فساد عقل صحيح هان ما صعبا
ورسم كرافاجو مرة صورة جنونية لنفسه، كميدوسة، جاعلا بدلا من الشعر أفاعي فأظهر نفسه وقد عذبته لدغا ثعابين دماغه.
12
وفي كتابه «غزو السعادة» يقول برتراند رسل: «أعتقد أن التعاسة تعود، إلى حد كبير جدا، إلى آراء خاطئة عن العالم، وإلى نظريات أخلاقية خاطئة، وعادات حياتية خاطئة.»
ويقول مارك توين: «إنني رجل مسن عركت الحياة وعانيت ويلات لا تحصى عددا. غير أن معظمها لم يحدث قط!»
فإذا ما انتقلنا إلى «تأملات» ماركوس أوريليوس وجدناه يلح على هذه الفكرة المحورية مرارا وتكرارا: «لا تزايد على رواية الانطباع الأول بشيء من عندك. افترض أنه قد جاءك أن شخصا ما يعيبك، وهاذ ما روي، أما أنك قدا أضرت فهذا ما لم يرو. أو هبني أرى طفلي مريضا، هذا ما أراه، أما أنه في خطر فشيء لا أراه. هكذا التزم دائما بالانطباع الأول ولا تضف عليه شيئا من أفكارك أنت. وهكذا كل ما في الأمر، وإلا فإن بوسعك أن تضيف ما لا نهاية له إضافة من يعرف كل ما يجري في العالم» (8-49). «بوسعك أن تنحي الكثير من المنغصات غير الضرورية التي تكمن بأكملها في حكمك أنت» (9-32). «اطرح الحكم تجد الخلاص. ومن ذا الذي يمنعك من هذا الإطراح؟» (12-25). «اليوم هربت من كل المنغصات، أو بالأحرى نحيتها جانبا. لم تكن هذه شيئا خارجيا، بل كانت بداخلي ... إنها أحكامي ليس إلا» (9-13). «ما أيسر أن تطرد من عقلك كل انطباع منغص أو عارض وتمحوه محوا، وتنعم للتو بلحظة حاضرة مفعمة بالراحة والسكينة» (5-2). «العسل مر لدى المصابين باليرقان. والماء رعب لدى من عضتهم كلاب مسعورة. الكرة بهجة لدى صغار الأطفال. لماذا أنا غاضب إذن؟ أم ترى أن الحكم الزائف أقل تأثيرا من الصفراء للمصاب باليرقان، أو السم في المصاب برهاب الماء؟» (6-57). «أفق من نومك، وعد إلى رشدك، لتدرك أن كل الذي عكر صفوك كان أضغاث أحلام ، والآن وقد استعدت وعيك مرة ثانية انظر إلى هذه الأشياء مثلما كنت تنظر إلى تلك الأحلام» (6-31). «وعليك أن تأخذ كل شيء بقيمته وحجمه؛ فبذلك لن تبتئس إذا عبرت على التوافه ولم تعرها وقتا أطول مما تستحق» (4-32). «لا تحلم بامتلاك ما لا تمتلكه، بل تأمل النعم الكبرى فيما تملكه ...» (7-27). «أزل الحكم تكن قد أزلت فكرة «لقد تضررت». أزل فكرة «لقد تضررت» يكن الضرر نفسه قد أزيل» (4-7). «... فلست مضارا إلا إذا عقدت الرأي بأنه ضرر، وبوسعي ألا أرى هذا الرأي» (7-14). «إذا نحيت حكمك على أي شيء يبدو مؤلما فأنت نفسك ستكون محصنا تماما من الألم» (8-40). «من منا ليس هو السبب في كربه الشخصي، وليس قلقه من صنع يديه؟ تأمل: ليس ثمة امرؤ يعاق بغيره، وإنما كل شيء هو كما يجعله التفكير كذلك» (12-8).
ومن التقنيات العلاجية التي يلح عليها ماركوس في «التأملات» ذلك التحليل الجوهري الذي يجرد الأشياء من قشورها وواجهاتها الخارجية الزائفة، وصولا إلى «الانطباع الموضوعي» الذي «يصدق» عليه الحكيم ولا يصدق على شيء سواه: «ما أطيب، عندما يكون أمامك لحم مشوي أو ما شابه من الأطايب؛ أن تستحضر في ذهنك أن هذا جثة سمكة، وهذا جثة طائر أو خنزير، ثم أن هذا النبيذ الفاليري مجرد عصير عنب، وأن رداءك الأرجواني ليس أكثر من فراء خروف منقوع في دم المحار! كذلك فليكن دأبك طوال حياتك: حيثما تبدت الأشياء خلابة المظهر فجردها وتفرس في طبيعتها الزائفة واخلع عنها كل دعاوى الزهو والخيلاء ...» (6-13). «... مرة أخرى: الرخام مجرد راسب في الأرض، الذهب والفضة مجرد رواسب، رداؤك شعر حيوان، أرجوانك دم محارة، وهلم جرا ...» (9-36). (4) المواجدة ... النفاذ إلى عقول الآخرين
يلح ماركوس في «التأملات» على رابطة القربى بين بني البشر، تلك الآصرة القائمة على انتسابهم إلى عقل واحد، والتي تلزم الإنسان بالتعاون مع الآخرين والرفق بهم واحتمال أخطائهم، والنفاذ إلى عقولهم الموجهة واستكشافها. وهي وصايا مطابقة لمبادئ كارل روجرز وغيره في «التقبل غير المشروط» و«الفهم الإمباثي» (المواجدة
empathy )، «... وانفذ قدر المستطاع في عقل المتحدث» (6-53). «انفذ إلى عقل كل إنسان، ودع كل إنسان ينفذ إلى عقلك» (8-61). «هلم إلى عقلك الموجه، وعقل «الكل»، وعقل هذا الشخص بعينه؛ إلى عقلك لتقومه، وإلى عقل الكل لتتذكر الأصل الذي أنت جزء منه، وإلى هذا الشخص عساك تعرف هل تصرف عن جهل أو عن علم، وعساك تتبين أيضا أن عقله قريب لعقلك» (9-22).
في ظل هذه المبادئ لا يعود هناك توتر بين المصلحة الفردية ومصلحة المجموع؛ فالرجل الحكيم يماهي بين مصلحته الخاصة ومصلحة البشر جميعا: «ما لا يضير المدينة لا يضير مواطنيها أيضا، إذا كانت المدينة بخير فأنا إذن بخير» (5-22). «ما لا يفيد السرب لا يفيد النحلة» (6-54). «خلق البشر من أجل بعضهم البعض، إذن علمهم أو تحملهم» (8-59)، «بهجة الإنسان أن يؤدي العمل اللائق بالإنسان. والعمل اللائق بالإنسان هو الإحسان إلى جنسه الإنساني» (8-26). (5) طبقات الانتماء
Bilinmeyen sayfa