ثم تعاقبت الأسر على هذه الوتيرة، تارة على اتصال وتارة على انفصال تتخلله الثورات وتنقطع فيه علاقة الولايات بالحكومة المركزية، وقد تبقى الأسرة المغلوبة مسيطرة على بعض الولايات والأسرة الجديدة قائمة بالحكم في العاصمة الكبيرة، حتى كانت أسرة «منج» ختام الأسر الوطنية في بكين (1403-1644) وكانت أسرة المانشو فيها ختام الأسر الأجنبية (1644-1912). •••
هاتان الأسرتان هما الأسرتان الحديثتان اللتان أدركتا العصر الحديث من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين، وفي عهديهما اتصل الغرب بالصين ونشأت العلاقات بينها وبين الحضارة الأوروبية، سواء من جانب السياسة أو من جانب الثقافة.
ولكنها على حداثتها تعتبر كل منها نموذجا لأمثالها من أقدم العصور، قيامها كقيام غيرها من الدول الوطنية أو الدول الغربية التي طرأت على البلاد من الشمال أو من الغرب الجنوبي، منذ ألوف السنين، ومحاسنها كمحاسن تلك الأسر الخالية ومساوئها كمساوئ تلك الأسر، بلا اختلاف بين السابق واللاحق كأنما وقف الزمن عن التقدم والتغير من الأسرة الأولى إلى الأسرة الأخيرة قبل الجمهورية.
وكل ما سجله التاريخ من الوقائع أو الأساطير فقد تكرر في كلتا الأسرتين على قرب العهد بنشأة الثانية منهما أو الأولى، بالقياس إلى الدول التي تقادمت عهودها قبل الميلاد أو بعده ببضعة قرون.
كانت أسرة يوان التي سبقت أسرة منج مغولية من أرض الشمال، فنبتت بذور الثورة عليها في الجنوب، وانتشرت الدعوة المعادية لها على يد جماعة البشنين الأبيض، وهي جماعة سرية تنتحل الصبغة الدينية لمداراة أغراضها السياسية، وكان زعيمها يدعي أن بوذا نفسه عائد إلى الدنيا لاقتلاع جذور الأجنبي الغاصب، وأنه تلقى الوعد بعودته وحيا من السماء.
ثم جاء الانقلاب على يد «شويوان شانج» ابن الفلاح الذي جعلته الروايات التاريخية بطلا من أبطال الأمة، وكادت روايات القصص الشعبي أن تجعله شخصا من شخوص الخرافات، ومن القصص التي يتداولها الشعب عنه أنه كان ملحوظا بالعناية الإلهية منذ صباه، وأنه كان مدخرا للملك وهو يرعى الماشية لرجل من أصحاب الضياع والكراع، ومن رعاية الآلهة له أنه أولم لأصحابه وليمة وذبح فيها ثورا من قطعان مولاه، ثم غرس ذنبه في الأرض وقال لمولاه حين سأله عنه: إنه غاص في الأرض وأراه موضع الذنب المغروس، فلما راح الرجل يجذبه ليظهر بهتان الراعي المختلس ثبت الذنب في موضعه وسمع من باطن الأرض خوار كخوار الثيران.
ويروى عن «شويوان شانج» هذا أنه تنسك وتعلم علوم النساك والحكماء، واطلع من ثم على أسرار جماعة البشنين الأبيض، فقاد ثورتهم وأقام نفسه ملكا على إقليم «وو» حيث كان يقيم، فزاحمه على الملك ابن صياد وحشد مراكب الصيد لقتاله، ولكن الآلهة لم تخذله فقهر مزاحمه وأحرق مراكبه في موقعة كبيرة على بحيرة «پويانج» إلى جنوب النهر العظيم، ثم انهار ملك العاهل المغولي في بكين بعد حملة «شويوان شانج» عليه.
وليس في تاريخ هذا البطل الوطني من غرابة في خبر من أخباره غير القصص الخرافية.
أما ارتقاء راع ابن فلاح إلى سرير الملك فلم يكن غريبا قط في مأثورات الصين القديمة والحديثة؛ إذ كانت الثورات على الإجمال من قبل الفلاحين والأساتذة، فإذا اجتمع لابن فلاح علم النساك والحكماء فترشيحه للملك يجري مجرى العادة عندهم في معظم الثورات، ومن حكمة الصين أن الملك تفويض من السماء، فمن ملك فهو مختار السماء وابن السماء ولا يعبده قومه كما يتوهم المتوهم من هذه التسمية، ولكنه ينسب إلى السماء؛ لأنه مختارها لحكم البشر، ولا يزال قائما بالأمر ما دام مختارا من السماء، فإذا سقط فتلك آية السماء على نبذه وإبطال اختياره، ولم يكن نادرا في الصين أن يرتفع العواهل من حضيض الأرض إلى عروش أبناء السماء.
وجرى على هذه الأسرة ما كان يجري على الأسر الوطنية أو الأجنبية من قبلها، فازدهرت أيامها على عهود الملوك الفرسيين كلها من ذوي الأيد والحكمة، ثم آل الأمر فيها إلى الخصيان والجواري وسماسرة الشهوات، فاستبد بالأمر الخصي «وان شن» في عهد ملكها السادس الذي يناديه بالأستاذ؛ لأنه رباه من طفولته، وكان يأمر الرؤساء والعظماء إذا خاطبوه أن ينادوه باسم الأب الجليل، فطاشت سياسة القصر ووغرت صدور الرعية من الخاصة والعامة، وعاد المغول إلى الطمع في العرش، ومكنهم منه تقلص الدولة وضياع الأقاليم منها واحدا بعد واحد، واضطرار ملوكها إلى مضاعفة الضرائب لتعويض الخسارة والإنفاق على جيوش الدفاع، فاتفق الفلاحون والأساتذة كرة أخرى على خذلان الدولة القائمة، ولإثبات الدولة في الصين يتفق عليها هؤلاء وهؤلاء.
Bilinmeyen sayfa