وأخلص سونج لصديقه مجازفا بثروته وحياته، فافتتح دارا للنشر والطباعة تعنى بنشر الكتب الدينية ظاهرا وتطبع النشرات الثورية سرا وتبثها مع وكلائها في طول البلاد وعرضها بمأمن من رقابة الجواسيس على الجماعات السرية.
ولجأ سن ياتسن مرات إلى بيت سونج يختبئ به كلما تعقبته الشرطة واحتاج إلى مأوى بعيد من الشبهات ريثما يتمكن من مغادرة البلاد.
وأراد الزعيم أن يختار أمينة لسره تتوافر لها شروط الكفاءة وشروط الأمانة، ومن شروط الكفاءة معرفة اللغات وفهم دخائل القضية القومية، ومن شروط الأمانة الغيرة الشخصية على كتمان أسرارها، وهي شروط لا تتوافر لأحد كما تتوافر لبنات سونج؛ لأنهن على نصيب وافر من الثقافة وسر الزعيم هو سر أبيهن. فوقع اختياره على كبراهن أي لنج وظلت تعمل معه إلى أن تزوجت بالدكتور كونج هسيانج، وكان يومئذ رئيس جماعة الشبان المسيحيين، فاختار أختها الوسطى شنج لنج، ولم يطل عملها معه حتى جاءت أبويها ذات يوم تبلغهم أنها اعتزمت أن تخطب الدكتور لنفسها، فراعهم من الخبر أن تجترئ فتاة على خطبة رجل لنفسها، وراعهم فوق ذلك أن الرجل صاحب زوجة لم يطلقها، وإن كان معلوما لديهم ولدى الخاصة من أصدقاء الدكتور أنه لا يعيش معها.
قال بربردج الذي كتب موجز التاريخ للأسرة بإيحاء من شيان كاي شيك وقرينته: «إن احتجاج الأبوين ذهب سدى وأصرت شنج لنج على عزيمتها وخرجت من بيت أبويها لتلحق بالدكتور،
2
وتم الزواج ولما تنقض على خروجها من بيت أبويها بضعة أسابيع (25 أكتوبر سنة 1915).
وواضح من القصة أن الدكتور اختار الكبرى من البنات ثم الوسطى اختيار وظيفة لا اختيار حب وخطبة، وأنه كان في تلك الحالة بين خطط ثلاث لا معدى له عن واحدة منهن، فإما أن يقصي الفتاة عنه، وإما أن يبقيها على صلة به معرضة للقيل والقال، وإما الزواج.
وقد كان الزواج أكرم هذه الخطط، وكان كذلك أشبهها بعاداته وخلائقه، لإيثاره - كلما شجر الخلاف - أن يختار ما يحسم القال والقيل، وكادت هذه الخصلة أن تحسب من مواطن ضعفه في رأي المعجبين به ورأي ناقديه. فإن هذا الرجل الذي كان يواجه الموت ولا يبالي الضنك والعذاب؛ كان يجفل من سوء السمعة ويختار الحل الذي يعفيه منها، ويذكر له من الشواهد على ذلك أنه سلم للقائد يوان شي كاي أن يرأس الجمهورية بدلا منه، ونزل له عن الرئاسة دفعا لشبهات من يقول: إنه رفض هذا المقترح تشبثا منه بالمنصب، وجازف بسقوط الجمهورية وهي في مهدها لكيلا يسبقه أحد إلى رئاستها.
والخوف من القال والقيل موطن ضعف في الزعماء على الخصوص إذا كان الحرص على السمعة هو الباعث الوحيد عليه، ولكنهم إذا أشفقوا من سوء سمعتهم محافظة على القدوة الحسنة ووقاية للمصلحة العامة، فالخوف من القال والقيل شجاعة، والمجازفة بالتعرض له جناية. وقد كان إصرار سن ياتسن على رئاسة الجمهورية خليقا أن يلقي في روع أبناء الصين وهم ينهضون لخدمة أمتهم أن المناصب مقدمة على مصالح الأمة، وكان هذا الإصرار معطلا لنزول الأسرة المالكة عن العرش ولتسليم القائد يوان شي كاي بالنظام الجديد، ومثيرا لمعارك الشقاق في معسكر الجمهورية نفسه، فلم تكن سمعة الزعيم هي المصاب الوحيد من جرائر القال والقيل.
ولو أنه استخف بالقال والقيل في مسألة زواجه من أمينة سره لأساء إلى سمعتها قبل أن يسيء إلى سمعته، ونكبت أسرة صديقه بفاجعة بيتية لا تستحقها منه، وفعل ذلك بغير موجب يستحل من أجله هذه الجريرة؛ لأنه كان على نية الزواج بعد تطليق امرأته التي لم يكن في وسعها أن تصاحبه في حياة الزعيم المجدد والرائد المتقدم للنهضة العصرية.
Bilinmeyen sayfa