فبعد أن أعطيتهم المعلومات اللازمة عني، وقيدوا اسمي ورقم بطاقتي على استمارة في حجم الكف، قادوني إلى حجرة في الدور العلوي، في نهاية ممر مظلم. قالوا لي ليس عندنا غيرها، وسيشاركك فيها محمود بك، عندما يأتي متأخرا كعادته بعد سهرة طويلة في الكازينو. ولم يكن يهمني أن أعرف شيئا عن محمود بك، فلم أسألهم عنه، بل دخلت إلى الغرفة وأقفلت بابها ورائي. كنت متعبا من السفر في أوتوبيس البراري، محملا برائحة العرق والتراب والزحام، وكان كل همي أن أستسلم للنوم في أسرع وقت، وألقيت نظرة سريعة على الحجرة، ولم يكن بها أكثر من دولاب خشبي صغير وسرير مستطيل بدا لي لكآبته كأنه تابوت، فوقه ملاءة بيضاء عليها بقع غامقة، ولحاف حال لونه وبدت آثار العرق على أطرافه المتسخة. وألقيت بنفسي على الكرسي الوحيد الموضوع إلى جانب السرير، فخلعت ملابسي وألقيتها كيفما اتفق، وأخرجت بيجامتي وأسرعت أرتديها قبل أن يكبس علي النوم.
كانت متاعب اليوم قد ازدحمت علي فلم تبق في قدرة على التفكير فيها. لقد طردني أبي من البيت في أول النهار. صرخ في وجهي بأعلى صوته: رح في ستين داهية وإياك أن تعتب الباب وإلا قطعت رجلك. وحين حاولت أن أرد عليه بصق في وجهي وصفعني. كان لا بد أن أغادر البيت وأن أغور من وجهه كما قال. ولم يكن هناك فائدة من محاولة الصلح معه أو استعطافه بعد أن أهانني أمام الناس أكثر من مرة. وبكت أمي وهي تراني أعد حقيبتي وقالت: أبوك يا ابني على كل حال. رح بس يده ومصيره يرضى عنك. وصرخت فيها وقلت إن العيشة معه أصبحت تكفر وإن بلاد الله واسعة. وقلت إنني سأعرفه شغله وآخذ حقي منه، وإن شاء الله سأحجر عليه وأدخله المورستان. وأعطتني أمي جنيها وضعته في جيبي مع الجنيهين اللذين كانا معي، ورزعت الباب خلفي وأنا أسمعها تدعو لي بأن يصلح الله حالي ويخزي الشيطان عني.
كان لا بد من وضع حد لتصرفات أبي التي زادت عن كل حد. لقد نسينا أنا وأمي وأخوتي الصغار، وكلهم في المدارس ويستحقون التربية، ولم يعد يسأل عنا بقرش واحد، وليته تركنا في حالنا ندبر معاشنا بأيدينا؛ فدكان البقالة الذي نعيش منه يكفينا ويستر علينا، ولكنه لطخ اسمنا بالوحل، حتى صار الناس كلهم في بلدنا يرددون فضائحه، ويأكلون وجوهنا بتظاهرهم بالعطف علينا. لم يكتف بأن يهجر البيت ليعيش مع هانم الغازية - وبعض الألسنة تقول إنها كانت خادمة في بيت العمدة الذي لا يغيب عن مجلسه - بعد أن شاخ وزاد على الستين، بل كان يأتي غاضبا إلى الدكان كل يوم والثاني ويفرغ الدرج مما فيه، ويحاسبني أيضا ويتهمني بالسرقة والإهمال وتطفيش الزبائن. وقد صبرت وشلت الحمل حتى تعبت وصعبت علي نفسي من الذل والنكد والإهانة والشتائم بسبب وبغير سبب. وكان لا بد من أن أفكر في حل يضمن لنا لقمة العيش، ويريحنا من غارات أبي علينا ويسترنا من فضائحه. فقررت أن أسافر إلى المركز وأسأل عن رجل أصله من بلدنا اسمه حسان يشتغل وكيل محام هناك، وأعرف منه إن كان من الممكن أن أرفع دعوى الحجر على أبي. وهكذا سافرت في ذلك اليوم ووصلت متعبا في المساء إلى الفندق الرخيص الذي دلوني على تلك الحجرة فيه.
وفتحت عيني فجأة على أثر إحساس بأنفاس حارة تصدم وجهي. وكان أول ما وقعت عليه وجها أحمر منتفخا لم أتبين من ملامحه في أول الأمر شيئا، واعتدلت في الفراش محاولا أن أعتذر عن وجودي في الحجرة، وأن أشرح للرجل الذي كان منهمكا في خلع ملابسه أنه لم يكن لي يد في مشاركته في الحجرة في تلك الليلة. وجاءني صوت عميق خشن يقول: مساء الخير. فرددت السلام مرتبكا، ورفعت يدي إلى رأسي فأصلحت شعري، واعتدلت في جلستي على الفراش. - كنت تشخر شخيرا عاليا. يظهر إنك تعبان.
نظرت إليه ولاحظت وجهه الضخم ورأسه الصلعاء والشعر الكثيف على صدره، وقلت: من السفر فقط، أرجو ألا أقلقك الليلة. - أبدا أبدا؛ أنا دائما نومي ثقيل.
ثم بعد لحظة وهو يرتدي جاكتة البيجامة. - غريب؟ - نعم؛ جئت أستشير وكيل محام من بلدنا في مسألة، وربما دعوى في المحكمة. - في المحكمة؟ إذن فسوف تنظر أمامي.
اعتدلت أكثر في الفراش وسألت: حضرتك؟
فقاطعني قائلا: نعم، قاض في المحكمة الجزئية، أحضر إلى هنا يومين في الأسبوع وأرجع لمصر بعد الظهر.
وازداد انتباهي فأردت أن أنتهز الفرصة وأستشيره في حكايتي. ورحت أشرح له قصتي مع أبي وهو يستمع في هدوء، وحين انتهيت من سردها عليه سألني وهو يبتسم: ما اسمك؟
ومع أن السؤال بدا لي خارجا عن الموضوع فقد أجبت: يونس، يونس عبد العظيم.
Bilinmeyen sayfa