الدجاجة تطلق فراخها متى صاروا مستطيعين بأنفسهم، أما نحن فنظل ننظر إلى بنينا ولو اكتهلوا كأنهم ما زالوا قاصرين، بينا أولادهم يكونون قد رشدوا.
لقد قلدنا الغربيين في كل شيء؛ في عاداتنا وثيابنا، في بنيان بيوتنا ومأكلنا ومشربنا، وفي كل شيء من مقومات الحياة إلا في الانفصال عن أولادنا.
الغربي يفصل ولده عنه حين يبلغ أشده، فيتعاملان كصديقين لكل منهما كيس لا يمد الآخر يده إليه.
روى لي أحد أنسبائي المهاجرين أن الأبناء هناك متى بلغوا الواحدة والعشرين فتشوا عن عمل يستقلون به عن والديهم، وإذا ظلوا تحت سقف البيت عوملوا كمستأجر غريب يدفع شهريا ما يترتب عليه من أجرة بيت ولو كان البيت ملك أبيه، ثم يدفع ثمن الأكل كأنه في مطعم. وهكذا ينشئون مستقلين معتمدين على أنفسهم، فإن أثروا فثروتهم لهم، وإن افتقروا ذاقوا نخسات مهماز الفقر الذي يزجيهم في سبل العمل، حتى يصلوا إلى واحة البحبوحة بأنفسهم غير متكلين على أحد.
لا أذكر أين قرأت منذ مدة أن ابن روزفلت - لا أدري أهو روزفلت الأول أم الثاني - أبى أن يعمل في كنف والده رئيس جمهورية أمريكا، وقال: «فلأشق طريقي بنفسي كما شق والدي طريقه، وإلا فلست جديرا بالانتساب إليه.» أما نحن فالأسرة تظل في كنف الوالد ويظل هو مسئولا عنها ولو صارت مثل النمل. إننا نسيء بهذا إلى بنينا؛ إذ يظل الولد ولدا ولو شب وشاب، ولا يحترم نفسه ولا يعتد بها ويعتمد عليها، فاحترام النفس هو الذي يؤدي إلى الثقة بها، وهاتان المزيتان هما اللتان تخلقان أعاظم الرجال، وقد قيل: كن صديقا لنفسك يكن الآخرون أصدقاء لك. ناهيك أن احترام الرجل لنفسه هو أول لجام يمنع النفس من التدهور والسقوط في مهاوي العيوب والنقائص والرذائل، وهو الذي يؤدي بنا إلى التعويل عليها.
فالأمير بشير الكبير حين ترك مسقط رأسه غزير لم تكن ثروته غير حمل جمل، ولم يكن له رفيق غير خادمة ورثها عن أبيه وكانت له كالمربية، ولكن همته وعصاميته وثقته بنفسه واعتماده على عبقريته الشخصية بلغته الحكم فكان أميرا كالملك، وفي ظل حاجبيه يتفيأ الموت إلى أن يقول له قم فيقوم.
فإذا ورثت ثروة أو سلطة أو جاها، فقد تضيع جميعها إذا لم تكن لك نفس تعتمد عليها في صيانتها، أما إذا كانت لك نفس تثق بها فثق أن العظائم تصغر في عينيك كما قال المتنبي في مدح أميره.
أما كيف نحصن تلك النفس، فهذا لا يكون إلا إذا كانت موجودة، وإذ ذاك نحوطها بسياج من التقدير والاحترام، ولكن ليس إلى حد الغرور الجنوني؛ فكم كان الشاعر أبو فراس محترما نفسه ومعتمدا عليها حين قال:
سيذكرني قومي إذا جد جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
Bilinmeyen sayfa