون هذه الغاية؛ فمثلما تتعدد الآراء حول ما يعتبره الأغلبية خيرا بطريقة أو بأخرى ولا ينتزع الإجماع إلا فئة واحدة من الأشياء وهي الأشياء التي تصب في الصالح العام؛ كذلك ينبغي أن يكون هدفنا الذي نكرس له أنفسنا هو هدف اجتماعي؛ أي صالح إخواننا المواطنين؛ فمن يوجه كل جهوده إلى هذا الهدف فسيكون متسقا في كل أفعاله، ويكون، من ثم، هو الشخص نفسه طوال حياته. (11-22) قارن فأر الجبل بفأر المنزل: انظر كم هو مروع مستنفر فأر المنزل. (11-23) اعتاد سقراط أن يطلق على الاعتقادات الشائعة اسم «بعبع»؛ أشياء تخيف بها الأطفال.
22 (11-24) دأب الإسبرطيون في احتفالاتهم على أن يضعوا مقاعد للغرباء في الظل، وأن يجلسوا هم أنفسهم حيثما شاءوا. (11-25) اعتذر سقراط لبيرديكاس المقدوني عن عدم تلبية الدعوة لزيارته قائلا: «حتى لا أموت أسوأ ميتة؛ أن أتقبل معروفا لن أكون قادرا على رده.»
23 (11-26) ثمة قاعدة في الكتابات الأبيقورية تشير بأن تتمثل في ذهنك على الدوام واحدا من أولئك الذين كانوا يتبعون طريق الفضيلة في الأزمنة السابقة. (11-27) يقول الفيثاغوريون: «تأملوا السماء في الفجر.» كي نذكر أنفسنا بثبات تلك الأجرام السماوية، التي تؤدي الشيء نفسه على الدوام وبالطريقة نفسها، ونذكر أنفسنا أيضا بنقائها وتجردها؛ فليس على نجم حجاب. (11-28) تذكر سقراط بملابسه الداخلية عندما أخذت كسانثيبي
24
سترته ومضت، واذكر ماذا قال لأصدقائه الذين أجفلوا منه خجلا عندما رأوه بهذه الحال. (11-29) لا في الكتابة ولا في القراءة يمكنك أن تعلم قبل أن تتعلم، كذلك الأمر، وأكثر، في الحياة. (11-30) «أنت عبد ... فلا صوت لك.»
25 (11-31) «وكان قلبي يضحك في داخلي.»
26 (11-32) «سوف يلعنون الفضيلة، ويغلظون القول.»
27 (11-33) ليس غير مجنون من يطلب تينا في الشتاء؛ ومجنون بالمثل من يأمل في طفل بعد فوات الأوان.
28 (11-34) اعتاد إبكتيتوس أن يقول: عندما تقبل طفلك ينبغي أن تقول لنفسك «ربما تموت غدا.» - «ولكن هذا شؤم.» - يرد إبكتيتوس: «كلا، ليس شؤما ما يشير إلى عملية طبيعية، وإلا لكان شؤما أن تتحدث عن حصاد القمح.» (11-35) عنب فج، عنقود ناضج، زبيب؛ كله تغير، لا إلى عدم، بل إلى شيء غير موجود بعد.
29 (11-36) ليس بمكنة لص أن يسرق إرادتك.
30 (11-37) يقول إبكتيتوس أيضا: علينا أن نكتشف منطقا للقبول، وفي مجال رغباتنا أن نحرص على أن تكون كل حركة مشروطة، ذات هدف اجتماعي، ومتناسبة مع قيمة هدفها. أما عن الرغبة الحسية فيجب أن نظل بمنأى كامل عنها. وأما النفور فعلينا ألا نبديه بإزاء أي شيء خارج عن قدرتنا. (11-38) مرة ثانية: «الخلاف هنا ليس هينا ... إنها مسألة الجنون أو العقل.»
31 (11-39) اعتاد سقراط أن يسأل: «ماذا تريدون؟ نفوس الكائنات العاقلة أم غير العاقلة؟» «العاقلة.» - أي صنف من الكائنات العاقلة؟ الصالحة أم غير الصالحة؟ - «الصالحة.» - لماذا إذن لا تسعون إليها؟ - «لأنها لدينا.» - لماذا إذن تقتتلون وتصطرعون؟
32
الكتاب الثاني عشر1
(12-1) كل ما تتمنى يوما بلوغه بطريق ملتو بوسعك الآن أن تناله إذا كنت منصفا لنفسك؛ أي إذا تركت الماضي وراء ظهرك وأوكلت المستقبل للعناية، ووقفت الحاضر على التقوى والعدل.
2
على التقوى فترضى بنصيبك المقسوم؛ فقد جعلته لك الطبيعة وجعلتك له. وعلى العدل فتكون صادقا صريحا في قولك وفعلك، تقول الحق وتلتزم بالقانون والقسط في كل ما تفعل. ولا يصدك عن طريقك خبث الخبثاء ولا تقول المتقولين،
3
ولا إحساسات اللحم البائس الذي تنامى عليك. وعلى الجانب المتضرر أن ينظر في شأنه.
4
حتى إذا ما اقترب رحيلك وقد تركت كل شيء وراء ظهرك، لا يعنيك إلا عقلك الموجه والألوهة التي بداخلك، ولا تخشى من أن يحل أجلك بل من أن تكف عن الحياة وفقا للطبيعة، ستكون إذ ذاك إنسانا جديرا بالعالم الذي أتى بك، ولن تعود غريبا في وطنك،
5
ولن تعود مأخوذا بالأمور اليومية كما لو كانت غير متوقعة، ولن تعود معلقا أملك على هذا أو ذاك. (12-2) الله يرى عقولنا جميعا مجردة من غطائها المادي ومن قشورها وخبثها، لا صلة له إلا بفكرنا الذي صدر منه وتدفق إلى هذه الأبدان. إذا عودت نفسك أيضا أن تصنع نفس الصنع فسوف تضع عنك كثيرا من إصرك. إن من يصرف نظره عن الجسد البائس الذي يغلفه قلما يكرث نفسه بالنظر إلى الملبس أو المسكن أو الصيت، أو أي شيء من هذه الزخارف والمشاهد المسرحية. (12-3) ثلاثة هي مكوناتك؛ جسد، ونفس (حياة)، وعقل. أما الأولان فهما خاصتك بقدر ما هو من واجبك أن ترعاهما. وأما الثالث فهو خاصتك بتمام المعنى. فإذا ما نفضت عن نفسك؛ أي عن عقلك، كل ما يقوله الآخرون ويفعلونه، وكل ما قلته أنت وفعلته، كل ما ينغصك عن المستقبل، كل ما يجلبه عليك جسدك الذي يغلفك ونفسك الذي يصاحبك على غير اختيار منك، وكل ما يدوم في الدوامة الخارجية التي تحيط بنا،
6
بحيث يمكن لقوة عقلك، وقد تجاوزت الآن كل الروابط العرضية، أن توجد بذاتها، خالصة حرة تفعل ما هو عدل، وتريد ما يحدث لها وتقول ما هو صدق. أقول إذا نفضت عن عقلك الموجه ما يرين عليه من انطباعات الحس ومن هموم الآتي والماضي، جاعلا نفسك مثل كرة أمبدوقليس: «تامة الاستدارة مبتهجة في نعيم وحدتها.» لا تبتغي إلا أن تعيش ما هو حياتك الحقة - أي الحاضر - سيكون بوسعك أن تقضي ما تبقى لك من العمر في هدوء وسكينة وسلام مع روحك الحارس. (12-4) كم تعجبت من أن كل إنسان يحب نفسه أكثر من أي شخص آخر، بينما يضع رأيه في نفسه موضعا أدنى من رأي الآخرين فيه؛ فماذا لو ظهر له إله أو معلم حكيم وسأله: ألا يضمر في نفسه أي فكرة أو نية لا يود أن تذاع على الملأ في الحال؟ ما أحسبه يحتمل هذا الأمر يوما واحدا. حقا، إذن، إننا نبالي بما سيراه فينا الآخرون أكثر مما نراه في أنفسنا. (12-5) كيف يتأتى أن الآلهة بعد أن هيأت كل شيء بكل هذه الجودة وكل هذا الحب للبشر، يفوتها هذا الشيء الوحيد؛ وهو أن بعض الناس، وخيرة الناس جميعا، أولئك الذين اتصلوا بالألوهة أوثق اتصال، وبلغوا منها أقرب مكان خلال أعمال التقوى والشعائر، أنهم فور موتهم يلاقون فناء أبديا ولا يعود لهم أي وجود؟!
ولكن إذا كان هذا هو الحال فثق أنه لو كان ينبغي أن يكون غير هذا لكانت الآلهة فعلته؛ لأنه إذا صح لكان ممكنا أيضا، وإذا كان متفقا مع الطبيعة لكانت الطبيعة فعلته، إذن فحقيقة أنه ليس شيئا آخر (إن كانت هذه هي الحقيقة فعلا) يجب أن تطمئنك أنه ما كان ينبغي أن يكون غير هذا.
7
لعلك تلحظ بنفسك أنك بهذا التساؤل الجريء إنما تتنازع مع الآلهة، وما كنا لندخل في مثل هذا النزاع مع الآلهة لولا أنها غاية في الخير والعدل . وإذا كان ذلك كذلك فما كان لها أن تدع أي جانب من تدبيرها المحكم للعالم يفلت منها عن تفريط في العدل أو العقل.
8 (12-6) درب نفسك حتى على ما يئست من التمكن منه؛ فاليد اليسرى، لنقص الممارسة، خرقاء في أغلب المهام، غير أنها أشد إمساكا باللجام من اليد اليمنى؛ فلقد تدربت على ذلك. (12-7) تفكر كيف يكون حال المرء، جسدا وروحا، بعد أن يدركه الموت، وتأمل في قصر الحياة، وفي الهوة السحيقة للزمان الماضي والمستقبل، وفي هوان كل شيء مادي. (12-8) تأمل المبادئ الصورية (الصور) للأشياء مجردة من غطائها، تأمل الغايات الخفية للأفعال، تأمل: ما هو الألم؟ وما هي اللذة؟ وما هو الموت؟ وما هو المجد؟ ومن منا ليس هو نفسه السبب في كربه الشخصي، وليس قلقه من صنع يديه؟ تأمل: ليس ثمة امرؤ يعاق بغيره، وإنما كل شيء هو كما يجعله التفكير كذلك.
9 (12-9) في تطبيقك لمبادئك كن كالملاكم لا المجالد؛ فالمجالد
gladiator
مرتهن لسيفه الذي يستخدمه، يرفعه أو يسقط عنه ويقتل. أما الملاكم فلديه دائما يده، وليس عليه إلا أن يستخدمها.
10 (12-10) انظر ماذا تكون الأشياء في ذاتها، مقسما إياها إلى مادة وصورة وغرض (غاية). (12-11) أعلى مراتب الحرية والقوة هي ألا يفعل الإنسان إلا ما يرضي الله، وأن يتقبل كل ما يقسمه الله له. (12-12) لا تلم الآلهة؛ فهي لا ترتكب خطأ، لا عن عمد ولا عن غير عمد.
ولا تلم البشر؛ فهم لا يرتكبون الخطأ إلا عن غير عمد.
لا أحد، إذن، ينبغي أن يلام.
11 (12-13) كم هو عابث وغريب تماما عن العالم الذي يستغرب أي شيء يجري في الحياة.
12 (12-14) إما أن الأمر قدر محتم ونظام لا يسمح بأي حيود. وإما عناية رحيمة.
وإما فوضى لا غاية لها ولا موجه.
فإذا كان الأمر ضرورة لا تقهر فلماذا تقاوم؟
وإذا كان عناية تستجيب للدعاء فاجعل نفسك أهلا للعون الإلهي.
وإذا كان فوضى غير محكومة فافرح بأن لديك في مثل هذه العاصفة عقلا موجها خاصا بك، وحتى إذا جرفك الطوفان فليأخذ جسدك البائس ونفسك الضئيل وكل شيء آخر، أما العقل فلن يأخذه. (12-15) يظل المصباح يضيء ولا يفقد بهاءه حتى ينطفئ. فهل تخذلك الحقيقة والعدل والاعتدال قبل نهايتك؟ (12-16) إذا عرض لي انطباع بأن شخصا ما قد ارتكب خطأ فكيف أعرف أن هذا كان خطأ؟ وإذا كان هذا خطأ حقا فكيف أعرف أنه لم يكن يبكت نفسه، وهو بذلك كمن يمزق وجهه نفسه؟
أن تريد من الشرير ألا يفعل الشر مثل أن تريد من شجرة التين ألا تحمل أنفحة في تينها، ومن الرضيع ألا يبكي، ومن الحصان ألا يصهل، أو أي شيء آخر من الحقائق الضرورية للطبيعة؛ فماذا يتعين أن يفعل إنسان لديه هذا الطبع؟ فإذا كنت حريصا حقا فاشفه من حالته!
13 (12-17) إذا لم يكن صوابا لا تفعله، وإذا لم يكن صدقا لا تقله. (12-18) بإزاء كل شيء انظر دائما ماذا يكون هذا الشيء الذي أحدث في عقلك انطباعا، وحلله بتقسيمه إلى الصورة، والمادة، والغاية، والأمد الزمني الذي لا بد أن ينتهي خلاله. (12-19) أدرك أخيرا أن بداخلك شيئا ما أقوى وأكثر بهاء من الأشياء التي تولد شتى الانفعالات التي تحركك بخيوطها كالدمية. ماذا لديك الآن في عقلك في هذه اللحظة بالضبط؟ هل هو خوف؟ شك؟ رغبة؟ شيء آخر من هذا الصنف؟ (12-20) أولا: لا تفعل شيئا من غير هدف أو من غير غاية.
ثانيا: لا تقصد إلى أية غاية سوى الخير العام. (12-21) تذكر أنك بعد برهة ستكون لا شيء وفي لامكان، وكذلك كل ما تراه الآن وكل من هو الآن حي. إنها طبيعة الأشياء جميعا أن تتغير، وأن تهلك، وأن تتحول؛ لكي يتاح لغيرها أن يأتي إلى الوجود على التتابع. (12-22) تذكر أن ملكة الرأي هي كل شيء، وأن رأيك بيدك. امح رأيك إذا شئت، وستجد السكينة. ستكون كالبحار الذي يدور حول رأس الأرض، فيجد ماء هادئا، وخليجا ساجيا بلا أمواج.
14 (12-23) ما من نشاط يضيره أن يتوقف ما دام قد توقف في الوقت المناسب، ولا فاعله يضيره شيئا أن هذا النشاط المعين قد توقف؛ وعلى ذلك فإذا بلغت جملة أفعاله، التي تشكل حياته، نهايتها في الوقت المناسب فلا ضير عليها من مجرد التوقف، ولا ضير على من ختم هذه السلسلة من الأفعال في الوقت المناسب. أما الوقت والأجل فتحددهما الطبيعة؛ طبيعة الإنسان أحيانا كما في الشيخوخة، وطبيعة العالم في كل الأحيان، والتي من خلال التغيير الدائم لأجزائها المكونة تبقي العالم كل صبيا وعفيا.
وكل ما ينفع العالم فهو حسن وفي إبانه؛ لذا فلا بأس على الإطلاق بأن تنتهي حياة كل منا؛ فلا النهاية عيب ولا اختيار ولا هي ضد الصالح العام، بل هي خير؛ إذ تقع في التوقيت الملائم ل «الكل»، وتصب في صالحه، وتنسجم معه؛ فكذلك أيضا يمشي المرء بعون الرب إذا مضى باختياره ووجهته على طريق الرب. (12-24) لتكن هذه المبادئ الثلاثة نصب عينيك:
أولا:
في أفعالك لا تفعل شيئا بلا هدف، أو بهدف غير ما تقتضيه العدالة. وفيما يلم بك من الخارج فاذكر أنه إما يحدث بالمصادفة وإما بالعناية، وعليك ألا تلوم المصادفة ولا تتهم العناية.
ثانيا:
تأمل ما يكونه كل كائن منذ هو بذرة إلى أن يتلقى الروح، ومنذ تلقيه الروح إلى أن يسلمها مرة ثانية، وما هي العناصر التي كونته والتي سوف ينحل إليها في النهاية.
ثالثا:
إذا ما رفعت فجأة إلى ارتفاع هائل وأمكنك أن تنظر تحتك إلى مشاغل البشر بشتى أصنافها؛ لأن مجال نظرك سوف يضم أيضا حشدا هائلا من الأرواح التي تأهل الفضاء والسماء، ولأنك مهما أعدت الكرة فسوف ترى الأشياء نفسها؛ الرتابة والزوال، هل هذه الأشياء تستدعي الزهو والخيلاء؟!
15 (12-25) اطرح الحكم تجد الخلاص. ومن ذا الذي يمنعك من هذا الاطراح؟
16 (12-26) حين تتكدر في أي ظرف فقد نسيت عدة أشياء؛ نسيت أن كل ما يجري فبإرادة طبيعة الكل، وأن الإثم لا يضير إلا مرتكبه، ونسيت أن كل شيء يحدث فقد كان يحدث هكذا فيما مضى، وسيظل يحدث هكذا في المستقبل، وما ينفك يحدث الآن في كل مكان، وأن الكائن الإنساني وثيق القرابة بالجنس البشري كله، لا قرابة دم أو بذرة؛ بل مجتمع عقلي. ونسيت أيضا أن عقل كل إنسان إله ودفقة من الألوهية، وأن لا شيء ملك لنا، بل حتى طفلنا وجسدنا وروحنا نفسه إنما جاء من ذلك المصدر، وأن كل شيء هو كما أراده التفكير أن يكون، وأن كلا منا لا يعيش إلا اللحظة الحاضرة، ولا يفقد إلا إياها.
17 (12-27) استحضر في ذاكرتك دائما أولئك الذين كانوا يفرطون في الغضب والشكاة، أولئك الذين بلغوا ذرى المجد أو النكبة أو العداوة أو أي صنف آخر من الحظ. ثم توقف وفكر: أين كل أولئك الآن؟ دخان ورماد، حكاية رويت بل حكاية نسيت. واستحضر أيضا في ذهنك طائفة بأسرها من الأمثلة؛ فابيوس كاتولينوس في داره الريفية، لوسيوس لوبوس في بساتينه بالمدينة، ستيرتينيوس في بابي، تيبيريوس في كابري، فيليوس روفوس؛ وبصفة عامة كل سعي محموم تصحبه الخيلاء. تأمل كم هو عبث كل هذا الجهد المضني، وكم هو أجدر بالحكيم أن يستخدم ما يعرض له لكي يجعل نفسه عادلا، معتدلا، مطيعا للآلهة، وأن يفعل هذا ببساطة تامة؛ فالزهو بالخلو من الزهو هو أثقل ضروب الزهو وأصعبها على الاحتمال. (12-28) إلى من يسألون: أين رأيت الآلهة؟ أو كيف عرفت أنهم موجودون فعبدتهم؟ أجيب: أولا، هم قد يرون حتى بالعين. ثانيا، إنني لم أر روحي أيضا ومع ذلك أوقرها. كذلك شأني مع الآلهة؛ فمن معاينتي الدائمة لآثارهم المرة تلو الأخرى أتيقن من وجودهم، وأوقرهم. (12-29) الخلاص في الحياة يكمن في أن ترى كل شيء في ذاته وفي جملته، مدركا مادته وصورته، وفي أن تكرس كل نفسك لفعل الصواب وقول الحق. فماذا يبقى غير متعتك بأن تحيا سلسلة متصلة من الأفعال الصالحة لا تفصل بينها أدنى فجوة. (12-30) ثمة ضوء واحد للشمس وإن تشتت على الجدران والجبال وما لا يحصى من الأشياء. ثمة مادة عامة واحدة وإن تكسرت إلى ما لا يحصى من الأجسام لكل منها صورته وخصائصه. ثمة روح حيوانية واحدة وإن توزعت بين ما لا يحصى من الأنواع والأفراد، وروح عاقلة واحدة وإن بدت مقسمة.
والآن، في الأشياء المذكورة فإن جميع الأجزاء الأخرى - كتلك التي هي حياة محضة أو مادة لا تحس - ليس بينها أخوة؛ ورغم ذلك فحتى هنا ثمة صلة تتكون بنوع من التضام وانجذاب الشبيه إلى الشبيه. أما العقل فلديه هذه الخاصة الفريدة؛ وهي أنه يميل إلى ما هو من عشيرته ويتحد معه؛ بحيث لا تنقطع مشاعر الألفة ولا تنفصم.
18 (12-31) ماذا تريد بعد؟ أن تبقى على قيد الحياة؟ حسن، تريد أن يكون لديك حس؟ حركة؟ نمو؟ ثم تتوقف مرة ثانية عن النمو؟ أن تستخدم صوتك؟ عقلك؟ ماذا في كل هذه الأشياء يستحق أن تصبو إليه وأن تندم على فقده؟ إذا كان كل من هذه الأشياء جديرا بالازدراء فامض إذن إلى الغاية النهائية، وهي أن تتبع العقل وتتبع الرب؛ فإنه لا يتسق مع تمجيدك للعقل والرب أن تبتئس لأن الموت سوف يحرمك من هذه الأشياء الأخرى.
19 (12-32) ما أصغر نصيب كل منا من الزمن؛ حصته الضئيلة من الهوة الزمانية اللانهائية، لسرعان ما تبتلعها الأبدية. وما أضأل حصته من مادة «الكل» وروح «الكل». ما أضألها في جملة الأرض تلك البقعة التي تزحف عليها. تأمل في كل هذا ولا تكبر شيئا سوى الكدح إلى حيث تقودك طبيعتك، والتسليم بما تأتي به طبيعة العالم.
20 (12-33) كيف يوظف عقلك نفسه؟ هذا هو السؤال. وكل ما عداه، سواء كان باختيارك أو لا، فمجرد رماد ميت ودخان. (12-34) أوضح نداء يدعونا إلى ازدراء الموت هو أنه حتى أولئك الذين يعتبرون اللذة خيرا والألم شرا كانوا رغم ذلك يزدرونه.
21 (12-35) بالنسبة إلى هذا الرجل الذي يعد ما يأتي في إبانه هو الخير الوحيد، والذي يستوي لديه أن تكثر أو تقل فرصته لأن يعبر عن العقل السليم في أفعاله، والذي لا يجد فارقا بين أن يتأمل العالم لفترة أطول أو أقصر؛ بالنسبة لهذا الرجل ... حتى الموت ليس بالشيء المخيف.
22 (12-36) أيها الإنسان الفاني، لقد عشت كمواطن في هذه المدينة العظيمة. ماذا يهم إذا كانت هذه الحياة خمسة أعوام أو خمسين؟ على الجميع تسري قوانين المدينة، فماذا يخيفك في انصرافك من المدينة؟ إن من يصرفك ليس قاضيا مستبدا أو فاسدا، إنها الطبيعة ذاتها التي أتت بك. إنها أشبه بمدير الفرقة الذي أشرك ممثلا كوميديا في الرواية وهو يصرفه من المسرح. - «ولكني لم أمثل مشاهدي الخمسة، مثلت ثلاثة فقط.» - حقا، ولكن في الحياة قد تكون ثلاثة مشاهد هي الرواية كلها.
استئناف الحياة إنما يحدده الكائن الذي ركبك أول مرة والذي هو الآن يفنيك. وما لك من دور في أي من العلتين، اذهب بسلام إذن؛ فالإله الذي يصرفك هو في سلام معك.
التأملات: ماركوس أوريليوس دراسة وتعليق
تأملات ماركوس أوريليوس هي أعز قراءاتي جميعا إلى نفسي.
الرئيس بل كلينتون
الفصل الأول: ماركوس أوريليوس والرواقية
(1) حياة ماركوس أوريليوس
ولد ماركوس أوريليوس أنطونينوس، واسمه الحقيقي ماركوس أنيوس فيروس، في السادس والعشرين من أبريل عام 121م، في عهد الإمبراطور هادريانوس، لأسرة نبيلة قيل إنها تنحدر من «نوما»
Numa
الملك الثاني لروما ويعد أكثر الملوك الأوائل تقوى وأشدهم ورعا. شغل والد ماركوس، أنيوس فيروس، منصب البرايتور أي الحاكم القضائي، وشغل جده، واسمه أيضا أنيوس فيروس، منصب القنصل ثلاث مرات. وقد توفي الوالد وماركوس بعد طفل صغير فكفله جده.
وقد أعجب الإمبراطور هادريانوس (حكم من 117-138م) بشخصية ماركوس وتوسم فيه نبوغا وتقوى ورأى فيه مخايل. وكان يحب أن يدعوه
Verissimus (الأصدق) بدلا من
Verus (الصادق). وقد تزوج أنطونينوس بيوس من عمة ماركوس، أنيا جاليريا فاوستينا، وتبنى ماركوس فصار اسمه ماركوس أوريليوس أنطونينوس نسبة إلى أبيه بالتبني أنطونينوس بيوس
Antoninus Pius (واسمه الحقيقي أوريليوس أنطونينوس، ولقب «بيوس» يعني «التقي») الذي تسنم العرش بعد هادريانوس عام 138م وماركوس إذ ذاك في السابعة عشرة من عمره. وزوجه ابنته فاوستينا
Faustina
عام 145م. وحين توفي أنطونينوس بيوس عام 161م ارتقى ماركوس عرش الإمبراطورية. وحين اعتلى العرش أشرك معه، ضد رغبة مجلس الشيوخ، أخاه بالتبني لوكيوس فيروس
Lucius Verus
الذي تبناه أيضا أنطونينوس بيوس، كابنه الأصغر، مع ماركوس؛ ومن ثم فقد صار للإمبراطورية حاكمان على العرش في وقت واحد.
لم يكد ماركوس يرتقي العرش حتى تقاطرت عليه المتاعب من كل صوب؛ في الشرق يتمرد البارثيون
1
ويدمرون فيلقا رومانيا كاملا ويهاجمون سوريا، فيبعث لهم ماركوس بأخيه فيروس على رأس جيش ليقمع هذه الثورة. وينجح فيروس، الذي انغمس في الشراب والفسق، في مهمته بفضل قادة جيشه.
وما تكاد تضع حروب الشرق أوزارها حتى تتحالف قبائل جرمانية قوية شمال الدانوب، الماركوماني والقادي والصرامطة والقاتي، لتهاجم الحدود الشمالية للإمبراطورية وتهدد إيطاليا وبانونيا واليونان، فيزحف إليها ماركوس وفيروس على رأس فرق رومانية لتأمين جبهة الدانوب.
وفي روما ذاتها كان الطاعون، الذي انتقل من الشرق مع جيش فيروس، يفتك بالناس. وأتلفت فيضانات التيبر كميات هائلة من الحبوب وتسببت في مجاعة شديدة اضطرت ماركوس إلى بيع المجوهرات الملكية ليواجه المجاعة ويدبر الاحتياجات الملحة. وفي عام 169م مات فيروس فجأة، وانفرد ماركوس بإدارة الإمبراطورية، وظل في رباط بقية عمره، وتمكن من تحقيق الاستقرار في الإمبراطورية ومن قهر أعدائه بفضل حنكته العسكرية وحكمته في اختيار قادة جيوشه.
وفي عام 175م فجع ماركوس بخيانة أفيديوس كاسيوس
Avidius Cassius
قائد جيوشه في آسيا، والذي حاز مجدا في الحروب البارثية؛ إذ أعلن نفسه إمبراطورا على الرومان ظنا منه أن ماركوس، المعتل الصحة في ذلك الوقت، قد مات. وقبل أن يصل ماركوس إلى آسيا لمواجهة هذا الأمر قتل كاسيوس على يد بعض ضباطه. وحين وصل ماركوس إلى آسيا قدم إليه رأس كاسيوس فأسف لمقتله ورفض مقابلة قاتليه لأنهم حرموه من غبطة تحويل عدو إلى صديق، وأبدى رأفة مذهلة بأسرة كاسيوس وأنصاره، ولا تزال رسالته إلى مجلس الشيوخ، يناشدهم فيها الرفق بالجناة، باقية حتى اليوم تشهد بنبالة هذا الرجل وسعة صدره وصفاء سريرته.
خلال هذه الرحلة إلى الشرق توفيت زوجته فاوستينا فجزع لموتها جزعا شديدا، وظل وفيا لذكراها حتى آخر يوم من حياته. وما لبث أن استأنف حروبه على الجبهة الشمالية مكللة بالنصر. غير أنه أصيب في معسكره بعدوى قاتلة، قيل إنها الطاعون، وقضى نحبه في السابع عشر من مارس عام 180 وهو يوصي جنوده بألا يبكوه بل يقاوموا الوباء الذي يفتك بالناس؛ فكان يوم وفاته، على حد قول إرنست رينان، «يوما مشئوما على الفلسفة وعلى المدنية.» وخلفه ابنه كومودوس، الوحيد من أبنائه الباقي على قيد الحياة آنذاك، وحكم روما اثنتي عشرة سنة، فكان إمبراطورا ضعيفا فاشلا، وأفسد كثيرا من حملات أبيه بعقد سلام متسرع غير حصيف، وكان مستبدا عنيفا على غير طائل؛ حتى ليقال إن العيب الوحيد الذي ينال من مكانة ماركوس أوريليوس هو أنه أنجب مثل هذا الغلام التافه الدموي.
على أن أخطاء ماركوس لا تقتصر على إنجابه كومودوس، فقد كان إشراكه فيروس، أخاه بالتبني، في الحكم خطأ كبيرا تغمده عفو الأقدار بصلابة ضباطه وبوفاته المبكرة. غير أن هذه السابقة التي استنها ماركوس أعقبت وبالا على الإمبراطورية في عصر دقلديانوس وشقت الإمبراطورية إلى نصفين. ومن أخطاء ماركوس مركزيته الزائدة في الإدارة المدنية، وكذلك اضطهاده للمسيحيين، أو، بالأدق، تراخيه عن حمايتهم من الاضطهاد.
2
أما مزايا حكمه فأكثر من أن تحصى؛ فقد كان قائدا عسكريا قديرا، على تواضع بنيته، وإداريا حصيفا ذا ضمير حي. وعلى الرغم من ممارسته للفلسفة وشغفه بها فإنه لم ينزلق إلى محاولة إعادة تشكيل العالم وفقا لأي مخطط نظري أو تصور مسبق، وهو منزلق من السهل أن يقع فيه أي فيلسوف يتسنى له، مثل ماركوس، حكم العالم، بل اكتفى بالسير على الطريق الذي مهده أسلافه، لا يطمح إلا في أن يؤدي واجبه جهد ما يستطيع، ويقاوم الفساد ما أمكنه. يقول ماركوس: «لا تؤمل في جمهورية أفلاطون الطوباوية، بل اقنع بأصغر خطوة إلى الأمام، ولا تستهن بهذا الإنجاز، ما أتفه أولئك البؤساء الذين ينخرطون في الأمور السياسية ويظنون أن أعمالهم لها صفة فلسفية. إنهم جميعا يهرفون. ومن ذا يستطيع أن يغير آراءهم؟ وبدون تغير الرأي ماذا يكون هناك غير العبودية؛ أناس يئنون وهم يتظاهرون بالطاعة؟ امض إذن، وحدثني الآن عن الإسكندر وفيليب وديميتريوس الفاليري؛ فقد كنت خليقا أن أتبعهم لو أنهم رأوا ما تريده طبيعة العالم وتتلمذوا عليها. أما إذا كانوا ببساطة يمثلون أدوار أبطال الدراما، فأنا بحل من أن أقلدهم، بسيطة هي ومتواضعة مهمة الفلسفة، فلا تمل بي إلى الخيلاء والغرور» (التأملات: 9-29).
انصرف ماركوس في إدارته إلى إرساء العدالة وحماية الولايات من الظلم وإعانة المدن المنكوبة، وإيجاد قوانين داخلية لحماية الضعفاء والتخفيف عن العبيد، ورعاية الأطفال الضعفاء والأيتام وتعليمهم، جاعلا من نفسه أبا لمن فقد أباه وراعيا لمن فقد الرعاية.
يتفق جيبون مع أغلب كتاب القرن الثامن عشر في اعتبار فترة حكم الأنطونيين كعصر ذهبي، والأنطونيون هم الأباطرة الذين حكموا روما في القرن الثاني الميلادي؛ تريانوس وهادريانوس وأنطونينوس بيوس وماركوس أوريليوس (وكومودوس الذي نستثنيه من هذا الإطراء). يقول جيبون: «إذا سئل إنسان أن يحدد الحقبة من تاريخ العالم الذي بلغت فيها حالة البشرية غاية في السعادة والازدهار، لذكر بلا تردد تلك الفترة التي امتدت من وفاة دوميتيانوس إلى تولي كومودوس.» ذلك أن كلا من هؤلاء الأنطونيين كان يخلف سلفه لا من طريق الوراثة بل من طريق التبني القائم على اختيار الأفضل وتعهده وتدريبه.
غير أن برتراند رسل يرى في ذلك رأيا آخر، ويقول إن من الصعب القبول برأي جيبون على علاته؛ فلقد كانت حقبة الأنطونيين مثقلة، كغيرها من الحقب، بالشرور والآثام؛ فالرق يستنزف عافية العالم القديم، وعروض المبارزة ومصارعة الوحوش تنبئ بتحجر قلب من يستمتع بمثل هذه المشاهد، والنظام الاقتصادي سيئ للغاية؛ الزراعة منحسرة في إيطاليا وأهل روما يعتمدون على محاصيل الأقاليم، والفقر يطحن مزارعي الأقاليم وبروليتاريا المدن، والمركزية الإدارية خانقة مفرطة، والظلم ضارب أطنابه، وعوامل الضعف والهشاشة لا تخفى على النظر الثاقب الذي يتجاوز الظاهر الوردي إلى الباطن المتآكل. «وعندما نقارن بين نبرة ماركوس أوريليوس ونبرة بيكون أو لوك أو كوندرسيه نرى الفرق بين عصر مجهد وعصر مبشر. من الممكن للناس في العصر المبشر احتمال الشرور الراهنة لأنهم يرونها إلى زوال. أما في العصر المجهد فحتى الخيرات الحقيقية تفقد مذاقها. لقد كانت الأخلاق الرواقية ملائمة لزمن إبكتيتوس وماركوس أوريليوس لأن شرعتها كانت شرعة التجلد لا شرعة الأمل.»
3
وما كانت مظاهر البؤس والذبول لتخفى على عيني ماركوس الثاقبتين، وإنها لتاركة في نبرته حزنا وأسى وانقباضا يشيع في ثنايا «التأملات»، ويبرر قول القائل إن ماركوس أويليوس يمثل الرواقية وقد صبغها أفول روما بلون قاتم.
لم تكن الديانة الرومانية الوثنية في ذلك العصر لتغني النفوس الكبيرة كثير غناء ؛ فأكثر أساطيرها طفولية ممتنعة، وأكثر تعاليمها لا يمت إلى الأخلاق بصلة وثيقة؛ فقد كانت الديانة الرومانية، في حقيقة الأمر وصميمه، أقرب إلى «الصفقة» بين الإنسان والآلهة؛ يبذل الناس للآلهة تضحيات معينة ويؤدون طقوسا شكلية؛ لكي تسدد لهم الآلهة ثمن ذلك حظوة وأنعما، سواء أحسنوا أم أساءوا، وبغض النظر عن نواياهم واستحقاقهم. فلم يكن أمام النفوس الورعة سوى الفلسفة تلوذ بها وتلتمس لديها السكينة الروحية والرضا العقلي، وكانت الفلسفتان السائدتان في ذلك الوقت هما الأبيقورية والرواقية. (2) الأبيقورية
ولد أبيقور
Epicurus
عام 241ق.م لأبوين أثينيين، وفي سن الثامنة عشرة انتقل من ساموس إلى أثينا، ثم رحل إلى آسيا الصغرى حيث جذبته فلسفة ديمقريطس. وفي عام 307ق.م وصل إلى أثينا مع جماعة من أتباعه وأسس «الحديقة»
the Garden
إلى الجنوب من أكاديمية أفلاطون. عاش أبيقور واتباعه في «الحديقة» حياة جمعية بعيدة عن صخب الحياة المدنية ونزاعاتها. وقد وصل إلينا المذهب الأبيقوري في أوضح صورة في قصيدة الشاعر الروماني لوكريتيوس
Lucretius (حوالي 99-55ق.م) المسماة «في طبيعة الأشياء»
De Rerum Natura . وفي الوقت الذي كتب فيه لوكريتيوس قصيدته كان المذهب الأبيقوري قد انتشر خلال العالم المتوسطي كله، وحظي باحترام صفوة المجتمع الروماني لاتجاهاته التحررية ومحاربته للخرافة، وإن كانت الرواقية قد أخذت تحل محله بالتدريج.
ينقسم المذهب الأبيقوري إلى ثلاثة أقسام؛ نظرية المعرفة، والطبيعيات، والأخلاق. أما نظرية المعرفة فتقوم على الإدراك الحسي؛ فالحواس هي منفذنا الوحيد إلى العالم، والإحساسات هي معيار الحق؛ فالنفس عند أبيقور لا تعدو أن تكون نوعا من المادة تختلط جزئياته بالذرات المكونة للجسم. ويفسر الإحساس بأنه تصادم انبعاثات من الأشياء المدركة مع ذرات النفس. وقد تخدعنا بعض الانبعاثات فتبدي لنا الشيء على غير ما هو عليه، مثل انثناء العصا في الماء؛ لذا يفرق الأبيقوريون بين الإحساسات
sensations
والأحكام
judgements
ويذهبون إلى أن الإحساسات بحد ذاتها لا تخطئ وإنما يأتي الخطأ من الأحكام ؛ ومن ثم فهناك أحوال لا نملك فيها البت في أمر الأحكام المتضاربة حين تكون مدعمة بنفس الدرجة بأدلة حسية ومتوافقة معها.
والنظرية الطبيعية الوحيدة التي توافق إحساساتنا وتؤيد بها هي النظرية الذرية
atomism
ولذلك اقتفى الأبيقوريون أثر ديمقريطس وذهبوا إلى أن العالم مكون من عدد لانهائي من الذرات تتحرك في الخلاء. صحيح أنهم لم يوافقوا ديمقريطس في قوله بعشوائية حركات الذرات إلا أنهم أدخلوا مفهوم «الانحراف»
swerve
ليفسروا اصطدام الذرات واجتماعها وافتراقها، وهو يؤثر في حركة الذرات في مواضع زمنية ومكانية تتعذر على التحديد؛ ومن ثم فهم لا يتركون في نظريتهم مكانا للغائية الأرسطية والأفلاطونية، بل كل شيء عندهم قابل للتفسير في حدود اجتماع الذرات وافتراقها على نحو عرضي لا غاية فيه، ويتركون في الوقت نفسه مسحة من حرية الإرادة في عالم آلي محدد فيما عدا ذلك تحديدا تاما.
4
والأبيقورية في صميمها نظرية أخلاقية. والهدف من دراسة الطبيعة عند الأبيقوريين هو أن تسهم بعد كل شيء في سعادة الإنسان وهنائه. غير أنهم، على عكس أرسطو، يماهون بين السعادة واللذة؛ فاللذة حالة إنسانية طبيعية، وهي لا تعدو أن تكون غياب الألم. والألم هو، ببساطة، إعاقة الحالة الطبيعية؛ ومن ثم فأن يلتمس المرء اللذة هو أن يلتمس العيش وفقا للطبيعة. والفضائل الأخلاقية ضرورية من أجل العيش وفقا للطبيعة ولكنها ليست مكونات لهذا العيش، إنها وسائل لغاية، والغاية هي اللذة. الخير إذن هو اللذة. والأبيقورية هي نظرية «هيدونية»
hedonistic
غير أنها تختلف عن اللذة الصاخبة التي أشيعت عن الأبيقورية بغير حق؛ فأغلب اللذات الجسدية يعقبها الألم (لذة الخمر مثلا يعقبها الخمار). أما لذات العقل فلنا عليها سيطرة أكبر. والحق أن أبيقور وجماعته كانوا يحيون حياة متقشفة، على عكس ما يظنه عنهم أغلب الناس! والقلق النفسي هو أشد أنواع الألم؛ لذا فإن الخلو من القلق هو أعظم اللذات. ومن هنا تأتي أهمية دراسة الطبيعة؛ إذ تساعدنا في نيل أعظم اللذات الخالصة؛ فالنظرية الذرية في الطبيعة تفيدنا في التخلص من أقسى ضروب القلق وهو الخوف من الموت، فحين يحل الموت تفقد ذرات النفس تماسكها مع الجسم وتتبعثر، وتظل باقية بوصفها ذرات ولكنها لا تعود قادرة على الإحساس؛ ومن ثم فإن الخوف من الموت يتنافى مع العقل لأن الموت ليس شيئا يمكننا أن نجربه.
5
فلا النفس ولا الإحساس ولا الوعي يدوم بعد الموت لأن الموت، ببساطة، هو تشتت الذرات التي نتكون منها.
6
وصفوة القول في الأخلاق الأبيقورية أن على المرء أن يسلك سبيل القصد والاعتدال لكي يبلغ حالة من التوازن الذي لا يعكر صفوه شيء، هذا التوازن هو أرفع اللذات جميعا؛ ومن ثم فهو الخير الأسمى عند الأبيقوريين الحقيقيين. (3) الرواقية
قامت الرواقية، شأنها شأن أكثر المذاهب الفلسفية التي أعقبت أرسطو، استجابة لحاجة عملية لا لترف نظري، ولكي تعين الإنسان في الشدائد والمحن، وتعلمه كيف يصمد في الخطوب ويثبت في الأزمات العنيفة التي اعتورت المجتمع في العصر الهلينستي.
ومن يوغل في الفلسفة الرواقية فسوف يتنسم عبيرا لا يمت إلى أثينا بقدر ما يذكره بنفحات الشرق وحكمائه وأنبيائه. وليس بدعا أن يصفها البعض بأنها أشبه ب «بوذية أوروبية»، أو «يوجا غربية»؛ ذلك أن أغلب مؤسسيها الأوائل كانوا شرقيين سوريين.
7
أما شيخ الرواقيين الأوائل فهو زينون
Zeno
الفينيقي الذي ولد في كتيوم
Kition
بقبرص في النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد. وقد جاء إلى أثينا في شأن تجاري لأسرته فجذبته الفلسفة، فأقام في أثينا وجعل يتنقل من مدرسة فلسفية إلى أخرى، استزادة من العلم، حوالي عشرين سنة، وحضر دروس كسينوكرانيس الأكاديمي واستلبون الميجاري وتتلمذ بخاصة على أقراطيس (كرايتس) الكلبي، ثم أنشأ مدرسة خاصة به، واتخذ «الرواق المزخرف»
Stoa
مكانا لإلقاء دروسه. وهو إيوان عند مدخل الأجورا في أثينا، ذو أعمدة مزدانة بنقوش من ريشة المصور بولجينوط، كان من قبل منتدى للأدباء والفنانين، ومنه جاء اسم «الرواقية»
Stoicism . كان زينون انتقائيا يأخذ من كل مذهب ما يروقه، غير أن آراء المدرسة الكلبية كانت الأقرب إلى مزاجه، وعنها أخذ ازدراء التقاليد والأوضاع القائمة والآراء السائدة والمال والجاه والموت نفسه، واتباع الفطرة والعودة إلى الطبيعة؛ فالسعادة هي في أن يستكفي المرء بنفسه ويستقل عن غيره، إنها شيء داخلي أمره بيدنا ومرده إلينا وحدنا ولا يملك أحد أن يسلبنا إياه. وأخذ عن الكلبيين أيضا نزعتهم الاسمية
nominalism
و«مواطنة العالم»
cosmopolitanism . وعن هيراقليطس أخذ فكرة العقل الكلي المتجسد في اللوجوس الذي يشمل عقل العالم وعقل الكائنات الإنسانية، وفكرة نهر التغير والصيرورة، وفكرة «الاحتراق الكوني»
ekpyrosis/conflagratio
والتجدد الدوري و«العود الأبدي».
8
لم يبق لنا من أعمال زينون إلا مقتطفات ضئيلة، نعرف منها أنه يعرف الإله بأنه العقل الناري للعالم، وأنه جوهر مادي، وأنه يتخلل العالم كما يتخلل الماء في الرمل أو كما يتخلل الشهد في الخلايا. وكان زينون، وفقا لديوخينيس اللائيرتي، يرى أن القانون الكلي، أي العقل الذي يتخلل كل شيء، هو نفسه زيوس الحكم الأعلى للعالم؛ فالإله، والعقل، والقدر، وزيوس، شيء واحد. القدر هو القوة التي تحرك المادة، و«العناية» و«الطبيعة» أسماء أخرى للشيء نفسه. ويبدو أن زينون كان يؤمن بالتنجيم والعرافة، ويعزو إلى النجوم قوة تنبئية. أما المذهب الرواقي في الفضيلة فلا يظهر في المقتطفات المتبقية من زينون وإن بدا أنه كان يعتقده ويذهب إليه.
أما كليانثيس
Cleanthes ، خليفة زينون في الرواق (ولد عام 331ق.م)، فلم يبق من مصنفاته إلا مقتطفات صغيرة أهمها قصيدته الرائعة «أنشودة إلى زيوس» التي لم يبق منها إلا أربعون بيتا، والتي تشيع فيها نبرة مسيحية ندهش لصدورها عن فيلسوف وشاعر وثني. وفيها خلاصة للطبيعيات والأخلاقيات الرواقية. ونظم كليانثيس أيضا دعاء صغيرا في الإذعان للقدر، بقيت منه أبيات ذكرها إبكتيتوس الرواقي في دروسه (الموجز، 53) وترجمها سينيكا بتصرف إلى اللاتينية. يقول الدعاء:
قدني يا زيوس، وأنت أيها القدر،
إلى حيثما رسمتما لي الطريق؛
فأنا متبعكما دون تردد، وحتى لو أخذني الارتياب،
فتثاقلت وتملصت، فلن أكون مع ذلك أقل متابعة لكما.
أما خريسبوس
Chrysippus (280-207ق.م)، الذي خلف كليانتس على الرواق، فكان أغزر الرواقيين إنتاجا وأقدرهم على الجدل. ولد في مدينة صول بقبرص، وتولى إدارة الرواق فكان مجتهدا دءوبا دقيقا في مواعيد دروسه. وكان واسع الاطلاع دائب التأليف فكتب في المنطق والطبيعيات والأخلاقيات، ويقال إنه كتب نيفا وسبعمائة كتاب، لم يبق منها إلا شذور قصيرة. يعد خريسبوس أول من قدم عرضا منهجيا مترابطا للرواقية، وبفضله أصبحت الرواقية فلسفة مكتملة الأركان واضحة المعالم، حتى قيل بحق إنه «لولا خريسبوس لما كان الرواق.» وهو المؤسس الحقيقي للمنطق الرواقي والسيكولوجيا الرواقية. ويقول شيشرون إن خريسبوس هو صاحب النظرية التي يفرق فيها بين العلل الأولى والعلل الثانية، ليوفق بين نظرية القضاء والقدر وبين فكرة المسئولية والحرية الأخلاقية.
9
ويقال إنه ذهب إلى أن الإله لا دخل له في إحداث الشر، وإن كنا لا نعرف كيف أمكنه أن يوفق بين ذلك وبين مذهب الحتمية. وفي موضع آخر يتعامل خريسبوس مع مشكلة الشر على طريقة هيراقليطس قائلا: إن الأضداد يتضمن أحدها الآخر، وإن الخير بدون الشر مستحيل منطقيا؛ فوجود الخير يتطلب بالضرورة وجود الشر. ومما يؤثر عن خريسبوس قوله إن الإنسان الصالح سعيد دائما والشرير غير سعيد، وتشدده في مسألة «الأشياء الأسواء أو غير الفارقة»
indifferentia
التي ليست خيرا ولا شرا، كالحياة والموت واللذة والألم والصحة والمرض والغنى والفقر ... إلخ، وكذلك فكرته عن الجماعة العقلية الروحية التي تقول بأن الفيلسوف لا وطن له أو أن وطنه هو العالم كله، وتأكيده على أهمية دراسة المنطق باعتبارها ركنا أساسيا للرواقية، وعدم تسامحه في ذلك شأن غيره من الرواقيين الذين جعلوا للأخلاق الصدارة المطلقة على المنطق.
الرواقية الوسطى: يمثلها بنايتيوس وبوسيدونيوس. ولد بنايتيوس في رودس حوالي عام 198ق.م، وتأثر بفكر أفلاطون وأرسطو، فعمد إلى تعديل بعض الأفكار الرواقية والتخفيف من صرامتها. واتسمت كتابته بالطلاوة والفصاحة. تأثر به شيشرون الذي يعد أهم من عرف الرومان بأصول الرواقية. أما بوسيدونيوس فهو مؤرخ وفيلسوف سوري الأصل، عاش من سنة 153ق.م حتى سنة 51ق.م، تتلمذ على بنايتيوس الذي توفي حوالي عام 110ق.م، واشتهر بسعة معارفه؛ فكان مؤرخا كبيرا واصل أعمال المؤرخ بوليبيوس، وعالما طبيعيا وفلكيا بارزا
10
وفيلسوفا لاهوتيا، قام بأسفار كثيرة، بعضها للدراسة المحضة، وصادق الكثيرين من عظماء الرومان، وتتلمذ عليه شيشرون وتأثر به أكثر مما تأثر بنايتيوس. حاول التوفيق بين الرواقية والأفلاطونية. وله إسهامات في الجغرافيا ونظريات في الرياضيات. وصل وبوسيدونيوس إلى أدق تقدير، في العالم القديم، لبعد الشمس عن الأرض، وقدر أنه بالإبحار غربا من قادش يمكن بلوغ الهند بعد 70,000 ستاديون (مقياس طول يوناني قديم)، وقد أخذ كولمبس فيما بعد بهذه الملاحظة وكانت وراء ثقته فيما أزمع عمله.
مذاهب الرواقية القديمة
الفلسفة عند الرواقيين طريقة حياة قبل أن تكون ترفا ذهنيا أو ثراء معرفيا. إنها ضرب من العمل أو الممارسة يكفل للمرء حياة منسجمة سعيدة، أو هي في عبارة واحدة «فن الحياة»
ars vivendi
بتعبير شيشرون؛ فالعلوم الجزئية لا تقدم لنا إلا معارف جزئية تفيدنا في معرفة ما ينبغي علينا أن نصنعه بشيء بعينه أو في مواضع بعينها، ولكنها لا تدلنا على الموقف الذي ينبغي لنا أن نتخذه تجاه الحياة في عمومها أو تجاه الأشياء في كليتها؛ فذاك أمر يحتاج إلى علم آخر فوق العلوم الجزئية، هو «الحكمة» التي لا يبلغها المرء إلا بممارسة شاقة دءوب للفلسفة. والفلسفة عند الرواقيين هي «علم الأمور الإلهية والأمور البشرية.» كما يقول شيشرون. وحيث إنهم ذهبوا إلى أن العقل عنصر مشترك بين الكائنات الإلهية والبشرية فإن الفلسفة عندهم هي علم الموجودات العاقلة، أو علم الأشياء كلها؛ الأشياء الطبيعية عندهم مندمجة في الأشياء الإلهية. والفلسفة عند الرواقيين هي الشعور بكمون العقل في الطبيعة؛ ومن ثم فإن واجب الفيلسوف هو نبذ كل ما يخالف العقل سواء في طبيعة الكون أم في سلوك الإنسان، والتفطن إلى أن ما يبدو أحيانا مخالفا للعقل إنما هو في حقيقة الأمر معقول ومقبول حين تدرجه النظرة الفلسفية العميقة في سياقه الأوسع وتسلكه في إطاره الكلي العريض.
والفلسفة مبحث واحد متصل، وإن اضطر الرواقيون إلى تقسيمه، لدواعي الدرس والتعليم، إلى ثلاثة أقسام كبرى؛ المنطق (ويتضمن عندهم الميتافيزيقا واللاهوت والنفس)، والأخلاقيات. تتراتب هذه الأقسام في الأهمية عند أغلب الرواقيين؛ فالأخلاقيات لها الصدارة لدى عموم الرواقيين،
11
وإذا كان بعضهم يقدم عليها علم الطبيعة فإنما يعني بذلك أن الأخلاقية الصحيحة تقوم على معرفة الطبيعة وتنتج عنها مباشرة؛ فمن المحال أن يكون للإنسان مذهب في الأخلاق دون أن يستند على أساس من الطبيعة والميتافيزيقا؛ إذ لا يستطيع أن يكون له قواعد للسلوك دون فكرة عامة عن الكون الذي يحيا فيه.
12
وقد شبهوا الفلسفة ببستان؛ المنطق سوره، والطبيعيات أشجاره، والأخلاق ثمره. وشبهها البعض بالمدينة المحصنة؛ المنطق حصونها، والطبيعة سكانها، والأخلاق دستورها. والبعض شبهها بالبيضة؛ المنطق قشرتها، والطبيعة بياضها، والأخلاق محها (صفارها). وجملة القول أن التراتب الذي وضعه الرواقيون للفلسفة، سواء في التعليم أو في التصنيف، هو الذي يصعد من الأدنى إلى الأرفع؛ فيبدأ بالمنطق، ويصعد إلى الطبيعة، وينتهي إلى الأخلاق؛ ذروة الفلسفة وثمرتها وغايتها.
المنطق الرواقي
أخذ الرواقيون بالمذهب الحسي في نظرية المعرفة: «لا شيء في الذهن ما لم يكن قبل ذلك في الحس.»
13
ويشبهون، مثل أرسطو من قبل، الذهن قبل ورود الإحساسات عليه بالصحائف البيضاء التي لم ينقش عليها شيء؛ فالإدراك الحسي هو المصدر الأساسي للمعرفة، وخداع الحواس إنما هو في حقيقة الأمر «حكم»
judgement
زائف، وبالإمكان تلافيه بقليل من التحوط.
وإلى جانب الإدراك الحسي أخذ الرواقيون بما يعرف ب «المعاني الأولية» أو «الأفكار الفطرية» أو «الأوليات»؛ ذلك أن المنطق اليوناني الاستنباطي، وكذلك البحث العلمي بعامة، يثير مشكلة المقدمات الأولى؛ فالمقدمات الأولى ينبغي أن تكون عامة (على الأقل جزئيا)، وليس ثمة طريقة لإثباتها. ذهب الرواقيون إلى أن ثمة مبادئ معينة واضحة بذاتها ويسلم بها البشر جميعا، يمكن أن توضع، شأن الهندسة الإقليدية، كأساس للاستنباط. يمكن للأفكار الفطرية كذلك أن توضع كنقاط بدء للتعريفات. وقد ظلت هذه الوجهة من الرأي سائدة طوال العصور الوسطى، وأخذ بها بعض أصحاب المذهب العقلي من المحدثين؛ فهي تعد حجر الأساس، من الوجهة الميتافيزيقية، في المنهج الديكارتي.
14
تبدأ المعرفة عند الرواقيين ب «الانطباع» أو «التصور» أو «التمثيل»
representation (phantasia)
وهو الأثر الذي يطبعه على الذهن شيء خارجي كما ينطبع الخاتم على الشمع. وهو بمثابة أول حكم على الأشياء يعرض للنفس فتمنحه «القبول» أو «التسليم» أو «التصديق»
assent ، وهذا «التصديق» قد يكون على حق وقد يكون على غير حق. فإذا كان على حق تكون النفس قد بلغت الفهم أو «الإحاطة»
comprehension
أي إدراك الأمور على نحو يطابق تصورها. وأول مراتب اليقين هو «التصور المحيط» أي الانطباع الواضح القاهر
phantasia kataleptike
الذي له من القوة والبداهة ما يحملنا على التصديق به والإذعان له. ويذهب زينون إلى أن الإنسان حين يقع في الخطأ، فيصدق شيئا باطلا، فإثم ذلك عليه هو لا على الأشياء كما وردت عليه وتأدت إليه دون أن تفرض عليه اعتقاده، بل تركت له من الحرية والاختيار ما لم يحسن الاستفادة منه. ولقد سلم الرواقيون بأن أغلب الإدراكات الحسية لا يجبرنا، بل يترك لنا وجود الاختيار في الاعتقاد، وأن الحكمة عبارة عن معرفة هذه الوجوه والتوقف عن الحكم والإمساك عن التصديق والاعتقاد.
15
يقول ماركوس في «التأملات»: «لا شيء من هذه الأشياء يصدر حكما عن نفسه أو يفرض نفسه علينا؛ فالأشياء ذاتها خاملة، وإنما نحن الذين ننتج الأحكام عنها ونطبعها في عقولنا. وإن بوسعنا ألا نطبعها على الإطلاق، وأن نمحو في الحال أي حكم تصادف انطباعه.»
16 (11-16).
أراد الرواقيون أن يؤسسوا منطقا لا تتعارض فيه المعرفة الحسية مع المعرفة العقلية، فبحثوا عن «الحقيقة» في الأمور الوجودية الواقعية التي يشهدها الناس في تجارب حياتهم، ومن هنا أخذوا ب «المذهب الاسمي»
nominalism
ومؤداه أنه لا يوجد خارج الذهن إلا أفراد جزئيون وأشياء مفردة مشهودة محسوسة. أما «الأجناس» و«الأنواع» و«الصور» و«المثل» وغير ذلك من المعاني العامة أو «الكليات» فهي في الحقيقة مجرد «أسماء» ليس لها أي وجود خارج الذهن. إنها اختلافات عقلية، لا وجود لها خارج الأشياء (كمثل أفلاطون) ولا هي موجودة في الأشياء (كما هي عند أرسطو). إنها مجردات ذهنية قائمة في عالم الأذهان ولا يقابلها شيء في عالم الأعيان أو العالم الواقعي.
من هنا يصدر حرص الرواقيين في منطقهم على ألا يستعملوا إلا قضايا شخصية؛ أي ألفاظا تعبر عن وقائع وأحداث فردية. وهم بذلك يستبقون منطق جون ستيوارت مل، ويستبقون كذلك المنطق الجديد
logistic ، وبخاصة منطق رسل، بحرصه الدائم على التعبير عن الوقائع واعترافه بالعلاقة الوثيقة بين نشاط الفكر والوجود الواقع.
وقد صاغ الرواقيون نظرية القياس الشرطي والانفصالي
hypothetical and disjunctive syllogism
وهم أول من أدخل مصطلح «الانفصال» في المنطق، واكتشفوا علاقة منطقية مهمة تسمى في المصطلح الحديث بالتضمن (أو اللزوم) المادي.
17
كذلك اخترع الرواقيون مصطلحات للنحو الذي أصبح لأول مرة على أيديهم ميدانا للبحث العلمي المنظم؛ فأسماء الحالات النحوية اختراع رواقي. وقد وصلت الترجمات اللاتينية لهذه الحالات إلى اللغات الأجنبية الحديثة عن طريق النحويين الرومان، وما زالت تستخدم حتى اليوم.
18
الطبيعيات الرواقية
يستغرق علم الطبيعة في عرف الرواقيين عددا كبيرا من المباحث تشمل الطبيعة وما بعد الطبيعة واللاهوت والنفس. ولدراسة الطبيعة عند الرواقيين غاية أخلاقية بالدرجة الأساس؛ فالأخلاق لا تقوم في فراغ، ومن المحال أن يؤسس الإنسان قواعد للسلوك من غير أن يكون له علم بالعالم الذي يعيش فيه. والرابطة الوثيقة بين الميكروكوزم (الإنسان) والماكروكوزم (العالم) تحتم على عالم الأخلاق أن يدرس الطبيعة والمنطق لكي يبلغ مقصده على النحو الصحيح. فإذا كانت الفضيلة هي الحياة في وفاق مع الطبيعة فمن المتعين على الإنسان أن يلم بهذه الطبيعة التي يتعين عليه أن يعيش في وفاق معها.
ثمة مبدآن أولان في الطبيعيات الرواقية؛ المبدأ المنفعل وهو المادة (بوصفها ماهية غفلا من كل صفة)، والمبدأ الفاعل والإلهي وهو العقل الكامن في المادة ويحدث الأشياء جميعا بإعطائها صورها. وذهب الرواقيون فضلا عن ذلك إلى أنه لا قدرة على الفعل ولا قابلية للانفعال إلا للأجسام؛ ومن ثم فالشيء لا يكون حقيقيا (واقعيا، موجودا) ما لم يكن جسمانيا. وحتى المبدأ العاقل لا يخلو من أن يكون جسمانيا. إنه جسم لطيف يداخل المادة وينساب فيها كما تنساب النطفة في أجسام الكائنات الحية. وقد أغرق الرواقيون في ماديتهم حتى قالوا بأن خواص الأجسام وصفاتها، كاللون والرائحة والطعم والشكل والصوت؛ كلها أجسام، بل إن الصفات الأخلاقية نفسها، كالخيرات والفضائل هي أيضا أجسام! وإذا كان كل موجود جسما فلا وجود للاجسميات. واللاجسميات هي المعاني العامة ، والمعبر عنه (المعنى أو اللكتون) والخلاء والمكان والزمان. وهنا تتورط الطبيعيات الرواقية في ضروب من الغموض والتناقض.
19
وللرواقيين نظرية في الطبيعيات تسمى «المداخلة»
total compenetration
مفادها باختصار شديد أن الأجسام تتمازج وتتداخل بعضها في بعض تداخلا تاما ؛ بحيث يحتوي كل جزء، بمعنى ما، على جميع الأجزاء الأخرى، ويمكن لأصغر الأجسام أن يداخل أكبرها جرما ويجوس خلاله؛ ورب قطرة من الخمر تملأ البحر كله بل العالم أجمع! غير أن الأجسام تظل محتفظة بخواصها كلها؛ فالمداخلة لا تترك علاقة واضحة
asamos
أو
asemos
فهي بمثابة الرشح الذي لا يكون فيه الجسم المتداخل في الآخر قابلا لأن ينفصل ولا أن يستحيل جسما آخر. وعلى هذا النحو ينتشر الجسم الفاعل خلال الجسم المنفعل، وينتشر العقل خلال المادة والنفس خلال البدن؛ فالأشياء لا يؤثر بعضها على بعض تأثيرا من بعد، بل إن شئت فقل إن كل جسم هو بوجه ما كامن في جميع الأجسام الأخرى، ماثل في العالم بأسره، والعالم كله حاضر في كل واحد.
20
يوجز ماركوس أوريليوس فكرة المداخلة في قوله: «... إن جميع الأشياء، رغم انفصالها وتمايزها، يتخلل بعضها بعضا ويستجيب بعضها لبعض» (التأملات: 4-27).
والطبيعة عند الرواقيين شيء واحد، وهي كائن حي مفكر عاقل، جسمه العالم ونفسه الإله المنبث في كل مكان (وحدة الوجود، بانتيزم). إنه اللوجوس أو العقل الأزلي أو النار المبدعة التي تشكل المادة وفقا لخطتها. وهذه الخطة يتم تنفيذها ويعاد مرة ومرات إلى غير نهاية (العود الأبدي)، بدءا من حالة النار الخلاقة التي تتولد منها العناصر الأخرى، إلى خلق العالم الذي نعرفه، ثم عودة إلى النار مرة ثانية (الاحتراق العام
ekpyrosis/conflagratio ) وهو احتراق هادئ غير عنيف، وملائم للطبيعة وموافق لنظام الكون؛ ولذا يسميه زينون وخريسبوس «تطهير العالم» أي إعادته إلى كمال حاله. وتشبه هذه النار الخلاقة بالجرثومة التي تحتوي مبادئ الأشياء جميعا وحكاياها التي سوف تجري لاحقا؛ ولذا يسمى الإله أيضا ب «القدر»، على أن نضع بالاعتبار أنه يدبر أمر الكون ويسيره «من داخله» وليس «من خارجه» كشأن الخالق في محاورة أفلاطون «طيماوس». ومذهب «العود الأبدي » يعني أن العالم الذي ينشأ عن «الاحتراق العام» مشابه لسابقه طبق الأصل، تعيش فيه نفس الشخوص ويشهد نفس الأحداث، ولا جديد تحت الشمس.
الإنسان:
والإنسان مكون من نفس وبدن، والنفس متصلة بالبدن، وهي من ثم جسم؛ إذ لا يمكن أن يتصل جسم إلا بجسم، وهي مبدأ حياة الإنسان ومبدأ حركاته وأفكاره. وإذا مات الإنسان فارقت النفس البدن، ولكنها تبقى بعد فنائه حتى يحترق العالم. والنفس مكونة من ثمانية أجزاء، أهمها ما يسمى «العقل المدبر أو المهيمن أو الموجه»
Hêgemonikon
وهو أهم أجزاء النفس جميعا ومصدر أفكارنا ومشاعرنا ووعينا ووجداننا. وحين يولد الإنسان يكون عقله الموجه خلوا كالصفحة البيضاء، ثم تملؤها الانطباعات الحسية التي ترد عليه، ويكون منها ذكريات يتألف من مجموعها تجارب الإنسان. وبعد ذلك ترتسم الأفكار؛ فبعضها وارد من التربية التي يحصل عليها الإنسان، وبعضها يعود إلى جهده الذاتي، وبعضها فطري سابق على كل تجربة. والعقل البشري هو مجموع هذه الأفكار.
21
القضاء والقدر:
قلنا إن الرواقيين يأخذون بمذهب «وحدة الوجود» (البانتزم)، ومفاده أن الإله والكون شيء واحد، وأن اللوجوس (العقل) هو مصدر الأشياء جميعا وجوهرها الماثل في كل مكان. واللوجوس هو قانون يربط الأشياء رباطا لا انفصام له ولا فكاك منه. وهذا القانون هو «القضاء والقدر»؛ أي تسلسل العلل أو الأسباب تسلسلا يجعل كل حادث معلولا لعلة، وكل علة معلولا لأخرى، وهكذا إلى غير نهاية، ووفقا لقدر مرسوم. والزمان في الحقيقة لا يأتي بجديد، ولا شيء يحدث إلا وكان متضمنا من قبل في أصل الأشياء. وكل شيء في العالم خاضع للضرورة أو القضاء والقدر. غير أنها ضرورة عاقلة. والعناية الإلهية قد دبرت العالم أحسن تدبير، وكل ما في الكون ينم على حكمة عالية لا تخبط فيها ولا مصادفة ولا عشوائية؛ فالقضاء المحتوم هو نفسه عناية وتدبير يتغيا الخير، والعالم القائم هو خير العوالم الممكنة. ومن السخف القول، مع أبيقور، بأن العالم ناتج من التقاء الذرات بالمصادفة والاتفاق؛ فمثل هذا القول يعني أننا لو ألقينا عشوائيا عددا هائلا من الأحرف الأبجدية لأمكن لهذه الأحرف أن تقع مرتبة بحيث يتألف منها تاريخ «إنيوس» على حد قول شيشرون.
وكل موجود فلوجوده غاية، ولا شيء يوجد عبثا من غير قصد. والأدنى موجود من أجل الأعلى؛ فالنبات والحيوان موجودان من أجل الإنسان؛ فالإنسان غاية الأشياء ومدارها.
عن الطبيعة واللاهوت الرواقيين تنجم مشكلتان لا بد للرواقي من حلهما حتى يبرأ المذهب من التناقض ويسترد شيئا من الاتساق؛ الأولى مشكلة القدر وحرية الإنسان، والثانية مشكلة الشر.
القدر وحرية الإرادة الإنسانية:
ثمة توتر ظاهر بين الحتمية العلية والحرية الإنسانية، بين الضرورة الكونية والإرادة البشرية. وقد أخذ الرواقيون بكلا الضدين؛ فقد ذهبوا إلى أن الأشياء جميعا تمضي بقانون محتوم وقدر مرسوم وتسلسل سببي لا اعتباط فيه ولا مصادفة. وذهبوا في الوقت نفسه إلى أن للإنسان حرية إرادة، وبوسعه أن يفعل أو يحجم عن الفعل وفق إرادته واختياره. وقد سبق أن ألمعنا إلى محاولة كريسبوس حل هذه المشكلة بالتفرقة بين العلل الثانية أو الأصلية التي تعبر عن طبيعة الشيء الذي نحن بصدده، والعلل الأولى أو القريبة أو المساعدة التي تعبر عن الفعل الذي ينصب على الشيء من خارج. مثال ذلك أن الأسطوانة أو المخروط لا يمكنهما أن يتحركا إلا إذا جاءتهما الحركة من الخارج (علل أولى قريبة)، ولكن أسلوبهما الخاص في الحركة ودورانهما حول نفسيهما إنما يجيئانهما من طبيعتهما الخاصة (علل ثانية أصلية). كذلك الحال بالنسبة للإنسان؛ فإرادته الحرة هي العلة الأصلية الكبرى للفعل، وما «التصور المحيط» القاهر الذي يستولى على النفس إلا علة مساعدة لا أكثر. وإذا كانت الأسطوانة لا تملك اختيار التوقف عن الدوران فإن الإنسان قادر بنفسه على النزوع و«التصديق»
assent
أو الإعراض والرفض؛ وهو على كل حال يستطيع أن يقبل أو يرفض «الانطباع» أو «التصور» الذي يأتيه عن طريق الظروف الخارجية، كما يستطيع أن يتجه إلى الأشياء أو يزور عنها إذا شاء؛ فالإنسان إذن حر وله كسب واختيار. و«القدر» ليس هو العلة الأصلية في حصول ما يحصل، بل إن سلطانه لا يعدو الظروف الخارجية والعلل المساعدة للأفعال.
22
مشكلة الشر:
جابهت مشكلة الشر الرواقيين جميعا، من حيث وجود توتر ظاهر بين العناية الإلهية، التي أخذوا بها وأكدوها، وبين وجود الشر في العالم وجودا واقعيا ملموسا لا سبيل إلى إغفاله. وقد اختلفت معالجاتهم لهذه المشكلة، فذهب البعض إلى أن الشر في العالم مترتب على هبة الحرية الإنسانية. وأخذ البعض بالحل الهيرقليطي، اجتماع الأضداد، ومفاده أن الخير ضد الشر، ولا يوجد الضد من غير ضده، فوجود الخير إذن يستدعي وجود الشر، والشر إنما يخدم الخير، ومن الخطأ أن نريد أحدهما دون الآخر. وذهب البعض إلى أنه لا شر هناك إذا نظرنا إلى الأمر نظرة كلية كونية؛ فلكل شيء في الكون مكانه ووظيفته وغايته وطبيعته، وما يسميه الناس شرا إنما هو شر من حيث الجزء لا من حيث الكل، بينما هو يتجه في الحقيقة إلى كمال المجموع، ووجود الشر في الجزئيات شرط لخير الكل.
الأخلاق الرواقية
الرواقية مذهب أخلاقي عملي، والفلسفة عند الرواقيين هي ممارسة الفضيلة، وما البحث النظري وأفرعه العديدة سوى روافد لهذا المذهب الأخلاقي، أو وسائل لهذه الغاية العملية. وقد يختلف الرواقيون في جانب أو جوانب من المنطق أو الطبيعيات، أما المذهب الأخلاقي فواحد لا خلاف عليه إلا فيما ندر.
وإذا كانت السعادة هي مطمح البشر جميعا فإن الرواقيين يساوون بين السعادة وممارسة الفضيلة، ويعرفون السعادة، والفضيلة، بأنها الحياة وفاقا للطبيعة؛ أي وفاقا للعقل. ولما كان العقل عندهم منبثا في العالم ومتغلغلا في الوجود كله وشاملا لعقل الإنسان وعقل الكون، فإن ممارسة الفضيلة تعني الحياة وفقا للقانون الكلي الذي يحكم العالم، والحياة وفقا للعقل تعني الحياة وفقا للطبيعة الخاصة والطبيعة العامة في آن معا. والحكيم هو «مواطن العالم»، يقبل طوعا كل ما يغزله له قدره ومصيره، حتى ما يبدو للنظرة الضيقة مصابا أو نكبة؛ لأن نكبته الفردية أو مصابه الجزئي إنما هو شيء منسلك في النظام الكلي والقضاء الإلهي، وفيه خير العالم وصالحه حين ينظر إليه النظرة الشاملة الكلية، وكل ما هو خير للكل فهو خير لأجزائه في نهاية التحليل، مهما بدت الأمور غير ذلك لكل أناني يريد أن يعيش في خلاف مع مجموع الأشياء كأنه الورم في جسم العالم أو كأنه الغريب في المدينة الكبرى، ويريد أن يتمرد على قدره فلا يسوقه تمرده إلا حيث أرادت الأقدار.
وإذا كانت السعادة هي مطمح الناس جميعا، فإن من يعلق سعادته على الظروف الخارجية سيعيش مرتهنا لتقلبات الزمن، تتقاذفه الأحداث وتتناهشه المخاوف والوساوس، فيكون فريسة للشرور الخارجية كالفقر والمرض والإهانة والأذى، وللشرور الداخلية كالجزع والفزع والرعب والحزن والشك والندم. أما الرواقية فتعد مريدها بسعادة دائمة وهناء مقيم؛ ذلك أن سعادة الإنسان، في نظر الرواقية، لا تخضع للظروف الخارجية بل لإرادة الإنسان الداخلية وقراره الشخصي؛ فالأشياء الخارجية لا تقتحم علينا وجودنا الباطن ولا تؤثر بذاتها في شعورنا الداخلي، وإنما المؤثر الحقيقي هو استعدادنا النفسي الذي يجعلنا نقيم وزنا لهذه الظروف ونحكم عليها أحكاما قيمية؛ أي نصفها بالحسن أو القبح، بالخير أو بالشر. أمر السعادة إذن منوط بأحكامنا نحن وإرادتنا وقرارنا. وبوسعنا دائما أن نتوقف عن هذه الأحكام أو نمحوها من خاطرنا محوا وننعم في الحال بالهناء و«الطمأنينة»
ataraxia .
وحتى «الانفعالات»
emotions
النفسية، كالألم والخوف، التي تبدو ناجمة مباشرة عن المؤثرات الخارجية هي في حقيقة الأمر تصورات و«أحكام»
judgements
عقلية؛ فبين المؤثر الخارجي (والداخلي أحيانا) والاستجابة الانفعالية هناك دائما عنصر فكري أو «معرفي»
cognitive
يتوسط الأمر ويكون هو السبب المباشر للانفعال؛ إنه حكمنا، أو رأينا، أو تقييمنا للمؤثر، وهو من ثم أمر في يدنا وتحت تصرفنا وبوسعنا تعديله أو تصويبه إذا شئنا. يفرق الرواقيون مثلا بين الألم الجسمي، وهو شيء خارج عن إرادتنا، وبين موقفنا النفسي من الألم وهو شيء خاضع لإرادتنا وبمقدورنا أن نقرر بحرية أن نستسلم للألم أو لا نستسلم.
والحكيم الرواقي يتمتع بمنعة نفسية كاملة، لا سلطان للأهواء والانفعالات والأوهام على قلبه، لا يجزع في المحن ولا ينخذل في الشدائد، لا يرهن نفسه للأمل ولا يصغي لكاذب الرجاء. يحيا في سعادة دائمة، بالمعنى الرواقي للسعادة، أي الحياة المتدفقة في غبطة ، المسترسلة في دعة وحنو واكتفاء ورضا، الموافقة للعقل. ومهما تألم جسده وتبرم يظل عقله بمعزل، «محصنا من أي مجرى يجري في الجسد» (التأملات، 5-26)، عاليا فوق الغضب والكدر، وإن شئت فقل: «إن الحكيم لا يحس شيئا من هذه الأمور التي تضطرب بها نفوس الناس» (سينيكا، ثبات الحكيم، 10-3).
وصفوة القول أن الأشياء، أو الأحداث، بحد ذاتها لا تقحم نفسها على العقل بل تقف هناك، خاملة محايدة، لا هي خير ولا شر، ولا هي حسنة ولا قبيحة، بل هي جميعا «سواء» أو «أسواء» أو «لا فارقة»
indifferentia ؛ الفقر والغنى، الصحة والمرض، الحياة والموت، اللذة والألم، الشهرة والخمول ... إلخ، ليست بذاتها خيرا ولا شرا؛ فالخير الوحيد هو السلوك العقلاني الفاضل، والشر الوحيد هو السلوك الشرير المنافي للعقل.
ذلك أن الخير عند الرواقيين هو الشيء النافع لصاحبه تحت كل الظروف. فهل ينطبق هذا التعريف على المال مثلا؟ كلا؛ فلا يندر أن يستخدم المرء المال في معاقرة الإثم ويستخدم صحته في الظلم والبطش. المال، إذن، والصحة، ليسا خيرا في ذاتهما، وإنما هما كمثل غيرهما من الأشياء التي يتكالب عليها الناس؛ «أشياء لا فارقة»
indifferentia .
على أن الرواقيين يقرون بأن هناك أشياء تناسب طبيعة الكائن للوهلة الأولى
prima facie ، وله أن «يفضلها» على غيرها «في حالة تساوي بقية العوامل»
ceteris paribus ، وأطلقوا على هذه الأشياء «المفضلات»
preferables . فإذا خيرنا مثلا بين الصحة والمرض، بافتراض تساوي بقية الظروف، لاخترنا الصحة، وإذا خيرنا بين الغنى والفقر لاخترنا الغنى. والفعل الذي يتغيا هذه الأشياء المفضلة يقال له «فعل مناسب»،
23
غير أن البون عريض بين هذا «الفعل المناسب» وبين «الفعل المستقيم»
24
الذي هو حق على الإطلاق. والحكيم يقوم كغيره بأفعال «مناسبة»، غير أنه على استعداد دائما للعدول عنه لكي يؤدي «فعلا مستقيما»؛ فهو يطلب الصحة في العادة، ولكنه إذا أدرك أن مصيره المرض اتجه من تلقاء نفسه إلى المرض، وقد يفضل الحياة في العادة، ولكنه على استعداد دائما لتقبل الموت ما دام ذلك أمرا موافقا للطبيعة. وبصفة عامة فإن ما تقضي به خطة العناية هو دائما عقلاني قلبا وقالبا؛ ومن ثم فإن كل ما سيجري به القضاء ينبغي أن يتقبله الحكيم باعتباره موافقا لطبيعته، ومنصبا في مصلحته.
مصاعب منطقية : ثمة مصاعب منطقية في صلب المذهب الرواقي. فإذا كانت الفضيلة هي وحدها الخير للزم عن ذلك أن تكون العناية مهتمة بأن تحدث الفضيلة ولا شغل لها غير إحداث الفضيلة، غير أن قوانين الطبيعة قد أنتجت ما لا يحصى من الآثمين. وإذا كانت الفضيلة هي الخير الوحيد لما كان هناك مبرر لإدانة القسوة والظلم، حيث إن القسوة والظلم يقدمان لضحيتهما أفضل فرصة لممارسة الفضيلة. وما دام العالم مسيرا تماما بالحتمية فإن قوانين الطبيعة هي التي تحدد هل سأكون صالحا أو غير صالح. فإذا كنت شريرا فلقد أرغمتني «الطبيعة» على أن أكون شريرا، وقد انتفت عني الحرية التي يفترض أن تمنحها الفضيلة.
25
من الصعب على العقل الحديث أن يتحمس لحياة صالحة إذا لم يكن ثمة شيء سوف تحققه الحياة الصالحة، فنحن نقدر الطبيب الذي يعرض حياته للخطر في وباء طاعون؛ لأننا نرى المرض شرا ونأمل في التوقي منه، ولكن إذا لم يكن المرض شرا فإن للطبيب أن يلزم بيته مستريحا. وبالنسبة للرواقي فإن فضيلته تعد غاية في ذاتها لا شيئا يفعل الخير. وحين نمضي معه إلى آخر المدى فإن مآل الأمور جميعا هو احتراق العالم وتكرار العملية بأسرها. فهل هناك ما هو أكثر عبثية وامتناعا؟ قد يحدث تقدم هنا أو هناك حينا من الوقت، ولكن النهاية الوحيدة هي التكرار (الرجعة/العود). فإذا ما شهدنا شيئا مؤلما غير محتمل فإننا نأمل أن تنتهي مثل هذه الويلات بمرور الزمن. على أن الرواقيين يؤكدون لنا أن ما يحدث الآن سوف يحدث مرارا وتكرارا. وكأنا بالعناية التي تشهد الكل سوف يعروها الضجر واليأس في النهاية بكل تأكيد.
26
ثمة إلى جانب ذلك برود معين في التصور الرواقي للفضيلة. لا تدين الرواقية الانفعالات السيئة فحسب بل جميع الانفعالات؛ فالحكيم خلو من الانفعالات لا يشعر بالتعاطف؛ فإذا ماتت زوجته أو أبناؤه فإنه يقول لنفسه إن هذا المصاب ليس عقبة أمام فضيلتي؛ ومن ثم فإنه لا يعاني منه معاناة عميقة. أما الحياة العامة فقد يكون من واجبك الانخراط فيها لأنها تمنحك فرصة لممارسة العدل والعزيمة ... إلخ. على ألا تكون مدفوعا برغبة في نفع الجنس البشري، حيث أن المنافع التي يمكن أن تقدمها - كالسلام أو وفرة الطعام - ليست منافع حقيقية، ولا شيء يهمك على كل حال إلا فضيلتك ذاتها؛ فالرواقي ليس فاضلا لكي يفعل الخير، ولكنه يفعل الخير لكي يكون فاضلا، ولم يخطر له أن يحب جاره كنفسه؛ فالحب، إلا في معناه السطحي، غير موجود في مفهومه عن الفضيلة. «وحين أقول هذا إنما أعني الحب كعاطفة لا كمبدأ؛ فالحب الكوني مبدأ بشرت به الرواقية، وقال به سينيكا وخلفاؤه، ولعلهم قد أخذوه عن الرواقيين الأوائل. إن منطق المدرسة الرواقية قد أفضى إلى مذاهب متصلبة؛ مذاهب خففتها وهذبتها إنسانية أتباعها، الذين كانوا أفضل حالا بكثير مما كان يمكن أن يكونوا عليه لو أنهم كانوا متسقين مع مذهبهم».
27 (4) الرواقية الرومانية
حين دخلت الرواقية روما اصطبغت بالصبغة العملية، فنبذت التعقيدات المنطقية وتخلصت من كثير من تفصيلات علم الطبيعة، وركزت جل اهتمامها على الجانب الأخلاقي من المذهب. كان سينيكا، على سبيل المثال، يزدري علم المنطق ويتنكب الطبيعيات إذا عرضت له في أحاديثه (باستثناء كتابه «المسائل الطبيعية») وكان إبكتيتوس أيضا يمر على الطبيعيات في أحاديثه مر الكرام. أما ماركوس أوريليوس فلا يعرض لها أصلا، وفي الكتاب الأول من «التأملات» نجده يحمد الإله أنه لم يضع وقته في تحليل المنطق ولم يشغل نفسه ببحث الطبيعيات (1-17). «لقد كان المذهب الرواقي، في تصوره للإنسان، أكرم من نظريات العصر الكلاسيكي. فإذا كان أرسطو قد ذهب إلى حد الاعتراف بأن اليوناني ينبغي ألا يكون عبدا لأي واحد من البشر، فإن الرواقية ذهبت إلى أن الناس جميعا، بمعنى ما متساوون، وكانت في ذلك تسير على هدى الممارسة التي اتبعها الإسكندر، وإن كان الرق قد انتشر خلال عصور الإمبراطورية على نطاق أوسع مما كان في أي عهد مضى. وفي ضوء هذا الاتجاه الفكري أدخلت الرواقية التمييز بين القانون الطبيعي وقانون الأمم. والمقصود بالحق الطبيعي هنا ما يكون من حق الإنسان بناء على طبيعته البشرية وحدها. ولقد كان لنظرية الحقوق الطبيعية بعض التأثيرات النافعة على التشريع الروماني؛ لأنها خففت من محنة أولئك الذين حرموا من أن يكون لهم مركز اجتماعي بالمعنى الكامل. وقد أعيد إحياء هذه النظرية، لأسباب مماثلة في الفترة التالية لعصر النهضة الأوروبية، وذلك خلال الصراع ضد فكرة حقوق الملوك الإلهية.»
28
والحق أن الرواقية قد بثت مبادئها السمحة في القانون الروماني فأصلحته وهذبته وصبغته بصبغة عقلية أخلاقية كونية حتى صار، في عمومه، قانون الأمم المتحضرة حتى يومنا هذا:
الحياة وفقا للطبيعة أو طبقا للعقل
honeste vivere (أي إن الأخلاق قد صارت أساسا للحق نفسه الذي سيصبح قانون الإنسان في الجماعة).
عدم الإضرار بالغير
alterum non laedere (وتشمل عدم المساس بحرية الغير وسمعته وحياته).
إعطاء كل ذي حق حقه
suum cuique tribuere (وتشمل احترام الملكية).
تلك هي قواعد التشريع الروماني، التشريع الذي وضعه كبار المشرعين الرومان في القرن الثاني الميلادي، وكلهم رواقيون أو متأثرون بالرواقية. يقول إرنست رينان: «إن المبدأ الذي يذهب إلى أن على الدولة إزاء أفرادها واجبات كواجبات الآباء قبل الأبناء هو مبدأ أعلن لأول مرة على رءوس الأشهاد في عهد الإمبراطور والفيلسوف الرواقي ماركوس أوريليوس.»
29
سينيكا
ولد سينيكا
Seneca
بقرطبة حوالي العالم الثالث قبل الميلاد، لأسرة إسبانية أرستقراطية مثقفة. وانتقل إلى روما وهو صبي يافع، ودرس الفلسفة، ثم اشتغل بالمحاماة والخطابة ونجح فيهما نجاحا باهرا، ومارس العمل السياسي حتى صار مستشارا للإمبراطور نيرون والذي كان قد أشرف على تربيته منذ صباه. وفي عهد كلاوديوس نفي إلى كورسيكا بناء على طلب ميسالينا زوجة كلاوديوس. ويبدو أن سينيكا، وكان آنذاك عضو مجلس شيوخ، كان كثير الانتقاد لسلوك الإمبراطورة المثير للشبهات. وبقي في منفاه ثمانية أعوام ثم عاد إلى روما بعد مقتل ميسالينا لكي يتولى تربية نيرون، وريث العرش الإمبراطوري الذي أنجبه كلاوديوس من زوجته الثانية أجريبينا. وحين تولى نيرون وأمعن في الطغيان والبطش والدموية فشل سينيكا، مربيه ومستشاره، في رده إلى الاعتدال والقصد، واتهمه نيرون بالتآمر ضده، وأوعز إليه أن ينتحر، على الطريقة السائدة آنذاك، بقطع شرايينه. وقد أخذ سينيكا يلقي خطبة من أبلغ خطبه على جمع من رفاقه والدم يسيل من جراحه. وقد مات ميتة رواقية متفقة مع فلسفته، على الرغم من أن حياته لم تكن في عمومها متسمة بالطابع الرواقي؛ فقد جمع ثروة طائلة اكتسب معظمها من إقراض البريطانيين بأرباح ضخمة، وكان أرستقراطي المزاج يحتقر الجماهير ويؤثر أن يتحدث إلى مستمع واحد، وكثير من آرائه نعرفها من خلال رسائله التي بعث بها إلى تلميذه «لوكيليوس» ومن أعماله النثرية الأخرى إلى جانب مسرحياته.
30
في هذه الرسائل يدعو سينيكا تلميذه إلى الرواقية، وإلى أن يترك الترف الأبيقوري ويأخذ نفسه بشيء من التقشف الرواقي، وأن ينصرف عن الآراء الشائعة بين الدهماء، ويعتزل المجالس والمجتمعات والمنتديات والشئون العامة، ويخلو إلى نفسه ويظل رغم ذلك من أهل المدينة الكبرى، مدينة العالم، وهي أحق المدن بالحكيم.
لم يقدم سينيكا ميتافيزيقا واضحة المعالم، ولم يكن يولي الطبيعيات أهمية إلا ما كان منها ذا صلة بالأخلاق. وفي أخلاقه كان انتقائيا يوفق بين الآراء المختلفة، ويتجنب التطرف في أي اتجاه؛ فالطبيعة تكره الإسراف؛ فلننصرف عن شئون الدنيا، ولكن في بساطة ومن غير ضجة ولا إعلان؛ فإن فضل المجاهد لا يقاس بتجهم الملامح وقذارة الأسمال. ولنحسن إلى الغير ولكن الإحسان في السر لا يعدله أي ضرب من الإحسان الظاهر. ولنصبر على الحياة، ولكن لنختر الموت طوعا إذا كان الموت هو آخر معقل للحرية وآخر ملاذ للكرامة. ولننصرف عن عبادة المال، ولكن إذا جاءنا المال فليس من الحكمة أن ننبذه؛ فهو ابتلاء علينا أن نحتمله. وإنه لمن الضعف أن يعجز المرء عن احتمال الثروة.
31
ولنصبر على موت الأحباب، ولكن ليس من الممكن دائما أن يمسك الأب دموعه عند فقد ولد عزيز. ولنغبط عيش الأكواخ التي عاش فيها آباؤنا الأولون، ولكننا لا نستطيع أن نحمل سريا من سراة الناس على أن يعيش في برميل. ولنعتدل في الشراب ولكن «كاتو» كان يدعونا أن نغرق فيه أحزاننا من حين إلى حين.
وقد حظي سينيكا في العصور اللاحقة بما هو أهل له من التمجيد والتشريف. وصار اسمه مرتبطا بمبادئه النبيلة وكتاباته الآسرة أكثر من ارتباطه بممارساته العملية التي لا تخلو من أشابة. وقد زعم العديد من آباء الكنيسة أنه مسيحي، وقيل إنه كانت هناك مراسلات بينه وبين القديس بولس، ويسلم بذلك رجال من طبقة القديس جيروم.
32
إبكتيتوس
يوناني ولد في هيرابوليس بآسيا الصغرى حوالي عام 50م (وقيل 60م). وأرسل إلى روما ليكون عبدا لرجل من خلصاء نيرون هو إبافروديتوس
Epaphroditus ، ومن هنا جاء اسم «إبكتيتوس»
Epictetus
وتعني باليونانية «العبد». وقد تركت فيه فترة العبودية من حياته آثارا سيئة؛ عرجا دائما واعتلالا صحيا عاما.
تعلم إبكتيتوس الفلسفة وسط العبودية والبؤس. وتعلم أن يتحرر أخلاقيا قبل أن يتحرر رسميا، ومن أقواله: «لا تقل إني مشتغل بالفلسفة فهذا غطرسة وتوقح، بل قل إني مشتغل بتحرير نفسي.» وبعد أن نال حريته قام بتدريس الفلسفة في روما حتى عام 91م، عندما أمر الإمبراطور «دوميتيانوس» بطرد الفلاسفة من إيطاليا لأنهم كانوا ينتقدون حكم الإمبراطور الإرهابي ويشكلون قوة معنوية تقف في وجه العرش الإمبراطوري، فهاجر إلى نيكوبوليس
Nicoplois
في الشمال الغربي لليونان، وفتح بها مدرسة فلسفية كان الشباب الروماني الأرستقراطي يفد إليها ليتعلم من العبد الذي سعى إليه المجد على كره منه، وعلا شأنه لدى رجال البلاط في روما.
لم يكتب إبكتيتوس بنفسه أي كتاب في الفلسفة، وإنما يعود الفضل إلى تلميذه «أريانوس»، وكان من قادة الجيش الروماني وحاكما على «كبادوكيا»، في حفظ أقوال إبكتيتوس، فكتب كتابا أسماه «المذكرات» أو «محادثات إبكتيتوس»
Discourses (Entretiens)
بقي لنا منه أربعة أبواب، ونشر كتابا اسمه «الموجز» أو «المجمل» أو «الكتيب»
Manual
اختصر فيه فلسفة إبكتيتوس اختصارا قويا متقنا.
عرف إبكتيتوس كيف يلائم بين الرواقية القديمة وبين الطبع الروماني العملي وحاجات العصر الجديد، فآثر الصياغة القصيرة المحكمة للخواطر الأخلاقية، وأعرض عن الخوض في الطبيعيات؛ لأنها مما يصعب إدراكه، فضلا عن أنها قليلة الغناء؛ لأن غاية الفلسفة عنده ليست البحث في العلل الأولى بل إصلاح النفس وتزكية الروح.
من الطبيعي لإنسان ذاق الرق في مطلع حياته أن تكون الحرية هي مدار حديثه وملاك تفكيره، «فالاشتغال بالفلسفة هو الاشتغال بتحرير النفس.» و«نحن لا نملك إلا حريتنا.» والحرية هي «أغلى النعم التي نحوزها في هذه الحياة.» والحرية هي أن يسلك الإنسان وفقا لإرادته واختياره فلا يقهره أحد على غير ما يريد. إنها حرية النفس التي تعرف كيف تحكم نفسها وفق قانون تسنه لنفسها.
وإذا تأمل الإنسان نفسه «ليعرفها» وفقا لمبدأ سقراط، فسوف يتبين له أنه مستعبد لأشياء كثيرة؛ فهو عبد لجسمه، عبد للمال، عبد للجاه والسلطان. فإذا ما أراد لنفسه الحرية الحقيقية فليلتمسها لا في الأشياء الخارجية، ولا في جسمه ولا في ماله وجاهه؛ فكل ذلك مجرد رق أخلاقي، بل إنه واجدها في نفسه وفي شيء مستقل كل الاستقلال؛ وهو «قدرته على الحكم والإرادة ... ولا شيء من الخارج يستطيع أن ينال حرية النفس بسوء» (المحادثات، 1: 17-21). فحرية الإنسان تفلت من سلطان الناس وسلطان الأشياء، و«نحن لا نملك إلا حريتنا» (المحادثات، 1: 4-27). والإله الذي منحنا الحرية محال أن يسلبنا إياها؛ فالمنحة الإلهية لا تسترد كالمنح البشرية.
33
والفيصل في أمر الحرية هو أن يفرق الإنسان بين ما في قدرته وما ليس في قدرته. ثمة أشياء ليست في قدرتنا واختيارنا؛ أجسامنا وأموالنا ومناصبنا ... إلخ، وأشياء في قدرتنا وتحت تصرفنا ونستطيع أن نوجهها كما نشاء؛ أفكارنا وعواطفنا وإرادتنا وأفعالنا وأحكامنا. علينا أن نتخذ أحكاما موافقة لطبيعة الأشياء، فنعرف أن حدوث الأشياء أمر ضروري فنذعن لها ونتقلبها كما أوجدها مصرفها جل وعلا، وألا يصيبنا منها أي كدر أو ابتئاس؛ فليست الأشياء هي ما يكدرنا بل حكمنا على الأشياء وتقييمنا لها. أما الأشياء ذاتها فمتساوية القيمة
indifferent
أي ليست بذاتها خيرا ولا شرا، إنما الخير والشر في إرادتنا؛ فإرادتنا وحدها تستطيع بإقرارها أو رفضها أن تعطي الأشياء قيمها. وإذا كان الحكيم الرواقي قد ألغى في نفسه كل انفعال فإنما يفعل ذلك لكي يخلي المكان لفعل الإرادة. «احتمل وتزهد» ... ربما تكون هذه خلاصة فكر إبكتيتوس ولباب الأخلاق الرواقية. احتمل (ما أصابك، وما ليس في مقدورك تغييره، ما ليس في ذاته خيرا ولا شرا)، وتزهد (فيما لا تملكه، ما ليس في مقدورك بلوغه، ولا هو في ذاته خير ولا شر).
ويتحدث إبكتيتوس عن أواصر القربى بين الإله والناس! ويجعلها مبدأ لفكرة عظمة النفس وفكرة الإخاء بين بني الإنسان، ويفضلها، كوثاق يربط الناس جميعا، على فكرة اشتراك الناس في العقل.
الفصل الثاني: رواقية ماركوس أوريليوس قراءة في «التأملات»
(1) رواقية معدلة
كانت رواقية ماركوس أوريليوس رواقية معتدلة ومعدلة؛ فقد اطرح ماركوس بعض مبادئ الرواق، ولم يغل في بعضها الآخر غلو القدامى، وتجنب الخوض في المنطق والطبيعيات، ودون خواطره الشخصية بأسلوب بسيط، في الأغلب الأعم، تجنب فيه ذكر المصطلحات الفنية والتخريجات المعقدة، بذلك قدم للرواقية صيغة سلسلة سائغة قريبة المأخذ، فكانت «آخر رسالة بعث بها العالم القديم إلى الأجيال المقبلة.»
من ذلك أنه رفض زعم الرواقيين بإمكان المعرفة اليقينية، وأخذ برأي منتقديهم القائل بأن الحكيم الذي يملك المعرفة اليقينية لا وجود له: «لكأنما ألقي على الأشياء حجاب كثيف حتى لقد بدت لعدد غير قليل من كبار الفلاسفة غير قابلة للفهم على الإطلاق. وحتى الرواقيون أنفسهم بدت لهم الحقائق عصية على الفهم، وبدا لهم كل تصديق عقلي لإدراكاتنا شيئا عرضة للخطأ؛ فليس هناك من هو معصوم ...» (5-10).
ومن ذلك أنه رفض أن توضع الآثام جميعا في مرتبة واحدة، فقد ذهب قدامى الرواقيين إلى أن الفضيلة «كل» واحد بسيط لا يتجزأ، تملكها كلها أو لا تملك منها شيئا، وكذلك الأمر في الرذيلة، ورفضوا فكرة التدرج الأخلاقي، وجاءوا في ذلك بتشبيه معجب فقالوا بأن الإنسان إما أن يكون فاضلا وإما غير فاضل، ولا يعد فاضلا من لم يبلغ الفضيلة بتمامها، كما أن الغريق لا يكون أقل غرقا على بعد شبر من سطح الماء منه إذا كان في قاع البحر. يقول ماركوس: «إن ارتكاب الخطيئة بدافع الرغبة لأشد من ارتكابها بدافع الغضب؛ إذ يبدو أن من أثاره الغضب إنما يحيد به عن العقل شيء من الألم والتشنج غير الإرادي، أما من دفعته الرغبة إلى الخطيئة فاستسلم للذة فيبدو أكثر تهتكا في إثمه وأقل رجولة. إن الأول أشبه بشخص أوذي فاضطره الألم إلى الغضب، أما الثاني فإنه هو هو مصدر نزوته ومنشأ اندفاعته إلى الإثم حين تحدوه الشهوة إلى ارتكاب ما ارتكب» (2-10).
ومن ذلك أنك لا تجد في كلامه نبرة الثقة الزائدة والاعتداد بالرأي الذي تجده في أقوال قدامى الرواقيين. يقول ماركوس مخاطبا نفسه: «ليس لديك متسع للدرس والتحصيل، ولكن لديك متسعا لأن تكف الغطرسة، ولديك متسعا لأن تعلو فوق اللذة والألم، ولديك متسعا لأن ترتفع فوق حب الشهرة والصيت، وألا تحنق على البليد والجاحد، بل، حقا، أن ترعاهما» (8-8)، «احرص ألا تتقيصر، وألا تصطبغ بهذه الصبغة؛ فقد تقع في ذلك إذا لم تتوخ الحذر ...» (6-30).
ومن ذلك أنه، بخلاف الرواقيين القدامى، أخذ بفكرة أفلاطون عن الواجب الاجتماعي والسياسي؛ فلما كان الإنسان كائنا اجتماعيا فإن من واجبنا أن نقوم بدورنا في الشئون السياسية العامة. يقول ماركوس: «إنني أصحو من نومي لكي أؤدي عملي كإنسان، أما زلت كارها أن أذهب لكي أؤدي ما خلقت من أجله وما وجدت في العالم لكي أؤديه؟ ...» (5-1).
لقد قدر لماركوس أوريليوس أن يكون إمبراطورا فيلسوفا،
1
فلم يجتنب لحظة صحبة الفلسفة، ولم يفرط في واجبات الملك والقائد العسكري. واستطاع أن يخفف من هذا التوتر الظاهر بين مسئوليات الحاكم ومسئوليات الفيلسوف، وقنع بأن الفضيلة يمكن أن تجد لها منفذا إلى القصور، وبأن ممارسة الفلسفة يمكن أن تلطف من جفاء الحاكم وتجعله أكثر قبولا وأحسن موقعا في القلوب «لتكن الفلسفة لك ملاذا دائما ومستراحا وموئلا، حتى تجعل القصر يبدو محتملا لك، وحتى تبدو أنت محتملا في القصر» (6-12).
والحق أن الوظيفة العسكرية لم تكن متفقة مع روح الفيلسوف لدى ماركوس أوريليوس، على الرغم من إتقانه لهذه الوظيفة. يرشح ذلك من حديثه بين الحين والآخر: «العنكبوت فخورة حين تصطاد ذبابة، والإنسان فخور بصيده؛ أرنب مسكين، سمكة صغيرة في شبكة، خنازير، دببة، أسرى من الصرامطة، والجميع من حيث الدافع لصوص» (10-10). (2) قلعة الذات
لعل أهم ما يؤثر عن ماركوس وصفته العلاجية بالرجوع إلى الذات، والخلو إلى النفس من وقت لآخر التماسا للأمان والسكينة، باعتبارها الحصن الداخلي المنيع. إنه المنتجع العقلي حيث الاستجمام الحقيقي والتجدد الدائم . وهو الحصن الذي كان يلجأ إليه ماركوس أثناء حملاته الشمالية وراء الدانوب، والذي يهيب بنا ماركوس أن نبحث عن مثله داخل أنفسنا.
يقول سينيكا: «لذ بذاتك.»
secede te ipsum
ويقول ماركوس: «إنهم يبحثون عن منتجعات لهم؛ في الريف، على البحر، على التلال، وأنت بصفة خاصة عرضة لهذه الرغبة المشبوبة، ولكن هذا من شيم الطغام، فما زال بإمكانك كلما شئت ملاذا أن تطلبه في نفسك التي بين جنبيك؛ فليس في العالم موضع أكثر هدوءا ولا أبعد عن الاضطراب مما يجد المرء حين يخلو إلى نفسه، وبخاصة إذا كانت نفسه ثرية بالخواطر التي إذا أظلته غمرته بالسكينة التامة والفورية. ولست أعني بالسكينة إلا الحياة التي يحكمها العقل ويحسن قيادها. فلتمنح نفسك دائما هذا الاستجمام، ولتجدد ذاتك. ولتكن المبادئ العقلية التي سوف تعود إليها هناك وجيزة وأساسية وكافية لأن تذهب بكل ألمك في الحال وتعيدك إلى أمورك المستأنفة خاليا من السخط عليها أو التبرم بها» (4-3). «تذكر أن عقلك الموجه لا يقهر إذا ما اعتصم بنفسه مكتفيا بذاته غير فاعل شيئا لا يريد أن يفعله، حتى لو كان موقفه مجرد عناد، فما بالك إذا كان الحكم الذي يكونه مؤيدا بالعقل والروية؛ لذا فإن العقل الخالي من الانفعالات هو قلعة؛ ليس ثمة ملاذ للناس أقوى منه، ومن يأوي إليه فهو في حصن حصين؛ فما أجهله من لا يرى هذه القلعة، وما أتعسه من لا يلوذ بهذا الحصن» (8-48). (3) علمهم أو احتملهم
أخذ ماركوس بالفكرة السقراطية القائلة بأن «الفضيلة علم والرذيلة جهل.» وألا أحد يرتكب الشر عن قصد؛ أي عن علم. ينتج عن ذلك، منطقيا، أن علينا تجاه مرتكب الخطأ أن نعلمه ونبصره بجهله، وإلا نعلمه فلنتسامح معه ولا نحمله فشلنا نحن وتقصيرنا في إرشاده إلى المسلك الصحيح. «... ليست هناك نفس تريد عمدا أن تحرم من الحقيقة، والشيء نفسه ينسحب على العدالة، والاعتدال، والإحسان، وكل هذه الفضائل. من المهم للغاية أن تضع هذا دائما باعتبارك، فبذلك سوف تكون أرفق بالجميع» (7-63). «لقد ابتلي كل منهم بذلك من جراء جهله بما هو خير وما هو شر، أما أنا وقد بصرت بطبيعة الخير وعرفت أنه جميل، وبطبيعة الشر وعرفته قبيحا، وأدركت أن مرتكب الرذائل لا يختلف عني أدنى اختلاف في طبيعته ذاتها - فنحن لا تجمعنا قرابة الدم والعرق فحسب بل قرابة الانتساب إلى نفس العقل ونفس القبس الإلهي - أما أنا وقد بصرت بهذه القرابة فلن يسوءني أي واحد من هؤلاء ولن يعديني بإثمه، وليس لي أن أنقم منه قرابتي أو أسخط عليه ...» (2-1). «سل نفسك ماذا يكون هذا الشيء الذي يعرض لي الآن؟ وأي نوع من الفضائل يلزمني لمواجهته: الرفق مثلا أم الشجاعة أم الصدق، إلخ؟ ... هذا جاء من أحد إخوتي من بني الإنسان، قريبي وزميلي، وإن كان لا يعرف ما يليق بطبيعته ذاتها. غير أني أعرف؛ ومن ثم أعامله برفق وعدل، متبعا في ذلك القانون الطبيعي للأخوة ...» (3-11). «من المفيد عمليا أن تعي هذا كلما صادفته؛ وهو تلك الفضيلة التي وهبتنا إياها الطبيعة لكي نقابل بها كل فعل خبيث. وهبتنا الرفق ليكون ترياقا للقسوة، وخصالا أخرى نواجه بها إساءات أخرى. وبصفة عامة، بوسعك دائما أن تعيد تعليم من ضل طريقه، وكل من يفعل الشر فقد أخطأ هدفه الحقيقي وضل طريقه» (9-42). «من الطبيعة الإنسانية أن تحب حتى من يزلون ويسقطون. يتبين ذلك إذا ما أخذت باعتبارك، حين يخطئون، أن البشر إخوة، وأنهم يخطئون عن جهل وليس عن عمد، وأن الموت لا يلبث أن يطويك ويطويهم. والأهم، أن المخطئ لم يضرك، ولم يجعل عقلك الموجه في وضع أسوأ مما كان عليه من قبل» (7-22). «إذا استطعت فبين لهم الطريق الأقوم، وإذا لم تستطع فتذكر أنه لذلك السبب قد أوتيت ملكة السماحة» (9-11). (4) نهر التغير
أخذ ماركوس عن هيراقليطس فكرة التغير الدائم لكل شيء؛ فالوجود تغير وصيرورة، ولا شيء يثبت على حاله اللهم إلا التغير نفسه! يقول هيرقليطس: «إنك لا يمكن أن تنزل النهر نفسه مرتين؛ لأن مياها جديدة تتدفق
2
عليك بلا انقطاع.» ويقول ماركوس إن «التغير هو أسلوب الطبيعة في عملها» (8-6). «تنشغل طبيعة العالم بهذا العمل؛ أن تحول الواقع إلى آخر، أن تغير الأشياء، أن تأخذها من هنا وتضعها هناك. كل الأشياء تغير» (8-6). فالتغير ليس «صفة» للأشياء بل «أسلوب وجود». «الزمن أشبه بنهر من الأحداث الجارية وتيار عنيف؛ فما يكاد شيء يظهر للعين حتى ينجرف بعيدا (إلى الماضي) ويحل غيره محله، فما يلبث أن ينجرف بدوره» (4-43). «تأمل دائما كل ما يأتي به التغير، ورض نفسك على فكرة أن طبيعة «الكل» لا تولع بشيء قدر ولوعها بتغيير كل شكل من الوجود إلى شكل آخر، شبيه ولكن جديد ...» (4-36). «فنظام الأشياء تحفظه التغيرات التي تعتور العناصر مثلما تحفظه التغيرات التي تعتور الأشياء المكونة من هذه العناصر» (2-3). «هل يخشى أحد من التغير؟ حسن، فأي شيء يمكن أن يحدث من دون تغير؟ أو أي شيء أعز على طبيعة «الكل» وأقرب إليها من التغير؟ هل بوسعك أنت نفسك أن تغتسل إذا لم ينل التغير خشب الموقد؟ هل بوسعك أن تأكل دون أن يتغير ما تأكله؟ هل يمكن أن يتحقق أي شيء نافع في الحياة بدون تغير؟ ألست ترى، إذن، أن التغير بالنسبة لك هو الشيء نفسه، وأنه ضروري بنفس الدرجة لطبيعة الكل؟» (7-18). والتغير يحفظ نظام الأشياء ويبقي العالم صبيا على الدوام: «... وطبيعة العالم، التي من خلال التغيير الدائم لأجزائها المكونة تبقي العالم كله صبيا وعفيا» (12-23). «بعض الأشياء تحث الخطو إلى الوجود، وبعضها يحث الخطو للخروج منه، وبعضها يولد هالكا من الأصل. التغير يجدد العالم على الدوام، كما يجدد المسير الدائب للزمن أمد العصور إلى الأبد. في هذا التيار المتدفق، حيث لا ثبات لقدم، ماذا يمكن للمرء أن يجل من كل ما يتدافع أمامه؟ لكأنه ما يكاد يولع بعصفور يطير أمامه حتى يكون قد اختفى عن بصره ...» (6-15). (5) أهمية دراسة الطبيعيات
لم يكن ماركوس أوريليوس شغوفا بالمنطق والطبيعيات ، غير أنه أوصى بدراستهما بالنظر إلى الصلة الوثيقة بين الإنسان والكون (بين الميكروكوزم والماكروكوزم). «من لا يعرف ما هو العالم لا يعرف أين هو، ومن لا يعرف لأي غاية وجد العالم لا يعرف من هو ولا ما هو العالم، ومن يجهل أي شيء من هذه لا يمكنه حتى أن يقول لماذا وجد هو ذاته، ما رأيك إذن في ذلك الرجل الذي يتجنب أو يطلب المديح من أناس لا يعرفون أين هم ومن هم؟» (8-52). «ضع نصب عينيك دائما هذه الأشياء؛ ما هي طبيعة «الكل»؟ ما هي طبيعتي الخاصة؟ ما علاقة هذه الطبيعة بتلك؟ أي صنف من الجزء لأي صنف من الكل؟ وأن ليس بإمكان أحد أن يحول بينك وبين أن تقول ما تقول وتعمل ما تعمل وفقا لتلك الطبيعة التي أنت جزء منها» (2-9). «لا شيء يؤدي بك إلى سمو العقل مثل قدرتك على أن تعرض كل عنصر من عناصر خبرتك في الحياة على الفحص المنهجي والصادق، وقدرتك على أن تنظر إلى الأشياء دائما بحيث يمكنك في الوقت نفسه أن تتأمل أي صنف من العوالم هذا وأي دور يسهم به هذا الشيء أو ذاك في هذا العالم، وأي قيمة يتحلى بها كل شيء بالنسبة إلى «الكل» وبالنسبة إلى الإنسان الذي هو مواطن هذه المدينة العليا التي تعد سائر المدن مجرد عائلات فيها» (3-11). (6) الكوزموس
ذهب ماركوس إلى أن العالم كله ليس إلا كائنا واحدا حيا مترابط الأعضاء متواشج الأجزاء. وأن ما يحدث في الجزء يؤثر في الكل والعكس بالعكس، وأن الله والطبيعة شيء واحد (وحدة الوجود/البانتزم). «انظر دائما إلى العالم على أنه كائن حي واحد، يتكون من مادة واحدة وروح واحدة، انظر كيف يذوب الكل في هذا الوعي الواحد، كيف تخضع كل أفعاله لنزوع واحد، كيف تتعاون الأشياء جميعا في كل ما يحدث، انظر أيضا الغزل الدائم لخيط الشبكة ونسيجها» (4-40). «ثمة ضوء واحد للشمس وإن تشتت على الجدران والجبال وما لا يحصى من الأشياء، ثمة مادة عامة واحدة وإن تكسرت إلى ما لا يحصى من الأجسام لكل منها صورته وخصائصه، ثمة روح حيوانية واحدة وإن توزعت بين ما لا يحصى من الأنواع والأفراد، وروح عاقلة واحدة وإن بدت مقسمة» (12-30). «جميع الأشياء متواشجة متشابكة، يربطها معا رباط مقدس. لا شيء غريب عن الأشياء الأخرى فجميعها قد رتبت معا لكي تتعاون على تحقيق «النظام» الواحد للعالم؛ ذلك أن «العالم» المؤلف من جميع الأشياء واحد، والإله المنبث في كل الأشياء واحد، والمادة واحدة، والقانون واحد، والعقل الشائع في جميع الموجودات العاقلة واحد، والحقيقة واحدة؛ لأن الحقيقة هي كمال الموجودات العاقلة المشاركة في عقل واحد» (7-9). «تأمل مليا ترابط الأشياء جميعا في العالم وقرابتها، جميع الأشياء، بطريقة ما، متواشجة، ولديها من ثم مشاعر ود بعضها تجاه بعض؛ فالشيء يتلو الشيء في نظام منضبط، من خلال توتر الحركة والروح الشاملة التي تلهمها ووحدة الوجود كله» (6-38). «جميع الأشياء، رغم انفصالها وتمايزها، يتخلل بعضها بعضا ويستجيب بعضها لبعض» (4-27). «في سلاسل الأشياء فإن اللاحق يكون دائما مرتبطا بما سبقه، لا مجرد إحصاء بسيط لأشياء منفصلة ومجرد تعاقب ضروري، بل ارتباط عقلي. ومثلما أن الأشياء الموجودة مترابطة بينها بانسجام، كذلك عمليات الصيرورة لا تعرض مجرد تتابع، بل انسجاما صميما مدهشا» (4-45).
ويذهب الرواقيون إلى أن جوهر العالم هو العقل الكلي أو «اللوجوس»، وأن هذا العقل مبثوث في كل شيء وفي كل مكان، يقول ماركوس: «لا تعد تتنفس فقط من الهواء المحيط، بل خذ فكرك أيضا من العقل الذي يضم الأشياء جميعا؛ فالقوة العاقلة منتشرة، كالهواء، في كل مكان ومتخللة في كل شيء، طوع من يشاء أن يتشربها، تماما كالهواء لمن يستطيع أن يتنفسه» (8-54).
الاقتصاد الكوني : يرى ماركوس أن كل جزء من أجزاء الطبيعة ضروري لها ومنسجم مع «الكل» ومتمم له ... حتى مخلفات الطبيعة ونفاياتها هي أشياء مقبولة ومعقولة في السياق الكلي، تعاد دورته داخل الكل المكتفي بذاته: «... ولا تسأل لماذا جعلت مثل هذه الأشياء في العالم؛ فهذا سؤال مضحك عند دارس الطبيعة، مثلما يضحك عليك النجار أو الإسكاف إذا رآك تستاء لمنظر قشارة أو قصاصات، متخلفة عن عملهما، على أرض الورشة. على أن لدى هذين مكانا ما لإلقاء مخلفاتهما، أما طبيعة «الكل» فلا شيء لديها خارج ذاتها. والعجيب في فنها أنها حددت حدودها، وكل ما يفسد داخلها أو يشيخ أو ينتهي استعماله فإنها تعيد دورته داخلها وتخلق أشياء جديدة أخرى من هذه المادة نفسها، بحيث لا تحتاج إلى مادة من الخارج ولا إلى مكان تلقي فيه نفاياتها، إنها تامة إذن ومكتفية بمكانها، ومادتها، وفنها» (8-50). «كل الأشياء تأتي من هناك ... من ذلك العقل الكلي الحاكم، إما مباشرة وإما كنتيجة؛ لذا حتى فكا الأسد المفتوحان، وحتى السم، وكل مؤذ من الأشياء، كالشوك، كالطين، هي نواتج بعدية للنبيل والجميل. فلا تحسبنها غريبة عما تقدسه، بل تأمل، وأنصف، ينبوع الأشياء جميعا» (6-36). «وحتى النواتج العرضية لما يتم وفقا للطبيعة لا يخلو من فتنة وجاذبية. حين يخبز رغيف، على سبيل المثال، فلا بد من أن تحدث تشققات هنا وهناك ضد ما يقصده الخباز. على أن هذه التشققات غير المتعمدة تجذب العين بطريقة ما وتثير الشهية. التين أيضا يتفلق عند تمام نضجه. وفي حالة الزيتون الذي ينضج على شجرته فإن قرب التحلل يمنح ثمرته رونقا معينا. كذلك سنابل القمح المنحنية إلى الأرض، وجفن الأسد المغضن، والزبد المتدفق من فم الخنزير، وغير ذلك كثير، كل أولئك أشياء بعيدة عن الجمال حين تؤخذ على حدة، ولكن ترتبها على عمليات الطبيعة يضفي عليها جمالا وجاذبية؛ ومن ثم فأي إنسان لديه شعور واستبصار عميق بتشغيلات «الكل» سوف يجد لذة ما في كل جانب منها تقريبا، بما في ذلك النواتج العرضية» (3-2). لكل شيء في الطبيعة، إذن، دوره في حبكة «الكل»، ولكل شخص وظيفته حتى النائم وحتى المخرب: «حتى النائمون هم عمال مشاركون في صنع ما يحدث في العالم، لكل واحد عمله المقيض له، وهناك وظيفة حتى للمناوئ الذي يريد أن يفسد الإنتاج، فالعالم بحاجة إليه أيضا» (6-42). «تستخدم الطبيعة مادة العالم مثلما يستخدم الشمع؛ فتارة تخلق منه كهيئة حصان، ثم تصهره وتستخدم مادته لخلق شجرة، ثم إنسان، ثم شيء آخر. كل شيء من الأشياء لا يدوم إلا قليلا. ليس صعبا على الوعاء أن ينحطم، مثلما لم يكن صعبا عليه أن يستوي من قبل وعاء» (7-23). «ستخلق أشياء أخرى من هذه المادة، ثم أشياء أخرى من هذه، وهكذا بحيث يبقى العالم صبيا على الدوام» (7-25).
يفضي الاعتقاد بالكوزموس (الكون الواحد المنظم) إلى الإيمان بالعناية ورفض نظرية التقاء الذرات بالمصادفة التي تقول بها الأبيقورية. لقد كانت الأبيقورية في زمن ماركوس هي الفلسفة المنافسة للرواقية في الاستحواذ على قلوب الشبيبة الرومانية؛ ومن ثم فهو كثيرا ما يضع طبيعياتها (الذرات) كمقابل للطبيعيات الرواقية (الكون المنظم/العناية)، ويفرض على نفسه الاختيار: «... أم تراك ساخطا على ما قسم لك من نصيب في الكل؟ إذن فاذكر أنك مضطر إلى أن تختار؛ فإما عناية مدبرة وإما ذرات عمياء تلتقي كيفما اتفق وتفترق» (4-3). على أنه في بعض الفقرات يخلص إلى نتائج أخلاقية واحدة من المقدمات الرواقية والأبيقورية على السواء، فيستهل القياس بعبارة: «سواء كان الأمر ذرات أو عناية.» ومن ثم فإنه يتيح ل «اللاأدري»
agnosticist
في مجال الطبيعيات أن يكون «رواقيا»
stoicist
في مجال الأخلاق: «الكون لا يخرج عن حالين اثنين: فإما فوضى واضطراب وتشتت (إلى ذرات)، وإما أنه وحدة ونظام وعناية. فإذا صح الافتراض الأول فلماذا أرغب في المكوث في عالم مركب عشوائيا ويعاني من مثل هذا الاختلاط؟ ولماذا أعني نفسي بشيء آخر غير تحول التراب إلى تراب؟ وفيم يخالج نفسي اضطراب؟ فالتناثر سوف يصيبني إذن مهما فعلت. وإذا صح الافتراض الثاني أقدم إجلالي، واقفا ثابتا لا أتزعزع، متوكلا على من بيده تصريف كل الأمور» (6-10). (7) الأشياء اللافارقة
Indifferentia
قلنا إن الرواقيين يذهبون إلى أن الخير الوحيد هو في الفعل العقلاني الفاضل، والشر هو في السلوك الأرذل المنافي للعقل. أما الأشياء الخارجية التي درج الناس على اعتبارها خيرات وشرورا، كالمال والجاه والصحة والمرض والحياة والموت والشهرة والخمول واللذة والألم ... إلخ، فهي أشياء «سواسية» أو «غير فارقة»
Indifferentia ، أي لا يمكنها بذاتها أن تؤثر في العقل الموجه أو الحالة الداخلية للإنسان، وبالتالي فإنها ليست في ذاتها خيرا ولا شرا. «... الموت والحياة، النباهة والخمول، الألم واللذة، الغنى والفقر ... ليست هذه الأشياء في ذاتها حسنة ولا سيئة؛ وبالتالي ليست في ذاتها خيرا ولا شرا» (2-11). «تجمل بالبساطة والتواضع وعدم الاكتراث بما ليس خيرا ولا شرا» (7-31). «عش الحياة على أفضل نحو ممكن، بوسع الروح أن تفعل ذلك إذا كانت غير مكترثة بالأشياء غير الفارقة. وستكون غير مكترثة بهذه الأشياء إذا نظرت إليها ككل وإلى كل منها على حدة، وتذكرت أن لا شيء من هذه الأشياء يصدر حكما عن نفسه أو يفرض نفسه علينا» (11-16).
إن إسباغ قيمة على هذه الأشياء اللافارقة ليس مجرد خطأ في الحكم، بل إن له نتائج عملية وبيلة. «إذا كنت تعدها خيرا أو شرا تلك الأشياء الخارجة عن سيطرتك فسوف يترتب على ذلك بالضرورة أن تتذمر على الآلهة وتبغض البشر كلما أصابك هذا الشر أو كلما فقدت ذلك الخير ... إننا لنرتكب ظلما عظيما باكتراثنا بهذه الأشياء واعتبارها «فارقة». أما إذا قصرنا صفة الخير والشر على ما يقع في نطاق قدرتنا فلن يعود ثمة مبرر لاتهام إله أو لاتخاذ موقف عدائي من إنسان» (6-41). «القيمة الحقيقية هي أن تفعل أو تحجم وفقا لفطرتك الحقة ... وإذا أنت قبضت على هذه القيمة فلن تصبو إلى اكتساب أي شيء آخر، ولن تعلي من شأن كثير من الأشياء الأخرى إلى جانبها. وإلا فلن تكون حرا أو مكتفيا بذاتك أو خاليك من الانفعال، وستضطر إلى الجسد والغيرة والتوجس مما لديهم القدرة على أن يسلبوك هذه الأشياء، والتآمر على من يملكون ما تراه ثمينا. وباختصار، فكل من يشعر بالحاجة إلى أي شيء من هذه الأشياء يكون بالضرورة منغص العيش، بل سيدفعه ذلك في أحيان كثيرة إلى أن يتذمر على الآلهة» (6-16). (8) السعي إلى الأشياء «بتحفظ»
من هنا ينبغي السعي إلى الأشياء المفضلة (المفضلات
preferables )؛ أي الأشياء اللافارقة الملائمة للإنسان بادي الرأي، بتحفظ، ومن غير لهفة زائدة؛ حتى لا نجعل صدمة الإخفاق تنال من سعادتنا وهنائنا، فلتسع إلى ما يناسبك «ولكن احرص ألا تدع التنعم به يجعل منك مدمنا له معتمدا عليه، كيلا تبتئس إذا ما فقدته يوما ما» (7-27). «... وتذكر أن محاولتك كانت بتحفظ. إنك لم ترد أن تعمل المستحيل، ماذا تريد إذن؟ جهدا ما مقيدا بشرط. ولقد حققت هذا» (6-50). «بلا زهو تقبل الرخاء إذا أتى، وكن مستعدا لفقدانه إذا ذهب» (8-33). (9) التعامل مع العقبات
ترتبط فكرة التحفظ في السعي إلى الأهداف بفكرة أخرى تتصل بالتعامل مع المصاعب. فإذا كان الخير هو السلوك العقلاني الفاضل، فماذا لو صادفتنا العوائق واعترضت سبيلنا العقبات؟ يجيب ماركوس ببساطة: لا شيء، ستكون تلك فرصة أخرى لممارسة الفضيلة: «... إن العقل لديه القدرة، بطبيعته وبإرادته، على أن يمضي خلال كل عقبة. في جميع الكائنات العضوية الأخرى فإن أي أذى يلحق بأي منها يجعله أسوأ في ذاته، أما في حالة البشر فإن الشخص في الحقيقة يصبح أفضل وأجدر بالثناء إذا استخدم الظروف التي تصادفه استخداما صحيحا» (10-33). «فإذا اعترض أحد سبيلك بالقوة فتذرع بالهدوء، وحول العائق إلى تمرس بصنف آخر من الفضيلة» (6-50). «هل اعترضك عائق في سعيك إلى شيء ما؟ إذا كان سعيك حقا غير مشروط فسيكون هذا العائق بالتأكيد مؤذيا لك ككائن عاقل. أما إذا قبلت المسار المعتاد للأشياء فليس ثمة من أذى بعد ولا عائق، أترى ... لا أحد سواك سوف يعوق الوظائف القويمة للعقل؛ فلا الناس ولا الحديد ولا الطغيان ولا السب يمكن أن يمس العقل؛ فمنذ أصبح العقل دائرة مكتملة فإنه ما يزال في وحدته دائرة مكتملة» (8-41). «تلك القوة الحاكمة بداخلنا، حيثما كانت في توافق مع الطبيعة، تتخذ موقفا مرنا من الظروف، وتكيف نفسها دائما بسهولة ويسر مع ما يعرض لها من أحداث؛ فهي لا تتطلب مادة معينة لعملها، بل تتجه إلى غرضها بأسلوب تكيفي فتحول أي عقبة في طريقها إلى مادة لاستعمالها. إنها أشبه بنار تسيطر على أي شيء يسقط في جوفها. قد تنطفئ الجذوة النحيلة إثر ذلك، أما النار المضطرمة فتتملك المادة التي تركم عليها، وتلتهمها وتنزو فوقها بفضل هذه المادة نفسها» (4-1). «قد تعيقني هذه الأشياء عن بعض نشاطي، نعم ولكنها لا تشكل عوائق أمام وجداناتي ونوازعي، من حيث إن بها يقبع الالتزام المشروط وقوة التكيف. إن العقل ليتكيف ويدور حول أي عائق للفعل لكي يخدم هدفه؛ فيحول ما هو عائق عن عمل معين إلى معين على ذلك العمل، ويحول العقبة في طريق ما إلى تقدم على تلك الطريق» (5-2). «إذن حيثما وقف عائق في طريقك فتقبل العائق كما هو وحول جهدك بحكمة لمواجهة الظرف القائم، وسرعان ما سوف يحل فعل جديد محل السابق متلائما مع هذا الوضع الجديد الذي نتحدث عنه» (8-32). ليس في هذه المداورة العقلية أي حيود أو زيغ عن طريق العقل: «يتحرك السهم بطريقة، ويتحرك العقل بطريقة أخرى، ومع ذلك فإن العقل، حتى عندما يمارس الحيطة أو يدور حول بحث معين، إنما يتحرك بنفس الاستقامة، ويمضي قدما في طريقه» (8-60). (10) منعة العقل
ذلك أن العقل من نفسه في حصن حصين، إنه بمعزل وبمنجاة من الأشياء الخارجية، «وما إن يسل نفسه ويكتشف قواه حتى ينفصل بذاته عن تقلبات الجسد» (4-3). وليس للأشياء الخارجية أي سلطان على العقل؛ إنها «هناك» ... خاملة محايدة لا تملك للعقل ضرا ولا رشدا. يقول ماركوس: «لا يمكن للأشياء ذاتها أن تمس النفس أقل مساس. ليس لدى الأشياء مدخل إلى النفس وليس بمكنتها أن تدير النفس أو تحركها. إنما النفس تدير ذاتها وتحرك ذاتها، وتقيم لنفسها ما تراه ملائما من الأحكام على ما يعرض لها من أشياء» (5-19). «لا تفرض الأشياء الخارجية، التي تطلبها أو تتجنبها، نفسها عليك فرضا، إنما أنت، بمعنى ما، من يخرج إليها. فليهدأ حكمك عليها وسوف تهدأ هي بدورها، ولن تراك تسعى إليها بعد ولا تتجنبها» (11-11). «الأشياء واقفة خارجنا، قائمة بذاتها، لا تعرف شيئا عن نفسها ولا تدلي بشيء، ما الذي يدلي إذن؟ عقلنا الموجه» (9-15). «ينبغي أن يبقى الجزء الموجه والحاكم من نفسك محصنا من أي مجرى يجري في الجسد» (5-29). «... فمن الخصائص التي ينفرد بها العقل أنه يعزل نفسه ولا يتأثر بنشاط الحواس أو نشاط الرغبات؛ فهذان النشاطان حيوانيان، بينما غاية النشاط العقلي أن يتسيد عليهما ولا يسلم قياده لهما؛ لأن طبيعته ذاتها هي أن يضع كل هذه الأشياء تحت إمرته» (7-55). «العقل الموجه هو ذلك الذي يوقظ نفسه، ويضفي على نفسه الطبيعة التي يريدها، ويجعل كل ما يحدث له يبدو على النحو الذي يريده» (6-8). وإذا كان الجسد يعاني أو يتألم فذاك شأنه، أما الروح فبمقدورها «أن تحتفظ بصفاتها وسكينتها وألا تقيم الألم على أنه شر؛ لأن كل رأي وحركة ورغبة ونفور هو في الداخل؛ حيث لا شر يمكن أن يبلغ إليه» (8-28). «العقل الموجه لا يكرث نفسه؛ فلا هو يروعها ولا هو يسوقها إلى الرغبة، فليروعها ما شاء أو يؤلمها فإنه بذاته وبحكمه الخاص لم يعمد إلى الالتفات إلى مثل هذه الحالات. فليحرص الجسد على تجنب الألم ما وسعه ذلك، ولتقل النفس الحاسة إني أخاف أو أتألم. أما العقل الذي يضع التقييم العام لكل هذه الأشياء فلن يعاني على الإطلاق؛ لن يندفع بنفسه إلى أي من هذه الأحكام؛ فالعقل الموجه بحد ذاته ليس به حاجة ما لم يخلق الحاجة بنفسه؛ ومن ثم فهو لا يضر ولا يعاق ما لم يضر نفسه أو يعق نفسه» (7-16). «وحتى إذا جرفك الطوفان فليأخذ جسدك البائس ونفسك الضئيل وكل شيء آخر، أما العقل فلن يأخذه» (12-13). «... والعقل بترفعه بنفسه يحتفظ بسكينته، العقل الموجه لا يعوقه الألم، وللأجزاء المتأثرة بالألم أن ترى فيه ما تراه» (7-33). (11) الضرر لا يكون إلا ذاتيا
يترتب على ما سبق أن ليس ثمة من أذى حقيقي يمكن أن يصيب الإنسان إلا ما يجره العقل على نفسه، وذلك حين يخطئ في أحكامه، ليس ثمة أذى إلا الأذى الذاتي. «هل أساء إليك أحد؟ إنما إلى نفسه أساء» (4-26). «لا أذى لك يقبع في عقل غيرك، ولا حتى في أي تبدل أو تغير لعطائك الجسدي. أين إذن يقبع الأذى؟ في ذلك الجزء منك الذي يضطلع بتكوين الأحكام عن الأذى. كف عن الحكم بأن بك أذى تكن قد سلمت منه. ولو أن أقرب شيء منه، وهو جسدك، تعرض لسكين أو كي، أو ترك ليتقيح أو يموت؛ فإن الملكة التي تحكم هذه الأحكام ينبغي أن تظل هادئة ...» (4-39). «إنما تؤذي النفس نفسها عندما تصبح كيانا منفصلا أشبه بورم على جسد العالم؛ فالسخط على أي شيء تجري به الأقدار هو تمرد انفصالي عن الطبيعة ... وحين تنأى بجانبها عن كائن إنساني آخر أو حين يلج بها الخصام فتعمد إلى إيذائه. تلك هي حال الأنفس التي استبد بها الغضب، وحين تستسلم للذة أو للألم، وحين تتكلف وترائي وتفعل أو تقول غير الصدق وغير الحق، وحين تفقد الهدف وتخبط خبط عشواء، فالفعل مهما صغر ينبغي أن يؤدى لغاية ويرمي إلى هدف. وغاية الكائنات العاقلة هي أن تتبع العقل وتلتزم قانون أقدم دولة وحكومة؛ العالم» (2-16). (12) الاستقلال عن إرادة الآخرين
يؤذي الإنسان نفسه حين يجعل سعادته معلقة على آراء الآخرين فيه وحديثهم عنه، ثم يريد أن يحصل عليها تسولا واستجداء! «إنه شحاذ إذا اعتمد على الآخرين ولم يذخر في نفسه كل ما يحتاج إليه في الحياة» (4-49). «السعادة تتعلق على تقدير الذات لذاتها، وما زلت تحرمها من ذلك وتعلق سعادتك على الآخرين؛ ذواتهم وآرائهم وتقديراتهم» (2-6). «ما جدوى المديح؟ لكأني بك ترفض هبة الطبيعة التي أودعتك إياها، والتي لا تعتمد على أقوال الآخرين، وتتشبث بشيء آخر» (4-19). «كل ما هو جميل على أي نحو من الأنحاء إنما هو جميل «في ذاته»، يذخر جماله في لبه وصميمه وليس المديح جزءا منه؛ فالمديح لا يجعل الشيء أفضل مما هو ولا أسوأ» (4-20). «لا تتلفت حولك لكي تنقب في عقول الآخرين، بل انظر أمامك، إلى ما تقودك إليه الطبيعة ...» (7-55). «ما أهنأ باله ذلك الذي لا يتطلع إلى ما يقوله جيرانه وما يفعلون وما يفكرون، بل ينصرف إلى أفعاله هو ليجعلها عادلة موقرة مشربة بالخير» (4-18). «كيف تفهم خيرك الخاص؟ عاشق الشهرة يجعل خيره في استجابات غيره، وعاشق اللذة يجعل خيره في خبرته السلبية. أما الحكيم فيرى خيره هو أفعاله ذاتها» (6-51). (13) تقبل قدرك
كل ما يصيب الإنسان هو مقدر له منذ الأزل، وملائم له لأنه ملائم لطبيعة العالم، وخير له لأنه خير ل «الكل»، وعلى المرء أن يرضى بنصيبه ويتقبل قدره؛ لأنه خير له من جهة، ولأنه لا مفر منه من جهة أخرى. «هل ألم بك شيء؟ حسن، كل ما ألم بك كان مقدرا لك من «الكل » منذ البداية ومنسوجا من أجلك» (4-26). «لا تحب إلا ما ألم بك ونسج لك من خيط مصيرك، فأي شيء أنسب لك من هذا؟» (7-75).
يقول سينيكا: «القدر يحدو العقلاء ويجرجر الحمقى.» ويقول ماركوس: «أسلم نفسك طواعية إلى «كلوثو»، إحدى إلهات القدر، ودعها تغزل خيطك على أي شكل شاءت» (4-34). «ما أشبه الإنسان المتبرم بكل شيء والساخط على كل شيء بخنزير الأضحية يرفص ويصرخ. كهذا الخنزير أيضا ذلك الإنسان الذي يندب، صامتا، في مخدعه كل القيود التي تربطنا بها. وحده الإنسان العاقل من ألهم أن يختار الاستسلام طوعا لما يحدث. على أن الاستسلام المحض ضرورة مفروضة علينا جميعا» (10-28). «مثلما نقول جميعا إن الطبيب قد «وصف» لهذا ركوب الخيل، ولهذا حمامات باردة، ولهذا المشي حافي القدمين؛ فإن لنا أن نقول بنفس المعنى إن طبيعة «الكل» قد «وصفت» لهذا المرء المرض أو العجز أو أي شيء آخر من هذه البلايا. في الحالة الأولى تعني كلمة «وصف» شيئا من هذا القبيل؛ أن الطبيب قد أوصى بهذا الإجراء لهذا الشخص لكي يجلب له الصحة. وفي الحالة الثانية تعني أن ما يقع لكل شخص هو مدبر بطريقة ما لكي يفضي إلى مصيره. ونحن نتحدث عن ملاءمة هذه الأحداث مثلما يتحدث البناءون عن ملاءمة قوالب الحجر في الجدران أو الأهرامات عندما يتراص بعضها مع بعض في وضع معين؛ ذلك أنه في كلية الأشياء ثمة توافق واحد، ومثلما تتحد الأجسام المادية جميعا لتجعل العالم جسما واحدا، كلا منسجما، كذلك تتحد الأسباب جميعا لكي تجعل القدر سببا منسجما واحدا. ذلك شيء يفهمه حتى أقل الناس علما؛ فهم يقولون «القدر أحدث له هذا.» فإن كان القدر «أحدث» فقد «وصف» أيضا. ولنقبل هذه الوصفات مثلما نقبل وصفات الطبيب؛ فكثيرا ما تكون قاسية ولكننا نقبلها التماسا للشفاء » (5-8). (14) المبادئ الرواقية جاهزة للاستعمال
حين يتم تدريب الحكيم الرواقي تغدو العقلانية فيه اعتيادا ذهنيا وتغدو الفضائل طبيعة ثانية، وتصبح مبادؤه العقلية ملازمة له لا تفارقه؛ لأنها جزء منه، «في تطبيقك لمبادئك كن كالملاكم لا المبارز أو المجالد
gladiator : فالمجالد مرتهن لسيفه الذي يستخدمه، يرفعه أو يسقط عنه ويقتل، أما الملاكم فلديه دائما يده، وليس عليه إلا أن يستخدمها» (12-9). «تماما مثلما أن الأطباء دائما جاهزون بأدواتهم ومباضعهم لعلاج أي حالة طوارئ، ينبغي أن تكون مبادؤك العقلية جاهزة لفهم الأمور الإلهية والإنسانية، وأداء كل فعل، مهما كان ضئيلا، بوعي بالرابطة التي تربط الإلهي بالإنساني؛ فلن يتسنى لك أن تجيد أي عمل يتعلق بالإنسان دون أن يكون لديك أيضا مرجعية إلى الأمور الإلهية، والعكس بالعكس» (3-13). إن الحكمة تطبيق وممارسة واعتياد بقدر ما هي تنظير وتحصيل وتأمل، وإن النفس ل «تصطبغ بالأفكار» حتى تصبح فيها سليقة وخليقة وماهية. (15) فعل الخير ثواب ذاته
كذلك الخير حين يصبح في الإنسان طبيعة وسجية فإنه يأتيه عفوا من غير تكلف ولا جهد. إنه لينضح بالخير مثلما ينضح الإناء بما فيه، أو مثلما يؤدي الكائن وظيفته الطبيعة لا يفتعلها ولا يكاد يعيها. «من الناس من إذا أسدى جميلا إلى شخص سارع بتسجيله في حسابه كدين مستحق. ومنهم من لا يسارع بذلك غير أنه يضمر في نفسه أن هذا الشخص مدين له، ويعي جيدا بما فعله. وهناك صنف ثالث هو بمعنى ما لا يعي ما أتاه ولا يحشد له ذهنه، وإنما هو كالكرمة التي أهدت عناقيدها ولا ترتقب أي مقابل. الفرس وقد أتم السباق، والكلب وقد طارد، والنحلة وقد أفرغت عسلها، والإنسان الذي أسدى معروفا؛ لا يلحظ أي من هؤلاء ما صنع ولا يلتمس عليه شهودا، بل يمضي إلى فعل جديد كما تمضي الكرمة لتقدم عناقيد جديدة في الموسم الجديد. فلتكن واحدا من هؤلاء الذين يجترحون الخيرات دون أن يلاحظوها» (5-6).
إن الرحمة غاية في ذاتها وفعل الخير ثواب ذاته، يقول المعري في ذلك:
ولتفعل النفس الجميل لأنه
خير وأفضل لا لأجل ثوابها
ويقول ابن الرومي:
ليس الكريم الذي يعطي عطيته
على الثواب وإن أغلى به الثمنا
إن الكريم الذي يعطي عطيته
لغير شيء سوى استحسانه الحسنا
وإن الحكيم، بحسه الاجتماعي وبتوحده برفاقه البشر، إنما يؤتي الخير إنصافا لذاته وبرا بنفسه قبل أي شيء آخر! «وإلا فأنت بعد لا تحب رفاقك البشر من قلبك، وفعلك الخير لا يبهجك كغاية في ذاته ... ما زلت تفعل البر بوصفه أدبا وواجبا وليس بوصفه برا بنفسك» (7-13). «ما دمت فعلت خيرا وتلقاه آخر، فما لك ما تزال تترقب، كالأبله، شيئا ثالثا إلى جانب هذين؛ أن تنال صيتا بفعل الخير، أو تتلقى مقابلا؟» (7-73). «هل صنعت شيئا ما من أجل الصالح العام؟ إذن فقد تلقيت أجري. لتكن هذه دائما قناعتك ولا تكف أبدا عن فعل الخير» (11-4). «الخطأ خطؤك إذا كنت قد أسبغت معروفا دون أن تجعل هذا المعروف غاية في ذاته، وتجعل فعلك هو ثواب ذاته الذي لا يفتقر إلى أي ثواب آخر، فأي شيء آخر تريده أيها الإنسان من فعل المعروف؟ أليس بكاف أنك قد فعلت شيئا متناغما مع طبيعتك ذاتها؛ أتريد الآن أن تضع ثمنا له؟! وكأن العين تطلب مقابلا على الرؤية، أو القدم على المشي! فمثلما خلق هذان لغرض معين ويحققان طبيعتهما القويمة بأن يعملا وفقا لفطرتهما الخاصة، كذلك الإنسان خلق لكل يفعل الخير، وحيثما فعل الخير أو أسهم في الخير العام فقد فعل ما خلق له ونال ما هو له» (9-42). (16) انصرف إلى اللحظة الحاضرة «يرقد صاحيا، يحسب المستقبل،
يحاول أن يحل خيوط الماضي والآتي،
وينشرهما ويفك ألغازهما ويضمهما معا،
بين منتصف الليل والفجر، حيث الماضي خداع كله،
والمستقبل لا مستقبل له.»
ت. س. إليوت
يذهب ماركوس إلى أن المرء لا يملك في حقيقة الأمر إلا اللحظة الحاضرة؛ لأن ما عداها هو إما ماض ذهب أو مستقبل غير معلوم وغير مضمون. ينتج عن ذلك أن المرء لا يمكن أن يخسر إلا هذه اللحظة التي في يده؛ لأنه لا يملك شيئا آخر حتى يخسره! «حين تتكدر في أي ظرف فقد نسيت ... أن كلا منا لا يعيش إلا اللحظة الحاضرة ولا يفقد إلا إياها» (12-26).
يترتب على ذلك أمور كثيرة ينبغي أن نلتفت إليها؛ أولها أننا يجب ألا نسوف الخير، ويجب أن ننصرف إلى اللحظة الحاضرة ولا نكدرها بأطياف مشاهد مضت، ولا بهواجس أمور تأتي ولا تأتي. «انصرف إلى المسألة التي أمامك، سواء أكانت رأيا أم عملا أم كلمة. إنك تستحق ما أنت فيه؛ لأنك اخترت أن تكون صالحا غدا لا أن تكون صالحا اليوم» (8-22).
ويترتب على ذلك أن الشهرة والمجد وخلود الذكر أوهام لا وجود لها: «اذكر أن كلا منا لا يعيش إلا اللحظة الحاضرة، وما أضألها في الزمن، وأن كل ما سواها من العمر هو إما ماض غير عائد وإما مستقبل غير معلوم» (3-10).
ويترتب عليه أن عبء اللحظة الحاضرة هو العبء الوحيد الذي ينبغي أن نحمله، وينبغي ألا نثقله بما ليس منه: «لا تزعج نفسك بالتأمل في المشهد الكلي لحياتك، لا تدع فكرك يضم في آن معا كل ما أزعجك فيما مضى وكل ما يمكن أن يزعجك فيما بعد، بل اسأل نفسك في كل ظرف حاضر: «أي شيء في هذا يفوق احتمالي وينوء بي؟» ولسوف تخجل من مثل هذا الإقرار. ثم ذكر نفسك أنه لا المستقبل ولا الماضي هو ما يثقل عليك، بل الحاضر وحده. وكم يهون عبء الحاضر إذا أمكنك فقط أن تحدده وتضعه في حجمه، وأن توبخ عقلك إذا كان يكل عن الصمود لشيء مخفف كل هذا التخفيف» (8-36). (17) طول الحياة غير فارق
ويترتب على ذلك أيضا أن طول الحياة غير فارق ما دمنا لا نملك إلا اللحظة الضئيلة الحاضرة ولا نخسر إلا إياها: «حتى لو قدر لك أن تعيش ثلاثة آلاف عام، أو عشرة أضعاف ذلك، فاذكر دائما أن لا أحد يفقد أي حياة غير تلك التي يحياها، أو يحيا أي حياة غير تلك التي يفقدها. ينتج من ذلك أن أطول حياة وأقصرها سيان؛ فاللحظة الحاضرة واحدة في الجميع؛ ومن ثم فإن ما ينقضي متساو أيضا. يتبين إذن أن الفقدان إنما هو فقدان لحظة لا أكثر؛ ذلك أن المرء لا يمكن أن يفقد الماضي ولا المستقبل؛ فكيف يمكن أن يسلب ما ليس يملك؟! تذكر إذن هذين الشيئين؛ أن الأشياء جميعا هي ما هي منذ الأزل، تبدأ وتعود دواليك، وسيان أن يرى المرء نفس المشهد لمائة عام أو مائتين أو ما لا نهاية من الأعوام. وأن ما يسلب من المعمر هو ما يسلب من أقصر الناس عمرا؛ فليس غير اللحظة الحاضرة ما يمكن أن يسلب من الإنسان. فإذا صح أن هذه اللحظة هي كل ما يملكه فمن غير الممكن أن يفقد ما ليس يملك» (2-14).
ينبغي إذن أن يتخلص الإنسان من هاجس التشبث بالحياة وكأن امتداد الأجل عاما أو أعواما يمكن أن يحدث أي فارق. «كما لو أن إلها أخبرك أنك ستموت غدا أو بعد غد على الأكثر فلم تعلق أهمية على فرق يوم واحد ... كذلك ينبغي عليك ألا تتصور فارقا يذكر بين أن تموت بعد سنين طويلة وأن تموت غدا» (4-47). «استعرض في ذهنك قائمة بأولئك الذين تشبثوا بالحياة فترة طويلة، ماذا ربحوا من ذلك أكثر مما ربح من مات مبكرا؟ من المؤكد أنهم يرقدون الآن جميعا في قبورهم ... انظر إلى هول فجوة الماضي من ورائك وإلى اللانهاية الأخرى من أمامك. ما الفرق من هذا المنظور بين رضيع عاش ثلاثة أيام ونسطور عاش ثلاثة أجيال؟» (4-50)، «كل ما تراه سوف يزول سريعا، وأولئك الذين يشهدون زواله سوف يزولون هم أنفسهم. مت في أرذل العمر أو مت قبل أوان موتك ... كلاهما سيان» (9-33)، «ما من نشاط يضيره أن يتوقف ما دام توقف في الوقت المناسب، ولا فاعله يضيره شيئا أن هذا النشاط المعين قد توقف. وعلى ذلك فإذا بلغت جملة أفعاله، التي تشكل حياته، نهايتها في الوقت المناسب فلا ضير عليها من مجرد التوقف، ولا ضير على من ختم هذه السلسلة من الأفعال في الوقت المناسب. أما الوقت والأجل فتحددهما الطبيعة؛ طبيعة الإنسان أحيانا كما في الشيخوخة، وطبيعة العالم في كل الأحيان، والتي من خلال التغيير الدائم لأجزائها المكونة تبقي العالم كله صبيا وعفيا. وكل ما ينفع العالم فهو حسن وفي إبانه؛ لذا فلا بأس على الإطلاق بأن تنتهي حياة كل منا؛ فلا النهاية عيب ولا اختيار ولا هي ضد الصالح العام، بل هي خير؛ إذ تقع في التوقيت الملائم ل «الكل»، وتصب في صالحه، وتنسجم معه. فكذلك أيضا يمشي المرء بعون الرب إذا مضى باختياره ووجهته على طريق الرب» (12-23). «فلتأخذ دورك» في الفناء ولا تنخذل، مت بحرية على أقل تقدير! «حبات بخور كثيرة على نفس المذبح، إحداها تسقط أولا، الأخرى لاحقا ... لا فرق» (4-15). (18) لا جديد تحت الشمس
وإذا كان المشهد الحياتي واحدا منذ الأزل فماذا يجديك من تكرار رؤيته؟ يقول لبيد بن ربيعة:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس كيف لبيد
ويقول ماركوس: «مثلما يحدث لك في المدرج وما شابه ذلك من الأمكنة؛ حيث ثبات المنظر ورتابة المشهد يبعثان على الضجر، كذلك الحال في خبرتك بالحياة ككل؛ كل شيء، هنا وهناك، هو نفس الشيء، وبنفس الأسباب، فإلى متى؟» (6-46). «انظر وراءك إلى الماضي؛ إلى كل التحولات الشديدة للأسر الحاكمة، وبوسعك عندئذ أن تتنبأ أيضا بما سوف يكون؛ فمن المؤكد أنه سيكون مشابها لذلك تماما وأنه لا يمكن أن يحيد عن إيقاع الحاضر؛ ومن ثم فإنه سيان أن تتأمل الحياة البشرية أربعين سنة وأن تتأملها عشرة آلاف من السنين؛ فأي جديد عساك تراه؟» (7-49).
يقول المعري في لزومياته:
وآخرها بأولها شبيه
وتصبح في عجائبها وتمسي
قدوم أصاغر ورحيل شيب
وهجرة منزل وحلول رمس
ويقول ماركوس أوريليوس: «تأمل مثلا عصر فيسباسيان، فسوف ترى نفس الأشياء؛ ناس تتزوج، وتنجب أطفالا، ويدركها المرض، وتموت، وتقاتل، وتعيد، وتتاجر، وتفلح الأرض، وتجامل، وتتدافع، وتشك وتتآمر، وتتمنى موت الآخرين، وتتذمر على نصيبها المقسوم، وتقع في الحب، وتكنز المال، وتتوق إلى منصب القنصل والملك، والآن انقضت حياتهم وزالت. ثم عرج على زمن تراجان، سترى أيضا نفس الأشياء، والحياة انقضت أيضا. وانظر كذلك في الأزمنة الأخرى، والأمم كلها في الحقيقة، وسترى حيوات كثيرة من الكدح تنتهي بسقوط سريع وتحلل إلى العناصر» (4-32). «كل ما يحدث فهو معتاد ومألوف كالزهر في الربيع والفاكهة في الصيف. كذلك أيضا المرض والموت، الافتراء والتآمر؛ وكل ما يسر الحمقى أو يؤلمهم» (4-44). «... وأينما تول فسوف تجد الأشياء ذاتها التي يعج بها تاريخ العصور، القديمة منها والوسيطة والحديثة، وتعج بها المدن والديار في يومنا هذا، لا جديد ... كل شيء مألوف ومعروف ... وزائل» (7-1). (19) التأهب للموت «وما الموت؟ إن من يتأمل الموت في ذاته، ويعمل فيه التحليل العقلي ليجرده مما يرتبط به من دلالات سوف يخلص إلى أنه لا يعدو أن يكون وظيفة طبيعية. ومن يرتاع لوظيفة من وظائف الطبيعة فهو طفل غرير. ليس الموت وظيفة طبيعية فحسب بل إنه أيضا لخير الطبيعة وصالحها» (2-12).
يرى ماركوس أنه لا وجه للخوف من الموت على كل الأحوال. لقد ولدت أيها الإنسان وكبرت وخبرت كل ما تملكه الحياة من طرافة. «... فارحل الآن، فإذا كان لحياة أخرى فلن يخلو حتى هذا الشاطئ من الآلهة، وإذا لم يكن هناك أي حياة أو حس فلن تعود تعاني من الآلام واللذات، ولن تعود مستعبدا لوعاء جسدي هو سيد بالغ الدناءة بقدر ما إن عبده بالغ الرفعة؛ فهذا عقل وروح، وذاك مجرد تراب ودم» (3-3)، «من يخشى الموت إنما يخشى فقدان الحس أو يخشى حسا من صنف آخر. فإذا كنت سوف تفقد الحس فلن تشعر أيضا بأي أذى. أما إذا كنت ستكتسب شعورا مختلفا فسوف تكون كائنا آخر ولن تتوقف الحياة» (8-58).
الموت وظيفة طبيعية لا عار فيها، وفعل طبيعي ينبغي أن يؤديه المرء بإتقان كأي فعل آخر! «ما دمت تؤدي واجبك فلا تعبأ بما إذا كنت باردا أو دافئا، نعسان أو يقظا، يمدحك الناس أو يذمونك، وبما إذا كنت تحتضر أو تفعل شيئا آخر! فحتى هذا ... فعل الاحتضار ... هو أحد أفعال الحياة. وبحسبك هنا أيضا أن تتقن ما تفعله جهد ما تستطيع» (6-2). «الموت، شأنه شأن الميلاد، سر من أسرار الطبيعة: تضام، ثم انحلال، للعناصر نفسها، لا عار في الأمر بكل تأكيد؛ فلا شيء فيه مناقض لطبيعة الكائن العاقل أو مناقض لمبدأ تكوينه» (4-5).
وما بال الإنسان يخشى الموت وكأنه لم يجربه من قبل ويطلع على نماذج منه في حياته السالفة؛ الموت تبدل مراحل، ولقد تبدلت عليك من قبل مراحل وأطوار فهل كان في ذلك ما يدعو إلى الخوف؟! «انتهاء عمل، توقف نشاط أو حكم ... هذا نوع من الموت، ولكن لا ضير فيه. تحول الآن إلى أطوار حياتك؛ الطفولة مثلا، ثم المراهقة، الشباب، الشيخوخة. هنا أيضا كل تغير هو موت (المرحلة): هل ثمة من شيء مخيف؟ وتحول الآن إلى حياتك مع جدك، ثم مع أمك، ثم مع أبيك. وحيثما وجدت أمثلة أخرى عديدة للتحلل أو التغير أو الانتهاء فاسأل نفسك: «هل كان ثمة أي شيء يدعو إلى الخوف؟» بالمثل، فلا شيء مخيف في انتهاء، وتوقف، وتغير حياتك بأسرها» (9-21).
وللموت مباهجه أيضا! ألم يقل المعري في سقط زنده:
ضجعة الموت رقدة يستريح ال
جسم فيها والعيش مثل السهاد
وفي لزومياته:
ما أوسع الموت يستريح به ال
جسم المعنى ويخفت اللجب
ويقول ماركوس: «... فسوف يهون عندك لقاء الموت إذا نظرت إلى الأمور التي سوف يعفيك منها والشخصيات التي لن تعود تنغص روحك» (9-3). «الموت انعتاق من أي استجابة للحواس، ومن خيوط دمى الرغبة، ومن العقل التحليلي، ومن خدمة اللحم» (6-28). «انظر أي عناء نحتمله في هذه المسافة (بين الميلاد والموت)، وأية صحبة تكتنفنا فيها ومع أي صنف من الناس، وفي أي جسد واهن نقطعها بجهد جهيد» (4-50). ألا يكفي أن الموت يخرجك من ضجر الرتابة والتكرار: «... كل شيء هنا وهناك هو نفس الشيء وبنفس الأسباب، فإلى متى؟» (6-46). «عليك إذن أن تقضي هذه الكسرة الضئيلة من الزمان في تناغم مع الطبيعة، وأن تغادرها راضيا، مثلما تسقط زيتونة حين تبلغ النضج، مباركة الأرض التي حملتها، وشاكرة للشجرة التي منحتها النماء» (4-48). •••
تناقضات ومصاعب منطقية : ثمة صعوبة يجدها المرء لدى جميع الرواقيين في التوفيق بين الحتمية وحرية الإرادة. يقول ماركوس «خلق البشر من أجل بعضهم البعض.» عندما يفكر في واجبه كحاكم. ويقول في الصفة نفسها «الشرير لا يؤذي غيره.» عندما يفكر في المذهب القائل بأن الإرادة الفاضلة هي وحدها الخير، ولم يستدل قط على أن خير الواحد من البشر لا يقدم خيرا لغيره، وأن ماركوس ما كان ليؤذي أي شخص غير نفسه لو أنه كان إمبراطورا سيئا كنيرون، مع أن هذه النتيجة تبدو مترتبة على مقدماته. يقول ماركوس: «من الطبيعة الإنسانية أن تحب حتى من يزلون ويسقطون، يتبين ذلك إذا ما أخذت باعتبارك، حين يخطئون، أن البشر إخوة، وأنهم يخطئون عن جهل وليس عن عمد، وأن الموت لا يلبث أن يطويك ويطويهم. والأهم، أن المخطئ لم يضرك؛ ولم يجعل عقلك الموجه في وضع أسوأ مما كان عليه من قبل.» ويقول «أحب الجنس البشري ... اتبع الله ... ويكفي أن تذكر أن القانون يحكم الكل.» هذه الفقرات تكشف بجلاء شديد تلك التناقضات الصميمة في الأخلاق واللاهوت الرواقيين؛ فالعالم كل واحد حتمي تماما بحيث إن كل ما يحدث فإنما هو معلول لعلل سابقة. والإرادة الفردية في الوقت نفسه مستقلة تمام الاستقلال، ولا يمكن أن يرغم أحد على الإثم بأسباب خارجية. هذا تناقض. وهناك تناقض آخر وثيق الصلة به؛ فحيث أن الإرادة مستقلة، والإرادة الخيرة هي وحدها الخير؛ فمن غير الممكن لأحد أن يلحق بغيره خيرا أو ضرا؛ الإحسان إذن وهم!
3
أما الحصانة والمنعة اللتان يتمتع بهما العقل الرواقي (لا يضر ولا يعاق ما لم يضر نفسه أو يعق نفسه ... بوسعه أن يحتفظ بسكينته وألا يقيم الألم على أنه شر، وعلى الجسد المتضرر أن يرى في الأمر ما يراه). أما هذه المنعة أو الحصانة العقلية فأمر يتناقض مع الوقائع الإمبيريقية؛ إن أقل اضطراب جسدي، من مثل عسر الهضم، كفيل بأن يؤدي إلى عس المزاج ويؤثر على فضيلة المرء. وثمة أفانين من التعذيب تؤدي إلى انهيار عزيمة أي إنسان. كذلك العقاقير، كالأفيونات أو الكوكايين، يمكن أن تكسر إرادة أي إنسان وتطوعه وتفل عزيمته؛ فالإرادة ليست مستقلة عن الطاغية إلا إذا كان الطاغية غير ملم بالعلوم. يبدو أن الإرادة، الخيرة والشريرة، تخضع لأسباب وتتأثر بعوامل، وليست مستقلة إلى الحد الذي تصوره ماركوس والرواقيون.
4
وثمة تناقض آخر؛ ففي حين يدعو الرواقي إلى الإحسان إلى الغير، فإنه يؤمن، نظريا، بأن لا أحد يمكن أن يقدم خيرا ولا شرا لغيره، ما دامت الإرادة الفاضلة هي وحدها الخير وما دامت الإرادة الخيرة مستقلة عن الأسباب الخارجية. إنه تناقض شديد الوضوح فكيف أغفله الرواقيون؟ أغفلوه لأن لديهم ضربين من الأخلاق؛ أخلاقا عليا تخص الرواقيين وأخلاقا دنيا تخص الطغام. عندما يفكر ماركوس الرواقي عن نفسه فإنه يؤمن أن الخيرات الدنيوية غير فارقة
indifferent
والانشغال بها قد يضر المرء ويجعله يتمرد على إرادة «الكل». غير أنه في الصعيد العملي حيث يدير الإمبراطورية الرومانية فإنه يعرف جيدا أن هذا الفكر النظري لن يفيد. إن واجبه أن يرى أن شحنات الحبوب من إفريقيا تصل إلى روما في أوانها، وأن الإجراءات تتخذ لتخفيف ويلات الطاعون، وأن الأعداء البرابرة لا يجب أن يسمح لهم باختراق الحدود؛ أي إنه فيما يتعلق برعاياه، الذين لا يعتبرهم فلاسفة رواقيين، يذعن للمعايير الأرضية المعتادة فيما هو خير أو شر. إنه يطبق هذه المعايير الدنيا لكي يؤدي واجبه كحاكم، والتناقض هنا أن هذا الواجب نفسه هو ما ينبغي على الحكيم الرواقي الالتزام به، مع أنه مستنبط من منظومة أخلاقية يعدها الحكيم الرواقي مغلوطة في الصميم.
5
الفصل الثالث: العلاج الرواقي
مدرسة الفيلسوف عيادة طبيب. (محادثات إبكتيتوس، 3: 23-30) (1) الفلسفة طب العقول
يقول شي شرون: «ما لم يتم علاج الروح، وهو أمر لا يمكن بلوغه إلا بالفلسفة، فلن تكون ثمة نهاية لأوصابنا.» ويقول سينيكا: «الفلسفة تشكل النفس وتشيدها، وتنظم الحياة وترشد السلوك، وتبين ما يجب فعله وما يجب تركه، وتجلس على دفة القيادة وتهدي مسارنا ونحن نتأرجح وسط السكينة.» ويقول ماركوس أوريليوس: «لا تعد إلى الفلسفة كما يعود الطفل إلى المعلم، بل كما يعود الأرمد إلى إسفنجته ومرهمه، أو يعود آخر إلى كمادته وغسوله. بذلك سوف تبرهن على أن إطاعة العقل ليست عبئا كبيرا، وإنما هي مصدر راحة. تذكر أيضا أن الفلسفة لا تريد إلا ما تريده طبيعتك، في حين تطلب أنت شيئا يجافي هذه الطبيعة؛ فأي شيء أدعى إلى القبول من حاجات طبيعتك نفسها؟ هذه هي ذات الطريقة التي تخدعنا بها اللذة. ولكن انظر ألست ترى شيئا أكثر قبولا في الشهامة والكرم والبساطة والاتزان والتقوى؟ وأي شيء أكثر قبولا من الحكمة ذاتها إذا كان ما يهمك هو التدفق المطمئن والدائم لملكتنا الخاصة بالفهم والمعرفة؟» (5-9).
الفلسفة عند ماركوس هي علاج وملاذ، ورفقة حياة: «الحياة صراع ومقام غربة، والمجد الوحيد الباقي هو الخمول. أي شيء إذن بوسعه أن يخفرنا في طريقنا؟ شيء واحد، وواحد فقط؛ الفلسفة. وما الفلسفة سوى أن تحفظ ألوهتك التي بداخلك (عقلك) سالمة من العنف والأذى، وأن ترتفع فوق الألم واللذة، ولا تفعل شيئا بلا هدف، أو بلا صدق أو بلا أصالة، وأن تترك ما لا يعنيك مما يفعله الآخرون أو لا يفعلونه. وأن تقبل كل ما يجري عليك ويقدر لك بوصفه آتيا من نفس المصدر الذي منه أتيت. وأخيرا أن تنتظر الموت بنفس منشرحة على أنه مجرد انحلال للعناصر المكونة لكل شيء حي. فإذا لم يكن بأس في التحرك الدائم للعناصر من عنصر إلى آخر ففيم التوجس من تغير العناصر جميعا وانحلالها؟ ذلك شيء موافق للطبيعة، ولا ضير البتة في أي موافق للطبيعة» (2-17). فإذا كان عملنا وتخصصنا مفروضا علينا، كزوجة الأب، فلتكن الفلسفة لنا أما طبيعية نلوذ بها على الدوام بالفطرة والغريزة، فنعود من ثم إلى عملنا نحتمله ويحتملنا: «إذا كان لك زوجة أب وأم في الوقت نفسه، فسوف ترعى زوجة أبيك ولكن التجاءك الدائم سيكون إلى أمك. فليكن البلاط والفلسفة بالنسبة لك كزوجة الأب والأم، لتكن الفلسفة لك ملاذا دائما ومستراحا وموئلا؛ حتى تجعل القصر يبدو محتملا لك، وحتى تبدو أنت محتملا في القصر» (6-12).
ليست الرواقية مجرد مذهب فلسفي يحتوي، فيما يحتويه، على نظرية للعلاج النفسي، إنما يمكن اعتبار الرواقية في صميمها علاجا نفسيا وإن كان قائما على أساس فلسفي عريض،
1
الحياة السعيدة (اليوديمونية) عند الرواقيين، أي الحياة السلسة التدفق الخالية من الاضطراب والانفعال، هي الحياة الصالحة، الحياة وفقا للفضيلة. والفضيلة هي الوفاق مع الطبيعة أي مع العقل؛ العقل الكلي والعقل الفردي (وهو جزء من العقل الكلي). يقول ماركوس: «بالنسبة لكل كائن عاقل فالعمل وفقا للطبيعة هو أيضا العمل وفقا للعقل» (7-11). والفضيلة هي في الفعل العقلاني المستقيم المتجرد من أي غرض آخر. وتماهي الرواقية بين السعادة والحكمة والفضيلة؛ فالرجل السعيد هو الرجل الصالح وهو الرجل الحكيم ... مواطن العالم؛ الكون مدينته، والبشر إخوانه، وكل ما عدا ذلك من انتماءات هي أمر ثانوي عرضي. والحكيم يحب قدره ويحتضن مصيره ويرضى بنصيبه من «الكل». يقول ماركوس: «لا تحب إلا ما ألم بك ونسج لك من خيط مصيرك؛ فأي شيء أنسب لك من هذا؟» (7-57).
تلح الرواقية على الثبات في الشدائد وتحمل المحن والخطوب، حتى لقد أصبحت كلمة «رواقي»
stoical ، شأنها شأن كلمة «فلسفي»
philosophical ، مرادفة للثبات والسكينة وضبط النفس، والمناعة ضد المفاجئ والمباغت. «فن الحياة أشبه بفن المصارعة منه بفن الرقص؛ فهو أيضا يتطلب أن يكون المرء مستعدا لمواجهة ما يحدث بغتة وعلى غير انتظار» (7-61). «اذرع حياتك دون أي ضغط قهري، وفي أتم سكينة عقلية، حتى لو هتف العالم كله ضدك، وحتى لو مزقت الوحوش أعضاء هذه الكتلة الجسدية البائسة الملتحمة حولك» (7-68). «كن مثل رأس الأرض في البحر تتكسر عليه الأمواج بلا انقطاع وهو ثابت وطيد يخمد من حوله جيشان الماء ...» (4-49). «تذكر في نوبات غضبك أن الغضب ليس من الرجولة في شيء، وأن الرحمة واللين أكثر إنسانية وبالتالي أكثر رجولة؛ فالرحماء هم ذوو القوة والبأس والشجاعة وليس القساة ولا الساخطون؛ فكلما تحكمت في انفعالاتك كنت أقرب إلى القوة؛ فالغضب دليل ضعف شأنه شأن الجزع، فالغاضب والجزع كلاهما أصيب وكلاهما استسلم» (11-18).
لكي تكون لدينا نظرية علاجية ينبغي أن يكون المدخل العلاجي مستمدا مباشرة من نظرية سيكوباثولوجية شاملة. ولكي تكون لدينا نظرية في السيكوباثولوجيا ينبغي أن تشتمل هذه النظرية على تعريف ل «السواء»
normality
ووصف للنمو الإنساني السوي.
يذهب الرواقيون إلى أن الميول السوية للكائنات، أي النزعات الأولى السابقة على أي روية أو إرادة هي نوعان؛ ميول ترمي إلى حفظ الفرد نفسه، وميول ترمي إلى حفظ الجماعة التي ينتمي إليها الفرد؛ فكل موجود حي إنما يملك في الأصل بنيته الخاصة وله شعور بها؛ ومن أجل ذلك كان دائم البحث عما يلائمها والبعد عما لا يلائمها. ومن قال إن اللذة هي أول ما ترغب فيه الموجودات فقد أخطأ،
2
إنما تحصل اللذة للموجود حين يجد ما يتفق مع بنيته. والخير لكل موجود هو موافقته طبيعته الخاصة، وموافقة الطبيعة عند الإنسان عبارة عن الحياة وفاقا للعقل، والعقل هو الجزء الرئيسي فينا الذي يقوم ماهيتنا بما نحن ناس. ويلزم عن ذلك أن الحياة وفاقا للطبيعة هي الحياة وفاقا للعقل. لكن الإنسان حين يحيا وفاقا للعقل، لا يكون موافقا لنفسه فحسب، بل يكون موافقا لمجموع الأشياء أي للكون بأسره؛ لأن العقل لا يختص بالإنسان وحده، بل هو أيضا من خصائص الموجود الكلي؛ أي من خصائص الكون. والعقل الإنساني ليس إلا جزءا من العقل الكلي الشامل؛ فبالعقل نحيا في وئام مع أنفسنا، كما نحيا على وئام مع العالم أجمع.
3
يحدد آرون بك في كتابه «العلاج المعرفي والاضطرابات الانفعالية» خمسة شروط للنظرية السيكوبالوجية الصالحة، نراها جميعا مستوفاة في العلاج الرواقي: (1) أن تفسر الظاهرة التي تتناولها بأقل تعقيد ممكن. (2) أن تكون من المرونة بحيث تتيح إنشاء تقنيات جديدة، دون أن تكون من التسيب أو التعقيد بحيث تسمح لكل دخيل أو مرتجل من الإجراءات وتجد له تبريرا. (3) أن تكون «قابلة للتحقق» التجريبي
verifiable
أي قابلة للاختبار. (4) أن تكون النظرية السيكولوجية وثيقة الصلة بالعلاج النفسي الخاص بها؛ أي أن تكون المبادئ العلاجية المستفادة مستمدة منطقيا منها. (5) أن تقدم أساسا يبين لنا لماذا تعد التقنيات العلاجية المستمدة منها فعالة وناجعة؛ أي يكون المبرر المنطقي للعلاج وطريقة عمله متضمنين في النظرية. (2) العلاج العقلاني الانفعالي والعلاج المعرفي
ولعل من المفيد لنا في فهم النموذج العلاجي الرواقي أن نضاهي بينه وبين غيره من النماذج العلاجية. ومن النماذج العلاجية الحديثة التي تأسست بالكامل على النظرية الرواقية: العلاج العقلاني الانفعالي عند ألبرت إليس، والعلاج المعرفي السلوكي عند آرون بك.
يقول ألبرت إليس: «يعود أصل العلاج العقلاني الانفعالي إلى الفلاسفة الرواقيين، وبخاصة إبكتيتوس وماركوس أوريليوس.» ورغم أن أغلب الكتابات الرواقية الأولى ضاعت فإن زبدتها قد جاءتنا من خلال إبكتيتوس الذي كتب، في القرن الأول الميلادي، في «المحادثات»
Discourses : «ليست الأشياء هي ما يكرب الناس، بل فكرتهم عن الأشياء.»
4
يصف إليس التسلسل الذي ينتقل من الحدث إلى الاستجابة الانفعالية، ويسمي هذا النموذج
ABC : حيث
A
هي المنبه المنشط أو الحدث المثير
Activating event
و
C
هي الاستجابة الشرطية
Conditioned response ، و
B
هي الفراغ
Blank
5
الكائن في ذهن المريض، والذي يمكن حين يملؤه أن يكون بمثابة جسر يصل بين
A
و
C
بذلك يصبح ملء الفراغ، بمادة مستمدة من المنظومة الاعتقادية
Belief system
للمريض؛ هو المهمة العلاجية الأساسية. وبتعبير آخر فإن
A
هو الحدث الذي يحدث للفرد، و
B
هو المنظومة الاعتقادية
Belief
للفرد، أي تأويله الشخصي للحدث
A ، و
C
هي النتيجة الانفعالية التي يخبرها الفرد. ورغم أن معظم الناس يظن أن الحدث هو الذي يؤدي إلى انفعالهم، فإن إليس يجبهنا بغير ذلك؛ فالحقيقة أن تأويل الفرد للحدث، أي اعتقاده عن الحدث، هو ما يؤدي إلى استجابته الانفعالية؛ فالاعتقادات العقلانية تفضي إلى استجابات انفعالية عقلانية، والاعتقادات غير العقلانية تفضي إلى عكس ذلك. الاعتقادات غير العقلانية، إذن، هي العنصر الممرض في هذه المنظومة. والتقنيات العلاجية هي تقنيات مصممة لكي نفند بها هذه الاعتقادات ونستبدل بها اعتقادات جديدة أكثر عقلانية تؤدي في النهاية إلى استجابات انفعالية جديدة.
أما آرون بك، مؤسس العلاج المعرفي، فيقول في كتابه «العلاج المعرفي والاضطرابات الانفعالية» بصريح العبارة: «هذا المنهج الجديد يقوم في الحقيقة على دعائم فلسفية ليست جديدة، بل هي موغلة في القدم، وتعود إلى زمن الرواقيين. لقد اعتبر الفلاسفة الرواقيون أن فكرة الإنسان عن الأحداث، وليست الأحداث ذاتها، هي المسئولة عن اختلاله الانفعالي. إلى هذا المنطق الرواقي يستند هذا العلاج الجديد؛ العلاج المعرفي؛ فالمشكلات النفسية ترجع بالدرجة الأساس إلى أن الفرد يقوم بتحريف الواقع ولي الحقائق بناء على مقدمات مغلوطة وافتراضات خاطئة. وتنشأ هذه الأوهام عن تعلم خاطئ حدث له أثناء مراحل نموه المعرفي. وبصرف النظر عن منشأ الأوهام، فإن صيغة العلاج تفصح عن نفسها ببساطة؛ فعلى المعالج أن يساعد المريض على كشف مغالطاته الفكرية وتعلم طرائق بديلة أكثر واقعية لصياغة خبراته.»
6 «ولكن ماذا عن تلك الانفعالات التي تقع للإنسان فجأة في غياب أي حدث خارجي يفسرها؟ في تأويل ذلك نقول إنه بالإمكان دائما أن نتحقق من وجود «حدث معرفي»
congnitive event ، وهو فكرة أو ذكرى أو صورة، مندمج في المجرى الطليق للوعي، ومسبب لهذه الاستجابة الانفعالية. وقد يكون هذا الاتجاه المعرفي السائد هو علة استمرار الانفعالات غير السارة في الاضطرابات الانفعالية كالاكتئاب والقلق. كثير من السلوكيين لا يوافقوننا على أن الفكر يلعب دورا محوريا في تشكيل الانفعال. ويحاول بعضهم أن يثبت أن المنبهات الخارجية تولد الاستجابة الانفعالية بصورة مباشرة وأن الشخص يقحم تقييمه المعرفي للحديث بعد ذلك باستعادته وتأمله؛ أي «بأثر رجعي»، ولكننا نستطيع أن نؤكد أن الشخص الذي تدرب على أن يرصد أفكاره ويمسك بها بمقدوره أن يلاحظ مرارا وتكرارا أن تفسيره للموقف يسبق استجابته الانفعالية؛ فهو إذ يرى سيارة منطلقة نحوه على سبيل المثال، فإنه يفكر أولا: «إنها ستصدمني» ثم يشعر بالقلق، بل إنه قد يغير تقييمه للموقف فتتغير استجابته الانفعالية. إن من الصعب في الحقيقة أن نتصور كيف يكن لشخص أن يستجيب لحدث ما قبل أن يقيم طبيعة الحدث. وعلى النقيض من المنبهات المعملية البسيطة مثل رنين الجرس أو صدمات الكهرباء، الشائعة في التجارب السلوكية، فإن مفرداتنا البيئية الدالة تتسم عامة بالتركب والتعقيد بحيث تتطلب منا «ملكة الحكم»
judgement
لكي نقرر ما إذا كان موقف ما مأمونا غير ذي خطر، وما إذا كان شخص ما صديقا أو عدوا. تتجلى أهمية الكشف عن الوجه المعرفي للشخص بشكل خاص حين نكون بصدد استجابات انفعالية نقيضية؛ فحين نقف على المحتوى المعرفي ندرك على الفور أن ما يبدو مفرطا غير واقعي من الغضب أو القلق أو الحزن الذي يبديه الشخص يستند في الحقيقة إلى تقديراته الشاذة للحدث. وفي أمراض الانفعال تسود وتطغى هذه التقديرات الشاذة.»
7
هذه الدعوى القائلة بأن المعنى الخاص للحدث هو الذي يحدد الاستجابة الانفعالية له، تشكل جوهر النموذج المعرفي للانفعال واضطراباته. يذخر هذا المعنى في مفردة معرفية
a cognition
هي عادة فكرة أو صورة خيالية. وفي بعض الأحيان تتألف المفردة المعرفية من دلالة إضافية
connotation
أو حكم قيمة
value judgement
من قبيل «مخيف» أو «رائع». ومن المألوف أن نصادف انفعالا معينا لا يربطه سبب واضح بالماجريات الخارجية، فإذا طاف بنا في لحظة ما طائف من خيال أو كنا نجتر خاطرا ما، فإن انفعالنا إذ ذاك سيكون وليد الرؤيا أو الفكرة من دون المثير الخارجي. ثم إننا إذا حرفنا واقعة ما أو أسأنا تأويل موقف ما إساءة بالغة فإن استجابتنا ستتكون وفقا لتحريفاتنا لا لواقع الموقف، وانفعالنا سيأتي تابعا للوهم لا للحقيقة.
8
يتألف العلاج المعرفي بمعناه الواسع من كل المداخل التي من شأنها أن تخفف الكرب النفسي عن طريق تصحيح المفاهيم الذهنية الخاطئة والإشارات الذاتية المغلوطة. ولا يعني تركيزنا على التفكير أن نغمط أهمية الاستجابات الانفعالية التي هي المصدر المباشر للكرب بصفة عامة. إنما يعني ببساطة أننا نقارب انفعالات الشخص من خلال معرفته أو من طريق تفكيره. وبتصحيح الاعتقادات الخاطئة يمكننا أن نخمد أو نغير الاستجابات الانفعالية الزائدة وغير المناسبة.
9
إن مساعدة المريض في التعرف على تحريفاته وتصحيحها هي عملية تتطلب استخدام مبادئ إبستمولوجية معينة. إن المعالج لينقل إلى المريض ويبلغه، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مبادئ معينة؛ أولا: أن إدراكه للواقع ليس هو الواقع نفسه، بل هو على أفضل تقدير صورة استقرابية للواقع؛ فالعينة التي يلتقطها للواقع هي عينة محدودة بحدود وظائفه الحسية - البصر والسمع والشم ... إلخ. وهي حدود متأصلة مفطورة. ثانيا: أن تأويلاته للمدخل الحسي
sensory input
تتوقف على عمليات معرفية من قبيل دمج المنبهات (المثيرات) وتفريقها، وهي علميات عرضة بطبيعتها للخطأ. إن العمليات (والمداخلات) الفسيولوجية والسيكولوجية قد تغير إدراكنا وفهمنا للواقع تغييرا كبيرا.
كلنا يعرف جيدا أن تحريف الواقع قد يحدث عندما يكون المرء تحت تأثير العقاقير، أو عندما يكون في حالة إجهاد أو نقص في الوعي أو في حالة من الاستثارة الشديدة. وقد سبق أن رأينا أيضا أن تقييم الواقع قد يعتريه الخلل من جراء بعض الأنماط الفكرية اللاواقعية؛ ففي عصاب القلق، على سبيل المثال، يتمثل المريض جميع المنبهات، حتى المأمونة منها، بطريقة تجعلها توحي بالخطر وتنذر به. يستلزم استخدام التقنيات السيكولوجية لعلاج هذا العصاب أن يكون المريض قادرا من الأصل على أن يميز ويدرك الفوارق بين الواقع الخارجي (المثيرات المحايدة غير المؤذية) من جهة والظاهرة السيكولوجية (تقييم الخطر) من جهة أخرى. ليس بمقدور بعض المرضى (كمرضى الانسمام بالعقاقير ومرضى الذهان الحاد ذي الضلالات) أن يعي أو يميز هذا الفرق.
كذلك يتوجب على المريض أن يكون قادرا على أن يختبر الفرضيات ويمحصها قبل أن «يصدق»
assent
عليها ويسلم بها كحقائق؛ فالمعرفة التي يعول عليها تعتمد جوهريا على امتلاك معلومات كافية تسمح لنا باختيار الأصح والأقوم من بين فروض بديلة.
10
مجمل العلاج المعرفي: صفوة القول أن العلاج المعرفي يقوم على نظرية في الشخصية ترى أن الفكر هو الذي يحدد الشعور والسلوك؛ أي إن الطريقة التي يفكر بها المرء هي التي تحدد الطريقة التي يشعر بها والأسلوب الذي يسلك به في أفعاله؛ ومن ثم يتألف العلاج من عملية تحقق تجريبي واختبار للواقع وحل للمشكلات يتحالف فيها المعالج والمريض ويتعاملان مع الأفكار اللاتكيفية للمريض بوصفها فرضيات قابلة للاختيار، ويحاولان البحث عن أدلة تدحض هذه الفرضيات وتؤيد اعتقادات تكيفية بديلة تفضي إلى التغير العلاجي المنشود.
ترى هذه النظرية أن عملية معالجة المعلومات لها دور حاسم في حياة الكائن العضوي وبقائه؛ فلو لم يكن للإنسان جهاز وظيفي يتلقى المعلومات ذات الصلة من البيئة ويقوم بمعالجتها وتركيبها ويصوغ خطة للفعل بناء على هذا التركيب لكان مصيره الهلاك العاجل.
وما يحدث في الحالات المرضية من اكتئاب وقلق ووسواس ورهاب وبارانويا ... إلخ هو أن هناك تحيزا منظما يتدخل في عملية معالجة المعلومات. ثمة تحيز محدد يلعب دورا في منظومة الأعراض الخاصة بكل مرض من هذه الأمراض. فإذا كان تفكير المرء يميل انتقائيا إلى تركيب ثيمات الخسارة والفقدان والهزيمة فهو حري أن يصير مكتئبا. وإذا كان تفكيره يميل إلى تأويل المثيرات البيئية كدلائل خطر فهو مستهدف للقلق ... وهكذا.
وما دام منشأ المرض هو وجود تحيز وميل انتقائي يتدخل في عملية معالجة المعلومات، فإن الهدف العلاجي المباشر هو «تحويل» جهاز معالجة المعلومات إلى وضع أكثر حيادا بحيث يقيم الأحداث بطريقة أقرب إلى الاعتدال. الأمر هنا أشبه ببرنامج الحاسوب؛ فلكل اضطراب برنامج خاص هو الذي يملي صنف المعلومات المسموح بإدخالها ويحدد السلوك الناتج. في عصاب القلق، مثلا، يتم تشغيل «برنامج حفظ الذات أو البقاء»؛ فيلتفت الشخص انتقائيا لإشارات الخطر، ولا يلتفت لإشارات الأمان. ويكون السلوك الناتج متسقا مع الطريقة التي تدمج بها هذه المعلومات، وهو سلوك يفرض على المرء أن يتفاعل مع المثيرات الهينة والمأمونة على أنها تمثل مخاطر كبرى، ويستجيب لها استجابة التجنب أو الهروب؛ ومن ثم تتألف التقنيات العلاجية من إيقاف مثل هذا البرنامج اللاتكيفي و«تحويل» الجهاز المعرفي إلى وضع أكثر اعتدالا، ويتم هذا التحويل عن طريق فحص منهجي للتأويلات الخاطئة وتصحيحها، والقيام بتغذية النظام بالمعلومات الصحيحة تغذية راجعة؛ الأمر الذي يحفز على إعادة التوافق ويدعم التوافق الجديد. (3) السيكوباثولوجيا الرواقية
إذا عدنا الآن إلى المصطلح الرواقي في السيكوباثولوجيا، نجد أن حجر الزاوية في النمو الأخلاقي عند الرواقيين هو «الاستخدام الصحيح أو القويم للانطباعات» (المحادثات، 1: 1-7؛ 2: 22-29؛ 4: 6-34). وقد قلنا آنفا أن المعرفة عند الرواقيين تبدأ ب «الانطباع»
impression (phantasia)
أو «التمثيل»
representation
أو «المظهر»
appearance ، وهو الأثر الذي يطبعه في الذهن شيء خارجي كما ينطبع الخاتم على الشمع. والانطباع هو أكثر من مجرد مادة حسية خام. إن خبرة حسية مصوغة على هيئة «قضية»
proposition
أو موضوعة في شكل «قضوي»
propositional ، قد تكون هذه خبرة خارجية مدركة بواسطة الحواس أو خبرة داخلية من قبيل الذكريات أو التخيلات.
ولكي يكون الانطباع «قضويا»
propositional
فلا بد من أن يكون «تأويلا» من صنف ما. قد تقول عند هذه المرحلة إن شخصا ما لديه «انطباع ب» شيء ما
impression of ... (انطباع بقطة على البساط مثلا). ثم تأتي المرحلة الثانية، وتأتي سريعا بحيث لا يميز الناس المرحلة الأولى ولا يلتفتون إليها، وهي أن لديه «انطباعا بأن» شيئا ما
impression that ... (انطباعا بأن هناك قطة على البساط). قد يكون الانطباع صادقا؛ أي إن البقعة السوداء على البساط تشبه القطة حقا. ولكن المرحلة الثانية قد تقدم تأويلا مختلفا، مثل وجود «انطباع بأن» هناك سترة على البساط (أي إنها لم تكن قطة على الإطلاق). إن المرحلة الأولى هي وجود وعي بشيء ما أو بآخر، أما المرحلة الثانية فهي «التزام بتأويل» يفيد أن شيئا ما أو آخر هو القائم. ذلك هو «التصديق»
assent
العقلي على الانطباع الغفل، وهذا التصديق يخلق «اعتقادا» بأن القضية المحتواة في «الانطباع بأن» صادقة. في الانتقال من «انطباع ب» إلى «انطباع بأن» فإن الفرد يصدر «حكم قيمة»، أو يطبق «تقييما» بما إذا كان هذا الشيء مرغوبا أو غير مرغوب (سائغا أو غير سائغ/مواتيا أو غير موات)، وإلى أي حد، أو بما إذا كان «غير فارق»
indifferent ، ولماذا هو كذلك. ويبقى التحدي الأبستمولوجي هو العثور على «معيار» يحدد صدق «الانطباع» وبالتالي يجيز لنا «التصديق»
assent
عليه. قلنا آنفا إن الرواقيين خلصوا إلى أن هذا المعيار هو «التصور المحيط» أو القاهر
phantasia katalêptikê ؛ أي الانطباع الأبلج الواضح الذي يحمل في داخله آية صدقه ويتحلى بقوة تحملنا على التصديق به،
11
غير أنه في حالة الانطباعات المركبة التي تنطوي داخلها على حكم قيمة تتعقد الأمور ويصبح «التصديق» على الانطباع أمرا صعبا. يرى الرواقيون أن أغلب البشر بعيدون عن المعيار العقلاني للحكيم المثالي بعدا كبيرا؛ ومن ثم فمن المقدر عليهم أن يصدقوا على انطباعات زائفة. وينصحنا الرواقيون بأن نمارس أشد الاحتياط والتريث حين نقوم بالتصديق على انطباعات محملة بالقيمة
value-laden ، وأن نتوقف عن الحكم إذا كان ثمة ما يدعو إلى أقل شك.
منظومة القيم الرواقية، إذن، هي جوهر الفلسفة الرواقية ولباب العلاج الرواقي؛ فهي تقدم المعيار الذي تقيم به الانطباعات، وهي عرضة لسوء فهم كبير، وهي صادمة لتوقعات الناس، وحتى إذا أمكنهم فهمها بدقة فإن من الصعب على معظمهم قبولها. غير أنها النتيجة المنطقية لوجهة النظر الرواقية فيما يشكل الحياة السعيدة أو المزدهرة.
تتطلب الحياة السعيدة حصول الفرد دائما على الأشياء التي يتوق إليها، وتجنبه دائما للأشياء التي لا يريدها. إلى هنا يتفق الرواقيون مع غيرهم ويبدو الأمر من نوافل القول. تكمن المشكلة بالطبع في أن هذه الحال تستعصي على منالنا في أوقات كثيرة. قد أرغب في المال الوفير، أو الصحة الجيدة، ولكن قد يحول دون ذلك حوائل ليس لي بها يد. وبقدر ما يواتيني ما يسرني وينصرف عني ما يسوءني تحت رحمة مجموعة من العوامل الخارجية، ويجعل حياتي، في الأغلب الأعم، في تقلب انفعالي دائم.
والحل الرواقي لهذه المعضلة هو أن نقصر رغباتنا على تلك المجالات التي لدينا عليها سيطرة مطلقة. وبقدر ما تتقلص رغباتنا تتقلص معها فرصة إحباطها. وفي نهاية التحليل نجد أننا لا نملك، في الحقيقة، سلطة مطلقة إلا في مجال واحد، وهو مجال أفكارنا؛ كيف نحكم على الأمور، ما نفكر فيه، اعتقاداتنا ومواقفنا ... وباختصار: ما نفعله بالانطباعات، أو «استخدامنا للانطباعات» أو المظاهر على حد تعبير إبكتيتوس. غير أن قدرتنا على السيطرة على أحكامنا لا تمثل إلا نصف المعادلة، فإذا كانت أحكامنا خاطئة فأية فائدة وأي فرق في أن تكون تحت سيطرتنا. إن الحياة السعيدة ستفلت منا على أية حال.
يرى الرواقيون أن الاستخدام الصحيح للانطباعات يتطلب: (1) تقديرا صحيحا لصدق الانطباع. (2) تقديرا صحيحا لقيمة الانطباع. ويرون أن جميع الانطباعات أو المظاهر غير قادرة على منح السعادة ولا قادرة على منعها. إنها «لا فارقة»
indifferent
في هذا الشأن. وهكذا فحكمك بأن مرض شخص تحبه هو شر إنما هو حكم خاطئ، وحكمك بأن شفاءه خير هو حكم خاطئ بالمثل. يقول إبكتيتوس: «تعود منذ البداية أن تقول لكل انطباع مزعج: أنت انطباع، ولست الطريقة الوحيدة لرؤية الشيء الذي يعرض. ثم افحصه وقدره بمعيارك الذي لديك» (المحادثات: 1-3). ويصف الموقف الصحيح تجاه المظاهر أو الانطباعات في فقرة مأثورة يقول فيها : «ليست الأشياء ذاتها ما يكرب الناس، بل أحكامهم عن الأشياء. الموت مثلا ليس شيئا مريعا، وإلا لرآه سقراط أيضا كذلك، وإنما المريع جحا هو الحكم بأن الموت مريع؛ لذا فعندما ينتابنا الإحباط أو الاضطراب أو الحزن فإن علينا ألا نلوم غير أنفسنا، أعني غير أحكامنا نحن» (الموجز، 6). إصدار أحكام قيمية صائبة، إذن، هو الشطر الثاني من المعادلة في مسألة «الاستخدام الصحيح للانطباعات».
لإساءة الحكم على الانطباعات عواقب وخيمة، ليست مباشرة بالضرورة، وليست مقصورة على مجال الانفعالات. والنظرية الرواقية في ذلك أكثر عمقا وإحاطة من نظريات العلاج العقلاني والمعرفي. يرى إليس، على سبيل المثال، أن الانخراط في التفكير غير العقلاني من شأنه أن يورث انفعالات مفرطة وغير تكيفية، وأن هذه الانفعالات هي ما يشير إلى الحاجة إلى العلاج. من جهة أخرى قد يعتقد شخص بأن امتلاكه منزلا للاستجمام في العطلات هو «خير»، رغم أنه وفق المنظومة القيمية الرواقية شيء «غير فارق»
indifferent ، فما دام المنزل سليما فليس ثمة نتائج سلبية ناجمة عن هذا الحكم الخاطئ، ولا داعي للتدخل العلاجي في نظر المدارس السيكولوجية الحديثة بما فيها العلاج العقلاني الانفعالي. غير أن الرواقيين يرون رأيا آخر؛ إن إساءة الحكم ذاتها مرض، حتى لو لم تصحبه أعراض انفعالية؛ فالأمراض الانفعالية، إن وجدت، هي مجرد نتاج ثانوي للمرض. إنما تكون العادات المعرفية السلوكية اللاتكيفية، والتي هي النتاج المزمن للأحكام، هي ما يستحق التدخل العلاجي؛ فالأحكام الصائبة تربي عادات معرفية وسلوكية إيجابية، والعكس بالعكس.
يقول ماركوس: «والتقدم بالنسبة للطبيعة العاقلة هو ألا تساير أي شيء زائف أو مبهم فيما ينطبع عليها» (8-7). و«الموضوعية الرواقية» تعني القدر على التمييز والفصل بين الطبيعة الداخلية والطبيعة الخارجية، «اعرف نفسك» ... ذلك المبدأ السقراطي المنقوش على معبد كاهنة أبولو في دلفي، هو جوهر المنطق الرواقي. غير أن هذه المعرفة تتخذ في الرواقية طابعا خاصا؛ فالمعرفة الحقة هي بالضبط تلك القدرة على تبين حدود الذات الداخلية؛ أي التمييز الدائم، في اللحظة الراهنة، بين الطبيعة الداخلية والطبيعة الخارجية؛ أي بين العقل والمادة. يقول ماركوس أوريليوس: «ما كان للطريقة التي مزجتك بها الطبيعة بالكل المركب أن تحول بينك وبين أن ترسم حدا يحدك ويحفظ ما هو لك تحت سيطرتك» (التأملات: 7-67). ويقول إبكتيتوس: «أن تتعلم (تتدرب في الفلسفة) تعني بالضبط أن تعرف أي الأشياء نملكه وأيها لا نملكه» (المحادثات، 4: 5-7). وبوسعنا أن نصور هذا التمييز برسم حد تصوري؛ دائرة حول حدود الذات الحقيقية. وقد وصف الرواقيون عقل الحكيم المثالي المكتمل التحديد على أنه «مسيج نفسه»، و«قلعة داخلية» منيعة، و«كرة في توازن تام». وماهية النفس عند الرواقيين أنها «فعل مستقل للإرادة الحرة»؛ نوايانا، وأفكارنا، وقراراتنا. هذه رؤية وجودية عميقة إلى النفس؛ الإنسان هو، جوهريا، إرادة حرة في حالة فعل، وكل ما عدا ذلك فهو خارج عن النفس. «اليقظة الرواقية» إذن تعني الوعي الذاتي الدائم بحركات العقل متحملا كل المسئولية عن أحكامنا وأفعالنا ومخاوفنا ورغباتنا. تقتضي اليقظة أيضا أن نتملك أفكارنا، ونسترد إسقاطاتنا ونعلق كل الأحكام القيمية والانفعالية. إن أفكارنا تسقط معنى وشكلا على إدراكاتنا الحسية، وبفصل هذه عن تلك نصل إلى الحقيقة والموضوعية. يقول ماركوس: «العين السليمة ينبغي أن ترى كل ما هو قابل للرؤية ولا تقول «أريد الأشياء الخضراء فقط»؛ فهذا حال عين مريضة ... والمعدة السليمة ينبغي أن تتقبل كل الطعام بنفس الطريقة التي تتقبل بها الطاحونة كل ما صنعت لطحنه. وكذلك العقل السليم ينبغي أن يكون مستعدا لكل الاحتمالات» (10-35).
والمبدأ المحوري للمنطق الرواقي هو «ليست الأشياء ما يكرب الناس بل أحكامهم عن الأشياء.» إنه مبدأ علاجي جرى على أقلام لا حصر لها:
يقول ماركوس: «إذا كان بك كرب من شيء خارجي، فإن ما يكربك ليس الشي نفسه بل رأيك عن الشيء، وبوسعك أن تمحو هذا الرأي الآن» (8-47)، «فالأشياء ذاتها خاملة، وإنما نحن الذين ننتج الأحكام عنها ونطبعها في عقولنا. وإن بوسعنا ألا نطبعها على الإطلاق، وأن نمحو في الحال أي حكم تصادف انطباعه» (11-16).
ويقول شكسبير: «ليس ثمة شيء حسن أو قبيح، بل الفكر هو الذي يجعله كذلك» (هملت، الفصل 2، المشهد 2).
ويقول سبينوزا: «ورأيت أن كل ما كنت أخشاه وكل ما كان يخيفني لم يكن هو في ذاته حسنا أو سيئا. إنما كان كذلك بحسب ما كان العقل يراه ويتأثر به.»
والمعنى نفسه يصوغه المتنبي شعرا في قوله:
وما الخوف إلا ما تخوفه الفتى
ولا الأمن إلا ما يراه الفتى أمنا
ويصوغه المعري في اللزوميات:
إذا تفكرت فكرا لا يمازجه
فساد عقل صحيح هان ما صعبا
ورسم كرافاجو مرة صورة جنونية لنفسه، كميدوسة، جاعلا بدلا من الشعر أفاعي فأظهر نفسه وقد عذبته لدغا ثعابين دماغه.
12
وفي كتابه «غزو السعادة» يقول برتراند رسل: «أعتقد أن التعاسة تعود، إلى حد كبير جدا، إلى آراء خاطئة عن العالم، وإلى نظريات أخلاقية خاطئة، وعادات حياتية خاطئة.»
ويقول مارك توين: «إنني رجل مسن عركت الحياة وعانيت ويلات لا تحصى عددا. غير أن معظمها لم يحدث قط!»
فإذا ما انتقلنا إلى «تأملات» ماركوس أوريليوس وجدناه يلح على هذه الفكرة المحورية مرارا وتكرارا: «لا تزايد على رواية الانطباع الأول بشيء من عندك. افترض أنه قد جاءك أن شخصا ما يعيبك، وهاذ ما روي، أما أنك قدا أضرت فهذا ما لم يرو. أو هبني أرى طفلي مريضا، هذا ما أراه، أما أنه في خطر فشيء لا أراه. هكذا التزم دائما بالانطباع الأول ولا تضف عليه شيئا من أفكارك أنت. وهكذا كل ما في الأمر، وإلا فإن بوسعك أن تضيف ما لا نهاية له إضافة من يعرف كل ما يجري في العالم» (8-49). «بوسعك أن تنحي الكثير من المنغصات غير الضرورية التي تكمن بأكملها في حكمك أنت» (9-32). «اطرح الحكم تجد الخلاص. ومن ذا الذي يمنعك من هذا الإطراح؟» (12-25). «اليوم هربت من كل المنغصات، أو بالأحرى نحيتها جانبا. لم تكن هذه شيئا خارجيا، بل كانت بداخلي ... إنها أحكامي ليس إلا» (9-13). «ما أيسر أن تطرد من عقلك كل انطباع منغص أو عارض وتمحوه محوا، وتنعم للتو بلحظة حاضرة مفعمة بالراحة والسكينة» (5-2). «العسل مر لدى المصابين باليرقان. والماء رعب لدى من عضتهم كلاب مسعورة. الكرة بهجة لدى صغار الأطفال. لماذا أنا غاضب إذن؟ أم ترى أن الحكم الزائف أقل تأثيرا من الصفراء للمصاب باليرقان، أو السم في المصاب برهاب الماء؟» (6-57). «أفق من نومك، وعد إلى رشدك، لتدرك أن كل الذي عكر صفوك كان أضغاث أحلام ، والآن وقد استعدت وعيك مرة ثانية انظر إلى هذه الأشياء مثلما كنت تنظر إلى تلك الأحلام» (6-31). «وعليك أن تأخذ كل شيء بقيمته وحجمه؛ فبذلك لن تبتئس إذا عبرت على التوافه ولم تعرها وقتا أطول مما تستحق» (4-32). «لا تحلم بامتلاك ما لا تمتلكه، بل تأمل النعم الكبرى فيما تملكه ...» (7-27). «أزل الحكم تكن قد أزلت فكرة «لقد تضررت». أزل فكرة «لقد تضررت» يكن الضرر نفسه قد أزيل» (4-7). «... فلست مضارا إلا إذا عقدت الرأي بأنه ضرر، وبوسعي ألا أرى هذا الرأي» (7-14). «إذا نحيت حكمك على أي شيء يبدو مؤلما فأنت نفسك ستكون محصنا تماما من الألم» (8-40). «من منا ليس هو السبب في كربه الشخصي، وليس قلقه من صنع يديه؟ تأمل: ليس ثمة امرؤ يعاق بغيره، وإنما كل شيء هو كما يجعله التفكير كذلك» (12-8).
ومن التقنيات العلاجية التي يلح عليها ماركوس في «التأملات» ذلك التحليل الجوهري الذي يجرد الأشياء من قشورها وواجهاتها الخارجية الزائفة، وصولا إلى «الانطباع الموضوعي» الذي «يصدق» عليه الحكيم ولا يصدق على شيء سواه: «ما أطيب، عندما يكون أمامك لحم مشوي أو ما شابه من الأطايب؛ أن تستحضر في ذهنك أن هذا جثة سمكة، وهذا جثة طائر أو خنزير، ثم أن هذا النبيذ الفاليري مجرد عصير عنب، وأن رداءك الأرجواني ليس أكثر من فراء خروف منقوع في دم المحار! كذلك فليكن دأبك طوال حياتك: حيثما تبدت الأشياء خلابة المظهر فجردها وتفرس في طبيعتها الزائفة واخلع عنها كل دعاوى الزهو والخيلاء ...» (6-13). «... مرة أخرى: الرخام مجرد راسب في الأرض، الذهب والفضة مجرد رواسب، رداؤك شعر حيوان، أرجوانك دم محارة، وهلم جرا ...» (9-36). (4) المواجدة ... النفاذ إلى عقول الآخرين
يلح ماركوس في «التأملات» على رابطة القربى بين بني البشر، تلك الآصرة القائمة على انتسابهم إلى عقل واحد، والتي تلزم الإنسان بالتعاون مع الآخرين والرفق بهم واحتمال أخطائهم، والنفاذ إلى عقولهم الموجهة واستكشافها. وهي وصايا مطابقة لمبادئ كارل روجرز وغيره في «التقبل غير المشروط» و«الفهم الإمباثي» (المواجدة
empathy )، «... وانفذ قدر المستطاع في عقل المتحدث» (6-53). «انفذ إلى عقل كل إنسان، ودع كل إنسان ينفذ إلى عقلك» (8-61). «هلم إلى عقلك الموجه، وعقل «الكل»، وعقل هذا الشخص بعينه؛ إلى عقلك لتقومه، وإلى عقل الكل لتتذكر الأصل الذي أنت جزء منه، وإلى هذا الشخص عساك تعرف هل تصرف عن جهل أو عن علم، وعساك تتبين أيضا أن عقله قريب لعقلك» (9-22).
في ظل هذه المبادئ لا يعود هناك توتر بين المصلحة الفردية ومصلحة المجموع؛ فالرجل الحكيم يماهي بين مصلحته الخاصة ومصلحة البشر جميعا: «ما لا يضير المدينة لا يضير مواطنيها أيضا، إذا كانت المدينة بخير فأنا إذن بخير» (5-22). «ما لا يفيد السرب لا يفيد النحلة» (6-54). «خلق البشر من أجل بعضهم البعض، إذن علمهم أو تحملهم» (8-59)، «بهجة الإنسان أن يؤدي العمل اللائق بالإنسان. والعمل اللائق بالإنسان هو الإحسان إلى جنسه الإنساني» (8-26). (5) طبقات الانتماء
أقول للعالم إذن: إنني أبادلك الحب (ماركوس أوريليوس، 10-21)
الرواقي، إذن، هو «مواطن العالم»
cosmopolitan ، الكون مدينته والبشر إخوانه. هذا الانتماء «الكوزموبوليتاني» لا يتعارض بحال مع انتماء المرء لجماعته الخاصة؛ فهو إذ يعصمه من الشوفينية البغيضة لا يمس عشيرته ولا بلدته ولا قوميته بل «يتراكز» معها فحسب. إنما الانتماء أشبه بدوائر متراكزة (متحددة المركز): «فبصفتي أنطونينوس فإن مدينتي هي روما، وبصفتي إنسانا فمدينتي العالم؛ لذا فإن ما هو خير لهاتين المدينتين هو وحده الخير بالنسبة لي» (6-44). «هنا أو هناك لا فرق، ما دمت حيثما عشت تتخذ العالم وطنا لك» (10-15). «خذني وارم بي في أي مكان شئت؛ فأينما كنت فسوف أحفظ الجانب الإلهي مني سعيدا؛ أي قانعا، ما دام وجداني وفعلي يتبعان فطرته الخاصة. هل هذا التغير في المكان سبب كاف لأن تشقى نفس ويسوء مزاجها فتكتئب أو تتوق أو تنكمش أو تخجل؟ وهل ستجد في المكان الجديد أي سبب يدعو إلى ذلك؟» (8-45). «... وأن الكائن الإنساني وثيق القرابة بالجنس البشري كله، لا قرابة دم أو بذرة، بل مجتمع عقلي» (12-26)، «أيها العالم ... كل ما هو ملائم لك فهو ملائم لي، وكل ما هو في أوانه بالنسبة لك فهو كذلك عندي، لا متقدم لدي ولا متأخر.» يقول الشاعر: «عزيزتي مدينة سيكروبس»، ألا تقول أنت «عزيزتي مدينة زينوس»؟ ولا يخفى على قارئ «مدينة الله» للقديس أوغسطين أنه قد تأثر فيها بعض الشيء بأفكار ماركوس أوريليوس.
تلك هي «الجامعة الروحية» الرواقية التي يحل فيها «الإنسان» محل «المواطن»، والوحدة العقلية محل الوحدة السياسية، والتي هذبت القانون الروماني وآزرت الدعوة المسيحية إلى المحبة والرحمة، وألهمت مفكري التنوير بفكرة الإخاء الإنساني والحرية والمساواة، وتزداد حاجتنا إليها في زمن العولمة وقد بات واضحا للجميع أن البشرية مقبلة على حقبة جديدة ستكون فيها وحدة البقاء هي البشرية بأسرها لا الفرد الواحد ولا مجموعة الأفراد ولا المجتمع المحلي.
13 (6) أصداء وجودية
الحياة مشروع، ولكي تتحقق كل ممكنات الإنسان وقدراته الكامنة ينبغي أن ينظر إلى حياته على أنها عمل فني عليه أن يبدعه إبداعا وينقحه ويراجعه، «العقل الموجه هو الذي يوقظ نفسه ويكيف نفسه، ويضفي على نفسه الطبيعة التي يريدها، ويجعل كل ما يحدث له يبدو على النحو الذي يريده» (6-8). من أجل ذلك لا بد للمرء من التوقف كل يوم بعض حين وإرجاء الاستجابات الاعتيادية، والالتفات اليقظ إلى النفس، ووضع كل شيء على محك النقد والتمحيص. «إن حياة لا تخضع للنقد هي حياة لا تستحق أن تعاش.» كما يقول سقراط.
في كتابه «تأملات لغير زمانها» يطرح نيتشه سؤاله عن الذات الحقة ويحدد الطريق إلى هويتها ووحدتها؛ فالإنسان يحيا حياته مستسلما للكسل والنوم، غارقا في بحر العادات والرغبات ومشاغل كل يوم. وفجأة يناديه صوت آت من أعماق ضميره: كن نفسك. كل ما تفعله الآن وتفكر فيه وتتوق إليه شيء مختلف عنك. وتصحو «النفس الشابة» من غفوتها وتحاول أن تسترد ذاتها. ها هي ذي تناجي نفسها قائلة: حقا لست شيئا من هذا كله. ما من أحد يمكنه أن يتولى عنك بناء الجسر الذي يتحتم عليك أن تعبريه فوق نهر الحياة، ما من أحد غيرك. صحيح أن هناك طرقا وجسورا وأنصاف آلهة لا حصر لها تريد أن تحملك عبر النهر، لكن ذلك سيكلفك الثمن الباهظ، والثمن الباهظ هو أن ترهني نفسك وتضيعيها. لا يوجد في العالم غير طريق واحد، ولا أحد يمكنه أن يسير عليه سواك. لا تسألي إلى أين يؤدي هذا الطريق؟ عليك أن تقطعيه. «كل نفس شابة تسمع هذا النداء ليل نهار فترتجف؛ لأنها تشعر بالقدر المقسوم لها من السعادة منذ الأزل عندما تفكر في تحررها الحقيقي، غير أنها لن تبلغ هذه السعادة ما بقيت مأسورة في أغلال الخوف والآراء الشائعة. وكم تصبح الحياة مجدبة من كل معنى ومن كل عزاء إذا حرمت هذا التحرر؛ فليس في الطبيعة مخلوق أولى بالرثاء أو أدعى إلى النفور والاشمئزاز من إنسان تهرب من روحه الحارس وراح يطوف بعينيه فيما حوله، ويتلفت مرة ناحية اليمين وأخرى لليسار أو الخلف. إن مثل هذا الإنسان لا يستحق حتى أن نهاجمه؛ لأنه مجرد قشرة خارجية منزوعة اللب، ثوب بال منتفخ ملطخ بالألوان، شبح بائس لا يستطيع حتى أن يثير فينا الخوف، وهو يقينا لا يستثير فينا العطف أو الإشفاق.»
14
أليس هذا وثيق الصلة بقول ماركوس في «التأملات»: «ما أشقى ذلك الإنسان الذي يظل دوما لائبا محوما حول كل شيء، كما يقول بندار، منقبا في أحشاء الأرض!» متحرقا إلى استشفاف ما يدور ببال جيرانه، وما يدري أن بحسبه أن ينصرف إلى الألوهة التي بداخله ويكون له خادما حقيقيا» (2-13).
الروح رحبة عميقة لا يكاد يلم صاحبها بما يجري فيها، والتعلم هو اليقظة والإفاقة؛ إذ يتعلم العقل المنتبه كيف يسترد خبرته من أسن العادة والتقليد والغفلة. على الروح أن تضطلع بنفسها بهذه المهمة من خلال ممارستها اليومية للنقد الذاتي، على طريقة ماركوس في تأملاته: «اتجه إلى ذاتك» (7-28). «حصنك الصغير الذي بين جنبيك» (4-3). «ينبوع خير جاهز لأن يتدفق ...» (7-59). «كيف تؤمن لنفسك نبعا دائما لا مجرد صهريج؟ بأن توطن نفسك طول الوقت على الحرية» (8-51). «لماذا تشتتك المجريات الخارجية كل هذا التشتيت؟ اعط نفسك قسطا من الفراغ لكي تتعلم درسا جديدا مفيدا، وكف عن التخبط هنا وهناك ...» (2-7). «ما كان يوما جهل المرء بما يدور في رءوس الآخرين سببا للتعاسة والشقاء. إنما الشقي من لا ينتبه إلى خطرات عقله هو، ولا يهتدي؛ من ثم، بهديه وإرشاده» (2-8). «السعادة تتعلق على تقدير الذات لذاتها، وما زلت تحرمينها من ذلك وتعلقين سعادتك على الآخرين؛ ذواتهم وآرائهم وتقديراتهم» (2-6). «ما أهنأ باله ذلك الذي لا يتطلع إلى ما يقوله جيرانه وما يفعلون وما يفكرون، بل ينصرف إلى أفعاله هو ليجعلها عادلة موقرة مشربة بالخير» (4-18). «كم تعجبت من أن كل إنسان يحب نفسه أكثر من أي شخص آخر، بينما يضع رأيه في نفسه موضعا أدنى من رأي الآخرين فيه» (12-4).
في ضوء ما سبق يمكننا أن نقول، بلغة سيكولوجية معاصرة، إن شطرا كبيرا من العلاج الرواقي يقوم على «نقل موقع الضبط». يشير مفهوم «موقع الضبط»
locus of control
إلى إدراك الشخص لما تكونه الأسباب الرئيسية لأحداث الحياة؛ هل تعتقد أن مصائرك تصنعها أنت بنفسك، أو تعتقد أن مصائرك يصنعها الآخرون أو يصنعها الحظ أو المصادفة؟ هل تعتقد أن سلوكك تسيره قراراتك الداخلية، أو تعتقد أن سلوكك تسيره الظروف الخارجية؟ هل ترى أن نتائج أفعالنا مترتبة على ما نفعله نحن (ضبط داخلي
internal L.O.C ) أو ترى أنها مترتبة على أحداث خارج سيطرتنا الشخصية (ضبط خارجي
external L.O.C )؟
يعد «موقع الضبط» جانبا مهما من جوانب الشخصية. وهو مفهوم أسسه جوليان روتر
Jullian Rotter
في الستينيات من القرن العشرين، وكان يسميه «موقع ضبط التدعيم»
L.O.C of reinforcement . يعقد روتر صلة بين السيكولوجيا السلوكية والسيكولوجيا المعرفية؛ فقد ذهب إلى أن السلوك تسيره «التدعيمات»
reinforcements (المكافآت والعقوبات، أو الثواب والعقاب)، وأنه من خلال التدعيمات يؤسس الناس اعتقاداتهم عن أسباب أفعالهم، ثم تقوم هذه الاعتقادات بدورها بتحديد الاتجاهات والمواقف والسلوكات التي يتبنونها.
بصفة عامة، وبشيء من التبسيط والتقريب، يعد الضبط الداخلي أفضل تكيفيا من الضبط الخارجي. وتقوم كثير من التدخلات العلاجية النفسية والتعليمية على نقل موقع الضبط لدى الشخص من الخارج إلى الداخل حتى يصبح مالكا لإرادته متحكما في أفعاله محددا لمصيره. والرواقية، من بين جميع الفلسفات والعلاجات، خير ما يغرس في الإنسان «موقع ضبط داخليا»؛ فالحكيم الحق هو شخص لا سلطان للأهواء والانفعالات على نفسه . وإن سهام الحوادث لتنكسر تحت قدميه (على حد تعبير سينيكا). وإنه لا يعرف الهم ولا الوجل ولا الأسف ولا الرجاء، غني من غير مال، ملك من غير مملكة (بتعبير شيشرون). يضاف إلى هذه الخصال شيء أهم؛ هو أن لا شيء في الوجود يستطيع أن يسلبه إياه.
15 (7) قهر الخوف من الموت
التأمل في قصر الحياة وزوالها، والتأهب للرحيل عن الحياة، ثيمة متواترة في «التأملات»، وفي غيرها من كتابات الرواقيين. ولقد كان سقراط، الأب الروحي للرواقيين وقدوتهم، يؤكد على أن الفلسفة برمتها هي استعداد وتأهب للموت! يقول سينيكا: «القلب الذي طردت منه رهبة الموت لن يجرؤ الخوف على دخوله.»
وفي «هملت» شكسبير نجد صدى رواقيا لتأمل الموت، في مشهد المقبرة؛ حيث يتناول هملت جمجمة يوريك، مضحك الملك، قائلا: «... ويحك يا يوريك المسكين! لقد كنت أعرفه يا هوراشيو. كانت دعابته لا تنتهي، وخياله بارعا كل البراعة. لقد حملني على ظهره ألف مرة، والآن تعاف نفسي تصور ذلك ... من هنا كانت تتدلى الشفتان، اللتان قبلتهما مرارا يخطئها العد، أين نكاتك الآن ودعاباتك؟ وأغانيك وفكاهاتك البارعة، التي أثارت القهقهة حول الموائد؟ ألم تبق لديك نكتة واحدة تسخر بها من فمك المفتوح؟ هل أخنى عليك الدهر تماما؟ اذهب الآن إلى مخدع السيدة العظيمة، وقل لها عبثا تضعين الأصباغ سمكها بوصة. إن هذا سيكون مصيرك. اجتهد لتجعلها تضحك من هذه النكتة ...» (هملت، الفصل 5، المشهد الأول).
وفي «التأملات» يقول ماركوس: «لا تحتقر الموت، بل رحب به لأنه جزء أيضا مما تريده الطبيعة؛ فمثلما نشب ونشيخ، ومثلما نكبر وننضج، وتنمو أسنانا ولحانا وشعرنا الرمادي، ومثلما نتزوج وننجب، كذلك نموت ونتحلل؛ فمن ألف التفكير والتعقل لا يجزع من الموت ولا يبتئس له ولا ينفر منه، بل ينتظره كما ينتظر فعلا من أفعال الطبيعة. وكما أنك الآن قد تكون منتظرا طفلا حملته امرأتك أن يولد من رحمها، كذلك ينبغي لك أن تتشوف إلى اللحظة التي تنسل فيها روحك من هذا الغلاف» (9-3).
وحين يتحدث المعالجون الوجوديون، مقتفين في ذلك أثر هيدجر، عن الوجود الأصيل - إلى - الموت
authentic being towards-death ، فإنما يرددون ثيمة رواقية ويتخذون تقنية علاجية فلسفية قديمة هي «التأمل في الموت»
melete thanatou . يقول ماركوس في «التأملات»: «انظر إلى أي ضرب من الموت يولد كل شيء» (10-18). ويرى الوجوديون أن الوجود الإنساني هو «وجود للموت» ... وجود متجه نحو الموت؛ فبمجرد أن يولد الإنسان يكون ناضجا للموت، وكل حي يحمل جرثومة موته بين جوانحه منذ اللحظة الأولى، ولكن الناس يوهمون أنفسهم بالمنعة من الموت ويتعامون عن حقيقته رغم أن فيها يتم الشعور بالفردية إلى أقصى درجة؛ فكل محتضر يموت وحده ولا يسع أحدا أن يموت نيابة عنه؛ فالموت هو الحادثة الوحيدة في حياة الإنسان التي هي خاصة به بشكل فريد مطلق. وفي هذا القلق أعلى ما يكشف عن الوجود الذاتي الحق، وفيه ما ينتشل الإنسان من الخسران اليومي ويرده إلى الوجود الأصيل ... يرده إلى نفسه. إن الموت هو أصدق الممكنات الإنسانية وأكثرها جوهرية وأصالة. وليست هذه فلسفة تشاؤمية بل هي بالأحرى مذكر حي بأهمية العيش ذاته وجديته، ونفاسة كل آنة من آنات الحياة؛ فالعزيمة هي الثمرة الطبيعية ل «الوجود للموت» تكرسنا لوجود أصيل، وتحملنا على أن نعرف قيمة وجودنا ونأخذه مأخذ الجد، وأن نسعى ملء الممكن ونعيش ملء اللحظة.
16
الموت هو بين الهموم النهائية أكثرها وضوحا وجلاء؛ فليس بخاف على الجميع أن الموت آت لا مرد له. إنها حقيقة مرعبة. ونحن نستجيب لها في المستويات الأعمق من دواخلنا برعب أكبر؛ فكل شيء كما يقول سبينوزا «يريد أن يبقى على حاله.» إنه لصراع صميمي ذلك الناشب بين وعينا بالموت المحتوم وبين رغبتنا الآنية في البقاء. تلك هي الرؤية الوجودية. فالموت يضطلع بدور كبير في خبرة المرء الداخلية، ويرادوه كما لا يراوده أي شيء آخر، الموت يدمدم بلا توقف تحت غشاء الحياة . وهم الموت يغمر الإنسان منذ نعومة أظفاره؛ فالتعامل مع خطر المحو والإزالة هو من المهام الكبرى التي يتعين على الطفل أن ينهض بها في رحلة نموه. وليس لنا من سبيل كي نصمد أمام هذا الخطر المصلت إلا أن ننصب دفاعات ضد الوعي بالموت. وهي دفاعات قائمة على التعامي والإنكار، وتدخل في تشكيل بنية الشخصية، فإذا كانت دفاعاتنا غير توافقية أدى بنا ذلك إلى أمراض سوء التوافق؛ فالمرض النفسي ينجم إلى حد كبير عن فشلنا في تخطي حقيقة الموت والعلو عليها، والأعراض النفسية والبنية الشخصية السيئة التوافق تنبع جميعها من رعب الموت وخوف المرء من الفناء والزوال.
17
وليس كالرواقية فلسفة تؤهل الإنسان للاعتراف بحقيقة الموت والصلح مع هذه الحقيقة، بل إلى التأهب للموت و«إتقانه» شأنه شأن أي عمل آخر يؤديه الإنسان! «فحتى هذا ... فعل الاحتضار ... هو أحد أفعال الحياة ... وبحسبك هنا أيضا أن تتقن ما تعمله جهد ما تستطيع» (6-2). «وما الموت؟ إن من يتأمل الموت في ذاته، ويعمل فيه التحليل العقلي ليجرده مما يرتبط به من دلالات سوف يخلص إلى أنه لا يعدو أن يكون وظيفة طبيعية، ومن يرتاع لوظيفة من وظائف الطبيعة فهو طفل غرير. ليس الموت وظيفة طبيعية فحسب بل إنه أيضا لخير الطبيعة وصالحها» (2-12). (8) النظرة من فوق
خذ نظرة من فوق. (التأملات: 9-30)
من التقنيات العلاجية الرواقية اتخاذ منظور إلهي تجاه نجاحاتنا وإخفاقاتنا، وتجاه جميع الأحداث والأشياء. «إنما يأتي العزاء من محاولة العلو إلى رؤية أحداث العالم كما يراها الله بقدر المستطاع وبقدر ما يمكن أن يتاح للبشر. وإنما يأتي القنوط نتيجة للرؤية الضيقة والمغرقة في البشرية والأرضية. مهمة الفلسفة أن ترتفع ببصائر الإنسان وأن تهبه شيئا من الرؤية الإلهية. وما دام للفلسفة مثل هذه القدرة فإنها أمل الإنسان في العزاء. إن من المتعذر عليك أن تفهم المحنة بمعزل أو تفهم البلاء على حدة، بل يتعين أن تضعه في المخطط الكلي للأشياء. أن تفعل ذلك يعني أن تتفلسف. إن الفلسفة لا تغير الأحداث ولا تعكس الحظ، غير أنها تقدم فهما تعود بعده أحداث الحياة مقبولة بل ممتعة.
18
في «حلم سكيبيو» لشيشرون يظهر جده الأعلى ويشير له من مجرة «درب اللبانة» إلى كوكب الأرض الضئيل الهزيل. وفي الكوميديا الإلهية يقول دانتي: «أرجعت البصر خلال السموات السبع، فرأيت هذا الكوكب ضئيلا جدا وضائعا في الفضاء، فابتسمت مرغما لمثل هذا المنظر المؤسف» (الكوميديا الإلهية، الفردوس 22: 133-135). وفي «التأملات» يقول ماركوس أوريليوس: «تأمل مسارات النجوم كما لو أنك تسير معها حيث تسير، وتأمل دوما تحولات العناصر بعضها إلى بعض، جديرة هذه التأملات أن تغسل عنك أدران الحياة الأرضية» (7-47). «ثم عندما تتحدث إلى بني الإنسان فلتنظر إلى الأشياء الأرضية كأنك تنظر إليها من نقطة عالية؛ الجموع، الجيوش، المزارع، أحداث الزواج والطلاق والميلاد والموت، صخب المحاكم، الصحاري، شتى الأمم الأخرى، الاحتفالات، الجنازات، الأسواق؛ خليط كل الأشياء والاتحاد المنظم للأضداد» (7-48). «خذ نظرة من فوق؛ انظر إلى ألوف القطعان والأسراب، وألوف الشعائر والاحتفالات الإنسانية، وما لا يحصى من ضروب الترحال في العاصفة والهدأة، وألوان الاختلاف بين من يولدون ومن يعيشون معا ومن يموتون ...» (9-30). «إذا ما رفعت فجأة إلى ارتفاع هائل وأمكنك أن تنظر إلى مشاغل البشر بشتى صنوفها، هل هذه الأشياء تستدعي الزهو والخيلاء؟» (12-24). «... كم هي ضيقة تلك المساحة التي يجول فيها مجدك، الأرض برمتها مجرد نقطة في الفضاء؛ فما أهون ذلك الركن الذي تقطنه وما أقلهم وأهونهم أولئك الذين ترتقب منهم ها هنا التمجيد والمدح. لن يبقى لك سوى هذا؛ حصنك الصغير الذي بين جنبيك، فأو إليه ... حيث لا كرب، على الأقل، ولا وصب» (4-30). «ما أقصر مدة المرء في هذه الحياة، وما أصغر البقعة التي يقطنها على الأرض. وقصير أيضا مجده بعد وفاته مهما امتد، فهو قائم على تعاقب قليل من البشر سرعان ما يموتون ولا يعودون يعرفون أنفسهم ناهيك بمن مات منذ زمن بعيد!» (3-10). «قصيرة هي حياة المادحين والممدوحين معا، الذاكرين والمذكورين. كل هذا في مجرد ركن من قارة واحدة. وحتى هنا ليس الجميع في تناغم بعضهم مع بعض، ولا حتى الفرد في تناغم مع نفسه. والأرض برمتها مجرد نقطة في الفضاء» (8-20). «آسيا وأوروبا مجرد ركنين صغيرين من العالم. كل محيط هو نقطة في العالم. جبل أثوس حفنة تراب في العالم. الزمن الحاضر كله هو ثقب دبوس في الأبدية. كل الأشياء ضئيلة وسريعة التغير وزائلة ...» (6-36). «بوسعك أن تنحي الكثير من المنغصات غير الضرورية التي تكمن بأكملها في حكمك أنت. عندئذ ستوفر لنفسك مكانا رحبا بأن تفهم الكون كله وتستوعبه في عقلك، وبأن تتفكر في أبدية الزمان، وتتأمل في التغير السريع الذي يعتري كل شيء في كل جانب؛ ما أضيق الفجوة الزمنية التي سبقت مولدك والفجوة اللانهائية المماثلة التي تعقب فناءك» (9-32). «ما أصغر نصيب كل منا من الزمن؛ حصته الضئيلة من الهوة الزمانية اللانهائية، لسرعان ما تبتلعها الأبدية. وما أضأل حصته من مادة «الكل» وروح «الكل». ما أضألها في جملة الأرض تلك البقعة التي تزحف عليها. تأمل في كل هذا ولا تكبر شيئا سوى الكدح إلى حيث تقودك طبيعتك، والتسليم بما تأتي به طبيعة العالم» (12-32). (9) تصويب الاستخدام اللغوي («قل ولا تقل» الرواقية)
ضع لنفسك تعريفا او وصفا للشيء الذي يعرض لعقلك ... بحيث يمكنك أن تفضي إلى نفسك باسمه الصحيح. (التأملات: 3-11)
من التقنيات التي ألمح إليها الرواقيون بصدد التخلص من الانفعالات الضارة؛ تعديل الرصد اللفظي للموقف المنغص حتى تنكمش المحنة الموهومة وتتقلص، وربما تتبدد فيدرك المرء أنها لا وجود لها في حقيقة الأمر.
في مقاله «علاقة التفكير والسلوك الاعتياديين باللغة» يقول بنيامين ورف إن نعت «فارغ» حين يلصق ببرميل بنزين يصبح حاملا لخطر الحريق! إن الموقف هنا خطر من الوجهة المادية، غير أن الضرورة اللغوية تضطرنا إلى استخدام لفظة توحي بالخلو من الخطر، وتضرب صفحا عن «امتلاء» البرميل في حقيقة الأمر ب «الأبخرة» وبقايا السائل والمخلفات القابلة للاشتعال.
19
واللغة عند الرواقيين هي فعل للإرادة، به ينظر إلى العالم بطريقة من شأنها أن تحصر الخبرة في صورة ثابتة؛ ومن ثم فإن تعلم استخدام ألفاظ مختلفة هو نوع من تغيير زاوية تقاطع الذات مع الحياة الجارية. إنه لا يغير الأشياء وإنما يراها رؤية جديدة أكثر واقعية ودقة، يراها في نصابها الصحيح: يقول إبكتيتوس: «لا تقولن عن أي شيء: «لقد فقدته.» بل قل: «لقد رددته.» هل مات ولدك؟ لقد «استرد»، هل ماتت زوجتك؟ لقد «استردت»، هل أخذت منك ممتلكاتك؟ ألم تسترد هذه أيضا؟»
وفي «التأملات» يقول ماركوس أوريليوس إن كلمة «الفقدان» لا تعني أكثر من «التغير»، وهو بذلك يذيب الوقع السيئ لكلمة «فقدان»: «الفقدان ليس أكثر من تغير، طبيعة العالم تفرح بالتغير، وكل ما يجري من الطبيعة إنما يجري من أجل الخير» (9-35). كذلك الشأن في كلمة «موت» أو «هلاك»: «وتهلك يجب أن تؤخذ هنا بمعنى تتغير» (10-7).
وطوال تأملاته تجد وقفات كثيرة للمراجعة اللغوية والتصويب اللفظي، وتجد استباقا مدهشا لفكر بنيامين ورف: «كل ما يوجد هو بمعنى ما «بذرة» لما يأتي بعده. فإذا كان مفهوم «البذرة» عندك محصورا فيما يوضع في الأرض، أو في الرحم، فذاك لعمري تفكير مغرق في السوقية» (4-36). «إنهم لا يعرفون ما تعنيه هذه الكلمات: «السرقة»، «البذر»، «الشراء»، «الاستجمام»، «الواجب»؛ فذاك شيء يحتاج إلى رؤية أخرى غير رؤية العين» (3-15). ويبدو أنهم أيضا لا يعرفون ما تعنيه كلمة «قدرة»: «أكثر قدرة على الإطاحة بخصمه أرضا، ولكن ليس أكثر قدرة على الود أو التواضع، أو مواجهة الأحداث، أو العفو عن زلات جيرانه» (7-52). ولا يعرفون معنى كلمة «مصاب»: «... وهل تسميه «مصابا» للإنسان، على كل حال، ذلك الذي لا يشذ عن طبيعة الإنسان؟ أو تسميه «شذوذا» عن طبيعة الإنسان ذلك الذي لا يتعارض مع أهداف طبيعته؟» (4-50)، «... كل يثمر ويؤتي أكلا في أوانها، ولا يهم إذا كان الاستخدام الشائع يقصر معنى الإثمار على الكروم وأشباهه؛ فالعقل أيضا له ثمره، العمومي والخاص؛ ثمة أشياء أخرى تنمو منه وتشارك في طبيعته» (9-10). «ستتبين هذا بوضوح شديد كلما قلت لنفسك إنني «عضو»
melos
في منظومة الكائنات العاقلة. أما إذا قلت إنني «جزء»
meros ... بتغيير الحرف الواحد
l
إلى
r ، فأنت بعد لا تحب رفاقك البشر من قلبك، وفعلك الخير لا يبهجك كغاية في ذاته، ما زلت تفعل البر بوصفه أدبا وواجبا وليس بوصفه برا بنفسك» (7-13).
وانظر إليه كيف يعالج الألم الناجم عما يظنه الناس «نحسا» أو «سوء حظ»؛ علاجا «لغويا» محضا: - كنت ذات يوم رجلا محظوظا، لا يتخلى عني الحظ في كل صغيرة وكبيرة، واليوم تخلى عني لا أعلم كيف. - «ولكن كلمة «محظوظ» تعني ذلك الرجل الذي حدد لنفسه حظا سعيدا، و«الحظ السعيد» هو نزوع النفس إلى الخير، هو الوجدانات الخيرة والأفعال الخيرة» (5-37). «تذكر إذن في كل حدث منغص هذا المبدأ: ليس هذا بالحظ السيئ، بل احتمال هذا بنبالة وكرم هو حظ سعيد» (4-49). «أسعد الحظ كله أن تغادر الناس ولم تعرف قط طعم الكذب ولا الرياء ولا الخيلاء ولا الغرور ...» (9-2). «... فلماذا لا أدعو الله أن يهبني نعمة ألا أخاف من أي شيء مما أخاف منه، وألا أتشهى ما أتشهاه، وألا أتألم من أي شيء، لا أن يجعل أي شيء من هذه الأشياء يحدث أو لا يحدث، جرب إذن أن تحول دعاءك على هذا النحو وانظر ماذا يكون» (9-40). (10) البعد السلوكي في العلاج الرواقي
بحسبك من كلام عما ينبغي أن يكون عليه الرجل الصالح؛ كن رجلا صالحا. (التأملات: 10-26)
للعلاج الرواقي مرحلتان؛ الأولى مرحلة تعليمية بالاستخدام الصحيح للانطباعات، ونقل موقع الضبط، وتعلم المنظومة القيمية الرواقية، والثانية مرحلة تطبيقية ترمي إلى إعادة بناء العادات المعرفية وإعادة بناء العادات السلوكية.
ذلك أن تصويب الأخطاء المعرفية، على ضرورته، ليس يكفي لنسخ سنوات طويلة من الاعتياد الخاطئ، إنما التدريب الذاتي المستمر، على طريقة ماركوس أوريليوس، هو أمر لا بد منه لتحويل الحكم الصحيح إلى «عادة» وخليقة وطبيعة وسجية، إلى شيء لا ينفصل عن المرء لأنه صار جزءا منه. يقول ماركوس: «في تطبيقك لمبادئك كن كالملاكم لا كالمجالد: فالمجالد
gladiator
مرتهن لسيفه الذي يستخدمه، يرفعه أو يسقط منه ويقتل، أما الملاكم فلديه دائما يده، وليس عليه إلا أن يستخدمها» (12-9).
في «الأخلاق النيقوماخية» (الجزء الأول، القسم 4) يقول أرسطو أن مساواة الخير بالمعرفة، على طريقة سقراط وأفلاطون، هي مبالغة وشطط، وقد أعاد الأمر إلى نصابه بأن أوضح أن أساس المعرفة الأخلاقية عند الإنسان هو المجاهدة والكدح وتطورهما إلى خليقة مكينة وسلوك ثابت
hexis ، وإن اللفظة نفسها
ethics
لتدل على أن أرسطو يقيم الفضيلة على الممارسة وعلى الإيثوس
ethos ... أي الطبع، الشخصية.
ينصح إبكتيتوس الطالب المبتدئ في الفلسفة بأن يوغل في التدريب برفق ، ولا يتصدى في البدايات لما لا طاقة له به؛ فقد يكون إغراء المواقف الحياتية أشد من قدرة العقل على الحكم الصحيح، و«ليس من العدل أن تتبارى الجرة النحاسية والجرة الخزفية كما تقول الحكاية»،
20
المباراة، مثلا، بين المرأة الفاتنة والشاب المبتدئ في الفلسفة ليست مباراة متكافئة. والحل هنا ليس المزيد من المعرفة بل المزيد من التدريب والمران وتقوية العادة. يقول ماركوس: «درب نفسك حتى على ما يئست من التمكن منه؛ فاليد اليسرى، لنقص الممارسة، خرقاء في أغلب المهام، غير أنها أشد إمساكا باللجام من اليد اليمنى؛ فلقد تدربت على ذلك» (12-6). «كيفما تكن أفكارك المعتادة تكن طبيعة عقلك؛ فالنفس تصطبغ بالأفكار. اصبغ نفسك إذن بسلسلة متصلة من الأفكار مثل هذه ...» (5-16). «التجهم شيء مضاد للطبيعة. وإذا أصبح عادة متكررة فإن صباحة الوجه وتعبيره يموتان رويدا رويدا. وربما ينطفئان في النهاية انطفاء لا ضرم بعده» (7-24). «... كيف يمكن أن تموت مبادؤك ما لم تمت التصورات العقلية المناظرة لها؟ ولكن بيدك أن تروح هذه التصورات باستمرار وتحيي ضرامها» (7-2). «إذا قذفت بك الظروف في نوع من الكرب فعد إلى نفسك سريعا، ولا تبق خارج الإيقاع أطول مما ينبغي؛ فسوف يزداد تمكنك من التناغم بدوام العودة إليه.»
د. عادل مصطفى
قطوف من «التأملات»
قطوف من «التأملات»1
تذكر أن ملكة الرأي هي كل شيء، وأن رأيك بيدك. امح رأيك إذا شئت، وستجد السكينة. ستكون كالبحار الذي يدور حول رأس الأرض، فيجد ماء هادئا، وخليجا ساجيا بلا أمواج. ***
أعلى مراتب الحرية والقوة هي ألا يفعل الإنسان إلا ما يرضي الله، وأن يتقبل كل ما يقسمه الله له. ***
يقول الفيثاغوريون: «تأملوا السماء في الفجر.» كي نذكر أنفسنا بثبات تلك الأجرام السماوية، التي تؤدي الشيء نفسه على الدوام وبالطريقة نفسها، ونذكر أنفسنا بنقائها وتجردها؛ فليس على نجم حجاب. ***
يحتقر بعضهم بعضا، وينافقه رغم ذلك. يريدون العلو والترقي، وينبطحون رغم ذلك. ***
تذكر في نوبات غضبك أن الغضب ليس من الرجولة في شيء، وأن الرحمة واللين أكثر إنسانية وبالتالي أكثر رجولة؛ فالرحماء هم ذوو القوة والبأس والشجاعة وليس القساة ولا الساخطون؛ فكلما تحكمت في انفعالاتك كنت أقرب إلى القوة؛ فالغضب دليل ضعف شأنه شأن الجزع؛ فالغاضب والجزع كلاهما أصيب وكلاهما استسلم. ***
حين تتكدر في أي ظرف فقد نسيت عدة أشياء؛ نسيت أن كل ما يجري فبإرادة طبيعة «الكل»، وأن الإثم لا يضير إلا مرتكبه، ونسيت أن كل شيء يحدث فقد كان يحدث هكذا فيما مضى، وسيظل يحدث هكذا في المستقبل، وما ينفك يحدث الآن في كل مكان. وأن الكائن الإنساني وثيق القرابة بالجنس البشري كله، لا قرابة دم أو بذرة؛ بل مجتمع عقلي. ونسيت أيضا أن عقل كل إنسان إله ودفقة من الألوهية. وأن لا شيء ملك لنا، بل حتى طفلنا وجسدنا نفسه إنما جاء من ذلك المصدر. وأن كل شيء هو كما أراده التفكير أن يكون، وأن كلا منا لا يعيش إلا اللحظة الحاضرة، ولا يفقد إلا إياها. ***
ما من نشاط يضيره أن يتوقف ما دام قد توقف في الوقت المناسب، ولا فاعله يضيره شيئا أن هذا النشاط المعين قد توقف؛ وعلى ذلك فإذا بلغت جملة أفعاله، التي تشكل حياته، نهايتها في الوقت المناسب فلا ضير عليها من مجرد التوقف، ولا ضير على من ختم هذه السلسلة من الأفعال في الوقت المناسب. أما الوقت والأجل فتحددهما الطبيعة؛ طبيعة الإنسان أحيانا كما في الشيخوخة، وطبيعة العالم في كل الأحيان، والتي من خلال التغيير الدائم لأجزائها المكونة تبقي العالم كله صبيا وعفيا. وكل ما ينفع العالم فهو حسن وفي إبانه؛ لذا فلا بأس على الإطلاق بأن تنتهي حياة كل منا؛ فلا النهاية عيب ولا اختيار ولا هي ضد الصالح العام، بل هي خير؛ إذ تقع في التوقيت الملائم ل «الكل»، وتصب في صالحه، وتنسجم معه؛ فكذلك أيضا يمشي المرء بعون الرب إذا مضى باختياره ووجهته على طريق الرب. ***
تأمل إذن ما يجري في مثل هذا الأمر الخفي، وانظر «القوة» وهي تفعل فعلها، تماما مثلما نرى «القوة» وهي تحمل الأشياء إلى أسفل وإلى أعلى. انظر «القوة» لا بالعين، وإن لم تكن أقل وضوحا. ***
إذا نفضت عن عقلك ما يرين عليه من انطباعات الحس ومن هموم الآتي والماضي، جاعلا نفسك مثل كرة أمبدوقليس: «تامة الاستدارة تتقلب في نعيم وحدتها.» لا تبتغي إلا أن تعيش ما هو حياتك الحقة - أي الحاضر - سيكون بوسعك أن تقضي ما تبقى لك من العمر في هدوء وسكينة وسلام مع روحك الحارس. ***
أوراق،
2
البعض تبعثره الريح على الأرض،
هكذا هي أجيال البشر.
أطفالك أيضا مجرد «أوراق». أوراق أيضا تلك الأصوات التي تهتف بمدح الملك، وتلك اللعنات من مناوئيك، وهذا الملام الصامت أو السخرية المكتومة ... مجرد أوراق مماثلة أيضا أولئك الذين سيتلقون وينقلون مجدك المستقبلي للأزمنة الآتية؛ فكل هذه الأشياء «تنتج في فصل الربيع» ... ولكن لا تلبث الريح أن تذروها ... ***
الأرض تحب المطر، والسماء الجليلة تحب أن تمطر. العالم كله يحب أن يخلق المستقبل. أقول للعالم إذن: «إنني أبادلك الحب.» ***
أما أن تظل الإنسان نفسه الذي كنته حتى الآن، أن تتمزق وتتشوه في هذه الحياة التي تحياها؛ فهو مجرد حرص بليد على الحياة، أشبه بحال المجالدين
gladiators
الذين أكلت الوحوش نصف أبدانهم وهرستهم وسربلتهم بالدم، ولا يزالون يتوسلون للإبقاء على حياتهم إلى اليوم التالي رغم أنهم في اليوم التالي سيتعرضون في نفس الحالة إلى نفس المخالب والأنياب. إذا أحسست أنك تسقط وتفقد توازنك فالجأ بنفس راضية إلى ركن ما حيث تستعيد اتزانك. وإلا فاجعل لك مخرجا عاجلا من الحياة، لا بانفعال بل ببساطة وحرية وتواضع، جاعلا هذا الرحيل إنجازا واحدا مشرفا في حياتك على أقل تقدير. ***
أيما شيء يحدث لك فقد كان يعد لك منذ الأزل، وكان مقتضى الأسباب يغزل لك منذ الأزل خيط وجودك وخيط هذا الحدث المحدد. ***
تشاغب أطفال ولعبهم، أرواح ضئيلة تحمل جثثا ، هكذا شأن كل شيء؛ إن العالم السفلي في «الأوديسة» ليبدو للعين أكثر واقعية! ***
عليك أن تترك خطأ غيرك حيث ارتكب.
اليوم هربت من كل المنغصات، أو بالأحرى ألقيت بها جانبا. لم تكن هذه شيئا خارجيا، بل كانت بداخلي ؛ إنها أحكامي ليس إلا! ***
الأشياء واقفة خارجنا، قائمة بذاتها، لا تعرف شيئا عن نفسها ولا تدلي بشيء. ما الذي يدلي إذن؟ عقلنا الموجه. ***
قد يرتكب الظلم بالإحجام عن الفعل، مثلما يرتكب بإتيانه. ***
لا تكن متثاقلا في فعلك، ولا مشوشا في محادثتك، ولا غامضا في تفكيرك. ولا تترك عقلك نهبا للانقباض ولا للتيه. واجعل في وقتك ساعة للفراغ والترويح. - «إنهم يقتلونني، يمزقونني، يلعنونني.» - وكيف يمكن لكل ذلك أن يحول بين عقلك وبين الصفاء والحكمة والرصانة والعدل؟ هب واحدا أتى إلى نبع من الماء النمير وأخذ يلعنه، فهل سيمنع النبع من أن يظل يتدفق بالماء الزلال؟ وهبه ألقى فيه بشيء من الطين والروث ... فلن يلبث النبع أن يفتته ويزيحه ويعود إلى نقائه. كيف إذن تؤمن لنفسك نبعا دائما لا مجرد صهريج؟ بأن توطن نفسك طول الوقت على الحرية، وتظل قانعا، بسيطا، متواضعا. ***
العقل الخالي من الانفعالات هو قلعة؛ ليس ثمة ملاذ للناس أقوى منه، ومن يأوي إليه فهو في حصن حصين؛ فما أجهله من لا يرى هذه القلعة! وما أتعسه من لا يلوذ بهذا الحصن! ***
تذكر أن تغييرك لرأيك أو قبولك لتصويب يأتي من غيرك هو شيء يتسق مع حريتك قدر اتساق عنادك وإصرارك على خطئك؛ فالفعل فعلك، تحثه رغبتك أنت وحكمك، وفهمك في حقيقة الأمر. ***
نقب في ذاتك. ها هنا بالداخل ينبوع خير جاهز لأن يتدفق في أي لحظة إذا ما بقيت تنقب. ***
تخيل أنك الآن ميت، وأن حياتك انتهت في هذه اللحظة، ثم عش ما تبقى لك من العمر في وفاق مع الطبيعة. ***
كمال الخلق في هذا؛ أن تعيش كل يوم كما لو كان آخر أيامك، بغير سعار وبغير بلادة وبغير رياء. ***
تستخدم الطبيعة مادة العالم مثلما يستخدم الشمع؛ فتارة تخلق منه كهيئة حصان، ثم تصهره وتستخدم مادته لخلق شجرة، ثم إنسان، ثم شيء آخر. كل شيء من هذه الأشياء لا يدوم إلا قليلا. ليس صعبا على الوعاء أن ينحطم، مثلما لم يكن صعبا عليه أن يستوي من قبل وعاء . ***
الأبهة الفارغة للمواكب والاحتفالات، عروض المسرح، القطعان والأسراب، عروض المقارعة بالسيف؛ عظمة ملقاة للجراء، فتات ملقى لسمك البركة، نمل يكدح وينوء بأحماله، عدو فئران مذعورة، دمى ترقصها خيوطها. هكذا أشياء العالم. ***
الموت انعتاق من الاستجابة للحواس، ومن خيوط دمى الرغبة، ومن العقل التحليلي، ومن خدمة اللحم. ***
من العار أن تخذلك الروح في هذه الحياة قبل أن يخذلك جسمك. ***
كم رفاق أتيت معهم إلى العا
لم يوما أراهم الآن غيب ***
سرعان ما ستصير رمادا أو عظاما، مجرد اسم أو حتى لا اسم. والاسم ماذا يكون غير صوت وصدى؟ وكل ما نعليه ونغليه في الحياة هو شيء فارغ وعفن وتافه؛ جراء يعض بعضها بعضا، وأطفال تتشاجر، تضحك، وما تلبث أن تبكي. أما الإخلاص والشرف والعدل والصدق فتفر إلى أوليمبوس من كل أرجاء الأرض المترامية. ***
انظر مليا كيف يزاح كل ما هو قائم وكل ما هو قادم ويصير ماضيا ويزول زوالا. الوجود مثل نهر في تدفق دائم، وأفعاله تعاقب ثابت للتغير! وأسبابه لا تحصى في تنوعها. لا شيء يبقى ثابتا حتى ما هو حاضر عتيد. تأمل أيضا الهوة الفاغرة للماضي والمستقبل التي تبتلع كل شيء. أليس بأحمق من يعيش وسط هذا كله ثم تحدثه نفسه بأن يلج في الأمل أو يهلك في الكفاح أو يسخط على نصيبه؟! وكأن أي شيء من هذا دائم له أو مقدر أن يؤرقه طويلا. ***
ثراء طائل لا يترك محلا لقضاء الحاجة! ... ذلك حال الثروة وامتيازات الفخامة والشهرة. ***
سأبقى سائرا في طريق الطبيعة حتى أسقط وأخلد إلى الراحة، فألفظ أنفاسي الأخيرة في هذا الهواء ذاته الذي تنفسته عبر أيام عمري، وأسقط على ذات الأرض التي منحت أبي بذرته ومنحت أمي دمها ومرضعتي لبنها، الأرض التي أطعمتني يوما بعد يوم وسقتني سنوات طوالا، الأرض التي احتملت وطأتي عليها واحتملت مني كل ضروب الإساءة. ***
اسلك دائما الطريق القصير. وطريق الطبيعة قصير. وابتغ ما هو أقوم وأسلم في كل ما تقول وتعمل؛ فمثل هذا العزم كفيل بأن يحرر المرء من العناء والجهد والاضطرار إلى التحايل والرياء. ***
عليك أن تقضي هذه الكسرة الضئيلة من الزمان
3
في انسجام مع الطبيعة. وغادرها راضيا، مثلما تسقط زيتونة حين تبلغ النضج، مباركة الأرض التي حملتها، وشاكرة للشجرة التي منحتها النماء. ***
الناس في خصام مع ألصق رفيق؛ العقل! ***
إذا كان غريبا في العالم من لا يعرف مكوناته، فليس أقل غربة من لا يعرف ماجرياته. إنه آبق إذا تملص من المبدأ الاجتماعي، أعمى إذا غض عين عقله، شحاذ إذا اعتمد على الآخرين ولم يذخر في نفسه كل ما يحتاج إليه في الحياة، ورم في الكون إذا انسحب وفصل نفسه عن مبدأ طبيعتنا المشتركة بتبرمه بنصيبه ... منشق خارج على المجتمع إذا سل روحه من روح الكائنات العاقلة جميعا، والتي هي وحدة. ***
كم هي ضيقة تلك المساحة التي يجول فيها مجدك. ***
ليس في العالم موضع أكثر هدوءا ولا أبعد عن الاضطراب مما يجد المرء حين يخلو إلى نفسه، وبخاصة إذا كانت نفسه ثرية بالخواطر التي إذا أظلته غمرته بالسكينة التامة والفورية. ***
ما أشقى ذلك الإنسان الذي يظل دوما لائبا محوما حول كل شيء، منقبا في أحشاء الأرض، متحرقا إلى استشفاف ما يدور ببال جيرانه. وما يدري أن بحسبه أن ينصرف إلى الألوهة التي بداخله ويكون خادما حقيقيا لها. ***
وعليك بعد ذلك أن تحذر ضربا آخر من التخبط؛ إنه لضرب آخر من الكسل والموات ما يأتيه أولئك الذين يكدحون بلا هدف ويضربون في الأرض بلا وجهة، لا وجهة في الفعل، ولا وجهة، بالأحرى، في القول والتفكير. ***
انظر إلى أي شيء موجود ولاحظ أنه منذ الآن في عملية فناء وتغير، يتجدد، بمعنى ما، من خلال الفساد أو التبدد. وبعبارة أخرى: انظر إلى أي ضرب من «الموت» يولد كل شيء!
Bilinmeyen sayfa