الست الطاهرة
بابا وماما
القزم
يا عم يحيى
عبد الحق أفندي
القلم
يونس في بطن الحوت
فيدو
في الغابة السوداء
أسوار المدينة
زمارة، توت
قيصر
مذكرات يمليخا
الراهب
عزاء
شجرة عيد الميلاد
الصراط
الرجل الذي يعتذر دائما
الست الطاهرة
بابا وماما
القزم
يا عم يحيى
عبد الحق أفندي
القلم
يونس في بطن الحوت
فيدو
في الغابة السوداء
أسوار المدينة
زمارة، توت
قيصر
مذكرات يمليخا
الراهب
عزاء
شجرة عيد الميلاد
الصراط
الرجل الذي يعتذر دائما
الست الطاهرة
الست الطاهرة
تأليف
عبد الغفار مكاوي
الست الطاهرة
نحن في عز المولد. صياح الميكروفونات والناس والعربات وحلقات الذكر يصم الآذان. القزم عتريس يدخل في باب الجامع في طريقه إلى المقام. الشحاذون يبتسمون. الزوار يتلفتون إليه ويبتسمون. السقاءون الواقفون في الممر الطويل كتماثيل من الخشب ينظرون إليه بعيونهم الحزينة الجامدة ويبتسمون. عتريس يدخل المقام وينحشر وسط الزحام. وسط الأجساد والأيدي المتشابكة تتلمس يداه الصغيرتان موضعا على الشباك. يريح وجهه المكرمش العجوز عليه. تتمتم شفتاه. يعلو صوته. لكن أصوات الدعاء والتكبير والتلاوة أعلى منه. الزوار يلمحونه ويعجبون. كم يكون عجبهم لو عرفوا أن الست أيضا تكلمه، تكلمه وحده دون غيره؟ - من ينادي علي؟ - يا ست! نظرة! يا ست! - عتريس يا ست، القزم عتريس. - أنت جئت يا عتريس؟ - جئت يا ست. أبوس الأيادي. أركع عند رجليك. أشم رائحتك الطاهرة. - الغيبة طالت يا عتريس. - دخت يا ست. تهت في بلاد الله شرقت وغربت. لا شغلة ولا مشغلة. - والسيرك يا عتريس؟ - قفلوه في وجهي. قالوا لي عجزت ولا بقى فيك حيل؛ من يوم ما وقعت يا ست. - وقعت؟ - من على ظهر الحصان. كنت أنادي على عادتي بعزم ما في، وأقول نفسك معي يا ست. قلت أعمل حركة من حركاتي المشهورة وأضحك الناس. وقعت على الأرض رأسي تحت ورجلي فوق. الناس ضحكت لغاية ما شبعت، لكن رجلي انكسرت، ظهري انشرخ. - وبعدها يا عتريس؟ - أخذوني على المستشفى. وضعوا رجلي وظهري في الجبس سبعين يوما وحياتك يا ست. سبعين يوما وحق مقامك الطاهر. - وبعد ما خرجت من المستشفى؟ - سألت عليهم. قالوا لي في مولد الست. يا ناس أرجع لشغلي. لأ يا عتريس. يهديكم يرضيكم. أنت عجزت يا عتريس. طيب جربوني. عمرنا ما شفنا البهلوان على عكاز. نفسي أضحك الناس. ستضحك علينا يا عتريس. يا ناس ترموني رمي الكلاب؟ رزقك على الله يا عتريس. صرخت بعزم ما في: يا طاهرة! سقت عليك النبي يا حبيبة. - وسمعتك يا عتريس. - عارف يا ست، لكن العمل؟ - العمل عمل الله يا عتريس. - كلمة منك تفتح الأبواب. دعوة منك تحنن القلوب. لأجل الحبيب الشفيع تشفعي لي يا حبيبة. - عند من يا عتريس؟ - عند أصحاب الأكشاك يا ست. ألعابهم كثيرة. صحيح انكسرت وما عاد في حيل، لكن أقدر أضحك الناس. أحكي لهم حكايتي. أحلف لهم إني يا ما أضحكت ناس وأبكيت ناس. - رح يا عتريس، ربنا يفتح لك الأبواب.
في اليوم التالي عاد القزم عتريس إلى المقام. الشحاذون على باب الجامع رأوه وابتسموا. الزوار لمحوه يتدحرج في الممر الطويل، ولولا قداسة المكان لضحكوا. السقاءون الواقفون كتماثيل من خشب نظروا إليه بعيونهم الجامدة الحزينة وابتسموا. تزاحم عتريس وانحشر بين الناس. تحسس الشباك وشم العطر وراح في الجلالة وقال: يا ست! - قل يا عتريس! - رحت لهم يا ست. فت عليهم واحدا واحدا. - من يا عتريس؟ - كلهم يا ست؛ الساحر الأسود، شيطان الموت، الغول العظيم، الحاوي العجيب، حتى الأراجوز فت عليه. - ومن هو الأراجوز يا عتريس؟ - رجل صغير يعلقونه من شعره بسلك، ويحركون رجليه ويديه بسلوك. طول النهار يشتم ويلعن ويسب. - ابعد عنه يا عتريس. - هو الذي أبعدني يا ست. - والباقون؟ - قلت لهم أشتغل معكم. قالوا لي راحت عليك يا عتريس. يا ناس ولو نمرة واحدة. ما عاد فيك حيل يا عتريس. يا عالم ولو تقعدوني على المسرح والناس مصيرها تضحك. الناس غيرها أيام زمان يا عتريس. طيب أقف على رأسي، مرة واحدة يا عالم. تقع تموت يا عتريس، ونروح في داهية معك. - معهم حق يا عتريس. - تقولين معهم حق يا ست ؟ - شعرك ابيض. قلبك تعب يا عتريس. - القلب لا يتعب من ذكرك يا ست. طيب تصدقي بالحبيب؟ - عليه أفضل الصلاة والسلام. - لو تسمحي لي يا ست؟ - ماذا تريد يا عتريس؟ - أقف على رأسي مرة واحدة قدامك؛ أثبت لك أن عتريس هو عتريس؛ بهلوان زمانه، ووحيد عصره وأوانه. - هنا في المقام؟ يا للعيب يا عتريس! - من نفسي يا ست. مرة واحدة يا حبيبة. مرة واحدة لأجل الحبيب. - عيب يا عتريس!
دمدم الصوت المنبعث عن المقام، زام في أذنه كالريح، غامت الدنيا في عينيه، امتدت يد فوقعت يده عن الشباك الطاهر في عنف، زعق صاحبها الذي بدت رأسه كأنها القبة: اسع وصل على النبي! انتبه عتريس إلى العملاق الواقف إلى جانبه وخاف أن يدوسه، يخنقه، يرميه من الباب. صرخ: والعمل يا ست؟ جاءه الصوت العميق الهادئ كأن حمامة توشوشه: اسع وصل على النبي يا عتريس. - الأبواب كلها اتقفلت في وجهي يا ست. - إلا بابي يا عتريس. إلا بابي. - يرضيك عتريس يصبح شحاذا يا ست؟ - الأرزاق على الله يا عتريس.
يومها وقف القزم عتريس على باب الست، طول النهار وقف على باب الحبيبة بنت الحبيب؛ يصعب على واحد ويضحك عليه عشرون. الستات تشير عليه وتقول: شوفوا خلقة ربنا! والأطفال تصرخ وتقول: شوفوا الرجل المسخوط. والمشايخ يستعيذون بالله ويقولون: امش من هنا ورزقك على الله. والشحاذون يطردونه ويقولون: ما بقي غير البهلوان يقف قدام صاحبة المقام. عتريس صعبت عليه نفسه، غضب ودخل المقام ورفع يديه وقال: نفسك معي يا ست. نفسي ضاق يا بنت بنت الحبيب. - رجعت يا عتريس؟ - الشحاذة للشحاذين يا ست، وأنا طول عمري فنان. - ما معنى فنان يا عتريس؟ - أمثل، أضحك الناس، أدهن وجهي بودرة، أقف على رأسي. انظري.
وأحس عتريس أن الشباب عاد إليه. وبحركة مفاجئة كان يقف في وسط المقام كالبصلة؛ رأسه تحت ورجلاه في السماء. وبحركة مفاجئة أيضا هاج الناس، ورفع المشايخ وجوههم عن المصاحف، وهجم عليه حارس المقام، فأمسكه من رقبته وزعق: يا نجس! يا ملعون! وحق مقام الست الطاهرة لأشدك على القسم!
في الزنزانة المعتمة، على البرش الخشن، نام عتريس وهو يفكر فيما جرى له، ويتذكر حياته القصيرة قصر جسمه. وبالليل طلعت له الست الطاهرة؛ وجهها مضيء كالبدر، جبهتها صافية كاللبن الحليب، ثوبها أبيض في أبيض كالملاك. - عملتها يا عتريس؟ - أمر الله يا ست. - وفي المقام! - معذور وحياتك. - الدنيا واسعة يا عتريس. - الدنيا ضاقت في وجهي يا ست، ما بقي قدامي إلا بابك. - وتتشقلب في المقام يا عتريس؟ - كان نفسي ألعب مرة قدامك، مرة واحدة قبل ما أموت. يمكن نفوز منها نظرة، نظرة واحدة قبل ما أموت. - هجموا عليك كلهم؟ - كلهم يا ست؛ المشايخ والعساكر، الشحاذون والسقاءون، والأفندية والفلاحون. - ورموك في الزنزانة؟ - على البرش الخشن، في العتمة والرطوبة، وسط الفيران والبراغيث. - تعبان يا عتريس؟ - كل واحد ونصيبه يا ست. - زعلان مني يا عتريس؟ - كلك نظر يا أم العواجز. - ألا تريد أن تسامحني؟ - فتح القزم عتريس عينيه قبل أن يغلقهما إلى الأبد، تنهد بصعوبة وقال: لا يا ست. أبدا أبدا.
1964م
بابا وماما
تروح الأيام وتأتي الأيام وزينب تعمل في بيت الحاج محمود. من ثلاث سنين، عندما جاءت بها أمها من العزبة، كانت كالبلية الصغيرة، لولا أنها كانت تنط وتجري، وتعرف الكلام أيضا، لقالوا إنها لم تفطم بعد؛ كتلة من اللحم، في خرق مهملة، تحتاج لمن يرضعها ويطعمها ويسقيها. ومن عنده طول البال؟ قالت الحاجة بسيمة - التي زارت سيدنا النبي ووضعت يدها على شباكه - بعد أن خرجت من الصلاة: باسم الله ما شاء الله. يا شيخة، البنت صغيرة. قالت أمها بعد أن لطعت يد الحاجة: خادمتك يا ست الحاجة. قالت الحاجة وهي تلمس رأس البنت وتكاد تقبلها لولا رائحة التراب والعفونة التي تطالعها منها: والنبي إنها محتاجة لمن يخدمها. قالت أمها: ما هي بنتك وخادمتك يا حاجة، تتربى في عزكم أنت وسيدي الحاج، ربنا يخليكم لنا، بطن وانزاحت عنا يا حاجة، والنبي ما هي راجعة ولا آخذها من عندكم إلا وهي عروسة. الحاجة ضربت كفا بكف وضحكت: اللهم صل عليك يا نبي. طيب يا ستي، رزقنا ورزقها على الله. روحي أنت بالسلامة.
وتروح أمها بالسلامة، بعد أن تتغدى وتأخذ ما فيه القسمة، وترفع كفيها بالدعاء أن يعمر الله البيت ويطيل في عمر الحاج، ولا يحرمها منه أبدا.
تروح الأيام وتأتي الأيام وتأخذ زينب على البيت وأهله. سميرة بنت الحاجة، التي تكبرها بعام واحد، تصبح صاحبتها الروح بالروح؛ إن لعبت أمام البيت لعبت معها، إن ذهبت للسوق رجلها على رجلها، إن جلست تقرأ الحواديت وتجمع وتطرح في البيض والملاليم جلست بوزها في بوزها. وسميرة تموت فيها ولا تتصور الحياة بدونها. صحيح أنها تنام على السرير وزينب على الأرض، ربما أيضا من غير غطاء، وصحيح أنها تأكل مع أمها وأبيها على السفرة، بينما تلقط لقمة من هنا ولقمة من هناك، وياما باتت من غير عشاء لأنهم نسوها، أو لأن النوم كبس عليها، لكن ماذا يهم كل هذا؟ ماذا يهم أن تمشي حافية طول النهار، أن تدوخ كالنحلة بين المطبخ والسفرة وعشة الفراخ على السطوح ودكان البقال والجزار في السوق، ما دامت تستطيع في النهاية أن تلعب مع سميرة، وتسمع ما حدث للخروف المسكين مع الذئب الطماع، وتطمئن على أن الشاطر حسن قد تزوج ست الحسن والجمال، والعصفور ضحك على ذقن الثعلب المكار؟
الحاجة لا تمل من سيرتها أمام الستات. شوفوا والنبي؛ البنت أخذت علينا خلاص، نسيت أمها، وأبوها كأن عمرها ما شافته. أي والله يا علية هانم ويا ست زينات. البنت فاكرة إني أمها! - يا زينب. - نعم يا ماما. - هاتي لي أشرب. - حاضر يا ماما. - يا بنت عيب قدام الضيوف. - أقول إيه يا ماما؟ - عيب تقولي لي يا ماما. - أقول إيه يا ماما. - قولي يا ستي. - حاضر يا ستي ماما.
الله يخيبك يا زينب، كسفتيني أمام الضيوف. والنبي إن دمها شربات. يلا يا حاجة. كلنا أولاد آدم وحواء. وسيدنا النبي - اللهم صل وبارك عليه - وصى على اليتيم والغريب. أبوها موجود وأمها؟ على كل حال بنتكم، لأجل خاطر سميرة، وربنا يخليكم وتتربى في عزكم. والحاج أيضا فرحان بها، في كل مجلس سيرتها على لسانه. البعيد والقريب في البلد عرفوها؛ الباشا والبيه، الدكتور ومأمور المركز سمعوا عنها، حتى أصحاب الدكاكين والعيال التي تلعب في الشارع كلما رأوها قالوا لها: سلمي يا زينب على بابا الحاج، قولي يا زينب لبابا الحاج، نادي يا زينب على بابا الحاج. - يا بنت يا زينب! - نعم يا بابا. - قولي لستك تعمل شاي. - حاضر يا بابا. - يا بنت يا زينب. - نعم يا بابا. - هاتي لي علبة الدخان. - حاضر يا بابا. - بو يلهفك! يا بنت قولي يا سيدي. - أقول يا سيدي بابا؟
تروح الأيام وتأتي الأيام والبنت لا تتعلم. كلمة بابا وماما على لسانها، الكلام معها لا ينفع، السياسة لا تنفع، الضرب لا ينفع. لو كانت الحكاية على قد البيت كانت هانت، لكن البيت لا يخلو من الضيوف، والضيوف لا يخلون من الأغراب، والأغراب لسانهم طويل. وأين يا حاج تداري وجهك من الكسوف؟ وماذا تفعلين يا حاجة في زعل الحاج، والحاج لا يقدر على زعله أحد؟
الحكاية زادت عن الحد، وفي يوم من ذات الأيام والضيوف معزومون عنده - تجار من آخر الدنيا؛ شيخ البلد وحكيم الصحة - هاج الحاج وطلعت عفاريته. جرى على المطبخ وزعق: يا شيخة شوفي لك طريقة. - خير إن شاء الله يا حاج. - البنت خرجت دماغي قدام الناس. بابا بابا. - غلب حماري معها يا حاج. - ابعتي لأمها تأخذها. اضربيها. شوفي لك أي طريقة. - حاضر يا حاج.
وكما تأتي القطط على السيرة جاءت أمها من نفسها. لطعت يد الحاجة وحمدت ربنا على سلامتها هي والحاج وقالت: أنا جئت آخذ البنت.
قالت الحاجة: والنبي فيك الخير، كنت ناوية أبعت لك.
قالت المرأة: أبوها طلب يشوفها؛ أصله بعيد عنك.
قالت الحاجة: ربنا معه يا نبوية؛ يشفيه ويشفي جميع المسلمين.
تنهدت المرأة: حكم ربنا. الرجل بقى في ربع حاله.
قالت الحاجة: ربنا معه يا نبوية؛ يشفيه ويشفي جميع المسلمين!
بكت المرأة وقالت: ما عاد إلا منه، من ثلاثة أيام وهو يطالع في الروح. الحاجة نادت على زينب. قالت لها سلمي على أمك. البنت وقفت قدامها لا عرفت سلام ولا كلام. يا بنت سلمي على أمك. أمي يا ماما؟! - خليها عندكم يومين يا نبوية. - بس أبوها يشوفها وترجع على طول يا حاجة. - خليها لغاية ما تعلميها. - أعلمها بعدك يا حاجة؟ - ولو تميز أمها وأبوها، بدل ما طول النهار يا بابا ويا ماما. - بابا وماما في عينيك قليلة الحياء. قدامي يا بنت!
البنت راحت مع أمها على العزبة. مشت في الوحل، وأكلت العيش والملح، وعاشت في وسط البهائم والفلاحين. وفي أول ليلة باتت مع أبيها على السرير؛ السرير الأسود أبو عمدان. وأبوها طول الليل يقول آه يا جنبي، آه يا ظهري، آه يا غلبك يا محمد. وفي عز الليل تقوم مفزوعة من النوم وتنادي عليه وتسقيه. حاضر يا آبه، أنا جنبك يا آبه، عاوز حاجة يا آبه. ولما طلع السر الإلهي، والشيخ علي لتم عينيه، وشاله في الطشت وغسله مع بقية الناس؛ عرفت أنه أبوها. ولما صوتت أمها وعددت عليه، والرجال جاءوا وشالوا النعش على أكتافهم؛ صرخت مع أمها وقالت هاتولي أبويه؛ عرفت أكثر وأكثر. ولما جاءت النسوان وطبطبوا على ظهرها، وقالوا لها البركة فيك، وربنا قادر على كل شيء؛ عرفت أنها محتاجة لأمها وأمها محتاجة إليها.
وتمر الأيام والمأتم ينفض، وهذا حال الدنيا، وتعود زينب مع أمها إلى بيت الحاج. طول السكة وأمها توصيها، طول السكة وهي تهز رأسها وتضغط على يد أمها. ياما تعبت من الشيل والحط والخبيز والعجين. ياما انجرحت وتشققت وشفت المر. - سميرة تقولي لها يا ست سميرة. - لكنني سألعب معها يا أمي، أليس كذلك؟ - الحاجة إذا نادت عليك في حاجة أو محتاجة تقولي لها يا ستي الحاجة. والحاج ربنا يرزقه بطول العمر ولا يحرمنا منه تكوني تحت يديه ورجليه. نعم يا سيدي الحاج، حاضر يا سيدي الحاج.
فتحت لهما الحاجة الباب، فظهر وجهها الهادئ المستدير يتلفع في شال أبيض نقي. الله يسلم عمرك يا ستي الحاجة. زينب تقدمت هي الأخرى وباست يد الحاجة، ورفعتها على جبينها كما فعلت أمها، وخفضت عينيها إلى الأرض، وعندما رن في أذنيها صوت سميرة تنادي عليها وكانت تلعب على السلالم الرخامية، تهلل وجهها عن ابتسامة واسعة، وجرت نحوها في سرعة الريح وهي تهتف: حاضر يا ستي.
القزم
زينب لا تحول عينيها عنه منذ وضعوه في حجرة الصالون. كلما حانت لها فرصة تسللت على أطراف قدميها الحافيتين، والنوم يكبس عليها، ودماغها يلف من التعب ويدور، وجسدها الصغير ينتفض من الخوف. فتوارب الباب، وتتطلع فيه بعينيها المملوءتين بالدهشة، وينفتح فمها من نفسه حتى يظهر ضبها، وتكاد تموت على نفسها من الضحك، لولا أنها تضع يديها على فمها؛ خشية أن يسمعها سيدها الذي يعلو شخيره، أو تقلق ستها ذات الوجه الكشر، أو تفزع سيدها كمال وستها سميرة فتصبح ليتلها أسود من وجهها.
كان يقف هناك فوق المائدة الرخامية التي تتوسط الحجرة، على يمينه مطفأة سجائر من البرونز الذي انطفأت لمعته، وعن شماله تمثال صغير لنفرتيتي، انكسر أنفها، وتلطخ وجهها الأبيض النحيل ورقبتها الطويلة المسحوبة ببقع حمراء غامقة، كأنها جربانة لا تتوقف عن الهرش فيهما. هناك يقف منفوش الصدر، ممدود الذراعين إلى الأمام، رأسه الصغير يملؤه شعر أسود مجعد يسقط على أذنيه المدفوستين في جانبي وجهه، وأنفه ضئيلة مدببة ومشدودة إلى أعلى، ولسانه الأحمر الصغير طالع من فمه الضيق المستهتر، وفي عينيه نظرة ولد عفريت يحب أن يعبث بخلق الله، وعلى جانبي فمه وفوق جبينه تجعدات شيخ عجوز طيب مسامح. أما وجاهته فهي الأخرى تغيظ وتجنن، وكأنه نسي تماما أنه قزم مفعوص لا هنا ولا هناك، فلبس سترة زاهية مخططة بخطوط حمراء، تحتها قميص أبيض منقوش وضع في رقبته كرافتة طويلة على آخر مودة، مع أنه على بعضه لا يزيد طوله عن عقلة الإصبع، وسروالا أسود فخما كالذي يلبسه السفرجية أو الدبلوماسيون العظام، حتى حذاؤه - وهو لا يزيد عن حجم الحمصة - لامع ومحبوك ومربوط بعناية.
كان يوما له العجب عندما أخرجته ستها سميرة من حقيبتها وقالت: هدية من المدرسة يا ماما. كانت جاءت إلى البلد لتمضي الإجازة في الريف، وكان مدفوسا بين الكتب والبيجامات والفانلات، راضيا بحاله وكافيا خيره شره. ولم يكد يخرج من الحقيبة وتراه أمها حتى صاحت وهي تحمله على يدها وتتجه إلى حجرة زوجها: شف يا عبد العال، عامل رجل بحق وحقيق. لأ والمصيبة له نفس يطلع لسانه! يا أخي جاءتك مصيبة، كفاية إنك لابس كرافتة وردنجوت وعامل في نفسك ما لا يعمل! وانتقل القزم من يد إلى يد؛ كل واحد يأخذه على راحته، ويضربه بالقلم، ويحاول أن يشد لسانه وهو يقف أمام الجميع منفوش الصدر، مزهوا بنفسه ولا أبطال المصارعة، مخرجا طرف لسانه الأحمر المدبب لكل من يضحك عليه، فاتحا عينيه المستديرتين كفقاعتين لامعتين تفيضان بالنجوى والحنان والسخرية والطيبة.
وقد حاولت زينب أن تمد يدها إليه لتلمسه، ولكن ستها نهرتها بتكشيرتها الخالدة، وسيدها جاء بنفسه ليرى الهيصة، واختطفه من أيديهم ووضعه على راحة يده التي راح يبعدها ويقربها من عينيه، ويعقد حاجبيه ويزوم قائلا: حتى أنت يا قزم! حتى أنت يا قزم! حتى أنت لك نفس تعمل ناصح؟
وبعد أن حبسوه في الصالون كادوا أن ينسوه، إلا إذا حضر ضيف وانتبه إليه، ومد يديه يتناوله ويضحك عليه. كانوا يحكون له أن سميرة أخذته هدية من المدرسة الإفرنجية، وكان أحدهم يتطوع فيضربه بالقلم على وجهه أو قفاه فيجد أنه ما يزال ينفش صدره، ويخرج لسانه، ويمد ذراعيه، فيزداد ضحكه عليه.
أما زينب فلا تنساه في اليقظة أو المنام، طول النهار طالعة نازلة على السلالم حتى ينقطع نفسها، طول النهار تلف وتدور كالنحلة في البيت الواسع. تكنس وتمسح، وتغسل الأطباق، وتنفض السجاجيد، وتقشر البصل والثوم، وتمسح حذاء البيه والست الكبيرة، وتعلف البط والفراخ، وتحضر العيش واللبن من السوق، طول النهار عمال على بطال، تجري وتخدم على الأكل، وتنظف الترابيزة، وتحضر الفرشة، وتونس العيال. زينب هاتي، زينب خذي، زينب سوي، زينب روحي السوق، زينب لمي الغسيل، زينب يا مقصوفة الرقبة، زينب يا أم عقل وسخ. وعندما ينام الجميع، وتسمع شخير البيه الكبير، ويتوقف لسان ستها الذي يشبه الكرباج عن العمل، تتسلل على أطراف قدميها الحافيتين وتفتح باب الصالون، وتدخل وفي يدها الوناسة لتراه هناك، إلى جانب المطفأة وتمثال نفرتيتي الجربان، يمد لها طرف لسانه، ويفرد لها يديه، ويموت على نفسه من الضحك حتى يكاد أنفه الصغير ينفجر ويطير في السماء.
في ليلة قالت لها ستها: ادخلي مع ستك سميرة لحد ما تنام. ولكن ستها سميرة لم يجئ لها نوم. كانت معفرتة وشيطانة تضحك وترقص على السرير، وتريد لو تستطيع أن تنط من الشباك وتلعب طول الليل. قالت لزينب: احكي لي حدوتة يا زينب. قالت زينب التي كانت تقعد على الأرض أمام السرير: وأنا أعرف حواديت يا ستي؟! احكي لي أنت حكاية القزم القاعد يضحك على الناس وعلى نفسه.
قالت سميرة: طيب عارفة يعني إيه قزم؟
قالت زينب بعد فترة صمت: أبدا يا ستي.
ضحكت سميرة وهللت وقالت: يعني زيك تمام. قزم يعني رجل صغير، قد عقلة الصباع.
سألتها زينب: والقزم يطلع لسانه ويبرق عينيه؟
قالت سميرة: أصله نازل ضحك على الناس، إنما قلبه طيب.
قالت زينب مستفهمة: قلبه طيب؟
فردت سميرة: يعني شاف نفسه في المرآة ضحك على نفسه.
شاف الناس ضحك أكثر صعبوا عليه راح يساعدهم.
سألت زينب: يساعدهم في إيه؟
قالت سميرة: يعني يعمل شغلهم بعد ما يناموا. أصل الحكاية إنه في يوم راح بيت واحد جزمجي، كان رجل فقير وغلبان هو وامرأته وعياله، ولا عنده جلد يعمل به الجزم ولا حاجة؛ قام القزم صعب عليه أنه فقير، راح اشترى له جلد من معه، وقعد على الكرسي وقعد طول الليل يشتغل لغاية ما عمل الجزمة بتاعة الرجل الجزمجي. الرجل باع الجزمة لواحد زبون واشترى جلد يعمل به جزمة ثانية. قطعه بالليل لأجل يعمل منه جزمة تاني يوم، وتركه على الترابيزة ودخل نام، جاء القزم وقعد يشتغل طول الليل. الصبح صحا الجزمجي من النوم لقى الجزمة جاهزة على الترابيزة، فرح خالص وباع الجزمة واشترى جلد يعمل به جزمتين، وقطعه وتركه على الترابيزة والصبح لقى الجزمتين جاهزتين. قال لامرأته لازم ملاك من السماء عرف أننا فقراء وطيبين جاء يساعدنا، لازم نصحى الليلة ونشوف من هو. وضع الجلد على الترابيزة بعد ما قطعه ووضبه وقعد هو وامرأته سهرانين علشان يشوفوا الملاك الطيب من غير ما يشوفهم. في عز الليل دخل القزم على أطراف أصابعه وقعد على الكرسي، وراح يخبط بالشاكوش ويدق المسامير لغاية ما عمل الجزمة وقام روح. الجزمجي قال لامرأته: شوفي القزم الغلبان؛ عريان وما عليه هدوم، لازم نفصل له بدلة لأنه ساعدنا وخلى الزبائن تكتر عندنا. ثاني ليلة جاء القزم لقى بدلة وكرافتة وجزمة صغيرة على قد رجليه على الترابيزة، لبسهم وقعد يتنطط ويرقص ويغني، ومن يومها وهو فرحان، وكل ما يلقى واحد مسكين يساعده.
قالت زينب: ويساعدني يا ستي؟
قالت سميرة وهي تتثاءب: طبعا، ويتزوجك كمان.
وتسللت زينب إلى الصالون وجلست تنتظره. كانت رأسها تلف وتدور كالنحلة، وجسمها مفككا من التعب والجري والطلوع والنزول طول النهار، وعندما دقت الساعة المعلقة على الحائط في الصالة كل دقاتها وجدته يفتح عليها باب الصالون ويدخل، كأنه نزل من السماء أو طلع من بطن الأرض. اقترب منها وهمس في أذنها: زينب، زينب، أنا جئت.
قالت: حضرتك القزم؟ قال وهو يضحك ويخرج لها لسانه: أي خدمة؟ قالت: عندي العجين اعجنه، والغسيل اغسله، والفرش وضبه، واكنس وامسح ونظف وهات الحاجة من السوق. فوجدته يجري كالبلية إلى المطبخ وهات يا شغل. الأطباق في دقيقة كانت نظيفة كالفل، الحوض أبيض من المرآة، الغسيل غسله وراح نشره في البلكونة، الدقيق وضعه في حلة، ورش عليه ماء وهات يا شغل. بعد ما انعجن العجين راح يجري على الفرن، شمر هدومه وحماه وراح يلقمه رغيفا برغيف. بعدما انتهى من العجين والخبيز راح يمسح ويكنس وينفض التراب ويحضر الإفطار ويصحي العيال، وكل ما ينتهي من حاجة يفرك يديه ويرقص ويغني ويطلع لسانه، وبعدما الشقة أصبحت تشف وترف مثل العروسة هزها وقال: زينب، بنت يا زينب!
قالت : من ؟ من؟
قال: أنا القزم، جئت أساعدك، أصلك صعبت علي.
قالت وهي تغالب النوم: من؟
قال: أنا القزم.
قالت زينب: ماذا تريد مني؟
قال القزم: جئت أساعدك.
قالت زينب: تساعدني؟ لماذا تساعدني؟
قال القزم وهو يطرق برأسه خجلا وتكاد الدمعة تفر من عينيه: أصلك صعبت علي.
قالت زينب وهي تتفرس فيه: يقولوا عنك إنك دائما عريان، إنما أنت لابس.
قال وهو يداري كسوفه: أصل قلت لنفسي عيب تروح عريان للعروسة.
قالت زينب: عروسة؟ من؟
قال القزم وهو يؤكد بيده ويخبط على الترابيزة بكل يديه: قلت لك إنت طبعا.
قالت تعانده: لأ؛ ستي تعرف، ثم إني ...
قال القزم بعصبية: ثم إنك إيه؟
قالت زينب: هنا يعني، لا أم ولا أب وغريبة هنا.
قال القزم: لاتخافي، أنا معك.
قالت وهي تعود إلى التفرج عليه: قلت لك لأ يعني لأ.
غضب القزم، ولكنه كتم غضبه وعاد يقول لها: نتزوج يا زينب وأعمل لك كل شيء.
قالت زينب: لأ، خائفة من ستي.
عاد القزم يلح: نتزوج في الحلال يا زينب.
فردت قائلة وهي تحكم الغطاء على نفسها: لأ، لأ، لأ!
فغضب القزم. اختفت ملامح الضحك والفرفشة من على وجهه، عقد حاجبيه ومد بوزه شبرين، ورآها تمد يدها فتحكم اللحاف على نفسها، فتقدم ونزع اللحاف من عليها، ثم صفعها على وجهها صفعة صرخت معها، وحين فتحت عينيها المحمرتين رأت ستها محنية الظهر فوقها ويدها الخشنة علمت على صدغها وصياحها يفزعها من سابع نومة: قومي يا بنت قامت قيامتك! يعني تنامي للظهر؟
1964م
يا عم يحيى
كانت زوجتي قد أوت إلى الفراش وتركت باب حجرة النوم مواربا. وكنت أسمع أنفاسها تتردد وأنا جالس في الصالة أتصفح جريدة، وأنتظر حتى تسقط من يدي كما هي عادتي كل ليلة فأعرف أن موعد نومي قد جاء، أنهض لأغلق النافذة وأندس في الفراش. ولم أكن مستغرقا في الجريدة التي كنت أبحث فيها عبثا عن شيء يسليني حين سمعت الصوت. انشق فجأة في سكون الليل كالسكين اللامعة فانتفضت وطار النوم من عيني: يا عم يحيى! يا عم يحيى!
نفس الصوت الذي أسمعه منذ ليلتين، مبحوح ومرتعش ومفاجئ وملسوع، يتلوى ويستنجد ويبكي ويستغيث، كأنه جرح غائر مشقوق في مكان مظلم عميق، جرح أصبح له لسان ينزف بالعويل والصراخ كما لو كانت آلاف السياط تنهش جسد صاحبه، آلاف الأيدي والأقدام تضربه وتلكمه وتركله، وآلاف الطيور والوحوش تمزق لحمه وتلغ في دمه، وتحاول أن تبتلع صراخه فيفلت منها ليسترحم الخليقة كلها. - يا عم يحيى! يا عم يحيى!
لم يكن صوتا؛ فالصوت الإنساني مهما ارتفعت درجته نحس نحوه بنوع من الألفة. إنه لا يفاجئنا، ولا يروعنا ولا يذهلنا كما فعل. كان حشرجة مخلوق تنهار السماء فوقه، يرتج الزلزال تحت قدميه، يحز السيف على رقبته، يمر جسده على كل آلات التعذيب التي عرفتها العصور المظلمة، يسحق تحت طاحونة ثقيلة جبارة.
سقطت الجريدة من يدي ولكن النوم طار من عيني إلى الأبد. وقفت في الصالة ودقات قلبي ترتفع وترتفع. خيل إلي أن أفضل وسيلة للهروب من هذا الصوت أن أخلع ملابسي وأخرج عاريا من البيت، وأجري في الشوارع وأنا أضع يدي على أذني. كان يأتي في البداية منخفضا ممدودا، مميز الحروف، ممطوطا في نهاية كل كلمة. إن الياء في يحيى تمتد كاليد المستعطفة الذليلة الباكية، تعاتب وتشكو وتنتظر. إنه صوت طيب، مستغيث ولكنه لا يزال يرجو، ينادي ولكنه يتوقع أن يسمع من يرد عليه، يتوسل ويبكي ولكنه ينتظر ولم ييأس بعد. ثم يزداد حدة، وتسرع مقاطعه فتصطدم ببعضها كعربات القطار، وترتفع درجته وتزداد نحولا وتوترا وسخطا وعصبية فتأكل الحروف بعضها، وتقفز قفزة واحدة وراء كل دلالة بشرية لتصبح صيحة حادة جارحة مبتورة كسيف يغمد في الصدر ثم يستل فجأة، ومع كل صيحة تزداد الضربات على باب العمارة التي أسكن فيها، وتصبح الضربات هي نفسها صيحات ملهوفة ملسوعة مستغيثة، والصيحات ضربات ثقيلة وخائفة ومدوية ترج الأبواب والشبابيك.
منذ ليلتين وأنا أسمع هذا الصوت يحشرج وسط الظلام والسكون، والضربات تهز باب العمارة كأن صاحبها يدق على باب مقبرة ليوقظ أصحابها. كان في الليلتين السابقتين ينطلق فجأة ليستمر لحظات ثم يختفي فجأة كما جاء. لا نكاد نفيق من الذهول حتى يذهب. لا بد أن السكان قد ظنوا مثلي أنه أحد أقارب البواب، جاء متأخرا في عز الليل فأراد أن يوقظه من نومه الثقيل، أو كأن صاحبه يعاني من مغص هائل أو يطلب نجدة عاجلة، فأفاقوا لحظة من نومهم ثم نسوا الحكاية، أو لا بد أنهم - حين تكرر هذا الصوت في الليلة التالية - قد عزوه إلى كابوس ثقيل كتم أنفاسهم بعد أكلة دسمة، كابوس ضخم أسود كثيف الشعر اشتركوا فيه جميعا، وحين صحوا منه كان الصوت قد راح لحاله، ولكنه حين تكرر هذه الليلة على هذه الصورة الذبيحة كحشرجة مقتول، الملهوفة كأجراس عربات الحريق أو الإسعاف، الصارخة كبكاء شحاذ تنهشه وحوش الجوع، المستنجدة كصياح مجرم توشك أيدي العساكر أن تقبض عليه؛ لعله حين تكرر هذه الليلة على هذه الصورة بدأ ينبهنا إلى أنه لا بد برغم وحشيته وغربته عن عالم الأرض أن يكون مع ذلك صوتا إنسانيا؛ صوت بشر مثلنا من واجبنا على كل حال أن نرى ماذا يريد صاحبه ولماذا يعكر نومنا.
كنت لا أزال أقف في الصالة حين سمعت جاري الأستاذ عادل همام يفتح باب شرفته في غضب هائل وهو يسب ويلعن ويبرطم، وأسرعت أغلق باب غرفة النوم على زوجتي حتى لا تفزع من نومها، وفتحت أنا أيضا شباك حجرة الصالون المطلة على الشارع العمومي. كان الصوت لا يزال يرن في الآذان وعلى الأسفلت كأنه أوان نحاسية ترتطم، وتظل الموجات المنبعثة منها تتسع وتتسع صاخبة مدوية خرساء. وسمعت جاري الأستاذ عادل همام - الذي كان يبدو في روبه الأحمر وشعره المنفوش وجسده المكور كأنه بصلة إفرنجية - يشخط قائلا في صوت كالرعد: يا جدع انت! يا جدع انت! دوشتنا الله يدوشك!
ولم يكف الصوت عن رنينه الجارح المعتم الرتيب، بل ارتفع وعلت درجته وزاد إلحاحه، كأن سياطا نارية تهلبه وتغذيه بعذاب جديد: يا عم يحيى! يا عم يحيى! يا عم يحيى ! والياء الأخيرة طويلة طويلة تنتهي مقطوعة كأنها تقف في الحلق، ثم تبدأ «يا عم يحيى» من جديد أقرب إلى النشيج اليائس اليتيم المهجور. وزعق جاري، بعد أن سمع صوت نوافذ أخرى تفتح في العمارة، وأنوارا توقد، وهمسات تعلو وتتساءل وتتشابك: عم يحيى من؟ عم يحيى من يا جدع انت!
ويظهر أن صاحب الصوت سمع جاري أو تنبه إلى أنه يقصده بالسؤال، فأوقف ضرباته الهائلة على البوابة وإن لم يوقف نداءه المتكرر المستغيث: عم يحيى يا بواب! يا عم يحيى يا بواب!
فزار جاري - ويظهر أنه تلفت حوله ورفع رأسه، فلمح الجيران ينظرون من الشبابيك، وشعر أنه موكل عنهم في إخماد هذا الصوت: البواب اسمه سالم، ليس هنا أحد اسمه يحيى، ثم إن البواب مسافر عند أهله في الصعيد.
ورفع رأسه من جديد إلى الأدوار العليا وكأنه يتأكد بنفسه أنه ليس هناك بالفعل أحد من سكان العمارة بهذا الاسم. وسمع الصوت من جديد يتأوه ويئن في استسلام وضراعة، وكأن صاحبه - الذي بدا الآن واضحا أمام الباب بجلبابه الأبيض الطويل وقامته النحيلة ورأسه الصغيرة - يسترحم اليد التي تطعنه الطعنة الأخيرة: اصح يا عم يحيى يا بواب! أنا سايق عليك النبي تصحى يا عم يحيى. وصاح الأستاذ عادل بعد أن لاحظ وجودي في النافذة في صوت أقل حدة وأقرب إلى الإقناع منه إلى الغضب: يا أخي قلت لك البواب اسمه عم سالم. الله! كل ليلة تطير النوم من دماغنا؟ كل ليلة هوسة وزعيق وخبط على الأبواب؟
فاقترب الرجل ناحيته، ورفع رأسه التي كانت الآن تحت شرفته تماما، وقال في صوت كأنه دموع تسقط من الحنجرة: والنبي تنادي لي على عم يحيى يا سعادة البيه. الله يخليك نادي لي على عم يحيى!
فسأل الأستاذ عادل وهو يستند بكلتا يديه على سور الشرفة ويمد رأسه ليتحقق من صاحب الصوت الذي يخاطبه: عم يحيى من يا جدع انت؟
فأجاب صاحب الصوت: عم يحيى يا سعادة البيه. عم يحيى الرجل الطيب. سعادتك لا تعرفه؟
فصرخ الأستاذ عادل نافد الصبر : لا أعرفه ولا عمري شفته!
فعاد الصوت كأنه يجفف دموعه ويقول متعجبا: عم يحيى يا ناس! من لا يعرفه يا عالم؟
فصاح الأستاذ عادل وقد رأى أن المناقشة طالت أكثر مما ينبغي: قلت لك لا أعرفه ولا عمري شفته. يا الله روح نام وخلي الناس في حالها.
فقال الرجل في هدوء لا يخلو من العتاب: أروح يا سعادة البيه، الله يسامحك! أروح من غير عم يحيى! يعني يرضيك والنبي؟ بذمتك يرضيك؟
أحسست أنني لا بد أن أساهم بشيء في الموضوع، فسعلت أولا ثم قلت لجاري: يظهر إنه مجنون يا عادل بك. فقال الأستاذ عادل وكأنه يحييني: معك حق يا أستاذ سامي، الظاهر إنه مجنون. ومن بختنا إن جنانه لا يظهر إلا نصف الليل. (ثم موجها الكلام إلى الرجل) اسمع يا جدع، إذا لم تمش ناديت على العسكري!
فقال الرجل وهو يداري وجهه بذراعه في حركة أقرب إلى السخرية منها إلى الخوف: العسكري؟! ويرضيك البهدلة يا بيه؟ طيب والله وحياة سعادتك إنه رجل طيب، رجل طيب ابن ناس طيبين، رجل لا يستحق إلا كل خير. العسكري مرة واحدة؟ طيب والله أنا حفيت لأجل ألاقيه؛ خبطت على الأبواب، ناديت في عز الليل، جعت وعطشت وشفت المر، تركت أهلي وطلقت امرأتي لأجل خاطره، ومستعد أبيع هدومي بس ألاقيه.
فقال الأستاذ عادل وقد لاحظ أن المناقشة قد طالت، وأن معظم الشبابيك قد أغلقها أصحابها، ومعظم الأنوار قد انطفأت، قال وقد ظهر في صوته أنه بدأ يهتم بمعرفة الجواب: طيب لماذا تريده، عم يحيى بتاعك؟ فقال الرجل: لماذا أريده؟ طيب اسأل الدنيا عليه. عم يحيى يا بيه رجل طيب، رجل صحيح وربنا ساترها معه.
قال الأستاذ عادل وقد بدأ يلاحظ أن الرجل يهذي، وأن من المخجل له أن يستمر في الاستماع إليه: طيب يعني ضاقت الدنيا في وجهك؟ يعني لا تبحث عنه إلا في شارعنا؟ وعلى باب عمارتنا؟ قال الرجل في استسلام: وحياتك عندي يا بيه أنا دخت عليه. من الشرق للغرب ومن الغرب للشرق قلبت الدنيا عليه. خبطت على الأبواب طردوني، ناديت ما أحد رد علي، قلت لهم عم يحيى قالوا لي مات من زمان. قلت يا ناس عم يحيى؟ هو عم يحيى طول عمره رجل طيب ويحب المعروف ولازم ألاقيه. صرخت ضربوني. جريت جروا ورائي. سقت عليهم النبي ما حد حن علي. بست رجلهم قلعوني هدومي وألبسوني القميص. هربت منهم وقلت مصيري ألاقيه. عم يحيى موجود وربنا موجود. قلت يا ولد إن ما لاقيته في السكك والحواري يمكن تلاقيه عند العمارات والشوارع النظيفة، ربنا كريم ولازم ...
التفت الأستاذ عادل إلي وقال: الرجل يخرف. أحسن طريقة ندخل ننام، تصبح على خير يا أستاذ سامي. قلت تصبح على خير، وأغلقت ورائي شباك النافذة وتهيأت للنوم. ولم تمض لحظة حتى عاد الصوت من جديد، متوسلا في هذه المرة ومبحوحا، باكيا أكثر منه مستغيثا، يائسا أكثر منه ملحا أو عنيدا. وتوالت الضربات الثقيلة ترج البيت كأنها تهز شجرة قديمة من جذورها: يا عم يحيى! حرام عليك يا عم يحيى! أنا في عرضك يا عم يحيى!
وفتح شباب الشرفة المجاورة فجأة فارتطم بالجدران في غضب وجنون. وسمعت صوت الأستاذ عادل الجهوري يزعق ويسب ويلعن الدنيا ومن فيها: يا شاويش! يا شاويش!
وفتحت أنا أيضا نافذتي ووقفت أنظر ما يحدث. وما هي إلا لحظات حتى لمحنا الشرطي يتدحرج على أرض الشارع؛ تلمع أزرار سترته على ضوء المصابيح الخافتة على الجانبين، ويختلط كعب حذائه بزعيق الأستاذ عادل بالصرخات الممدودة التائهة بالضربات التي تنهال على البوابة الحديدية بوحشة الليل وعتمة الظلام وأصوات الزجاج والنوافذ التي تفتح واحدة بعد الأخرى، بنداءات الغضب والاستفسار والسخرية التي تنبعث منها في نفس واحد. وأقبل الشرطي فأمسك بالرجل من رقبته، ولم يكن في حاجة إلى أن يسأل؛ فالجريمة واضحة، وإزعاج الناس في عز الليل لا يحتاج إلى دليل. قال الأستاذ عادل: يا شاويش! أنا عادل همام القاضي، وزميلي الأستاذ سامي عبد المولى مدرس ثانوي، هذه ثالث ليلة يزعجنا فيها. ناقص يوقع العمارة على رءوسنا . الأولاد فزعت من النوم، سمعنا الخبط قلنا القيامة قامت. أرجوك يا شاويش تعمل اللازم.
قال الشاويش وهو يحيينا في تكاسل: حاضر يا سعادة البيه إنت وهو. على القسم قدامي يا بوز القرد، أي خدمة يا بهوات، والله يا بيه من ليلتين سحبته بنفسي على القسم. الشاويش النوبتجي قعد يسأله طول الليل. خطرف ولخبط، باس تراب الأرض وقال بس كله ولا الحبس يا سعادة الشاويش، كله ولا سراية المجاذيب؛ صعب علينا رميناه في الشارع وقلنا رزقه على الله. هو حر مع عم يحيى بتاعه. رجعت للنكد يا بوز القرد؟!
قال الأستاذ عادل في لهجة قاطعة: المهم تعمل اللازم يا شاويش! ثم وهو ما يزال يوجه كلامه إلى الشاويش: تصبح على خير يا أستاذ سامي!
صفع باب الشرفة وراءه، وبقيت أنظر إلى الشاويش الذي أمسكت يده برقبة الرجل وراح يدفعه أمامه ويتثاءب بصوت عال. واضطر أن يوسع من خطواته ليلحق بالرجل الذي كان يهبع أمامه كالجمل المسرع في طريقه إلى السلخانة. ولم تمض لحظات حتى اختفى شبحهما في الظلام.
1964م
عبد الحق أفندي
الساعة الثامنة «عبد الحق أفندي» الموظف بقلم الحسابات بمصلحة «...» كالثور الهائج، ضرب بقبضة يده على أول مكتب صادفه وهو يزأر كأنه سبع أفلت لساعته من القفص. أنا لن أحتمل هذا، لن أحتمل، أيجرؤ أن يقول إنني أحمق، وإني كلب، وإنني أخرف أيضا؟ ويقولها في وجهي؟ لست أنا الذي يقال له هذا الكلام، لست أنا. وأخذ يذرع الغرفة جيئة وذهابا، وجسده كله ينتفض، ولكن الغرفة لم تتسع لصولاته؛ فقد كانت مزدحمة بالمكاتب تماما؛ لذلك فقد وقف في وسط الغرفة وأخذ يخطب بصوت عال وهو يدق صدره بيده: لقد قال لي إنني أحمق، ورفع صوته في وجهي أيضا. تجرأ علي أمام الموظفين، وأين؟ في مقر عملي، ولكنني سأنتقم - نعم سأنتقم. سأقول له يا سيدي لقد أخطأت، إنك لم تعرف من أين تؤكل الكتف.
ويبدو أن هذا التعبير قد راقه، فأخذ يكرره مرارا، وهو ما يزال يدق صدره بقبضة يديه، ووجهه متشنج بالغضب.
كان منصور أفندي السيد جالسا أمام مكتبه، وكان يراجع دفتر المهايا. ويظهر أنه لم يسمع الصوت الهادر في الغرفة؛ إذ لم يرفع رأسه الأشيب عن الملف العريض. أما زميلاه محمود أفندي البنهاوي وعبد الرحيم أفندي عبد اللطيف فقد كان أحدهما يشرب قهوة الصباح ويعزم على جاره بسيجارة، ويلح عليه قائلا: جرب السجائر العربي؛ إنها لا تتعب الصدر.
وعاد صوت عبد الحق أفندي يدوي من جديد، ويلطم الملفات الرابضة فوق المكاتب، وعاصفة من الغبار المتراكم فوقها: إنها لمهزلة مضحكة، بل ومأساة أيضا، أن تهدر كرامة الناس هكذا، ويهان الرجال على هذا الوجه البشع.
لقد شاب شعري يا إخواني، شاب شعري، وكلت عيناي من النظر في الملفات، ثم يكون جزائي جزاء سنمار. ورأى أن العبارة الأخيرة عبارة أدبية صحيحة، فأخذ يعيدها قبل أن يستطرد، لا يا سيدي، إنني سألعنك في وجهك، سأقول لك إنك تسبني بغير وجه حق، لن أخاف شيئا، نعم، لن أخاف!
الساعة الثامنة والربع.
اقترب عبد الحق أفندي من مكتب منصور أفندي السيد ووجهه الأحمر يلتهب بالغيظ، وعيناه تنذران بالشر المحقق، وانحنى عليه وهو يقول: هل رأيت يا منصور أفندي، هل رأيت الناس تشتم وتضيع كرامتها على آخر العمر؟ ولم يرد منصور أفندي فعاد يصرخ: ولكني سأنتقم، سأنتقم.
فسأله منصور أفندي ولم يرفع وجهه عن الملف العريض. - ماذا ستفعل يا عبد الحق أفندي؟ - ماذا أفعل؟ وهل هذا سؤال؟ وماذا يفعل رجل شريف يرى شرفه في الوحل؟ قل لي بالله عليك ماذا يفعل؟
قال منصور أفندي وهو يرفع رأسه ويحك ذقنه بيديه مفكرا: يا عبد الخالق أفندي. - هيه؟ قالها عبد الحق أفندي وقد فرغ صبره. - هل تسمع نصيحتي؟ - بالطبع، إنك زميلي من عشرين سنة. - هذه الثورة لا لزوم لها. - لا لزوم لها؟! إنكم ستتفرجون عليه، سترون كيف يعتذر إلي أمامكم جميعا. - يا عبد الحق أفندي. - هيه؟
قالها في هدوء وهو في شوق إلى ما يقوله الرجل الحكيم. - شوف يا عبد الحق، أنا شخصيا لا أحدث نفسي يوما بأن أرفع وجهي في وجه رئيسي. يجب أن يعرف كل إنسان حده؛ هذا رئيس، وهذا مرءوس. لقد علمني أبي - ألف رحمة عليه - وهو الذي أمضى في خدمة الحكومة أربعين عاما - كيف أعامل علية القوم. أتدري ماذا كان يقول لي؟ - ماذا كان يقول؟ - يا منصور يا ابني لا تنظر إلى فوق. انظر إلى من هم دونك دائما. هذه مواعظ القدماء يا منصور أفندي. - كذب. كذب.
وهاج عبد الحق أفندي، وأخذ يذرع الغرفة الضيقة مرة أخرى وهو يتميز من الغضب. - هل نحن عبيد؟ لا. وإذا كان الإنسان قد اختار أن يكون عبدا فإن له الحق في أن يطلب الحرية يوما. أليس له الحق في ذلك؟ أليس له الحق يا عبد الرحيم أفندي؟ ولم يرد عبد الرحيم أفندي، فعاد يقول: أقول إن الإنسان إذا ما وضع في السجن فله الحق في أن يفكر في الحرية. - لا. كان هذا هو صوت محمود أفندي البنهاوي. إذا وجد الجميع أنفسهم في السجن فليس لكلمة الحرية معنى. فزأر عبد الحق أفندي: لا، لا. إنني لا أتفق معك. الحرية لا يعرفها إلا المساجين. أليس كذلك يا محمود؟ - هيه. سبعة وخمسين وخمسة. هيه. ماذا تقول؟ - أقول إن الناس لم يولدوا عبيدا. - هيه. اثنان وسبعين وسبعة. هل قلت إن الناس عبيد؟ - قلت وسأقول دائما إنهم ليسوا عبيدا، إنهم ولدوا أحرارا، ألم يقل ذلك عمر بن الخطاب؟
فأجابه محمود أفندي البنهاوي الذي كان قد فرغ من شرب قهوته: بل نابليون.
وزعق عبد الحق أفندي كأنه بطل محارب يبارز خصما عنيدا، ويجرد سيفه ليطعنه في صدره. - غدا سترون أنني رجل حر. هل قلت غدا؟ الآن سترون كل شيء، وسيصير هذا العجوز المتعجرف مسخة للجميع! الآن سترون!
الساعة الثامنة والنصف.
اقترب عبد الحق أفندي من مكتب محمود أفندي البنهاوي، وشد كرسيا جلس عليه وهو يمسح العرق المتصبب من وجهه. لقد ضبط أعصابه عن ذي قبل، ويستطيع الآن أن يزن الأمر في تعقل. - لقد قال لي أنت أحمق. هل أنا أحمق؟ وهل توظف الحكومة الحمقى في دواوينها؟
قلب محمود أفندي غلاف الملف الذي كتب عليه بالثلث بخط أسود كبير: «أذونات الصرف.» وما لبث أن قال: السن له حكمه. أريد أن أراجع ملف المهايا فأخطئ وأراجع الأذونات.
وعاد عبد الحق أفندي يقول: قل يا محمود أفندي، قل لي بالحق. نعم، إني أحب أن أقف إلى جانب الحقيقة ولو شنقوني.
فوضع محمود أفندي يده على خده وأنصت إليه قائلا: هل يمكن أن ينجو الإنسان من الخطأ؟ أليست العصمة لله وحده؟ وللأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - خطأ بسيط في المراجعة يستحق أن يهان من أجله رجل طويل عريض مثلي؟ - وهل أهانك حقا؟! - سبحان الله! ألم يقل لي إنني أحمق، وإنني كلب أيضا؟! - لم أسمع شيئا من هذا؟ - تسمع؟ ألم يصرخ في وجهي أمامكم جميعا؟ - يا عبد الحق أفندي، عندك كم ولد؟ - عندي كم ولد؟ ستة. - في سبيل لقمة العيش، أحتمل، يا ما تحملنا. - أنا أدافع عن شرفي، عن كرامتي. أنا رجل شاب شعره في الديوان. قل لي بالله، أليس لي الحق أيضا في أن أدافع عن شرفي؟ - يجب أن تدافع عن رزق أولادك أولا. خمسة وستين وسبعة. وبدأ يراجع نهرا طويلا من الأرقام.
الساعة التاسعة إلا ربعا.
اقترب عبد الحق أفندي من مكتب عبد الرحيم أفندي عبد اللطيف. كان هو الوحيد في المكتب الذي يمكن أن يأخذ ويعطي في الكلام معه؛ فقد كان ما يزال شابا، برغم أنه قضى عشر سنوات في الدرجة التاسعة قبل أن يشمله الإنصاف، ثم إنه يتميز بالحكمة والتعقل بالرغم من أنه - وقد تخطى الأربعين - ما يزال أعزب، وأنه ينفق ماهيته على نفسه، ولا يحرمها من المتع المحرمة على رفاقه من الموظفين.
قال عبد الحق أفندي وهو يسحب الكرسي إلى جانبه: أنت رجل عاقل يا عبد الرحيم أفندي، ومن صواب الرأي أن آخذ رأيك. - فيم؟ - ولكن في هذه القضية، ألم يصرخ في وجهي؟ ألم يقل لي إنني أحمق، وإنني كلب؟ ألم يقل لي اغرب عن وجهي، وعلى مشهد منكم؟ ألم يفعل هذا كله؟ - أنت الملوم يا عبد الحق أفندي . - يا ناس! إذا كنت مخطئا فدلوني على الصواب. إذا كنت ... - هل يثور العبد على السلطان؟ متى كان هذا يا صاحبي؟ أفعل مثلما فعلت؟ - ماذا فعلت يا عبد الرحيم أفندي؟ - إذا قال رئيسي هذا هو الشرق قلت له نعم يا سيدي، هذا هو الشرق. وإذا تردد قليلا وفكر ثم قال: لا، بل هو الغرب. أجبته قائلا: نعم، هو الغرب يا سيدي. اللباقة، اللباقة يا عبد الحق أفندي هي التي تنقص الموظفين في بلادنا. - وماذا نفعل إذا كان الله قد خلقنا كذلك؟ - أعترف بأن جو بلادنا هو المسئول عن هذا. الحرارة هي التي تشد الأعصاب، فينطق الإنسان بما لا يعرف كما نطقت أنت.
وانكب عبد الرحيم أفندي على عمله، وأمر الساعي أن يدير المروحة، ونهض عبد الحق أفندي من مكانه، وكأن الشيطان قد لبس جسده الناحل من جديد؛ فقد هاج مرة أخرى وأخذ يصيح بصوت كان أهدأ من المرة الأولى بلا مراء: ولكن يجب أن أنتقم، يجب أن أثور لشرفي. هذه سخرية والله. كيف تمنعونني من أن أثور لكرامتي؟ مرة واحدة، مرة واحدة يا ناس. كيف تمنعوني مرة واحدة بعد أربعين سنة؟
ونظر إلى ساعة الحائط. كانت تعلن التاسعة تماما، واتجه عبد الحق أفندي إلى مكتبه.
دخل رئيس قلم الحسابات الساعة التاسعة وخمس دقائق. لم يحي أحدا بتحية الصباح، وإنما قصد مكتبه مباشرة، فجلس على كرسيه المريح وأخذ يدور فيه حول نفسه؛ فقد كان الكرسي مجهزا بحيث يزيد في راحة الجالس عليه، ويتيح له أن يلف حول نفسه كما يشاء، وأخذ يدور بعينيه الواسعتين بين رءوس الموظفين، وأشعل سيجارا طويلا - كان يفضله على السجائر، ويبرز ذلك دائما بقوله إن العامة تشرب السجائر، والإفرنج وحدهم الذين يدخنون السجائر - وكانت عيناه الواسعتان تلتمعان خلف سحب الدخان المتصاعدة من فمه. وتنحنح ثم نادى على عبد الرحيم أفندي.
كان عبد الحق أفندي في هذه اللحظة يفكر في الانتقام، ويعيد في ذهنه الكلمات التي سيرددها على مسمع من الجميع، ولكن لم تهرب منه الكلمات ؟ لم يحاول أن يقبض عليها فتفلت منه كالأرانب المذعورة التي تعدو في الظلام. وشعر بقلبه يغوص في قدميه، ثم شعر به يدق دقات عنيفة كأنه قد صعد إلى مكانه مرة ثانية، واندفع يريد أن يقفز من حلقه. ونادى رئيس القلم على محمود أفندي، وعبد الخالق أفندي يراجع الكلمات التي سيقذف بها - في شجاعة وبلا أدنى خوف - في وجه رئيس الحسابات المتعجرف، وناجى نفسه قائلا: لعنة الله على رئيس قلم الحسابات، وعلى جميع رؤساء أقلام الحسابات، في حكومات العالم كله، وفي حكومة فرنسا - لم فرنسا؟ - وهربت الكلمات منه مرة أخرى. رآها وهي تهرب منه، وأخذ يلاحقها وهو يلهث. كانت كالشهب الضائعة في سديم من الضباب. - يا عبد الحق أفندي.
ووجد نفسه يهب مذعورا من مكانه. - هات دفتر الخصومات معك.
ولكنه كان قد غادر مكتبه إلى مكتب الرئيس. - أين دفتر الخصومات؟
إذن فقد نسيته يا عبد الحق، لعنة الله على النسيان! في مثل هذه الأحوال يجوز لك أن تنسى؟
وعاد مسرعا فالتقط الدفتر من مكانه ووضعه أمام رئيس قلم الحسابات، بدا له في هذه اللحظة كأن الموظفين جميعا يتغامزون ويهزون رءوسهم ويشيرون إليه فالتفت وراءه. وكم كانت سعادته حين وجدهم جميعا غارقين في دفاترهم. وحين فرغ الرئيس من مراجعة دفتر الخصومات تناوله عبد الحق أفندي وأسرع به إلى مكتب، يلوذ به كأنه مأواه. - لا تنس الإذن الإضافي يا عبد الحق أفندي.
ينسى؟ وهل هذا معقول؟
عكف عبد الحق أفندي على الدفتر الكبير، وحدثته نفسه - ونفس الإنسان تحدثه بالسوء دائما - بأن يرفع رأسه ليرى زملاءه.
وجمع شجاعته كلها ليدير عينيه بينهم. كانت رءوسهم محنية على الدفاتر تفحصها فحصا دقيقا.
وانحنى رأس عبد الحق أفندي.
1953م
القلم
ضربوني يا سعادة البيه. والله يا سعادة البيه ضربوني. أولاد الحرام اتلموا علي. هجموا علي في عز الليل. كنت في حالي لا بي ولا علي، نزلوا علي ضرب. بهدلوني. نعم؟ أحكي الحكاية لسعادتك؟ من الأول؟ الله يعمر بيتك ويوقف لك أولاد الحلال. ينصرك على الظالم ويرزقك برزق عيالك. نعم يا سيدنا الأفندي؟ من هم؟ ناس ظلمة بعيد عنك، اتلموا علي وضربوني، هجموا علي من الباب للطاق، قلم وراء قلم، آه وحياتك عندي، نزل يرف على صدغي. لا عمري شفتهم ولا كلمت أحدا منهم. آي والله يا سعادة البيه، لا مؤاخذة؟ أقول الحكاية من الأول؟ أدخل في الموضوع على طول؟ حاضر يا سعادة البيه، على عيني وراسي. ربنا يعمر بيتك ويوقف لك أولاد الحلال. قلت لسعادتك إنهم ضربوني. هم من؟ ناس أولاد حرام بعيد عنك. أقول الأول أنا من؟ اسمي وبلدتي وصنعتي؟ أمرك يا سعادة البيه. والأمر كله لله. اسمي عبد الموجود، عبد الموجود من؟ محسوبك عبد الموجود بن عبد الموجود، آي والله وحياة مقامك عندي. لا مؤاخذة من الصعيد الجواني. البلد؟ مركز جرجا يا سعادة البيه. رجل على قد حالي، يوم هنا ويوم هناك وكلها أرض الله. يوم فلاح ويوم بياع فجل ويوم شيال على ظهري. ويوم أشتغل وعشرة من غير شغل. وكلها لقمة عيش والرزق كله بالله. تركت الولية والعيال في البلد وقلت أسعى على باب الله؛ أصل لقمة العيش تحب الشقا، إنما الأرزاق كلها ولا يخفى على سعادتك على الله. أدخل في الموضوع؟ ما هي الحكاية ... حاضر يا سعادة البيه. ما أنا قلت لسعادتك إنهم ضربوني، آي والله هجموا علي وضربوني. أولاد الحرام اتلموا علي وبهدلوني. كنت في حالي لا بي ولا علي، في عز الليل والدنيا ساكتة والناس نايمة في بيوتها، وأنا ماشي في حالي لا أكلم أحدا ولا أبص لأحد. بصيت لاقيتهم من بعيد، جماعة بهوات محترمين، كانوا مفرفشين ومبسوطين وضحكهم يصحي النائمين. قلت يا عبد الموجود لازم راجعين من السيما. الله يلعن أبو السيما وسنينها؛ من يوم ما دخلت البر والناس بقى حالها غير الحال. تعلموا السهر وطلع من قلوبهم الإيمان. أنا قلت في سري ما لك يا ولد وما لهم، شبان وربنا يمتعهم بشبابهم. ربنا قادر على كل شيء، ومصيره يصلح حالهم ويهدي قلوب المسلمين. قربوا مني قلت ابعد أنت عنهم . فاتوا من جنبي قلت اللهم فوت الليلة على خير. تغامزوا وتلامزوا قلت اللهم أخزيك يا شيطان. فرقعوا بالضحك والقهقهة قلت جمد قلبك يا عبد الموجود، أنت في حالك وهم في حالهم وكل واحد وله طريق. وقفوا ورائي قلت في عقل بالي مصير كل حي يروح في طريقه. سمعت واحد منهم ينادي علي: أنت يا رجل يا فلاح! أقول الحق قلبي سقط في رجلي. بصيت ورائي وأنا أرتعش، جمدت قلبي وقلت نعم يا سيدنا الأفندي؟ نادى علي وقال: تعال هنا! قلت وأنا ركبي تنتفض: أيها خدمة يا سيدنا الأفندي؟ وقفت قدامه في أمان الله لقيت القلم على صدغي قلت آه! تقول ترماي وصدمني؟ آي وحق من أحياني. جئت أتكلم كان القلم الثاني حصله. تقول كرباج ولسعني، سكينة وانغرزت في عيني؟ سعادتك تضحك، آي والله يا حضرة البيه. يمكن صحيح حاجة تضحك لكن أنا لقيتني من غير مؤاخذة دخت ودماغي لفت وعيني زغللت ما عرفت رأسي من رجلي. الأفندية ضحكوا وهللوا واتلموا علي. واحد يشد هدومي والثاني يلطعني على قفاي والثالث يناولني بالشلوت، حتى دقني شدوها وضحكوا عليها. وأنا ولا يخفى على سعادتك - رجل كبارة وصاحب عيال، آي والله صاحب عيال، يمكن قدهم أو أكبر منهم. صحيح لا عمري لبست بدلة ولا دخل في مدارس، لكن رجل كبير ومخلف عيال. يا ناس عيب! يا ناس أنا رجل كبير، رجل على باب الله صحيح إنما رجل كبير. هو الغلبان كفر يا ناس؟ يا أفندية حرام عليكم، الدنيا ليل والناس نايمة في بيوتها. يا ناس بلا ضرب وبلا إهانة، يعني ما لقيتم غيري تضحكوا عليه. آه! آه! الأقلام دوختني. الشلاليت هزت ظهري. شلوت من اليمين وقلم من الشمال. رفسة في البطن وهبدة على الدماغ. قل وقعت على الأرض، تقول لا مؤاخذة عجل وكترت عليه السكاكين؟ عددهم كم؟ والله ما أعرف يا سعادة البيه، قل ستة قل سبعة، يمكن أكثر يمكن أقل، ربنا وحده يعلم، كل واحد منهم مثل الحصان؛ صحة وشباب وأبهة، ناس محترمين أولاد ناس محترمين صحيح . استفرسوا في وعملوني مسختهم. نعم؟ السبب في ضربهم لي؟ بس لو كنت أعرف، لو كان أحد دلني عليه؟ القصد وقعت، جاءت وقعتي بعيد عنك سوداء. الأفندية بعد ما ضحكوا وانبسطوا راحوا لحالهم. تمددت على الأرض والدم يشر مني، من عيني أو من رأسي ربنا وحده أعلم. بحر وغرقت فيه ولا من سمع ولا من دري. الشارع اسكت هس، لا فيه كبير ولا صغير. حتى العسكري ناديت عليه ما حد رد علي. تهت وغبت عن الدنيا وما فيها لا حد سأل عني ولا حد رأف بحالي، قل ساعة قل اثنين رجعت لعقلي لقيت الفجر شقشق والديوك صيحت والطير على الشجر وحد الخلاق. قلت يا ولد تروح لمن وتشتكي لمن وأنت هنا غريب يا ولداه، لا أحد يعرفك ولا أحد عمره يسأل فيك. الناس صحت وقامت تسعى على رزقها، والطير صحا وقام يجري على قوته، والترماي مشى في الشوارع. أنا قلت يا ولد تروح القصر الحكما يربطوا لك دماغك. قل جئت على نفسي رحت على هناك قطعت التذكرة ودخلت. الحكيم كان رجل طيب مثل سعادتك، ربط لي عيني ودماغي وسألني عن اللي حصل، قلت له ربنا يجازي أولاد الحرام؛ ضربوني وبهدلوني وضحكوا علي حتى القلم ما زال معلم على صدغي. ضحك الله يعمر بيته وسألني: تعرفهم؟ قلت له والله ولا عمري شفتهم يا سعادة البيه، ولا حتى كان بيني وبينهم تار. نادى على العسكري قال خذه على البيه المدير الكبير واعمل له اللازم. قل رماني في الشارع جئت على هنا لقيتني في مكان ما وقعت. مثل ما قلت لسعادتك كده. حكيت لك على الحكاية. ربنا ينجيك من أولاد الحرام. حاجة ثانية؟ لا والله يا سعادة البيه، لا أتهم أحد؟ أولاد الحرام طبعا وسعادتك سيد العارفين، ربنا مصيره ينتقم منهم.
أقول لسعادتكم على اسمهم؟ وأنا أعرف أحدا منهم يا سعادة البيه؟ أولاد حرام منهم لله يخلص منهم. تشطروا على رجل في حاله. كتموا عليه نفسه. ضربوه وبهدلوه، حتى القلم معلم على صدغي. آي والله! شفت سعادتك؟ لا تقول إني كذاب لا سمح الله وحياة مقامك عندي يا سعادة البيه. تقول ولا بصبوص نار؟ تقول كرباج لسعني ولا فاس قسم وجهي نصفين؟ خلاص؟ سعادتك تقول أروح للقسم؟ أقدم بلاغ فيهم؟ نعم؟ وسعادة الشاويش يبعته لسعادة القاضي؟! قاضي من؟ تقول يقيدوه ضد مجهول؟ طيب شفت حضرتك الرباط على عيني ودماغي. يعني يرضيك يضربوني ويتقيد ضد مجهول؟ بقى القلم معلم على صدغي ويقيدوه ضد مجهول؟
يونس في بطن الحوت
لم أكن أعلم أنها ستكون ليلة سوداء، ولا كنت أتصور أنني سأحمل في آخرها إلى المستشفى كما يحمل النعش على الأعناق.
فبعد أن أعطيتهم المعلومات اللازمة عني، وقيدوا اسمي ورقم بطاقتي على استمارة في حجم الكف، قادوني إلى حجرة في الدور العلوي، في نهاية ممر مظلم. قالوا لي ليس عندنا غيرها، وسيشاركك فيها محمود بك، عندما يأتي متأخرا كعادته بعد سهرة طويلة في الكازينو. ولم يكن يهمني أن أعرف شيئا عن محمود بك، فلم أسألهم عنه، بل دخلت إلى الغرفة وأقفلت بابها ورائي. كنت متعبا من السفر في أوتوبيس البراري، محملا برائحة العرق والتراب والزحام، وكان كل همي أن أستسلم للنوم في أسرع وقت، وألقيت نظرة سريعة على الحجرة، ولم يكن بها أكثر من دولاب خشبي صغير وسرير مستطيل بدا لي لكآبته كأنه تابوت، فوقه ملاءة بيضاء عليها بقع غامقة، ولحاف حال لونه وبدت آثار العرق على أطرافه المتسخة. وألقيت بنفسي على الكرسي الوحيد الموضوع إلى جانب السرير، فخلعت ملابسي وألقيتها كيفما اتفق، وأخرجت بيجامتي وأسرعت أرتديها قبل أن يكبس علي النوم.
كانت متاعب اليوم قد ازدحمت علي فلم تبق في قدرة على التفكير فيها. لقد طردني أبي من البيت في أول النهار. صرخ في وجهي بأعلى صوته: رح في ستين داهية وإياك أن تعتب الباب وإلا قطعت رجلك. وحين حاولت أن أرد عليه بصق في وجهي وصفعني. كان لا بد أن أغادر البيت وأن أغور من وجهه كما قال. ولم يكن هناك فائدة من محاولة الصلح معه أو استعطافه بعد أن أهانني أمام الناس أكثر من مرة. وبكت أمي وهي تراني أعد حقيبتي وقالت: أبوك يا ابني على كل حال. رح بس يده ومصيره يرضى عنك. وصرخت فيها وقلت إن العيشة معه أصبحت تكفر وإن بلاد الله واسعة. وقلت إنني سأعرفه شغله وآخذ حقي منه، وإن شاء الله سأحجر عليه وأدخله المورستان. وأعطتني أمي جنيها وضعته في جيبي مع الجنيهين اللذين كانا معي، ورزعت الباب خلفي وأنا أسمعها تدعو لي بأن يصلح الله حالي ويخزي الشيطان عني.
كان لا بد من وضع حد لتصرفات أبي التي زادت عن كل حد. لقد نسينا أنا وأمي وأخوتي الصغار، وكلهم في المدارس ويستحقون التربية، ولم يعد يسأل عنا بقرش واحد، وليته تركنا في حالنا ندبر معاشنا بأيدينا؛ فدكان البقالة الذي نعيش منه يكفينا ويستر علينا، ولكنه لطخ اسمنا بالوحل، حتى صار الناس كلهم في بلدنا يرددون فضائحه، ويأكلون وجوهنا بتظاهرهم بالعطف علينا. لم يكتف بأن يهجر البيت ليعيش مع هانم الغازية - وبعض الألسنة تقول إنها كانت خادمة في بيت العمدة الذي لا يغيب عن مجلسه - بعد أن شاخ وزاد على الستين، بل كان يأتي غاضبا إلى الدكان كل يوم والثاني ويفرغ الدرج مما فيه، ويحاسبني أيضا ويتهمني بالسرقة والإهمال وتطفيش الزبائن. وقد صبرت وشلت الحمل حتى تعبت وصعبت علي نفسي من الذل والنكد والإهانة والشتائم بسبب وبغير سبب. وكان لا بد من أن أفكر في حل يضمن لنا لقمة العيش، ويريحنا من غارات أبي علينا ويسترنا من فضائحه. فقررت أن أسافر إلى المركز وأسأل عن رجل أصله من بلدنا اسمه حسان يشتغل وكيل محام هناك، وأعرف منه إن كان من الممكن أن أرفع دعوى الحجر على أبي. وهكذا سافرت في ذلك اليوم ووصلت متعبا في المساء إلى الفندق الرخيص الذي دلوني على تلك الحجرة فيه.
وفتحت عيني فجأة على أثر إحساس بأنفاس حارة تصدم وجهي. وكان أول ما وقعت عليه وجها أحمر منتفخا لم أتبين من ملامحه في أول الأمر شيئا، واعتدلت في الفراش محاولا أن أعتذر عن وجودي في الحجرة، وأن أشرح للرجل الذي كان منهمكا في خلع ملابسه أنه لم يكن لي يد في مشاركته في الحجرة في تلك الليلة. وجاءني صوت عميق خشن يقول: مساء الخير. فرددت السلام مرتبكا، ورفعت يدي إلى رأسي فأصلحت شعري، واعتدلت في جلستي على الفراش. - كنت تشخر شخيرا عاليا. يظهر إنك تعبان.
نظرت إليه ولاحظت وجهه الضخم ورأسه الصلعاء والشعر الكثيف على صدره، وقلت: من السفر فقط، أرجو ألا أقلقك الليلة. - أبدا أبدا؛ أنا دائما نومي ثقيل.
ثم بعد لحظة وهو يرتدي جاكتة البيجامة. - غريب؟ - نعم؛ جئت أستشير وكيل محام من بلدنا في مسألة، وربما دعوى في المحكمة. - في المحكمة؟ إذن فسوف تنظر أمامي.
اعتدلت أكثر في الفراش وسألت: حضرتك؟
فقاطعني قائلا: نعم، قاض في المحكمة الجزئية، أحضر إلى هنا يومين في الأسبوع وأرجع لمصر بعد الظهر.
وازداد انتباهي فأردت أن أنتهز الفرصة وأستشيره في حكايتي. ورحت أشرح له قصتي مع أبي وهو يستمع في هدوء، وحين انتهيت من سردها عليه سألني وهو يبتسم: ما اسمك؟
ومع أن السؤال بدا لي خارجا عن الموضوع فقد أجبت: يونس، يونس عبد العظيم.
فأطرق برأسه حتى كادت تلامس الشعر الأسود الكثيف في صدره، وقال: يونس هيه، ماذا تريد؟
أفلت مني الرد الطائش كأنني أصرخ في حلم، فهتفت: أريد العدالة!
زاد من تقطيب وجهه ومسح ذقنه بكفه قبل أن يقول: يونس، ويبحث عن العدالة؛ نفس الحكاية القديمة!
لم أفهم شيئا، فقلت: هل ترى سعادتك فائدة في الدعوى؟
فوقف وأخذ يتمشى في الحجرة التي بدت ضيقة وهو يذرعها بخطواته الواسعة المتأنية، ثم وقف فجأة وأشار إلي بيده الضخمة: هل تعرف ماذا جرى له؟
سألت في حيرة: لمن يا سعادة البيه؟
فقال في عصبية: ليونس طبعا. قلت لك ليونس!
قلت وقد ازدادت حيرتي: وأين جرى له هذا؟
قال كأنه لم يسمعني: في جوف الحوت طبعا!
ولم أفهم عن أي شيء يتكلم فرأيت من الخير أن أسكت. وزادت مخاوفي وأنا أراه يقترب من السرير ويشخط في كأنه يوقظ ميتا: عار عليك ألا تعرف!
بلعت ريقي وأخذت أفتش في رأسي عن كلمة أهدئه بها، وأعتذر له بأنني رجل غريب ولا أعرف عن الموضوع شيئا، ولكنني اطمأننت قليلا حين رأيته يدور على نفسه ويسير خطوات في الحجرة ثم يقف في وسطها تماما، ويشبك ذراعيه حول صدره ويحك ذقنه بيده ثم يخطب قائلا: الحقيقة أن الآراء مختلفة في هذه المسألة، مختلفة كل الاختلاف، حتى إنني أعذرك إذا اكتشفت أنها متعارضة مع بعضها. هناك من يقولون مثلا إن يونس بعد أن يئس من أهل نينوى سار إلى شاطئ البحر. وهناك من يقولون أيضا إن الله هو الذي طرده بنفسه من المدينة العظيمة. وعلى كل حال فقد كان من رأيه أنه فشل في مهمته، وأنه لم يعد هناك مبرر لحياته على الإطلاق. تستطيع أيضا أن تقول إنه كان خجلا من أن يراه الله على هذه الحالة، ولم يعرف أين يداري وجهه من الخجل. وبينما كان يرسل بصره على البحر رأى جسما أبيض هائلا يطفو على سطح الماء من بعيد، كان يمكن أن يظنه سفينة لولا أنه رآه يغطس بعد قليل، فأدرك بخبرته الطويلة بالحياة في شواطئ البحار أنه حوت عظيم، وتمنى من قلبه لو اقترب الحوت منه وفتح فمه وابتلعه. وانتهز فرصة وجود سفينة على الشاطئ كان ملاحوها يستعدون لرحلة صيد فركب معهم. وعندما توسطت بهم السفينة البحر، ورأوا الحوت مقبلا عليهم والسفينة تهتز كالريشة على سطح الماء، وجد يونس الفرصة سانحة لتحقيق أمنيته، فقفز من السفينة إلى الماء، وكان الحوت ساعتها فاتحا فمه الرهيب، فأسرع يونس فقذف بنفسه فيه.
قلت لأؤكد أنني أتابع الكلام وأمنع شرا يمكن أن يلحق بي في كل لحظة: هل تقول سعادتك إنه قذف بنفسه داخل الحوت؟
فقال في حماس الأطفال: عليك نور. تمام كما تقول، والآراء تختلف هنا أيضا فيما فعله في جوف الحوت. ماذا تظن أنه فعل هناك؟
قلت وأنا أكتم الضحك : وماذا يستطيع أن يفعل يا سيدي؟ إلا إذا كانت اللقمة في المعدة تفعل شيئا.
فهز رأسه في أسف وعاد يقول: أنت مخطئ. لقد ظل حيا كما يعلم الجميع ثلاثة أيام وثلاث ليال. ولكن ماذا فعل في هذه المدة؟ هذا موضع الخلاف.
خلص ذراعيه من على صدره وشبكهما خلف ظهره، وأخذ يسير في الغرفة محني الظهر وهو يقول، البعض يقول إنه مجرد أن دخل جوف الحوت أخذ يفتش عن ركن منعزل يلجأ إليه، وقد تعب بالطبع ساعات طويلة قبل أن يجد هذا الركن البعيد، خصوصا إذا عرفت أنه كان يسير في الظلام ويصطدم بأنواع مختلفة من الأسماك وطيور البحر وصخور اللؤلؤ والمرجان. وفي ركنه البعيد استطاع أخيرا أن يخلو إلى نفسه ويحاسبها ويراها واضحة كأنه يضعها على كفه. بكى كثيرا ودعا الله أن يريحه، ويغفر له، بل وربما توسل إليه أن يعفيه من عمله. ويمكنك أن تتخيل أنه برغم بكائه وتوسلاته كان في غاية السعادة؛ لأنه وجد أخيرا المكان الذي يستريح فيه راحة مطلقة، من العالم والبشر والتاريخ، بل إذا شئت أيضا من السماء ومن الله نفسه. ولكن ربما لا يعجبك هذا الرأي، فأقول لك إن هناك فريقا آخر يرى رأيا مختلفا. ماذا تظن أنت؟
فقلت وأنا أدعو الله أن ينجيني من هذه الليلة، وأتلفت حولي لأبحث عن باب أو شباك يمكن أن أفلت منه إذا اضطر الأمر: لا أدري يا سيدي، ولكن ربما كان متعبا مثلا فنام ولم يشعر بشيء.
ولم تفد هذه الإشارة إلى تعبي ورغبتي في النوم، بل زادته حماسا في بيان وجهة النظر التي لم أعرفها بعد: غلط! غلط! هذا خطأ يقع فيه أغلب الناس مثلك؛ فيونس لم يكن في موقف يسمح له بأن يغمض عينيه لحظة، على الرغم من أنه لو فتحهما فلن يرى شيئا في الظلام. لقد مضى في رأي بعض الشراح يختصر المكان بكل حواسه، وكان اعتماده بالطبع على يديه قبل كل شيء آخر. كان أول همه في البداية أن يعثر على جدران الحوت أو سطحه حتى يعرف طبيعة المكان الذي سيقيم فيه. ولما يئس من العثور على حدوده صرف نظره عن ذلك، وبدأ يبذل جهوده للتعرف على الوسط الجديد لكي يستطيع أن يألفه ويتكيف معه. بالطبع كانت هناك عقبات كثيرة كان لا بد له أن يواجهها ويتغلب عليها، أو على الأقل يعترف بها ويستسلم لها؛ فالأسماك المتوحشة - وبخاصة سمك القرش - التي كانت تسبح في جوف الحوت لم تكن تخلو من الخطر عليه، وكان لا بد له أن يبحث عن شيء حاد يتسلح به، وكان من السهل عليه أن يعثر عليه أيضا في هذا العالم المعتم المزدحم بكل شيء (طبيعي أنك لن تسألني عن طعامه وشرابه؛ فالسؤال هنا سطحي جدا؛ إذ لم تكن المشكلة عنده أن يجد الطعام، بل كانت المشكلة الحقيقية في أن يختار بين أصناف الطعام الحي والميت التي لا آخر لها، والتي كان يكفي أن يمد يده ليقبض عليها. وطبيعي أيضا أن السؤال عن المكان الذي كان يبيت فيه سؤال تافه أيضا؛ إذ كيف يتعب في البحث عن فراش وثير يمكنه أن يصنعه من الأعشاب أو من أخشاب السفن الغارقة التي كان يبتلعها الحوت). هذان هما الرأيان المتصلان بحياة يونس في جوف الحوت. أما إذا كنت تريد أن تسأل سؤالا يستحق الاستماع فيمكنك أن تسأل عن صلته بالعالم الخارجي وكيف كانت تتم. هنا أعترف لك بأن المسألة تزداد صعوبة، ولكن الراجح على كل حال أنه - لكي يعرف الزمن مثلا، أو ليتنفس هواء نقيا منعشا، أو ليطمئن على أن النور ما يزال يسطع في الخارج كلما طلعت الشمس - كان ينتظر حتى يفتح الحوت فمه من حين إلى حين - وقد تمتد المسافة بين كل فتحة وأخرى أياما أو شهورا، بل وقد تمتد في رأي البعض سنين طويلة - فيلقي نظرة على العالم الخارجي أو يفكر جديا في الخروج من جوف الحوت وإن كان تفكيره كما تعلم يظل تفكيرا فحسب. أما عن الحوت نفسه فالآراء مختلفة جدا في شأنه، حتى لتستطيع أن تقول إن هناك مدارس عديدة تقف لبعضها البعض بالمرصاد، وتتحمس إلى حد قد يصل إلى إراقة الدماء من أجل هذا الرأي أو ذاك. فالبعض يقول إنه كان حوتا عاديا مثل الحيتان في بحار الدنيا ومحيطاتها. والبعض الآخر يقول إن الحوت هنا مجرد رمز، وإنه في الحقيقة كان يعيش في أعماق العالم نفسه حين كان يعيش في جوف الحوت. لا، بل يذهب البعض إلى حد القول بأن الحوت هو الله نفسه، ابتلع يونس لا لكي ينتقم منه أو يمتحن صبره أو يعذبه، بل لأن ذلك كان أمرا طبيعيا لا بد أن يحدث ذات يوم، وأنه لم يبتلعه ويدخله في جوف حوت إلا لكي يؤكد له بصورة ملموسة أنه مثل غيره من الناس يعيش دائما داخل حوت هائل لا يمكنهم أن يهربوا منه.
تلك يا صديقي هي بعض الآراء في هذه المسألة، وهناك بالطبع آراء أخرى كثيرة مفصلة ومدعمة بالحجج والأسانيد لا أريد أن أشرحها لك حتى لا أطيل عليك؛ فالظاهر أنك تريد أن تنام، وأنك ...
ويظهر أنني كنت بالرغم من مقاومتي الطويلة قد نمت بالفعل، فأحسست بيد تهز ضلوع صدري كأنها تريد أن تخترقه: يونس! يونس!
فتحت عيني المحمرتين، وفركتهما طويلا قبل أن أميز القاضي الذي كان محنيا علي كأنه يستمع إلى دقات قلبي ويصيح: أنت يونس! قلت لك أنت يونس نفسه! يونس في بطن الحوت!
لا أدري إلى الآن ماذا فعلت. كل ما أذكره أنني صرخت صرخة حادة، مفاجئة، مفزوعة كصرخة المقتول وهو يحس بالسكين القاضية تخترق صدره قبل أن تصل إلى القلب. وقبل أن أغيب عن الوعي خيل إلي كأن الأبواب المجاورة لنا تفتح عنوة، وصوت أقدام مسرعة تصعد السلم، وأناسا كثيرين تزدحم بهم الحجرة، ويتعالى صياحهم وضجيجهم كأن كل واحد يزعق في بوق، بل لا أخفي عليكم أنني - وأنا ما زلت راقدا في المستشفى أعالج من أثر الصدمة - لا أعرف الآن إن كان ذلك كله قد حدث لي في حجرة الفندق أم أن ذلك الذي ظننته القاضي محمود كان مجنونا اقتحم غرفتي، أو كان مجرد كابوس ثقيل جثم على صدري لحظة وأنا في عز النوم، حتى إنني على كل حال ما زلت أعالج من الصدمة، وما زلت أفكر في البحث عن وكيل المحامي حسان وفي إمكان رفع دعوى الحجر على أبي الذي نسينا أنا وأمي وإخوتي الثلاثة، كما طردني من بيته كما قال إلى الأبد.
فيدو
ذكرت الجرائد اسمك يا فيدو.
1
نشرت المجلات صورتك.
كتبت بالخط العريض - بلون الدم - كلمات تقرؤها يا فيدو.
أنت لم تر المصورين حين التفوا حولك وكانت آلاتهم تخطف كالبرق.
لأن عينيك كانتا تزدحمان بالدموع.
لأنك كنت تبكي يا فيدو.
لأنك كنت تبكي.
أنت لا تعرف أين غاب صاحبك.
لا تصدق أنه لن يعود.
أبدا لن يعود يا فيدو.
منذ أربعة عشر عاما وعيناك لا تعرفان الدموع؛ لأنك لا ترى غير صاحبك. لا تريد أن ترى سواه؛ وجهه الضامر النحيل، قامته الطويلة، ويده المعروقة كأن أصابعها من خشب، تمسح على رأسك، على شعرك الأبيض الطويل، تراقب جسمك الصغير وهو يضمر يوما بعد يوم، وعاما بعد عام.
وحين تسأل عيناك: لم لا يعود صاحبي؟ لم لا يعود كارلو سورياني؛ العامل ذو الوجه النحيل، والقامة الطويلة، واليد المعروقة كأن أصابعها من خشب يقول لك الناس: إنه لن يعود. وتقف حائرا يا فيدو. لا تعرف ولا تصدق؛ لأن منطق الناس يقول لهم إن من مات لا يعود. الموت شيء يسرق الحياة، ينفي الحركة، وأنت لا تعرف منطق البشر يا فيدو، منطقهم محدود ومنطقك أنت بلا حدود؛ لأن فكرهم يرى البداية وينتظر النهاية، وفكرك لا يعرف بداية ولا نهاية، يحتضن الأبد؛ لأنهم يرون الحب شيئا ينمو ويزهر ثم يموت، وأنت تراه كالشمس؛ لا ينطفئ؛ لأنهم يذكرون ثم ينسون، وأنت - يا فيدو - تذكر ولا تنسى.
لذلك فأنت في كل يوم تسير حتى تكل قدماك، إلى المحطة التي كنت تنتظر عندها صاحبك. تنتظر صاحبك الذي كان يركب هذا الأتوبيس - منذ أربعة عشر عاما - عائدا من المصنع، مع الرفاق عائدا من المصنع. وتتعلق عيناك الصغيرتان يا فيدو بالباب ، تنتظر أن تفتحه يد حانية؛ أن يطل منه وجه محبوب، أن تسمع الصوت الأليف، فيدو! تعال! أنا هنا! لكن الباب لا يفتح يا فيدو. اليد الحنون لا تفتحه. الوجه الحبيب لا يطل منه. الصوت الأليف لا يصل إليك. وتنتظر يا فيدو. في البرد والريح والمطر تنتظر، بالنهار والليل. ترتعش أرجلك. ينتفض جسدك. تسعل الريح في أذنيك. وأنت وحيد يا فيدو، لا يقف معك حتى ظلك؛ لأن الليل قد أقبل وأنت لا تدري؛ لأن الليل يطمس الظل والنور؛ لأن الليل شكل واحد وكبير.
لم لا تذهب إذن يا فيدو؟
الأتوبيس قد ذهب. هبط منه العمال - رفاق صاحبك - ثم تفرقوا. لم يبق غيرك؛ أنت وحدك. وليس معك حتى ظلك، هل بقى عندك أمل في أن يعود؟ هل تنتظر أن تحدث المعجزة؟ ألا تعرف شيئا اسمه اليأس يعرفه البشر؟
وتخفض رأسك يا فيدو. تبكي بلا دموع. تئن أنه لا يسمعها غيرك. ثم تسير عائدا إلى بيتك. وفي الصباح تعود من جديد.
كل يوم.
كل يوم.
لأنك لم تنس ذلك اليوم منذ أربعة عشر عاما؛ لأنك يا فيدو لا تعرف النسيان إذ كنت كومة صغيرة من اللحم، ملقاة في شارع صغير في قريتك الصغيرة. كنت ترتعش يا فيدو من البرد والجوع والوحدة، وكنت تشتاق يا فيدو، تشتاق الدفء والبيت وكسرة من الخبز.
وحين أقبل صاحبك - كان عائدا من الحانة بعد أن شرب كأسين من النبيذ وغنى أغنية على اسم حبيبته - انحنى عليك. مسح أولا على شعرك بيديه. وحين استجبت إليه بكليتك أخذك بين ذراعيه. ضمك إلى صدره. أعطاك الدفء والبيت وكسرة الخبز. وأعطاك اسما يا فيدو.
من يومها - يا فيدو - عرفت صاحبك.
صاحبك ذا القامة الطويلة، والوجه الضامر النحيل، واليدين اللتين كأن أصابعهما من خشب.
وعرفت أن اسمه كارلو.
وأنه عامل في مصنع.
يذهب إليه - مع الرفاق - كل صباح.
ويعود منه - مع الرفاق - كل مساء.
ومن يومها يا فيدو لم تنس شيئا.
لم تنس أن تذهب كل يوم - والشقة بعيدة - إلى محطة الأتوبيس.
أن تنتظر صاحبك كل يوم، كل ليلة.
في الليالي الباردة في الشتاء، والليالي المقمرة في الصيف؛ أربعة عشر عاما!
لم تنس الوجه الذي يطل عليك من وراء الزجاج؛ الوجه الضامر النحيل.
ولا اليد التي تمسح على رأسك كأن أصابعها من خشب، ولا الصوت الذي يهتف: فيدو! تعال! أنا هنا!
لأنك - يا فيدو - لا تعرف النسيان!
ولكنك لا تعرف ماذا حدث. منذ أربعة عشر عاما وأنت لا تعرف ماذا حدث؛ حدث شيء اسمه الحرب يا فيدو. ألا تدري ما هي الحرب؟ وحش هائل فتح فمه وابتلع الملايين، بين شباب وامرأة وشيخ وطفل. شرب بحرا من الدم والدموع. مشى على المدينة فصارت كومة من الحجارة والأشلاء. حفر هاوية عميقة؛ عميقة من الموت والجوع والشقاء. رقص عليها ورقصت معه أشباح الملايين، بين شيخ وامرأة وطفل وشاب.
وكان صاحبك بينهم يا فيدو.
صاحبك «كارلو سورياني» العامل في المصنع الكبير، في مدينة اسمها البندقية.
أنت لا تعرف يا فيدو.
لا تعرف ولا تصدق.
إنه الآن شبح يرقص مع ملايين الأشباح، في هاوية عميقة عميقة، على رنين طبلة جوفاء، يضربها شيطان بغيض، على غناء غامض، بربري، مميت؛ كما يغني الزنوج ويرقصون، في غابة كثيفة، ومتوحشة، وبلا حدود.
ذلك أن طائرة صغيرة حلقت ذات يوم في سماء المدينة.
في ذات يوم منذ أربعة عشر عاما وحين قاربت المصنع ضغط ربانها - وكان في هذه اللحظة يمضغ قطعة من اللبان اللذيذ - على زر صغير، فهبطت قنبلة صغيرة، كان صاحبك يا فيدو ضحية من ضحاياها.
انطلقت شظية كأنها حشرة كريهة إلى قلبه، وحين يصاب قلب الإنسان - ذلك الشيء العميق كالبحر، الطيب كالسماء - يطفر شيء أحمر على جلده - شيء دافئ، مر، مضيء، كأنه نجمة تنطفئ.
في ذلك اليوم وقفت تنتظر صاحبك، كما تفعل كل يوم يا فيدو.
ساعة وساعتين حتى طال انتظارك.
أقبل الأتوبيس ثم ذهب.
هبط منه الرفاق ثم تفرقوا.
لم يطل منه الوجه الضامر النحيل.
ولم يتردد الصوت الأليف: فيدو! تعال! أنا هنا!
ولم تفتح بابه اليدان المعروقتان كأن أصابعهما من خشب.
ذلك أن صاحبك - يا فيدو - قد ذهب. ذهب ولن يعود.
هل عرفت معنى هذا: «لن يعود».
لكنك لا تعرف. لا تعرف ولا تصدق. منذ أربعة عشر عاما وأنت لا تصدق.
في الليالي الباردة والليالي المقمرة، تنتظر ولا تيئس.
النساء في القرية الصغيرة عرفتك يا فيدو؛ الزوجات الغنيات وهن ذاهبات بعد العصر إلى المدينة الكبيرة، الفلاحات الفقيرات وهن عائدات مع أزواجهن من الحقول. الأطفال الصغار عرفوك، في كل يوم يلتفون حولك ويرقصون ويغنون: فيدو! فيدو! فيدو! كلهم رأوك على الطريق وأنت ذاهب إلى صاحبك حين كنت صغيرا تجري وتقفز كالعصفور، وحين دبت الشيخوخة إليك فصرت تجر ساقك الأمامية كأنها عمود من الفحم.
وأرملة صاحبك يا فيدو، رأت دموعك في أول الأمر فأحبتك، وكانت تسير معك إلى حيث تسير لكيلا يقول الجيران إن المرأة أقل إخلاصا من الكلب، ثم لما تعبت تركتك تسير وحدك، وحدك ولا شيء معك حتى ظلك؛ لأنها تريد أن تنسى يا فيدو؛ لأن التذكر يقتل الإنسان. وكم حسدتك بينها وبين نفسها! ثم لما رأت عنادك سخطت عليك. تمنت لو تستطيع أن تتخلص منك؛ أن تفتك بك؛ لأنها كانت صبية ما تزال، وكانت تود لو يبحث عنها رجل جديد، ولكنك يا فيدو كنت هناك. قاس كالقدر. رهيب كالحقيقة.
وبالأمس احتفلت القرية بك.
أقبل الناس من كل مكان ليروك.
في صفوف طويلة كمواكب الحجاج.
أقبلوا وهم لا يصدقون: هل هناك حقا من لا ينسى؟
تقاطر المصورون حولك.
وكانت الأرملة العجوز - بعد أربعة عشر عاما يصبح الإنسان عجوزا - تدفن رأسك في حجرها. تتلقى دموعك ودموعها على يديها.
وفي خطوات رهيبة تقدم عمدة المدينة إليك.
شيخ عجوز يرفل في حلة سوداء، كأنه قديس.
مد يديه فطوق عنقك بشيء لامع مستدير.
وخطفت آلات المصورين كالبرق.
وصفق النساء والشيوخ والشباب.
وهتف الأطفال: فيدو! فيدو! فيدو!
وذكرك الناس - يا فيدو - في كل مكان.
أما صاحبك؛ العامل كارلو سورياني، الذي قتل في إحدى الغارات الجوية، ذات يوم منذ أربعة عشر عاما.
أما صاحبك ...
فلن يذكره أحد يا فيدو.
لن يذكره أحد.
1957م
في الغابة السوداء
في الغابة السوداء طرق لا تؤدي إلى شيء، كأنها دروب في قصر التيه، طرق يعرفها الفلاحون جيدا، ويتحاشونها في ذهابهم وعودتهم. ولم أكن أعرف هذه الحقيقة حين توغلت في المسير، في ذات يوم من أيام هذا الشتاء. تركت الفندق الذي أسكن فيه ورائي، وليس معي غير معطفي الذي أتدثر به، وقفازي الجلدي ومجموعة من شعر «هولدرلن». قلت في نفسي إن خير ما أفعله أن أصل إلى أعلى قمة في هذا المكان؛ فليس أجمل من أن أقرأ شاعر الوحدة وأنا معه وحيد!
كانت الجبال ترتفع حولي في كل مكان كأنها حيتان رهيبة غارقة في نومها منذ الأزل، وأنا أسير بينها كالرحالة الذي تخلى عنه كل رفاقه. وكان الثلج يغمر الأشجار، ويعانق غصونها وأوراقها في حنان، كأنه نعمة بيضاء هبطت من السماء. وكلما تلفت حولي وجدت حروفا نقشت على صدره؛ قلوبا وسهاما وأسماء صبية وبنات.
لست أدري كم مضى من الزمن علي وأنا أضرب في الطريق المجهول، فرحا أمشي على الثلج كأنني أمشي على النور. بعث البياض الناصع من حولي هذا الخيال الغريب، قلت هذه جثة معبود قديم، مات هنا منذ زمن لا يعرفه إنسان، ومدد جسده في كل مكان. في كل عام تنسج له الطبيعة كفنا جديدا، في كل عام. وأعجبني أنني الكائن الوحيد الذي يتنفس ها هنا، ويحمل في كيانه الدفء والدم والحياة، وفي يديه ديوانا من الشعر!
وحين وصلت إلى قمة الجبل - أعلى قمة بين هذه الجبال - خيل إلي كأنني ملك من الملوك الذين يعيشون في خيال الأطفال. هذه جبال الثلج ترتفع من حولي، وكم من هاوية تمتد تحت قدمي، رهيبة وفاجعة ومملوءة بالأسرار. فتحت ديوان الشعر الوحيد ونسيت نفسي - والشعر يسرق العين والقلب والشعور - فلم أغلقه حتى تنبهت على الظلام.
كانت الشمس تجمع خيوطها الذهبية في جانب الأفق، كأنها صياد عجوز يلم شبكته، وانحدرت من على الجبل بأسرع ما أستطيع. كم من الوقت يا ترى يلزمني لكي أعود إلى الفندق؟ لا شك أن الظلام سيقطع على الطريق. ووسعت خطاي، ورحت أجري كأنني هارب يطارده خطر مجهول. كانت أنوار الفنادق المتناثرة في الغابة كأنها نجوم بعيدة قصيرة العمر، تلمع ثم تخبو في كل لحظة. والأشجار التي مررت عليها منذ قليل والثلج يطوقها بباقة من نور، ترتفع الآن من حولي كأنها أشباح سود، والأسماء المنقوشة على الثلج - وبينها اسمي - لم يعد لها أثر. نعم لقد جاء الظلام وبعد قليل تطمس يداه كل شيء. والسهام المنصوبة في مطلع كل طريق، لتهدي السائرين في الغابة السوداء، أصبحت أفتش عنها في كل مكان. إن وجدت أحدها، فكيف أرى الكتابة المنقوشة عليه؟
بعد ساعة من السير الشاق أطبق الظلام علي، ووصلت إلى منعطف تذكرت أنني مررت به في طريقي إلى الجبل. قلت يا ترى هل انعطف إلى اليمين أو إلى اليسار؟ ورحت أفتش عن علامة الطريق. كان كل شيء قد امحى، غرق في بحر أسود. قربت يدي إلى وجهي فلم أكد أميزهما. رفعت بصري إلى السماء فلمحت القمر يتقد بين أكوام من السحب كأنه مصباح في قارب صغير، تائه في محيط معتم. وطافت بذهني قصة الطلاب السبعة الذين تاهوا في الصباح. ونظرت إلى ديوان الشعر في يدي نظرة عتاب؛ أهكذا يا شاعر الوحدة والعذاب؟
وتلفت أبحث عن فندق أقضي فيه ليلتي. لا شك أن الوصول إلى الفندق الذي أسكن فيه أبعد من المحال. كانت الأنوار تبدو من بعيد ثم تختفي، كأنها مصابيح صغيرة يعبث بها طفل صغير. وكان بعضها يأتي من مرتفع بعيد وبعضها كأنه يستقر في قرار الهاوية. ويممت وجهي نحو واحد منها خيل إلي أنه أوضحها وأقربها إليه. لن أقول شيئا عما وجدته وأنا أعبر الطريق إليه. أغمضت عيني وسرت كأني «أورفيوس» يخترق دروب العالم السفلي!
ما كان أسعدني حين لاح البناء أمام عيني! بيت حقيقي، بناء إنسان، وله باب أستطيع أن أطرقه. ترى ما الذي يختفي وراء هذا الباب؟ أي وجه سيطالعني منه؟ أي مأساة ولدت وعاشت بين جدرانه أو أي ملهاة؟ لا شك أنني سأحقق الليلة؟ حلم يراودني منذ زمن طويل؛ فكم من باب مررت به، في المدينة، في القرية، في الجبل والسهل، تمنيت لو فتحته يد سحرية، ودعتني إلى الدخول، وروت لي القصة التي ظلت تنسج خيطها وراء جدرانه عاما بعد عام. كل نافذة، كل باب، كل جدار، اخترقته عيني، وتمنت لو تعرف السر المختفي وراءه؛ لتحيله بعد قليل سطورا على الورق!
واتضح البناء أمام عيني. خرج من الظلمة فجأة فوجدته يقف أمامي. كان بيتا صغيرا، يحيط به سور خشبي، وترتفع من مدخنته خيوط من الدخان، استطعت أن أتبينها على أشعة النور الدقيقة التي تتسلل من النافذة. وفتحت باب السور في حذر، وسرت خطوات على الأوراق الجافة الملقاة على الأرض حتى وصلت إلى عتبة الباب. ولم أكد أضع قدمي عليها حتى نبح كلب. أغمضت عيني وتنفست في هدوء، حيث يوجد الكلب يوجد الإنسان! وطرقت الباب. وأقبلت أقدام خفيفة تجري، وأحسست بأنفاس تتردد قريبة مني، واختفى النور من النافذة، وسمعت صوتا يقول: سلطان، تعال هنا! وعوى الكلب عواء خفيفا، وعوى الباب وهو يفتح، وأطل وجه عجوز، يكشف معالمه مصباح زيتي يحمله صاحبه في يده، وتبينت رأس كلب تمتد لتتعرف على القادم الغريب، من هناك؟ وظل الباب مواربا. فتح الباب. واقترب المصباح من وجهي. - مساء الخير يا سيدي. - مساء الخير.
وقبل أن يسألني الوجه العجوز عما أريده انطلقت أقول: أنا غريب هنا يا سيدي. أقبل الليل علي وتهت في الغابة، هل أستطيع أن أقضي الليلة عندكم؟
وقبل أن يجيبني سمعت صوتا يأتي من داخل البيت: من يا إدوارد؟
والتفت الرجل العجوز وراءه وهتف: أوه! اسكتي أنت يا ماريا!
ثم قال: تفضل. تفضل. سلطان! لا تخف منه؛ إنه كلب عجوز وطيب، ثم إنه مريض لا يستطيع أن يؤذي نملة، تفضل!
وعوى الكلب عواء مكتوما. نظر في وجهي لحظة كأنه كان ينتظر إنسانا يعرفه، فلما أنكرني خفض رأسه، وأقعى على باب الغرفة.
وأقبلت امرأة عجوز حدقت في وجهي ثم التفتت إلى زوجها قائلة : من يا إدوارد؟!
قلت: مساء الخير يا سيدتي.
ويبدو أنها لم تسمع؛ فقد اقترب إدوارد من أذنيها وقال في صوت مرتفع: السيد يقول إنه غريب هنا، وقد تاه في الغابة (ثم التفت إلي): نعم يا سيدي، الغابة السوداء خطرة جدا، خاصة في الشتاء، تفضل هنا. قريبا من المدفأة. هذه زوجتي ماريا.
ومددت يدي فسلمت على اليد النحيلة التي امتدت نحوي. - أما أنا فاسمي إدوارد. الجو بارد في الخارج، أليس كذلك؟
قلت: يظهر أن العاصفة ستهب الليلة.
قال: نعم، نعم. الغابة السوداء خطرة جدا. وكم تاه فيها شبان مثلك! مساكين، طرقوا هذا الباب أيضا وباتوا عندنا. هل يعجبك المكان؟
قلت: بالطبع يا سيدي.
قال: كنا نتعشى الآن، هل تتفضل فتشاركنا الطعام. تفضل، تفضل، طعام متواضع. نحن فلاحون، نعيش هنا منذ عشرين عاما. ليست حياة الفلاحين سهلة كما يتصور الناس. هل تحب كوبا من الشاي؟
قلت: أشكرك يا سيدي.
قال: أعدي لنا الشاي يا ماري. نعم، نعم. نحن نعيش هنا منذ عشرين عاما. هل يقول السيد إنه غريب هنا؟
قلت: نعم يا سيدي، جئت في رحلة قصيرة إلى الغابة السوداء. - لست ألمانيا كما أظن. - لا يا سيدي. - من أي البلاد؟ - من مصر. - آه مصر، في الصحراء، أليس كذلك؟ - الصحراء تمتد حولنا يا سيدي، من الشرق والغرب. - لودفيج عاش أيضا في الصحراء، ابني لودفيج، هذه هي صورته.
ألتفت أنظر إلى الصورة المعلقة على الحائط. كانت لشاب في ملابس جندي، واسع العينين، دقيق الشفتين، تكسو وجهه مسحة من الحزن والتأمل.
قلت: ربما تأخر في المدينة يا سيدي، لا شك أنه سيعود بعد قليل.
وأشار بيده قائلا: لا تتعب نفسك؛ إنه لن يعود أبدا.
أردت أن أقول شيئا لأوجه الحديث وجهة أخرى حين سمعته يقول: كثيرون ماتوا في هذه الحرب. شباب مثل لودفيج. هل عرفتم الحرب أيضا يا سيد؟ لقد مات ابني في العلمين.
قلت: نعم يا سيدي، على حدودنا.
وأقبل الكلب فنظر في وجهي لحظة، ثم مسح رأسه في ثياب صاحبه وأقعى عند قدميه . - هذا هو سلطان. ابني سماه سلطان. هل تدري لماذا؟
قلت: ربما كان يقرأ كثيرا عن الشرق.
قال: نعم، كان لودفيج يقرأ كتبا كثيرة. هذا الدولاب كله ملآن بالكتب، قرأها جميعا، وحين عثر على هذا الكلب قال سنسميه سلطان يا أبي.
قلت: ولم هذا الاسم الغريب يا لودفيج؟ قال لأن حكايته موجودة عند الإخوة «جريم». هل تدري من الإخوة جريم؟
قلت: أظن أنهما ألفا مجموعة من أساطير الأطفال.
قال: تماما. وقد روى لي لودفيج حكاية سلطان كما جاءت في هذه الأساطير. ضع قطعة من الزبد على هذه اللقمة. تفضل، تفضل، كان سلطان كلبا عجوزا يعيش عند فلاح عجوز وزوجته، مثلي أنا وماريا، وأراد الرجل أن يتخلص من الكلب العجوز بعد أن مرض وتساقطت أسنانه. أنا لا يمكن أن أفكر في هذا يا سيدي ها! ها!
وقال الفلاح لزوجته إنه سيقتل سلطان في الصباح، وسمع الكلب ما قاله فحزن حزنا شديدا، وذهب إلى صديقه الذئب ليشير عليه ماذا يفعل.
قال له الذئب: حين يقتادك صاحبك إلى الغابة في الصباح ومعه امرأته وطفلهما فسوف أنقذك من الموت. قال له سلطان: وماذا تنوي أن تفعل؟ قال له الذئب: ستترك المرأة طفلها عند الشجرة، عندئذ أهجم أنا عليه وآخذه بين أسناني. قال سلطان: لا! لا تفعل! إنني أحب صاحبي وأحب الطفل. قال الذئب: انتظر، ستجري أنت ورائي، وسأترك لك الطفل فتعود به إلى أمه؛ عندئذ يرق قلبهما لك، ويعطف الفلاح عليك فلا يقتلك.
قطعة أخرى من الخبز؟
قلت: أشكرك يا سيدي، وماذا حدث بعد ذلك؟
قال: آه! نعم؛ إن سلطان أيضا قد أصبح عجوزا؛ تساقطت أسنانه ولم يعد يصلح للحراسة، ولكن هل تدري من الذي خطف لودفيج؟ لم يخطفه الذئب؛ خطفته الحرب. الحرب ذئب كبير يا سيدي، يخطف جميع الأطفال، ويترك العجائز، مثلي ومثل ماريا وحدهم، بلا أطفال. إن سلطان كلب مخلص، لم ينس فيلهلم أبدا، انظر، لودفيج! لودفيج!
واشرأب الكلب العجوز ورفع أذنيه. وقف لحظة يحدق في الباب ويهز ذيله وينتظر. ولما لم يولد من الصمت العميق صوت خفض رأسه، وعوى عواء مكتوما ثم أقعى إلى جانب صاحبه.
قال الرجل وهو يتحسس الكتاب الذي وضعه على المائدة: هذا أيضا كتاب أساطير، أليس كذلك؟
قلت: بل ديوان شعر.
قال: آه! شعر! لودفيج أيضا كان شاعرا. طالما جلس في مكانك وأخذ يكتب ويكتب، الليل بأكمله. ألا تنام يا لودفيج؟ إنني أكتب قصيدة جديدة يا أبي، أردت أن أجعل منه مهندسا أو معلما، ولكنه كان يقول لي: إن من يولد في الغابة السوداء يصبح شاعرا يا أبي. القدر أراد لي هذا.
كان ولدا مرحا لا يكف عن الضحك، وكم دخل من هذا الباب وهو يهتف: انظر يا أبي! هذه هي قصيدتي، مكتوبة بحروف المطبعة، سيقرؤها اليوم عشرون ألفا، سيقولون ولد اليوم. ما هو اسم ذلك الشاعر يا ماريا؟ أكبر الشعراء عندنا؟
قلت: هل تقصد جوته يا سيدي؟
قال: آه! نعم! سيقولون ولد جوته الجديد! وذات يوم كتب قصيدة يلعن فيها الحرب، نعم، كان يكره الحرب ويقول دائما: لم الحرب؟ لم الحرب؟
هل تنبت الحرب زهرة جديدة؟
الحرب تحرق كل الزهور.
لم الحرب؟
هل تداوي الحرب طفلا مريضا؟
الحرب تقتل كل الأطفال.
لم الحرب؟ لم الحرب؟
ونشرت القصيدة في الجريدة المحلية، وجاء الجستابو إلى هنا، ثلاثة جنود كالأشجار العالية، فتحت لهم الباب فسألوني: والدة إدوارد؟ أين ابنك؟
قلت تفضلوا أيها السادة، ماذا تريدون من لودفيج؟ قالوا عندنا أمر بأن نكسر قلمه ونقبض عليه! قلت إنه في المدينة، لم يعد بعد، ولم يعد لودفيج حتى الآن.
قلت: وماذا حدث يا سيدي؟
قال: وماذا تنتظر أن يحدث؟ قبضوا عليه في المدينة. وبلغني بعد ذلك أنهم حكموا عليه بالسجن، ثم وصلني منه خطاب يقول فيه إنهم رأفوا به لصغر سنه وأرسلوه إلى الميدان، إلى «العلمين»، هل سمعت الراديو عندنا؟
قلت: بالطبع يا سيدي، وماذا في هذا؟
قال: أقصد هل سمعت الأغنية التي يطلبها الناس دائما؟ أغنية الجنود العائدين من الصحراء؟
قلت: لا أذكر يا سيدي تماما .
ورفع الرجل صوته وراح يغني . كان صوتا خشنا مبحوحا وحزينا:
في رمال الصحراء المحترقة،
بعيدا بعيدا عن أرض الوطن،
لا تحية ولا قلب،
لا قبلة ولا فرحة،
كل شيء بعيد بعيد!
هناك حيث تزدهر الورود،
هناك حيث تخضر الوديان،
كنت ذات يوم في بيتي،
وكان وطني هناك،
كل شيء بعيد بعيد.
هناك حيث تزدهر الورود.
وسمعنا من الداخل صوتا يزمجر: إدوارد! ألا أستطيع أن أصلي للعذراء! والتفت الرجل إلي قائلا: هذه ماريا. مسكينة. هل ترجع الصلاة ولدنا؟
ثم انطلق يغني:
كنت ذات يوم في بيتي،
وكان وطني هناك،
حيث تزدهر الورود.
يقولون إنهم لا يعرفون مؤلفها، إنه جندي مجهول، أما أنا فعلى يقين من أنه هو الذي كتبها؛ ابني لودفيج.
لا بد أنه عطش، وجاع ونزف دمه فوق الرمال الساخنة. إن ماريا تصلي كل يوم، نعم يا سيدي! زوجتي تقية جدا. كل أحد نهبط معا إلى المدينة. تذهب هي إلى الكنيسة لتصلي، وأنتظرها في الحانة فأشرب كأسين على روح ولدي، ها ها! لا شك أنك ستقول إنني كافر! لا يا سيدي! ولكن هل تعيد الصلاة ولدي؟ هل تعيد الصلاة؟ إن ماريا كلما رأت تمثالا ليسوع ركعت على الأرض. كلما شاهدت صورة للعذراء قبلتها ورسمت علامة الصليب. كانت تصلي لكيلا يأخذوا لودفيج إلى الحرب، ولكنهم أخذوه. أليس الأفضل إذن أن نشرب وننسى؟!
قلت: لا أدري يا سيدي، لا يدري الإنسان ما هو الأفضل أبدا.
قال الرجل وهو يسحب «سلطان» من سلسلته: معذرة، لقد أطلت عليك.
تقدم الليل. نسيت نفسي في الحديث. يمكنك أن تنام على هذه الأريكة. معذرة، ولكننا لا نملك سريرا ثانيا. مساء الخير يا سيدي. نم في أمان.
قلت: مساء الخير يا سيدي.
وتمددت على الأريكة وأغمضت عيني. كنت من التعب كأنني أدور في دوامة. ويظهر أنني أغفيت قليلا ثم صحوت على شيء مجهول؛ صوت ضعيف كأنه طفل صغير تسلل من الغرفة المجاورة ولمسني لمسا رقيقا. تبينت منه كلمات متقطعة؛ أيتها العذراء المقدسة، إن كان لودفيج لا يزال حيا فأعيديه إلي، يا أم يسوع المحبوب. وإن كان قد ذهب إلى الأبد فلا تعيدي الحرب مرة أخرى. أنت تعرفين قلوب الأمهات، يا أيتها الأم المقدسة، آمين.
فتحت عيني، واستطعت أن أتبين الوجه المعلق على الحائط. تطالعني منه العينان الحزينتان الواسعتان.
وهمست: آمين!
1957م
أسوار المدينة
أنا رجل ضائع في المدينة.
شهادة ميلادي تؤكد أنني موجود.
ثيابي رثة. طعامي قليل. شعر رأسي أشعث. وحذائي متمزق من قديم.
أما مدينتنا فهي عظيمة، واسعة الأرجاء، يحدها من الشمال جبل هائل مرتفع، ومن الشرق صحراء ممتدة إلى غير نهاية. ويجري في وسطها نهر لطيف محبوب، بين صفين من أشجار النخيل، وما أكثر ما تراءت مدينتنا لعيني تنينا ضخما، ينفث الدخان من فمه، وعلى رأسه تطوف سحابات شتاء قاتمة. ربما يرجع هذا إلى أن عيني يأكلهما الرمد من زمن بعيد، فلا تميزان الرؤى والمشاهد. كل ما أستطيع أن أؤكده أنني كلما سرت في شوارع مدينتنا استطالت أمامي أجسام الناس، وتضخمت أبعادها، واختلطت علي حدودها، فلا أكاد أعرف إن كانوا بشرا، وتكاد عيناي تدمعان.
مدينتنا مدينة عظيمة كما أسلفت، أعظم ما فيها هذا السور الهائل المنيع الذي لا يذكر اسمها إلا مقترنا به؛ يحدها من الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب. وتاريخها مذكور في الكتب، مدون في الأسفار الكبيرة، محفور في الآثار والصخور، وفي رءوس حكمائنا الشيوخ. وإن نسينا في بعض الأحيان أن مدينتنا قد هاجمتها جيوش أعداء كثيرين، على مر الدهور، فلنا العذر في ذلك؛ فذاكرة أمثالي من رجال أمتنا ضعيفة. وكيف تعلق بأذهاننا تفاصيل لا حصر لها؟
كان من أعدائنا من يلبسون العمائم الكبيرة والبيضاء، ويحملون السيوف في أيديهم، ويقاتلون أجدادنا كالوحوش، وكان منهم من يلبسون القبعات فوق رءوسهم، ويتطاير الشرر من عيونهم الخضراء، ويرطنون بلسان غريب على أفهامنا، ولكنه رقيق. لن نستطيع أن نذكر جميع أعدائنا. كل ما نذكره أنهم قد بنوا هذا السور الهائل المنيع حول مدينتنا. تقول عجائزنا المخرفات إنهم قد بنوه منذ مئات السنين. ويقول حكماؤنا ذوو اللحى الطويلة، والرءوس الصلعاء من أثر الحكمة: إنه موجود على حاله منذ الأزل. ونحن بينهم حائرون. فتحنا أعيننا فرأينا هذا السور الهائل المنيع يطوق مدينتنا، من الشمال والجنوب ومن الشرق والغرب، يكاد يخنق أنفاسنا، ويكاد الحزن يغلبنا فنعتقد أننا سنموت ونتركه وراءنا.
حكاية هذا السور العظيم لا تبرح رءوسنا ولا شفاهنا، في كل بيت، في كل منتدى، في كل شارع، في كل حي، نجد من يذكر السور وهو خائف، وأطرافه ترتعد. جدتي قالت لي - أيام أن كانت تروي لي الحواديت في ليالي الشتاء - إن هذا السور قد بناه حاكم عظيم، كأنه مارد من الجان، بساعديه الغليظين. وأمي حذرتني - وهي على فراش الموت - من أن أقربه، لكنني مع ذلك بقيت حائرا، والشك يطل من عيني. حرصت على أن أجمع كل خبر، وأن ألتقي بكل من أتوسم فيه المعرفة بنبأ السور العظيم. وكان أن جمعت أنباء طيبة، وإن كنت أتعجب من اضطرابها، ومن تناقضها في أكثر الأحيان؛ فحراسنا الأشداء يقولون إنه يحمي مدينتنا من غارة الأعداء - وهم كثيرون - والفلاحون الأتقياء يؤكدون في لهجة صادقة أنه يصد عنا رياح الشمال التي كانت تهلك فيما مضى محاصيلنا، وتؤذي زرعنا ونباتنا. أما الحكماء فهم يقولون - وعيونهم لا تفتأ تتأمل الكتب القديمة الصفراء، وأصابعهم تتخلل لحاهم البيضاء - إن هذا السور يعصمنا من الجهل الذي عم البلاد، ومن وباء استشرى في سائر الأمم، وإننا لذلك سنبقى حكماء عاقلين ما بقي لنا هذا البناء العظيم.
هذا السور قد صحب أعمارنا، وحفظ ذكرياتنا، فنحن نخشى عليه من أن ينهدم منه حجر، أو تفتح فيه ثغرة. أجدادنا من المهندسين صبوا فيه عصارة أفكارهم، وسهروا الليالي الطويلة وهم يعدون رسومه، ويبدعون تصميمه، ويقيمون أعمدته وأبهاءه، وشبابنا من البنائين والصناع والعمال قد وضعوا فيه جهد أعضائهم وأعصابهم ودمائهم، لبثوا عشرات السنين يحفرون، ويردمون، ويحملون الطوب والحجارة فوق أكتافهم، ويتحملون لفحات شمسنا الخالدة فوق رءوسهم، ومات منهم كثيرون، واختلطت عظامهم بالرماد والجير والأسمنت. وأطفالنا لعبوا حوله، ولمسوا أحجاره، وحملوا في رءوسهم الصغيرة أعز الذكريات. والعشاق لم ينسوا أن يصحبوا معشوقاتهم إلى جانب السور العظيم، فاستندوا معهم على جدرانه، وغازلوهن واعتصروا أجسادهن من الحب، ورقصوا، ورجعوا في آخر الليل وقد أضناهم العناق والضم والتقبيل. أما عجائزنا من الشيوخ والنساء فقد كان لهم في جوار السور أولياء صالحون، وقديسون طيبون، يزورونهم بين حين وحين، ويؤدون فروض العبادة في أضرحتهم، ويلثمون أطراف أكفانهم، ويرجعون إلى بيوتهم راضين مستبشرين.
ولكن حدث منذ عهد قريب ما جعلنا نشفق على سورنا العظيم من أن يصيبه أذى؛ فقد أسفر صباح يوم سار فيه المنادى - وهو رجل أعمى يقوده صبي حافي القدمين - في شوارع المدينة وهو يلقي بالنبأ العظيم: «لقد وجدت أمس في جدار السور ثغرة كبيرة. الحراس يبحثون عن اللصوص.» سرى النبأ في المدينة مسرى الرعب. من هم هؤلاء اللصوص؟ من أين جاءوا؟ كيف واتتهم الجرأة على أن يتسللوا إلى مدينتنا أو يهربوا منها؟ وسرعان ما تم التدبير، واحتاط حراسنا الأشداء لكل الظروف، ووضع على مسافات متقاربة من السور رجال من الشرطة، مدججين بالسلاح، وعيونهم ساهرة بالليل والنهار. ولم يمض قليل حتى ضبط اللصوص المعتدون. وأمر الحاكم العظيم بأن ينزل بهم أشد العقاب، فسار بهم رجال الشرطة في شوارع المدينة بعد أن حلقت رءوسهم ومزقت ثيابهم، حفاة عراة إلا من خرقة تسترهم. أنا قد رأيتهم بعيني؛ فأنا واحد من شعب هذه المدينة، ومن حقي أن أقف على جانب الشارع لأتفرج على الموكب وهو يمر من أمامي. وشد ما كانت دهشتي إذ عرفت اللصوص الثلاثة. لا ريب أنهم من أهل مدينتنا، بل يخيل إلي أنني رأيتهم وعاملتهم، وإن كنت لا أذكر تماما أين كان ذلك. ولقد بلغت بي الشفقة عليهم حدا كبيرا، فاستغفرت لذنوبهم، وطلبت في قلبي لهم الرحمة من الله، ومن الحاكم، كان موكبهم شيئا يبعث على الألم حقا؛ فلا بد أن حراسنا الأشداء قد ضربوهم على ظهورهم بالسياط حتى سالت منها الدماء في خيوط متعرجة، حفرت عليها آثار عميقة كامدة.
ولقد بلغني بعد رؤية هذا المشهد بيومين، أن الحاكم الكبير لم يكتف بهذا الجزاء، بل طلب أن يوضع الثلاثة في السجن. ولما لم تكن في مدينتنا سجون، فقد أمر فبنيت لهم على عجل زنزانة ضيقة، منعزلة في قلب الجبل - قيل لي إنها قد كلفت ميزانية الحاكم أموالا طائلة - فلما قيل له إنه لا بد للمسجونين من حارس، صار يدمدم يومين كاملين؛ فالنفقات لم تكن تخطر على باله. ولقد سمعنا ونحن في المدينة - فقد صار نبأ هؤلاء المساجين أهم ما يشغلنا ويجذب انتباهنا - أن اللصوص الثلاثة قد صافحوا حارسهم في حرارة وهم يدخلون في الزنزانة، وأن واحدا منهم راح يؤكد حين أغلقت عليهم الزنزانة أنه هو الذي صنع البوابة الحديدية والقفل الكبير بيديه؛ مما سر الحارس وجعله يغرق في الضحك. وكان زميلاه في السجن كذلك في غاية من الانشراح. أما أحدهما فهو فلاح بسيط كان يعيش على قطعة صغيرة من الأرض يزرعها بقليل من القمح والخضر، ويعيش سعيدا مع أبويه العجوزين وأولاده الأربعة. وأما الآخر فكان شابا يشع من عينيه الذكاء والقلق. لم يكد الحارس يغلق عليه باب الزنزانة حتى طلب أوراقا وقلما.
وهكذا سارت الأمور على خير ما يرام؛ فالسجناء الثلاثة فرحون مستبشرون لسبب لا ندريه، بل لقد زادت شهيتهم للطعام (حتى طلب أحدهم أن يؤتى له بفخذ خروف محمر، وثلاثة أرطال من اللحم المشوي، وأقتين من التفاح والكمثرى)، وهم لا يكفون عن الضحك والتهليل حتى كأنهم قد دخلوا حانة أو مشربا، ثم إنهم ينامون نوما هادئا، وعلى الأخص ذلك الحداد الذي لا يكاد يصحو من نومه حتى يطلب الطعام من حارسه ثم يعود إلى النوم في هدوء.
ولقد سارت أمور المسجونين الثلاثة على النحو التالي: كانوا يزدادون سمنة يوما بعد يوم؛ ونتيجة لذلك زادت نفقات إيوائهم على الحاكم، حتى كان يوم استشاط فيه غضبا، أرسل إلى مدير ديوانه ليقول له وعيناه ترسلان الشرر: لا بد من الخلاص من هؤلاء الملاعين. - وكيف يا مولاي؟ - اقطعوا رقابهم. - لا نستطيع يا مولاي. - وماذا يمنعكم؟ - نخاف على سور المدينة. - وما شأن السور في هذا؟ - ستزداد فيه الثغرات، ويهجم شعبك الأمين عليه فيهدم أحجاره. - إذن فافتحوا أبواب السجن. - ومتى كانت السجون مفتوحة الأبواب؟ - افعلوا أي شيء؛ فقد ضاقت نفسي بهذه التكاليف.
وأذعن مدير الديوان لهذا الأمر، فأمر حارس الزنزانة أن يترك بابها مفتوحا، ولكن هذه الوسيلة لم تجد إزاء عنادهم؛ فقد كانوا يخرجون للطعام أو للنزهة ثم يعودون إلى السجن فيغلقونه عليهم في إحكام. وسارت الأمور على هذا النحو أياما؛ المساجين ينفذون العقوبة المفروضة عليهم بأمانة وإخلاص، والحارس يستولي عليه الملل ويغط في نوم لا يفيق منه.
وبلغت أنباء الثلاثة أسماع أهل المدينة. إنهم يستطيعون - بمجرد فتح ثغرة في السور العظيم - أن ينعموا بسجن هادئ مريح، وأن يناموا ملء جفونهم، ويستسلموا لأحلام صافية. وكان أن تسلل الكثيرون إلى السور في الليل، وكل من فتح ثغرة أو نقل حجرا عن موضعه أسرع إليه الحارس فقبض عليه وأسلمه لرجال الأمن. وتعددت هذه الحوادث حتى ألفت آذاننا صوت المنادي العجوز وهو يطوف بالطرقات ليعلن نبأ القبض على اللصوص. ووجد العاطلون من أهل المدينة عملا مربحا في بناء السجون الجديدة المحكمة. وأطمعت هذه الثروة المفاجئة الكثيرين، فتركوا أعمالهم التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم وشاركوا في البناء الجديد في همة ونشاط، ولكن الأمر الذي لم يكن يتوقعه أحد أن عددا من الصبية والنساء قد تسللوا ذات ليلة إلى السور العظيم - في غفلة من الحراس - فقلبوا أحجارا كثيرة عن مواضعها، وفتحوا فيه ثغرات لا يقوى عليها إلا الرجال. وكان أهل المدينة كراما مع هؤلاء المذنبين؛ فقد أثارتهم المروءة والوفاء، وهزهم الشحوب البادي على وجوههم، فدلوا رجال الأمن عليهم.
لم يكن بد إزاء هذه الأحداث من أن تؤلف المحاكم، وأن يجعل لها قضاة مهيبو الطلعة، طوال اللحى، يتلفعون في مسوح سوداء فضفاضة كمسوح الرهبان. وكثر عدد هذه المحاكم فيما بعد حتى دخلت كل حي، ومن لا يحاكم يتفرج. وتوافد الفلاحون الأتقياء من القرى البعيدة ليشهدوا، ويروا المدينة التي تقيدها سلاسل من الحجارة. أما المحاكم فلم يكن يفهم مما يدور حوله شيئا. كان يعجب لأهل المدينة الذين يسيرون إلى السجن بمحض اختيارهم، وكان أكثر ما يزيده غيظا أن يسمع أناشيدهم حين تسوقهم الشرطة إليها، وكان أشد ما عجب له أن الحراس الذين وضعهم على مسافات متقاربة من السور العظيم قد تفشى بينهم مرض النوم (لقد رآهم بنفسه يتثاءبون). وراع الحاكم ما سمع وما رأى، فأسرع يستدعي كبير قضاته. وحين مثل هذا بين يديه، وانحنى أمامه حتى كادت جبهته أن تلمس الأرض، صاح فيه: أرأيت؟ أرأيت؟ - أنا أيضا لا أكاد أصدق يا مولاي. - وماذا يريدون؟ - السجن. - أيعاقبون أنفسهم بأنفسهم؟ - ويطلبون المزيد من العقاب. - المدينة امتلأت بالسجون. ليس بوسعي أن أفعل أكثر من هذا. - نحن أيضا قد يئسنا يا مولاي؛ فقد تعطلت وظيفتنا. لم يعد لأمثالنا من القضاة ضرورة، إن الجميع يتمنون العقاب الذي نفرضه عليهم. - احكموا عليهم بعقاب أشد. - الحكم في يدك يا مولاي. - في يدي؟ - نعم. هناك حكم واحد يريحنا من هذا العذاب. - تكلم، تكلم. هل نسجنهم إلى الأبد؟ - لقد جربنا هذا. - إذن نقطع رقابهم. - ولا هذا. - ويحك! بماذا أحكم إذن؟ - احكم عليهم بالحرية. - الحرية؟ وكيف؟ - اهدم السور العظيم.
قال كبير القضاة ذلك واحمر وجهه كفتاة عذراء، ثم انحنى حتى كادت جبهته تلمس الأرض، وخرج وهو يتعثر في أطراف ثوبه الفضفاض.
وعاد القاضي من فوره إلى المحكمة، وسارت الأمور سيرها الطبيعي؛ النساء يلدن، والصغار يكبرون، والعجائز يموتون، والثيران تدور في الطواحين، وأمواج الفلاحين تترى على مدينتنا من القرى البعيدة، كل شيء يجري على ما يرام.
كان ذلك منذ زمان قديم، سحيق في القدم، ولم تزل أسوار مدينتنا كما هي، عالية، مرتفعة، تحجب عنا رياح الشمال، وتكاد تحجب النور.
وما برح أهل مدينتنا يتسللون إليها في ظلمات الليل، يغافلون حراسها، ويحفرون فيها ثغرة جديدة.
أدرك أهل المدينة أن مدينتهم قد باتت وهي سجن كبير. ولم يكن الحاكم يدري أن السجن الصغير يمكن أن يتسع ويتسع حتى يضم كل هذا العدد من الناس.
أما أنا - وإن كنت رجلا مسكينا من أهل هذه المدينة فثيابي رثة، وقدماي حافيتان ، وطعامي قليل - فقد فهمت ما يريدون . لمعت هذه الفكرة في رأسي فجأة وعلى غير انتظار؛ سوف لا يهدأ لهم بال حتى يهدموا السور العظيم، وينقضوه حجرا بعد حجر.
أنا قد لمحت هذا في عيونهم.
1951م
زمارة، توت
المشوار طويل والمقبرة ما تزال بعيدة. وعم إبراهيم يضرب الأرض بعصاه رقيقا كأنه يخشى أن يستيقظ راقد تحت التراب ليسأله ما الذي جاء بك إلى هنا؟ كنا أشبه بنملتين غبيتين. نسير بين الأحجار القديمة، والتماثيل المهشمة والمعابد المتهدمة، والجبل الشامخ يظللنا من كل مكان، كأنه خيمة سوداء بلا حدود. - خلاص، قربنا.
قالها عم إبراهيم فانتفض قلبي، كأن يدا رهيبة هزتني لتعلن عن مولد معجزة. والتفت أراقب الوجه العجوز المتهدم. واليد الجامدة تشير إلى كهف في «وادي الملوك» غير بعيد عنا. وهمست خائفا: هي دي المقبرة؟ فجاءني صوته الغاضب: هس!
الحق مع عم إبراهيم؛ فالكلام هنا شيء محرم. إنه حجر يعكر بحيرة السكون. وعدت أتأمل وجه رفيقي العجوز ورأسه الشامخة التي تجللها شعرات بيض كأنها تاج من الفضة، وضعه فرعون العظيم. وابتسمت وأنا أتخيل عم إبراهيم - الصعيدي الطيب - ينفض التراب عن هدومه، وينهض من تابوت قديم، فيفتح عينيه ويفك الأربطة عن جسده، ثم يمد يده فيشرب من قلة قناوي موضوعة بجانبه، ويتجشأ ويقول لي: إيه اللي جابك هنا؟! - تعال. لأ، من هنا. هات إيدك. أيوه كده!
كنا قد بلغنا المقبرة. وهذا هو مأوى رجل من الخالدين أراد أن يخفيه عن أعين الفانين من أمثالي. وصاح بي عم إبراهيم: ما لك خايف كده؟
فقلت وأنا أرتعش: أصل دي أول مرة ...
فرن صوت كالجرس: يا شيخ، ده اللي يشوفك يقول ده جاي يسرق الترب. وذكرتني كلمته بلصوص المقابر؛ يتسللون في ليالي مصر القديمة ويسلبونها الأكفان والكنوز والأسرار.
وعاد الصمت يجلجل: حد يخاف من أبوه وجده؟ هات إيدك هات.
وتناول يدي يساعدني على صعود الممشى الطويل، وتقدم يدلني على المكان. إنه يعرف كل شبر من أرضه وكل موضع من جدرانه، وكأنما يسبقني إلى بيته القديم؛ فهو ينفض التراب والعنكبوت عن سقفه وستائره.
ومضى عم إبراهيم يعرفني على المقبرة، كأنه سمسار شقق في وادي الملوك.
قلت وأنا أحني قامتي لأدخل حجرة ضيقة: دي أودة إيه؟
فقال عم إبراهيم: دي بقى أول أودة، كان فيها تابوت فاضي مفيش غيره، تخش منها على تاني أودة. استنى أما أولع الشمعة فيها هدوم توت عنخ وعصيانه، وقول زلعتين كمان.
فقلت متعجبا: زلعتين!
فهتف كأنه ينكر جهلي: أمال أنت فاكر إيه؟ الراجل يقوم عطشان، يبل ريقه. - طيب والأودة دي؟
وكنا قد وصلنا إلى قاعة كبيرة. - هنا بقى تمثالين، هو ولا مؤاخذة، والست بتاعته، وجنبهم العربية بتاعتهم، جايز الراجل يجيله مزاجه. - مزاجه؟ - أمال! يقوم يتفسح هو وجماعته شوية، يشموا هوا. القصد، تعرف لقينا الزمارة فين؟
وأعملت فكري لأتذكر معلوماتي الضئيلة عن المقبرة ومكتشفيها وسألته: قصدك النفير؟ - باقولك زمارة توت عنخ.
وثبت عم إبراهيم الشمعة على الأرض وقال لي وهو يجلس: تعال نقعد هنا تعال. من يومها ويعملوني حارس. أقول لك الحق؟ أنا كنت خايف موت، ما هو أنا اللي لقيتها بقى. ولما وريتها للخواجة قال لي برافو يا خبيبي، إنت كويس كتير. حطتها تحت باطي، ونمت.
ليلتها نام عم إبراهيم على باب المقبرة. كان الأنفار قد هدهم التعب طول النهار، وسهروا يشربون الشاي الثقيل، وينفضون التراب عن أرواحهم وأجسامهم، ويثرثرون عن الفراعنة حتى زحف النوم إلى عيونهم، وبقي عم إبراهيم سهران. - ما تعرفش إيه اللي جرالي من ورا الزمارة دي، حاجة ورا العقل، وثبت عينيه بالسقف، كأنه ينتظر أن ينشق عن الملك الجميل يتقدم إليه ويصافحه ويقول له: إزيك يا عم إبراهيم!
وفي نص الليل ألاقي لك اللي بيخبط على كتفي. قمت مفزوع من عز النوم. لقيت اللي واقف قدامي. قلت بسم الله الرحمن الرحيم. مين؟
قال: أنا توت.
قلت: توت مين؟
قال: ما تعرفنيش يا عم إبراهيم؟
هزيت رأسي وقلت: لا والله، ما خدش بالي.
قال: بقى يا راجل متعرفش توت عنخ آمون، فرعون مصر، قبلي وبحري؟
قلت له: وعاوز إيه يا سيدنا توت؟
قال لي: قوم يا إبراهيم.
قلت له: أقوم أروح فين يا سيدنا توت؟
أنا راجل غلبان، وعلى الله حالي.
رجع يمد لي إيده، ويقول لي بأقولك قوم انفخ في الزمارة دي.
وعنها والنوم طار من عيني. فتحت ما لقيتش حاجة قدامي، حسست على الزمارة لقيتها مطرحها قول يا شيخ حمدت ربنا اللي جات سليمة، بصيت حواليه لقيت الأنفار نايمين نوم أهل الكهف من تعبهم طول النهار ومن كتر الشيل والحط. قول صحيت وقريت الفاتحة لأهل البيت وفاتت الليلة على خير.
تاني ليلة الشيطان لعب في عبي، قلت يجرى إيه يعني لو جربت الزمارة دي؟ حطيتها على بقي وقلت يا بركة سيدي توت.
فقلت ضاحكا: ليه؟ هو شيخ؟
فقال وهو يتعجب من جهلي: ومن أولياء الله كمان.
فأحبيت أن أجاريه في قوله: أهل زمان كلهم بركة.
فأطرق برأسه مؤكدا كلامي: أمة لا إله إلا الله ما تخفش عليها. القصد، نرجع للزمارة. سميت ونفخت فيها. حاكم أنا لي صنعة في المزامير دي. طول عمري ما حدش يغلبني على الأرغول. أنا نفخت فيها من هنا. - طلع منها صوت؟ - صوت؟ قول رعد، برق! زي ما تكون السما انطبقت على الأرض. توت توت. اتهيألي إن الفراعنة كلهم صحوا، زي الجن المسلسلين اللي ربنا ها يفرج عنهم يوم القيامة. اتلموا علي من كل ناحية. أنا قلت تروح على فين يا إبراهيم، تيجي منين يا إبراهيم؟ - وتوت، ما كانش معاهم؟! - جاي لك أهه. الفراعنة طبقوا على نفسي. شوف أنت بقى ما هم فراعنة، وسرهم باتع. أنا قلت خلاص، رحت يا إبراهيم في شربة مية، واللي كان كان. اتلموا حوالي يضحكوا، ويشاوروا علي، ويرطنوا بكلام، ما أنا عارف هما بيقولوا إيه. - يمكن بيتكلموا هيروغليفي؟ - عليك نور. أهو كلام كده زي نبش الفراخ! - وما ردتش عليهم؟ - وأنا أروح فين في وسطهم؟ ده كلهم لسانهم فصيح. وشوية وألاقي الوش المنور جاي من بعيد. - توت عنخ؟ - بلحمه ودمه! راكب على عربية مزوقة، فشر الحناطير بتاعة الأيام دي، جاررها فرس عربي أصيل، والخدم والحشم والعبيد حواليه. وعنها ويخش في وسط الأمم دي، وهو بيزعق: اوعى يا جدع انت وهوه. - كان بيتكلم عربي؟ - أيوة أمال! هو بس اللي بيعرف عربي! - وسلمت عليه طبعا؟ - أقول لك الحق، ما جاليش قلب! - وهو ما كلمكش؟ - فضل يتحايل علي، ويقول لي قوم يا عم إبراهيم، عشان خاطري يا عم إبراهيم. أقوله أروح فين يا سيدنا توت. يقول قوم معايا، الرجالة بتوعي أهم. قلت له أنا راجل غلبان يا عم توت، ما أقدرش أسيب أكل عيشي. قال لي قوم ما لكش دعوة. أنت هاتنفخ في الزمارة وبس. الناس كلها تصحى من عز النوم. قلت له دا نايمين من زمان يا عم توت. قال لي أمة محمد بخير. قلت له يا عم توت، أنا باجري على ولايا، روح أنت لوحدك. - ضروري زعل منك.
فسرح ببصره قليلا كأنه يندم على فرصة فاتت ولن تعود، وعاد يقول: زعل بس؟ طيب دا وشه اللي زي البدر اتعكر وبقى لون الأرض. ركب عربيته وقال: سوقوا يا عبيد. والناس مشت وراه. الأرض دي مش سايعاهم. ما أقولكش بقى على التراب اللي طالع من تحت رجليهم. - وفضل مخاصمك كتير؟
فمال عم إبراهيم ليشعل شمعة أخرى بعد أن ذبلت الأولى وكادت أن تختنق: الحق لو واحد غيري وعمل معاه الفصل ده ما كانش كلمه طول عمره. - لو أنا منه ما أوركش وشي أبدا. - الراجل اللي يعرف ربنا ما تخافش عليه أبدا. ما فيش ليلة والثانية وألاقيلك اللي بيهزني في نص الليل. - توت عنخ؟ - أنا بصيت في وشه ما عرفتوش أصفر زي الليمون. وعينيه داخلة لجوه، ولا الأموات! متعفر، وهدومه مقطعة، وحالته تصعب على الكافر. قلت له مالك يا عم توت، كفى الله الشر. قال لي أنا مت خلاص يا عم إبراهيم. بصيت حواليه لا لقيت خدم ولا حشم. قلت الله! أنت جاي ماشي ولا إيه؟
قال: الكفرة يا عم إبراهيم! الكفرة أخذوا مني كل حاجة. ألاقيش عندك لقمة؟
وأنت عاوز الحق؟ أنا قلبي انقبض من الكلمة دي. سيدنا توت جعان، يا دي الكسوف يا ولاد. القصد، قعدته جنبي، ودورت على حاجة تنفع للأكل. لقيت لقمتين عيش بايتين من العشاء، وحتة جبنة قديمة. دخلت جيبت له القلة من جوه. الراجل أكل وشرب وحمد ربنا. أمال؟ أهل زمان كانوا باكيين على النعمة. بصيت في وشه لقيته متغير قوي، وعيني دي، اللي ما يملاها إلا التراب اتمدت وبصت على رجليه. تعرف وحق من خلق السما بلا عمد، لقيته حافي.
فهتفت بغير إرادة مني: توت عنخ آمون حافي؟ - زي ما بأقولك كده. ميلت عليه. ومديت إيدي حسست على ضهره. لقيته خاسس قوي. - لازم كان راجع من سكة سفر بعيدة.
فقال عم إبراهيم وقد سرته ملاحظتي: ابن حلال قلت إيه الغيبة الطويلة دي يا توت؟ قال لي: تعرف أنا كنت فين يا عم إبراهيم؟ قلت لنفسي هايروح فين يعني، والناس الطيبين دول حيروحوا فين، الناس اللي لا تعرف سيما ولا قهوة. قلت له: جاي من الجامع طبعا. لقيته اتنفض وقال لي: جامع إيه! أنا جاي من مصر.
أقولك الحق: أنا ما صدقتش واحد ييجي من مصر على رجليه مش معقول. ده حتى القطر بيقطعها في سبعتاشر ساعة. رجعت أقول دول ناس مباركين، وربنا فاتح قلوبهم على الإيمان، فسألته: ورحت فين في مصر؟ قال: والله يا عم إبراهيم أنا دخت! لفيت في كل مكان، رحت القلعة، والسيدة، والإمام، ما سيبتش حارة إلا لما لفيتها، حتى العزب والكفور اللي من هنا لمصر.
قلت له: والناس عرفتك يا توت؟ - ناس مين؟ هو أنا لقيت ناس؟ كلهم نايمين. - نايمين؟ يمكن طبيت هناك بالليل. - بأقولك نايمين، نايمين. قمت سألته وأنا قلبي بينقبض: وفضيلتك كنت عايز تصحيهم؟
قام اتأثر قوي وبان على وشه الزعل وقال لي: أنا كنت فاكر إن احنا بس اللي نايمين، أتاري الناس كلها نايمة، ورايحة في النوم، من زمان.
أعمل إيه؟ هزيت راسي وقتل له: صحيح من زمان.
رجع يقول: أنا كنت فاكر إن أمة فرعون هي اللي نايمة في التراب، أتاري الناس هنا كمان، متكفنين، ومتربطين في البيوت ، والشوارع والقهاوي، وفي الحكومة، كله نوم!
استعجبت وقلت له: صحيح يا توت، كله نوم يا رسول الله!
قال لي: أنا غلبت أنفخ في النفير، إن الناس تصحى؟ ما تصحاش. يا عالم اصحوا. لا إحنا مرتاحين كده. قال: تعرف إن بختنا أحسن منكم؟ قول ما عجبتنيش الكلمة دي. قلت له إزاي بأه يا سيدنا توت؟
قال لي: على الأقل احنا لقينا اللي يفتح قبورنا، ويرفع توابتنا، ويشيل الكفن عنا، لكن أنتم ...
أعمل إيه؟ قلت له: صحيح، إحنا لسه يا عم توت!
رجع يقول: الحقيقة، ما تبسطش من ده الحال. رجعت أعس وأدور، لقيت ناس غرب كتير، كل ما أبص في وش الواحد منهم أقول أستغفر الله العظيم، مش معقول يكونوا من بر مصر!
قلت له: يأجوج ومأجوج؟
قال لي: عليك نور! همه بعينهم.
قلت له: لكن دول كانوا زمان قوي يا عم توت.
قال لي: ما هو احنا ما عندناش زمان ودلوقتي. كل عدوين بر مصر لقيتهم قدامي، كده على بعض، قل أرجع لأهل بلدي أصحيهم، وعنها وأنفخ في النفير؛ توت، توت. اتلموا علي. - مين؟ المصريين؟!
لأ، اللي عنيه خضر، واللي وشه أصفر، واشي لابس برنيطة. - وقدرت عليهم لوحدك؟ - حاوطوني زي النمل، وقتلوا عساكري كلهم، وكسروا العربية وقطعوا هدومي. ولولا ستر ربنا كانوا خلصوا علي، وأديني أهه، زي ما أنت شايف.
فقال عم إبراهيم وهو يتحسس جبهته كأنما يستخرج منها تفاصيل حلم قديم غاب عنه: في الليلة دي عملت الواجب اللي علي، الراجل اتعشى واتبسط، وكان عطشان شرب، واتمدد جنبي نام، أنا صحيت الصبح، فأسرعت أقول. لقيته متمدد جنبك.
فقال عم إبراهيم: لأ، لقيت واحد من الأنفار بيقول لي: قوم، قوم. أنا افتكرته توت بيصحيني. قلت له: أقوم فين يا سيدنا توت؟ أنا راجل غلبان وعلى قد حالي. لقيت اللي بيلطشني على وشي ويقول لي: قوم شيل لك مقطفين! يومها اشتغلت زي عوايدي، شيلت كام كوم تراب كانوا حوالين السكة دي، وانتظرنا لما جه الخواجة، فقلت أذكره: كارتر؟
فقال ساخطا: أنا عارف بأه! أهي أساميهم كانت مالية الجرايد أيامها. فتحنا أودتين من اللي كانوا مقفولين، أصلي كنت بأقف على أيديهم، وما كانوش يدوا سرهم لحد غيري. سألني على الزمارة. قلت له: معايا يا حضرة الخواجة. قال لي: خدي بالك منها، اوعى تنفخي فيها. قلت آه يا ابن اللئيم، ليكون حد قال له إنني نفخت فيها، مكرت عليه أنا كمان، وقلت له: ويجرى إيه يا خواجة؟ قام ضحك قوي وقال: دي كله يصخى يا خبيبي، كل الميتين دي يصخى.
قول الحكاية فاتت على خير، وفي ليلتها قاعد على باب المقبرة، حاطط إيدي على خدي، والأنفار نايمة حوالي مقطوعين النفس، وبأجرب في البوق: فو! ولا يوم القيامة. أتلفت حوالي، وحمدت ربنا إن ما حدش صحي، نفرين تلاتة اتقلبوا شوية من تعبهم، وبعدها اتخمدوا ناموا. وأبص بعد شوية، وألاقيه جاي من بعيد. - توت عنخ؟! - هو بعينه، ماشي زي الخيال، هدومه مقطعة، ووشه معفر، ورجليه حافية، ورايح في ربع حاله. قلت له: ما تقعد يا توت. قال لي: لأ، قوم. قلت له: أنا لسه ما اتعشتش، قوم كل لك لقمة معايا! قال: والله ما ليش نفس. قلت: طيب اقعد اشرب شاي. قال: لأ قوم ندخل جوة. قلت له: جوة فين؟ قال: مطرح ما كنت نايم، في التابوت! قلت له: كده يا سيدنا توت؟ بقى بعد ما صحيت وشفت الدنيا ترضى بالنومة دي تاني؟ قول يا شيخ أنا اتأثرت قوي من الكلمة دي. ميل علي وحط إيده على كتفي، وقال لي مصيرها تتعدل. قلت له: إزاي؟ قال لي: يعدلها من لا يغفل ولا ينام! بكرة ييجي اللي يصحيني. قلت له: ييجي منين يا توت؟! قال لي: اطمئن، من بر مصر طبعا! وعنها مشيت معاه أوصله؛ أصل المقبرة تتوه، لغاية ما وصلنا للأودة بتاعته. الرجل من نفسه دخل التابوت، ومدد رجليه، ونام. قال لي: ما تغفلشي يا عم إبراهيم؛ علشان فيه واحد هايجيني يصحيني.
كانت الشمعة تخفق خفقاتها الأخيرة، فلا أكاد أتبين وجه صاحبي. وكان عم إبراهيم قد غاب عن نفسه قليلا، وطوقته فترة من الصمت انتبهت بعدها على صوته؛ يظهر أنه راح في سابع نومة، فهمس كأنه يفضي إلي بسر خطير: عمك توت نومه تقيل قوي!
فتشبثت بذراعه حتى لا أتعثر في حجر، وقلت: ربك قادر، يسلط عليه اللي يصحيه، ويصحي العالم ده كله.
قال وهو يقودني إلى خارج المقبرة: العالم الزلط؟!
فقلت: الفلاحين، والأفندية، والعسكر، والغلابة، وتبينت وجه العجوز المتهدم تطل منه عينان مفتوحتان لم تعرفا اليقظة أبدا.
وتنهد قائلا: هيه، الأمر أمره!
فقلت ضاحكا: يا أخي يعدلها سيدك.
وردد كالصدى: معاك حق، يعدلها من لا يغفل ولا ينام.
1951م
قيصر
أفسحوا الطريق لقيصر.
من هنا سيعبر موكبه.
عما قليل ستهل عليكم طلعته.
قيصر، يا ظل الله في الأرض.
أصوات الرعية تهمهم من بعيد.
والحاشية تحف بالعربة الإمبراطورية.
الموكب لا ريب قادم في الطريق. أنا إذن سأبصره بعيني هاتين، بل ربما استطعت أن أندس بين صفوف الجند العظام، وأن أهتف مع الهاتفين، وأمد يدي فألمس - أقول ألمس! - العربة الإمبراطورية المزينة بالورود، المتوجة بالذهب وبالفضة. ومن يدري؟ فلعلي أستطيع أن ألفته إلى وجودي، ولعلي أن تواتيني الشجاعة فأمد إليه يدي بشكواي. سيطرق قيصر العظيم برأسه، وربما ابتسم، وربما مال على أذني ليقول لي: «أنا لم أنسك قط. أنا لن أنساك في يوم من الأيام.» ولكن هل أستطيع حقا أن أنفذ من الستار العظيم الذي يطوقه بالرجال والسلاح؟ هل أستطيع حقا أن أعبر السياج الميتن الذي تصنعه الهيبة والجلال حول مجده الإمبراطوري؟!
وا فرحتي بين العالمين!
من كان يصدق أنني سأرى قيصر؟
هل يمكن أن يتحقق الحلم في لحظة واحدة؟
سيعبر الموكب بعد قليل.
يا إلهي! ماذا يحدث لو أن قلبي خانته الشجاعة؟ سترهبه الأبواق التي تزعق من حولي، ستخيفه مواكب الجنود التي تزحم المكان. سيتلفت حوله فيجد نفسه غريبا، مفقودا، عبر به الموكب، وانفضت الجموع، وخرس الضجيج.
جاري يصيح وحنجرته تكاد تنشق: الموكب في الطريق.
وامرأة عجوز تداعب حفيدها وتشير بيدها النحيلة قائلة: عما قليل يمر من أمامنا قيصر.
وطفلة تفتح عينيها وتهتف بصوتها اللطيف: أليست هذه هي العربة يا أبي؟!
لكنني لا أرى على مدى البصر شيئا.
ماذا يحدث لو لم يأت قيصر؟
اليأس لن يتسرب إلى نفسي، سوف أرى القيصر على أية حال، وسوف أهتف بملء صوتي: أنا رجل من شعبك الأمين يا مولاي! وسوف يضحك قيصر حتى يميل ظهره إلى الوراء، أما أنا فإني سأجري وراء الركب لألحق بعربة قيصر، وسوف يبعدني الحراس عن موكبه برفق، ومع ذلك لن أبعد حتى أعرفه بشكواي، وأبسط له حالي. سيقول لي في آخر الأمر: اذهب إلى دار الطعام والكساء، قل لهم لقد بعثني قيصر إليكم.
دار الطعام والكساء قريبة من هذا الشارع.
سأتوجه إليها بعد قليل، بعد أن أكون قد رأيت الموكب وحادثت قيصر.
سأتقدم في غير وجل ولا خوف لأقول للأمين على خزائن الطعام: هذا أنا يا سيدي. لا لن أقول له يا سيدي - ألسنا جميعا سواء! - أتعرف من أين أنا آت إليك؟ سيفتح الأمين فمه من الدهشة، ستتسع عيناه اتساعا كبيرا عندما أقول في صوت لا تخونه الثقة: لقد بعثني قيصر إليك! قال لي اذهب يا أحب رعيتي إلي، اذهب إلى الأمين ليفتح لك خزائني فكل منها ما تشاء، أشبع بطنك التي هدها الجوع، اكس جسدك الذي أكلته الرياح، وهصرته أمطار الشتاء. سوف لا يصدقني الأمين في أول الأمر، وسوف يزمجر غاضبا ويأمر أتباعه؛ أن اطردوا هذا الرجل من دار الطعام. لكنه لن يعرف في سطوة كبريائه أنني قد انتصرت عليه. نعم! لقد بلغته شكواي. وماذا بوسعي أن أفعل أكثر من هذا؟
أنا لن أيئس كما قلت؛ ففي يدي ورقة دفعت عليها رسم الضريبة، وسطرت عليها شكواي ونمقتها بالخط الجميل، وحشوتها بعبارات المدح والثناء على قيصر العظيم. كيف تصل ورقتي إلى يد قيصر؟ قد تأخذني الحيرة أو تذهب بلبي؛ فغير بعيد من هذا الحي سأجد قصر العدالة. حقا إنني لم أدخل أبوابه من قبل، غير أنني سأصعد سلالم المرمر، وأمضي إلى الردهة الكبرى. سوف يسألني الحجاب: ماذا تريد أيها الرجل؟ وسوف أرد عليهم في عزم ثابت: أريد أن ألتقي بقاضي القضاة. - إنه مشغول بإقرار العدل في البلاد. - ولكني أريد أن أسمعه شكواي. - وهل تستطيع أن تعرف الرجل الذي تشكو منه؟ - حسن أيها السادة؛ إنه قيصر!
سيعجب الحجاب من أمري، وسيمد أحدهم يديه ليطردني بعيدا عن قصر العدالة، ولكني سأقنعه أن قيصر هو الذي بعثني، وسوف أفلت من أيديهم لأجري في ردهات القصر باحثا عن قاعة المحاكمات. وسوف أضل في القصر، حتى أجدها. هناك أصرخ بملء صوتي: يا قاضي القضاة، يا قاضي القضاة، ألا تسمع شكواي؟ وسيرفع القاضي وجهه إلى الجريء الذي دنست قدماه قدس أقداس العدالة، وسيقول لي: ممن تشكو أيها الرجل؟ وسوف أقول بلا أدنى خوف: أنا أشكو قيصر أيها القاضي الجليل!
ماذا عسى أن يفعل القاضي؟ إما أن يعطف على شكواي، ويؤجر المحامين للدفاع عنها - فأنا رجل فقير لا أملك حق الدفاع عن نفسي - وإما أن يثور ساخطا: ضعوه بين المتهمين. أما أنا فلن أغضب أو أثور. يكفيني أنني أسمعت القاضي شكواي، وسواء علي أن أقف بين المظلومين أو بين المذنبين. ألم أوفق إلى دخول قصر العدالة في آخر الأمر؟!
أنا أنتظر موكب قيصر، سوف ينحني علي، ويقرب وجهه من أذني، ويقول لي: ستجدني في القصر غدا.
ها هو القصر بلغته بعد أن تمزقت قدماي، وغطى الغبار بشرتي، وها أنا ذا أتقدم من الحراس الأشداء. إنهم يظللون جدران القصر بهيبتهم، ويتسامقون عن جانبيه كالأشجار العتيقة المتكبرة. سوف لا أهاب شيئا. سوف أقول لهم: لقد بعثني الأمير إلى هذا القصر. سيضحك الحراس بلا مراء، وسيتخذون مني أضحوكة لهم، وربما هجم أحدهم فقبض علي بين ذراعيه كأنني دمية عاجزة، لكن هذا كله لن يخيفني، لن يضيرني أن أنتظر يوما أو يومين، أو أن أقف عند البوابة المرمرية شهرا أو شهرين.
فسوف أبعد عن القصر وفي نفسي أحسن الذكريات. ألست قد عرفت الطريق إليه؟ ألست قد ألفت الحراس ، وضاحكتهم، وحفظت ملامح وجوههم؟ ألم أفلح - إلى هذا كله - في أن أعطفهم على حالي، وأن أسرد عليهم حكايتي وتاريخي؟ ألست قد لمست يد الحارس؟ وأليست يد هذا الحارس ستلمس يد رئيسه الذي يفوقه قوة وبأسا وهذا الأخير، من ذا يشك في أنه سيسلم على كبير حراس قيصر؟ أما كبير الحراس فإنه يسلم على قيصر نفسه في كل يوم مرات، أفلا أكون بهذا قد لمست يد قيصر؟!
ربما وجدتهم في المرة التالية يقولون لي: تفضل، لقد أذن لك قيصر، وهو ينتظرك على مضض في الردهة الكبرى!
سأمضي في طريقي غير هياب. - هل تسمح لي أيها الحارس المبجل؟ - أراك رجلا من الشعب! - إني لكذلك يا سيدي. - إذن فقد أخطأت الطريق. - ولكن قيصر هو الذي بعث بنفسه إلي سيدي.
ويفطن هذا الحارس الغبي إلى خطئه حين يهرع إلى حارس آخر أعلى منه مرتبة ليقول لي: تفضل مكرما، نحن ننتظرك من سنين وسنين، ألست أنت ... (وهنا ينطق باسمي)؟ - نعم أنا هو يا سيدي. - ادخل، ادخل. إن قيصر العظيم مشتاق إلى رؤياك!
وأصعد سلالم الرخام الناصعة، حريصا حتى لا تنزلق قدمي. وأمر يدي لأنعمها بملمس الأعمدة الملساء، وأسير في معبر طويل لا تكاد نهايته أن ترى. وحين أبلغ قاعة فسيحة عليها حراس متدثرون بسترة زرقاء، تلمع فوق أكتافهم نجوم وأقمار ذهبية براقة، أسألهم: أنبئوا قيصر أن رجلا من شعبه الأمين قد جاء. - ولكن هذا مكان حاجب الوزير.
فأرد عليهم ساخطا: من قال لكم إنني أريد مقابلة الوزير؟ فيجيب علي أحدهم وهو يحاول أن يرضيني: أردنا أن نقول إنه وزير قيصر.
وأنصرف عنهم لأواصل سيري. عما قريب سأجد قيصر، وسأمثل بين يديه. كيف يصدق إخوتي وصحابي أنني مثلت بين يدي قيصر؟ من كان يظن أن هذا سيحدث لرجل مثلي. وأدور من قاعة إلى قاعة، مبهورا بالسحر الذي يتخايل أمام ناظري، في الثريات، والطنافس، والرسوم، والمرايا، والرياش، والتحف الغالية. ولكني سأمضي قدما حتى أجد قيصر، وسوف تشغلني عما أرى أفكاري التي تضطرب في خاطري، وخطابي المنمق الطويل الذي سألقيه بين يديه.
ويقفز أمامي رجل طويل غرق جسده في ثوب رمادي يبدو وكأنه قد خرج من بين الجدران، ليقول لي: أي شيطان جاء بك إلى هنا؟
فأقول له وشجاعتي لا تفارقني: لقد بعث قيصر إلي.
فيقول وهو يرفع حاجبيه من الدهشة: ولكن هذا الجناح مخصص لكبير وزراء قيصر.
فأسأله في صوت رزين: وأين إذن أجد قيصر؟ - اذهب إلى القاعة الكبرى، وهناك فلتسأل كبير التشريفات.
وأقلب الورقة التي كتبت فيها شكواي بين يدي، وحين أفرغ من قراءتها - للمرة الواحدة بعد المائة - يعاودني الأمل في لقاء قيصر، ولكني أصحو على أصوات تناديني من خلفي: أيها الرجل، أيها الرجل.
فألتفت لأجد جماعة من الحراس يتقدمون نحوي. وأجفل لرؤيتهم، وتطرف عيناي إذ تقع على ملابسهم المزركشة بالألوان الحمراء والزرقاء، ويقبض واحد منهم على ذراعي ليقول لي: إنا نبحث عنك منذ ساعات.
فأقول لهم: وأنا أيضا أبحث عن قيصر.
فيعتذر إلي حارس طويل القامة في أدب رقيق: لقد أخطأنا حين تركناك تدخل القصر.
فأتعلق بثيابهم وأنا أستنجد: ألست رجلا من الشعب! - نعم، ولكنه يريد رجلا آخر!
وأعود معهم أشق ردهات القصر، وأعبر دروبه، وأجوز قاعاته، وأتفرج على بدائعه وكنوزه. ويلاحظ الحراس أن رجلي أصابها الوهن، فأنا أعرج بهما. وإنني في حاجة إلى الراحة بعد جهد المسير.
أنا ما زلت في موقفي على إفريز هذا الشارع.
ها قد انقضت ساعات الظهيرة.
ولا بد لي من أن أرى قيصر.
سمعت أناسا يهتفون وتبح أصواتهم. بعضهم يقول إنه قد رأى الموكب وهو يعبر الحي القريب، ولكن عاقته الجماهير المتدافعة عن مسيره. والبعض الآخر يؤكد أنه قد سمع الأبواق على طول الطريق، وهي تؤذن بقدوم قيصر. وفريق ثالث يقسم الأيمان على أنه قد شاهد العربة الإمبراطورية وهي تتخطر في الطريق كالعروسة الجميلة في ليلة الزفاف. ثم يعتذر عن تقصيره في الوصف قائلا: إن أحكم حكمائنا وأعز شعرائنا لن يستطيع أن يصف لكم روعة الموكب الإمبراطوري. ونتحرق نحن شوقا إلى رؤية هذا الموكب. وقد يحلم بعضنا بالذهب يتناثر من يدي قيصر على جانبي الطريق، وقد يطمع الجياع منا في طعام هنيء يأمر به قيصر، والحفاة في أحذية جديدة يوصي بصنعها قيصر، والمظلومون في العدل الذي يأمر به قيصر.
لكن الشمس تغرب، والشفق يصبغ بحمرته الدامية وجوهنا الشاحبة كشحوب أنواره.
والأصوات التي كنا نخال أنها تصم آذاننا أصبحت موجات من الصدى تنغمها الريح في الفضاء.
وفريق منا أضناهم التعب، فانصرفوا إلى بيوتهم وهم يعدون أنفسهم برؤيته في زمن قريب.
أما أنا فأقلب بين يدي الورقة التي كتبت فيها شكواي، ودفعت عليها رسم الضريبة، وأقول في نفسي أفلا يصدق الحلم فأجثوا أمام قيصر، وأقبل قدميه وأبكي؟
يا ظل الله في الأرض!
لم لم يعبر بي موكبك؟
يا سيد البحار والأراضي!
أنا أنتظر موكبك!
ألن يأتي هذا اليوم في عمري أبدا؟
أنا لن أذهب إلى بيتي كما فعل غيري. فسوف أنتظر، وأنتظر، إلى صباح الغد، وبعد الغد، وأيام المستقبل كله.
على هذا الجانب من الطريق سأسمر رجلي الضعيفتين حتى أسمع الأبواق تنفخ من بعيد، والرعية الأمينة تهتف، والعربة التي تجرها الجياد المطهمة تسير أمامي. عندئذ سأمرق بين الزحام، وأشق السياج المتين الذي يطوق قيصر، وأقف بين يديه، وألقي عليه بشكواي. حقا إن شكواي طويلة مستفيضة، ولكن قيصر لن يسأم منها، سيأمر بوقف الموكب ليراني، سيوصي بإخماد كل الأصوات ليسمع صوتي. وبعد أن أفرغ من شكواي التي ستستغرق أياما وأياما سيميل على أذني، ويسر إلي بهذا السؤال: من أنت أيها الرجل المسكين؟ فأرفع إليه عينين تملؤهما الدموع وأقول: أنا رجل من شعبك الأمين يا مولاي. فيميل على أذني للمرة الأخيرة ليقول لي في حنان عظيم: يا أقرب الناس من قلبي.
انتظر حتى أراك في موكبي التالي.
ولكن متى يمر الموكب؟ ومن أين؟ من الشارع الآخر؟
لا! في مدينة أخرى؟ لا! في عالم آخر؟
أحقا أنني لن أراه أبدا؟!
1954م
مذكرات يمليخا
هل أروي لكم ما حدث لي في ذلك اليوم؟
لست أدري إن كانت ستهمكم حياتي القصيرة، التي قالوا لي فيما بعد لفرط دهشتي إنها أطول من حياة خمسة رجال يموتون على أحسن الفروض بعد سن الستين؛ فقد تعودت خلالها ألا يهتم بي أحد، اللهم إلا غنمي القليلة وكلبي العزيز قطمير، هذا إذا تكرمتم علي واعترفتم بأن نظراتهم الودودة يمكن أن تعد نوعا من الاهتمام. أنا على أية حال سوف أحكي لكم ما جرى لي في ذلك اليوم، أو سيحكيه لكم إنسان مجهول لا أعرفه على لساني، وكل ما أطمع فيه هو القليل من وقتكم، وإن شئتم أيضا من صبركم وتسامحكم.
في ذلك اليوم صحوت كعادتي في كل صباح، فأحسست أن عظام ظهري وجنبي تؤلمني أكثر من أي يوم مضى. لم أكترث لذلك كثيرا، بل لم أحاول أن أفتح عيني؛ لأنني كنت أعلم سلفا أنهما لن تريا شيئا في ظلام الكهف الذي اعتدت أن آوي إليه كلما جن الليل. وعندما تحسست وجهي بكفي - من قبيل الاطمئنان لا غير - لاحظت أن شعر ذقني قد طال أكثر من اللازم، وأنني في حاجة إلى أن أذهب إلى الحلاق في أقرب وقت، وإن كنت أحسب حساب زيارته لما تكلفني من مال لا طاقة لي به، ومن صبر على الجلوس أمامه كأنني قرد مسلسل بالقيود، وثرثرته التي لا تنتهي في كل شيء لا تعنيني، وكل شيء كان في ذلك الحين لا يعنيني.
المهم أنني كنت قد صحوت من نومي - وهذه نعمة من الآلهة أن يصحو الإنسان كل صباح ويتمكن من تحريك عضلاته بغير مشقة - ومددت يدي على الفور في جيبي لأطمئن إلى وجود الورقة المالية التي أعطاها لي زميلاي الجديدان في الكهف - سأحدثكم عنهما بعد قليل فأرجوكم أن تصبروا - كانت السماء تمطر في الخارج فلم أستبشر كثيرا لذلك؛ إذ كنت أعلم أن سقوط المطر معناه أن غنمي التي ربطتها كما أفعل كل ليلة قبل أن آوي إلى الكهف قد ابتلت، وأن بعضها لا شك قد أصابه البرد والسعال، ولكنني لم أجد الغنم في مكانها الذي تركتها فيه، ورحت أبحث عنها في كل مكان، ودرت حول الكهف أكثر من مرة، وجريت إلى المراعي المجاورة، ولكنني لم أعثر لها على أثر، بل لم أجد حتى آثار أقدامها على الأرض. حزنت بالطبع لفقد غنمي، وهي كل ما أملك من متاع الدنيا، وعزوت ذلك إلى كثرة قطاع الطرق الذين كان عددهم يزداد في مدينتنا أفسوس، خصوصا بعد المجاعة التي كانت قد انتشرت فيها، والفوضى التي كانت قد جعلت الواحد منا لا يطمئن على نفسه أن يخطفوه في عز النهار. المهم أنني حاولت أن أعزي نفسي وأقول لها إنني ربما وجدتها ترعى عند جار لي، أو ربما عوضتني عنها السماء بقطيع آخر أو حتى بالنسيان. وساعدني على ذلك أنني التفت ورائي فوجدت كلبي قطمير يرفع رأسه إلي في حنان عظيم بما يرجع لشدة جوعه، ويهز ذيله ويجري نحوي فيتشمم رجلي ويعلقهما بطرف لسانه ويجري أمامي (ولا بد لي أن أقول هنا إنه كان يبذل مجهودا كبيرا ليقنعني بأنه ما زال قادرا على الجري، حتى ظننت أن عظام ظهره أيضا تؤلمه كما تؤلمني).
لم أكد أسير خطوات في طريقي إلى السوق لأشتري طعاما لي ولصاحبي المترفين في الكهف عددا من الأرغفة، وشيئا من الجبن والخضر، والفاكهة إن بقي من الورقة المالية شيء، حتى لاحظت أن فارسا مهيبا كان يمر بي يقع بجواده فجأة، ويدير رأسه نحوي، ويفتح عينيه دهشة، ويصرخ مفزوعا ثم يطلق لجواده العنان. أقول لكم الحق إنني تعجبت بيني وبين نفسي لمسلكه، وإن كنت قد حمدت السماء أنه لم يكلمني، ولم يكتشف في مشيتي شيئا يؤاخذني عليه؛ فقد كنت دائما سيئ الظن بالفرسان أتجنب طريقهم، وأتلافى التحدث معهم، وأتقي غضبهم المفاجئ وسيوفهم اللامعة وأقدامهم التي تتلذذ دائما بركل الرعاة من أمثالنا. وهززت رأسي تعجبا وسرورا وأنا أتابع سحابة الغبار التي تثيرها حوافر الجواد الأصيل وهو ينهب الأرض نهبا. ومضيت في طريقي أحاول أن أتقي المطر بوضع طرف ردائي على رأسي، والدندنة بلحن كنت أستعذب غناءه خصوصا؛ إذ عرفتم أنني أنا الذي ألفت أنغامه وكلماته التي لا شك أنها كانت سخيفة وعبيطة ككل شيء كنت أفعله. وتذكرت زميلي تلك الليلة في الكهف. كنت قد قابلتهما في اليوم السابق بينما كنت أحاول أن أجمع غنمي المشتتة قبل أن تغرب الشمس. كانا يسيران، لا، بل يجريان في خوف وكأن هناك أحدا يتربص بهما، وكان منظرهما يوحي بأنهما يبحثان عن ملجأ يسترهما، وكانت ملابسهما تنطق بأنهما قائدان عظيمان، أو حارسان من حراس قصر الملك، أو وزيران من وزرائه كما علمت فيما بعد. اقتربا مني وقال أحدهما، وكان نحيلا طويلا واسع العينين سمح الوجه، عصبيا يتحسس وجهه بيديه، ويتلفت وراءه مذعورا في كل لحظة: أيها الراعي الصالح (لم أدر لأي سبب وصفاني بالصلاح مع أن الجميع، وأنا أولهم، كانوا يشهدون لي بالعبط)، هل تعرف مكانا نأوي إليه؟ قلت وأنا ما زلت أنادي على غنمي وأداري خوفي منهما: ليس في هذه الحقول مكان يليق بكما أيها القائدان العظيمان. قال الرجل الآخر الذي كان يبدو أكبر من صاحبه سنا، كما كان أقصر قواما وأميل إلى السمنة والاعتدال في حركاته وكلماته: أي مكان في الأرض يرضينا أيها الراعي الصالح، ما دامت كلها أرض الله، المهم أن يسترنا عن عدو الله. قلت في غباء شديد لم يكونا يعرفانه بعد عني: وما دام هو عدو الله فما شأنكما به؟ لاحظت ابتسامة متسامحة على وجوههما، وقال الرجل الطويل النحيل في وقار لم أكن أتصور أنه يمكن أن يصدر عنه: إن عدو الله هو عدونا أيضا، فنحن الاثنان نؤمن بالله أيها الراعي الصالح، وسوف تؤمن أنت أيضا به إذا عرفته، ولكن عدو الله وعدونا دقيانوس (وهنا تذكرت أنني سمعت هذا الاسم من قبل) يريد أن يمسك بنا وينتقم منا. وتدخل الرجل السمين المتوسط القامة، فقال في صوت متزن: وأن يفعل بنا مثل ما فعله بإخواننا من الشهداء الصالحين. تساءلت وأنا نفسي مندهش من جهلي: وماذا فعل بهم؟ فأجابا في صوت واحد غاضب حتى خشيت أن أكون قد ارتكبت ما يوجب الموت علي: ألم تدر بعد بما فعله؟ لقد ذبح المؤمنين، وقطع أجسادهم، وعلقها على أعمدة عالية حول سور المدينة، ألم تسمع بذلك ؟
قلت كاذبا لأنجو من عيونهما المدهوشة التي تكاد تفتك بي: «طبعا علمت، ولكنني لم أكن أعلم أنكما من أعدائه.» ثم أضفت لكي أنهي الحديث الذي لن أستطيع المساهمة فيه: على كل حال أنا أبيت في هذا الكهف (وهنا أشرت إليه كأنني أعتذر)، إن شئتما أقمتما فيه الليلة معي. وأردت أن أكمل اعتذاري لهما، ولكنهما سارعا إلى الدخول وهما يهتفان في سعادة الأطفال: جازاك الله خيرا أيها الراعي الصالح! لتحل عليك بركة السماء. ثم تمتما بكلام غريب وهما يجريان نحو الكهف ويتلفتان حولهما؛ مما جعلني أطمئن إلى أنني لست العبيط الوحيد في هذه الدنيا، كما كنت دائما أقول لنفسي.
وعندما دخلت من باب الكهف، بعد أن ربطت غنمي وجمعت لها ما يكفي عشان الليلة، سمعتهما يتكلمان، توقفا عن الكلام فجأة وساد عليهما الصمت والظلام والعنكبوت الذي يسود عادة في الكهوف، وانزويت وحدي في ركني المعهود، وبسط قطمير ذراعيه أمامي، وخيل إلي أنني سمعت شخيرهم هم الثلاثة قبل أن أغفو تماما.
لا أطيل عليكم؛ فقد وصلت إلى السوق الذي حدثتكم في أول هذه المذكرات أنني كنت في طريقي إليه لشراء الحاجيات التي كلفوني بشرائها. لم يسترع انتباهي شيء غير مألوف؛ فذلك كان طريقي المعتاد كل يوم تقريبا، من الكهف إلى السوق لأرى الناس وأشتري منهم، أو أبادلهم بغنمي أو لبني أو صوف مغزلي، لقمة أو كسوة أو ذكرى أعود بها إلى كهفي في حضن جبل بنجلوس. كانت أشجار الجميز الضخمة وفروع الكافور العالية تتمايل على جانبي الطريق الجبلي المترب، وأحدثها وتحدثني؛ فأنا راع قديم أفهم لغة الأشجار، وأتبادل الغناء مع العصافير، وأتفاهم مع الأنجم الوحيدة، وأحيي أشعة الشمس التي تقبلها وتغسل عن خصلات شعرها تعب الليل. قلت إنني لم أجد شيئا غير مألوف فيما رأيت، هذا إذا استثنيتم حادث الفارس الشجاع الذي عبر بي وولى مذعورا عندما رآني؛ إذ استطعت بعد أن استنشقت بعض نسمات منعشة أن أسامحه، بل وضحكت أيضا وعجبت؛ لأن هناك مخلوقا يمكنه أن يرتاع لمجرد رؤيته لي. أقول هذا لأمهد للحادثة التي جرت لي بعد ذلك؛ الحادثة الوحيدة في حياتي القصيرة الطويلة، والتي جعلتني أصرخ وأبكي، نعم أبكي، ربما لأول مرة، أنا الذي ما عرفت شيئا في حياتي مثل الكتمان، والبعد عن كل ما تفوح منه رائحة المأساة.
فلم أكد أدخل السوق حتى بدأ الناس يتهامسون، ويضعون أيديهم على أفواههم، أو على عيونهم، ويفرون من أمامي، ثم لا يقاومون الرغبة في الالتفات إلي بأعين مدهوشة مذعورة. لا أريد أن أبالغ في هذا؛ فأنتم تعرفون أن كل همي في حياتي كان دائما ألا يهتم بي أحد؛ ولذلك فلا تتصورون مدى ضيقي وذهولي ورغبتي في أن أصفعهم جميعا وأستريح. وقد زاد ذهولي عندما اقتربت من دكان صديقي القديم أندرايوس لأشتري حاجتي وأعود بأسرع ما أستطيع، فوجدت الدكان ليس هو الدكان، ولا أندرايوس هو أندرايوس، لا، بل لعنت غبائي وغفلتي حين تلفت حولي فوجدت كل شيء يختلف عن كل شيء تعودته؛ الوجوه غير الوجوه، الأزياء غير الأزياء، البيوت غير البيوت، ولا بد أيضا أن سكانها غير سكانها، حتى وجوه القطط والكلاب كانت تبدو لي جديدة وغريبة ودائمة التساؤل والتطلع إلي. لا أخفي عنكم أنني بدأت أتشكك في كل شيء، بل وتمنيت لو أعطاني أحد في تلك اللحظة مرآة أرى فيها وجهي لأعرف أنه هو وجه يمليخا، وأن عينيه وملامحه وابتسامته هي هي لم تتغير. إنني على كل حال لم أنزعج أكثر من اللازم، بل تماسكت وخطوت بين الوجوه الذاهلة والشفاه المرتعشة والأيدي المشيرة إلي؛ صوب الدكان الذي تصورت أنني زبونه القديم، ومددت يدي في جيبي فأخرجت الورقة المالية التي أعطاها لي القائدان العظيمان، وقلت في أدب مبالغ فيه كان يحس الناس منه دائما أنه دليل الخوف والاعتذار أكثر من أن يكون تعبيرا عن الاحترام: هل تتكرم يا سيدي وتعطيني ثلاثة أرغفة ورطلا من الجبن وآخر من البرتقال؟ ويظهر أن الرجل لم يفهم كلامي، أو لم يتصور أن مثلي يمكن أن يخرج منه كلام يفهم. «بحلق» في وجهي، ثم عاد «يبحلق» في الورقة المالية (كأنما يبحث عبثا عن وجه التشابه بينهما)، وارتعشت عضلات وجهه، واختلجت حاجباه، ورفع يديه مذهولا ثم جرى من الدكان وهو يصيح بالناس والورقة المالية بين يديه: كنز! كنز! هذا الرجل عنده كنز!
وأقبل الناس من كل مكان (وكان بعضهم في الحقيقة في غير حاجة إلى صياح البائع لأنه كان «يبحلق» في منذ مدة طويلة). وأحسست أنني لا بد شيء يستحق كل هذا الاهتمام الذي لم أحظ به من قبل. وحاصرني الناس من كل ناحية حتى اختنقت أنفاسي، وكدت أغرق في بحر العرق الكريه الذي يتصبب منهم، والأسئلة الغاضبة المستطلعة الخائفة التي أحاطوني بها. ولا أكذب عليكم فأقول إن أفكارا كثيرة خطرت لي في هذه اللحظة؛ فالحقيقة أنني لم أفكر في شيء، ولا كانت عندي القدرة على أن أتصور أنني موجود، فما بالكم بأن أفكر؟ المهم أن صوتا طيبا أنقذني من هذا الشلل - حين تبينت مصدره عرفت أنه يأتي عن شيخ عجوز ذكرتني لحيته الطويلة بأنني أنا أيضا لي لحية طويلة استحقت يد الحلاق منذ مدة طويلة - قال لي الصوت بعد أن وقف صاحبه أمامي بين رهبة الحاضرين وإجلالهم: من أنت أيها الغريب؟
قلت في أدب عظيم لا يخفي شكري على إنقاذي من هذه الورطة: أنا يمليخا يا سيدي.
فعاد الصوت يسأل في حنان كبير: يمليخا من؟
فقلت في سخط من يسأل عن شيء يحسب أنه بديهي: يمليخا الراعي يا أبي، يمليخا الراعي.
وكدت أنصحه بأن يسأل وسوف يعرفني لولا أنني لاحظت العيون الجامدة من حولي، وجاءني صوته قائلا: من أبوك وأمك؟
فصحت ثائرا: ما جدوى هذه الأسئلة كلها؟ لقد ماتا كما يعلم الجميع وأنا طفل، ماتا على عهد ...
وقاطعني في حب عظيم وكأنه عثر على السر: على عهد من؟
فقلت وكأنني أباهي بانتصاري: على عهد دقيانوس طبعا.
فقال وردد صوته بعض الحاضرين: لكن دقيانوس قد هلك، هلك منذ قرون عديدة، وهلكت بعده أجيال وأجيال.
أردت أن أسخر من عبطه وأنصحه بأن يخفي جنونه الذي افتضح أمام الناس جميعا ، لولا أنني رأيته فجأة يجثو أمامي ويقبل طرف ردائي الخشن، بل ويمد شفتيه ليقبل قدمي، ويقول وهو يكاد يبكي: أيها القديس! شرفت بلادنا أيها القديس! (ثم وهو يرفع رأسه ويتطلع إلى وجوه الحاضرين) لقد قلت لكم دائما إنهم سيعودون. قلت لكم إن القديسين الثلاثة الذين ناموا في الكهف واختفت أخبارهم سوف يعودون.
هلل الجميع وكبروا وأنا أتعجب كيف يصبح الجنون شيئا عاما في هذه المدينة العجيبة، ولم أفق من حيرتي إلا وقد أخذوا ردائي وطوقوه في عنقي وقادوني - وهم يتمسحون بي ويتحسسون جسدي - في سكك المدينة. ولم ينسوا أن يقودوا معي كلبي العزيز قطمير الذي كان يعوي من الدهشة، ويحاول مذعورا أن يفر من الكلاب التي راحت تحيط به وتتشممه كأنها لم تر كلبا على صورته.
وطبيعي «أنهم سألوني عن مكان صاحبي»، فدللتهم على الكهف الذي كانا ينتظرانني فيه. ولا بد أن جموعهم قد ذهبت إليهما، وساقتهما في موكب كبير عبر شوارع المدينة التي عبر بها موكبي؛ إذ لم نكد نصل إلى قصر الملك - كما أخبروني فيما بعد - حتى رأيتهما قد سبقاني إليه. كان الملك معهما في شرفة القصر المطلة على ساحة عظيمة مزدحمة بالجماهير، تحيط به جموع من الرهبان والحراس والوزراء. وسوف تعجبون إذا قلت لكم إنه لم يكد يراني حتى نزل بنفسه من شرفة القصر، ولم يكتف بتحيتي، بل عانقني وركع أمامي؛ أنا يمليخا، الراعي المسكين الذي لم يكن يهتم به أحد، ولا كان يحلم في يوم من الأيام بأن يتعطف الملك وينظر إليه نظرة واحدة.
لا أريد أن أطيل عليكم؛ فقد أخذت من وقتكم بالفعل أكثر مما كنت أطمع فيه. ولا أريد أن أرهقكم بسرد كل ما حدث لنا قبل أن نعود إلى الكهف من جديد، على أثر صرخاتي التي دوت في أرجاء القصر، وجعلتني أنا نفسي أندهش من أن تصدر عني: أنا يمليخا العبيط الذي كانت لا تفارق الابتسامة شفتيه.
قضيت الساعات القليلة التي أمضيناها في القصر أفكر في حالي، ربما لأول مرة يتاح ليمليخا أن يفكر في حاله. إما أن هؤلاء الناس جميعا عقلاء وأنا وحدي المجنون، وإما أنهم جميعا مجانين وأنا وحدي العاقل. كل شيء يؤكد لي، كما قالوا، أنني شبح - ولكن متى خالجني الشك في هذا؟! - خرج بعد نومة استغرقت ثلاثمائة عام.
لم أحك لكم شيئا عن حياتي قبل أن أرقد هذه الرقدة المميتة التي أرادوا أن يقنعوني بها - لا عن نفسي ولا عن أبوي، اعتمادا على أنكم ستدركون بأنفسكم أنني حتى لو أردت فلن أجد ما أحكيه عن نفسي ولا عن أبوي اللذين كانا قد ماتا من زمن بعيد - حتى قبورهما لم أكن أعرف مكانها؛ مما كان يجعلني أشك في بعض الأحيان إن كان لي أب وأم وتاريخ مثل بقية الناس. كنت أعيش مهملا من كل شيء ومن كل إنسان - اللهم إلا إذا استثنيتم، كما قلت من قبل، غنمي وكلبي العزيز قطمير - وكنت قد دربت نفسي على السعادة بهذا الإهمال، أؤدي عمل اليوم، وأتجول في السوق، وأغني لغنمي، وأداعب كلبي، وأتكلم مع الأشجار والعصافير والنجوم، حتى كان يوم وأنا أتجول كعادتي في السوق - أرجوكم ألا تعدوا ذلك حادثة؛ فلم يمر بي شيء يرتفع إلى مستوى الأحداث - ورأيت موكبا من الفرسان والحراس والعبيد يسيرون أمام عربة فخمة لم تر مثلها عيناي. أنتم بالطبع تتصورون أنني وقفت على جانب الطريق مثل بقية الناس، أتطلع في شوق غامض إلى داخل العربة. هل أقول لكم إن قلبي انتفض كالعصفور المذبوح حين وقعت عيناي على وجه لم أر أجمل منه في يوم من الأيام؟ إن هذه حادثة مكررة - الشحاذ الذي يقف على جانب الطريق ويحلم بأن الأميرة أحبته من أول نظرة - ولكنني أرجوكم ألا تقسوا علي، وأن تصدقوني إن قلت لكم إنني أنا أيضا قد حدث لي ما حدث للشحاذ المسكين؛ فقد وقعت عيناي على الوجه الجميل كما قلت، وخيل إلي في لحظة من لحظات الجنون أو السعادة المفاجئة أن عينيها أيضا التقتا بعيني، وأنها - أرجوكم ألا تضحكوا مني؛ فأنا كما تعلمون شبح لا مكان له في عالمكم، سيعود إلى كهفه المعتم الأمين بعد قليل - أيضا قد بادلتني حبا بحب، في لحظة خاطفة، سعيدة ومخيفة وباهرة كضوء البرق. ولم أفق من هذا الحلم الجميل إلا على صفعة قوية على قفاي، لاحظت أنها أضحكت الأميرة الفاتنة، فضحكت أنا أيضا وغفرت لصاحبها قسوته، خصوصا إذا عرفتم أنني التفت فوجدته حارسا أسود ضخما غليظ الكفين، من الحكمة دائما أن يتجنب الإنسان طريقه، ولا يوقظ غضبة سياطه. هذه الحادثة - إن شاء كرمكم أن تسموها كذلك - هي التي جعلتني أرضى عن وجودي، بل وأشكر الآلهة التي ساقت قدمي إلى السوق في ذلك اليوم، وأنعمت علي بتلك النظرة السماوية، كما رزقتني بتلك الصفعة التي لا أشك في أنني أستحقها. من ذلك اليوم، أو قولوا من تلك اللحظة، وأنا أكلم الأشجار والعصافير والنجوم كما قلت لكم للأسف أكثر من مرة، من تلك اللحظة وأنا أحلم وأغني لنفسي ولا أنتظر شيئا.
هل استطردت كثيرا بغير داع؟ أسألكم للمرة الأخيرة أن تعفوا عني؛ فربما دفعني إلى ذلك أنني أردت على الرغم من كل شيء ألا تخلو حياتي من حادثة واحدة أرويها لكم، من ذكرى واحدة يمكن من أجلها أن تسمى هذه الحياة نفسها حياة، ولكن هأنا قد فشلت أيضا في هذا، ولا شك أنني قد استحققت سخطكم؛ مما يجعلني ألتمس منكم العفو من جديد.
صدقوني إذا قلت لكم إن بكائي ذلك اليوم كان شيئا غريبا علي، شيئا دهشت أنا نفسي له، أن يمليخا الذي لم تفارق الابتسامة يوما شفتيه، هل قلت بكائي، لا لم يكن بكاء. كان عويلا، نباحا، نشيجا مفجوعا يشق صدرا مفجوعا، آهات لم تخرج بعد من شفتي إنسان، وقد لا تسمعونها أبدا من إنسان. وما بالكم برجل نام في عالم لم يمت إليه بسبب، ثم صحا بعد ثلاثة قرون ليرى نفس العالم الذي لا يمت إليه بسبب؟ ألا تجدون العذر لصاحبه، الذي لا يكره شيئا كما يكره المبالغة وادعاء المأساة إذا قال لكم إنه بكى، لا، بل صرخ، لا، بل نبح وأعول كوحش يذبح ويسلخ ويداس على جثته بالأقدام؟ وهل ستفهمونني أو تغفرون لي إن قلت لكم إن بكائي المتقطع المخنوق هو في نهاية الأمر كل ما فعلته في حياتي، حتى إن الأجيال لن تجد ما تقوله بعد ذلك عني - إن ذكرتني أو قالت شيئا - سوى أنني بكيت؟
معذرة. أنا أقول لكم مرة أخرى إنني لا أود أن أطيل عليكم، لكنني قد أطلت وربما أمللت، فما العمل يا ترى؟ لا شك أنكم تطلبون مني الآن أن أدخل مباشرة في الموضوع، وأن أروي لكم سبب بكائي.
كنت أتجول في حديقة القصر وحدي بعد الظهيرة؛ فرارا من عيون الناس وثرثرة الرهبان ومحاولات النساء والأطفال أن يتبركوا بي، أقول هذا وإن كنت أجد نفسي مضطرا لوضع الأمور في مكانها الصحيح، وأن أعترف لكم بأن اهتمام الناس والرهبان ... إلخ بي كان أقل بكثير من اهتمامهم بالقائدين العظيمين ميشلينا ومرنوش، بل أرجوكم ألا تظنوا بي المغالاة إن قلت لكم إنهم أهملوني، ولولا المصادفة التي جعلتني أرافقهما في الكهف ثلاثمائة عام لنسوني كل النسيان. المهم أنني كنت أتجول ساعة الغروب في حديقة القصر حين رأيت مرنوش (وقد سمح لي ذلك الاكتشاف الذي حدثوني عنه، وأعني به أننا نمنا معا ثلاثة قرون في كهف واحد، أن أرفع الكلفة بيني وبينه، وأن أناديه باسمه مجردا من الألقاب الجديرة به) يدخل من باب القصر مفزوعا شاحب الوجه زائغ العينين. لم أكد أسأله عما يشغله حتى وجدته يجري نحوي، ويعانقني، ويلقي برأسه على كتفي، وينهنه قائلا: ماتوا يا يمليخا، كلهم ماتوا. سألته محاولا أن أعيده إلى العقل: من هم يا مرنوش؟ قال ونشيجه يزداد وصدره يرتفع وينخفض فوق صدري: ابني الوحيد يا يمليخا، ابني الوحيد وزوجتي. كل ما كان لي في هذا العالم انتهى. قلت في برود لا شك أنه كان قاسيا وإن كنت قد تعمدته لأوقظه مرة واحدة: وهل كنت تنتظر أن يظلوا أحياء بعد ثلاثمائة سنة يا مرنوش؟ فرفع وجهه إلي، ورأيت عينيه الباكيتين المحمرتين بلون الدم وصرخ: يا لها من كلمة يا يمليخا! أنت أيضا تقولها مثلهم! أيها الراعي الصالح، لم يبق لي شيء في هذا العالم. ابني الوحيد مات، زوجتي ماتت. قلت في صوت تعمدت أن يكون غليظا وقاطعا: بالطبع يا مرنوش. لم يبق لنا شيء في هذا العالم. أنا نفسي كنت أعرف هذا قبل أن يقولوه لنا. رفع رأسه من على كتفي ووقف أمامي مذعورا وهو يهتف: كنت تعرفه؟ كنت تعرف أن ابني الوحيد مات ولم تقل لي. تركتني أتعرض لسخرية الناس في الشوارع. يا لك من فظ متحجر! قلت في استخفاف: لا تنس أيها القديس أنك تخاطب قديسا مثلك! فعاد يصرخ: لم يبق لي شيء في هذا العالم. ابني الوحيد مات. أين ميشلينا؟ وجرى يقفز سلالم القصر وأنا في أثره. ودخلنا ردهة بعد ردهة والحراس ينحنون كلما مررنا بهم، وإن لم يخفوا دهشتهم من أن يجري أمثالنا من القديسين على هذا النحو. وحين وصلنا إلى بهو الأعمدة، والوقت ليل والمكان مضيء وجدناهما. وجدنا ميشلينا الذي حلق شعره وذقنه واستحم، ولبس ملابس جديدة، وبدا بثيابه الزاهية وجسده الممتلئ كأنه عريس في ليلة الزفاف، وهي أمامه، هي بعينها الأميرة التي كنت قد رأيتها جالسة في عربتها التي تجرها الجياد ويسير حولها العبيد والحراس، هي بعينيها اللتين نظرت بهما إلي ففرحت وشعرت بذلك الشيء الذي لمع كالبرق في قلبي لحظة واحدة، هي التي صفعني الحارس الغليظ (أين هو الآن؟) على قفاي بسببها فضحكت. يا لها من ضحكة فاتنة لم تزل ترن في أذني وتنسيني اللطمة الخشنة. كان ميشلينا هو الآخر يصرخ ويناجي ويبوح ويكتم ويشرح ويثور ويتذكر ويذكر ويضحك ويبكي في نفس واحد. لم أكن في حاجة لأن أعرف أنه هو أيضا قد أحبها - أو بالأحرى أحب جدة جدتها التي تشبهها كما تعلمون - وأحبته، ووعدها ووعدته، وأخلص لها وأخصلت له. لم أكن كذلك في حاجة لأن أعرف أن قلبي (لم أصر على أن يثبت وجوده في تلك اللحظة؟) قد انتفض في صدري تماما كما انتفض في ذلك اليوم الذي حكيت لكم عنه. هب مذعورا من رقدة ثلاثمائة عام، ثار وصرخ وأعلن سخطه، لا لأنه اكتشف أن ميشلينا كان يحبها؛ فقد كان يعرف أنه بفخامته وجماله ومنصبه أولى بها منه، ولا يأس لأنه فشل في الوصول إليها وامتلاك حبها؛ فلم يكن قد تعب شيئا في سبيل ذلك الحب، ولا فكر في أن يبذل أية شيء في سبيله، وإنما كان شيئا كخيبة الأم؛ نوعا غريبا منها لا يدري كيف يصفه أو يفسره. عند ذلك صرخ، لنكن أكثر قربا من الواقع فنقول صرخت: أنا يمليخا، الراعي المسكين الذي يسمونه الآن بالقديس ويضايقونه بالتبركات، الذي لم تفارق الابتسامة شفتيه. لم يكن لي الحق بالطبع في أن أنبهه إلى أنني أحببتها قبله، أو حتى معه في وقت واحد، ولم يكن من المعقول أيضا أن تتذكر هي شيئا من ذلك الحب، وهل يتذكر الإنسان نظرة عابرة لمست عينه في لحظة عابرة؟ ثم إنها لم تكن هي نفسها الأميرة الجميلة التي نظرت إلي في ذلك اليوم من أيام عمري البعيد منذ مئات السنين، بل حفيدة حفيدتها، وإن لم يخف علي بالطبع أنها كانت صورة حقيقية منها، لها نفس عينيها ووجهها وشعرها الفاحم الطويل وقامتها الشامخة النبيلة. أقول إنني كنت أعرف هذا كله ومع ذلك بكيت. هل أقول: بكيت. لا، بل صرخت، نشجت، نبحت وأعولت وعويت، وأخرجت من صدري كل عذاب الخليقة وهي تذبح، وتقتل، وتسلخ، وتجلد، وتداس بالأقدام. ليس مهما بعد ذلك ماذا قلت. ربما قلت إن هذا العالم ليس عالمنا، ربما قلت إنه ينكرنا، كل شيء فيه ينكرنا. ربما قلت أيضا إننا لا بد أن نعود إلى الكهف - مع أنني كنت أعلم أننا لا بد عائدون؛ لأن انهيار قواي والرائحة العفنة التي كنت أشمها وهي تتصاعد من جسدي لم تكن تخفي عني أننا أشباح مكفنون، قمنا من قبورنا لنمثل دورا غبيا نعود بعده إلى توابيتنا من جديد - وأن الكهف هو مكاننا الوحيد، هو مأوانا وواحتنا وعزاؤنا الأخير . لا أدري إن كنت قد قلت هذا كله أو لا. المهم يا صاحبي أنني بكيت، وأعولت، ونبحت، وعويت، كما لم يبك أو يعول أو يعوي وحش يحس ملمس السكين الناصعة تشق لحمه وقلبه وهو مفتوح العينين.
ماذا أقول؟ ألم أقل بالفعل ما فيه الكفاية؟ ألم أعدكم ألا أطيل عليكم أو آخذ ما لا أستحقه من وقتكم وصبركم وتسامحكم؟ ثم ماذا أقول وكل شيء تعرفونه عني؟ ومصيري أيضا لا أستطيع أن أحتال عليكم بحيلة روائية سخيفة لأزعم أنه اختلف عن المصير الذي تعرفون. لأختصر إذن. لأصل إلى النهاية التي سمعتم عنها جميعا. لأقل لكم - وأنا ما زلت أعتذر إليكم وأطلب عفوكم - إننا جميعا عدنا إلى الكهف. عدنا بعد أن اقتنعنا، كل على طريقته، أنه لم يعد لنا شيء في هذا العالم. دعوكم من الموكب الذي صاحبنا إلى هناك، من الصياح والمشاعل والزحام والأيدي الباكية التي طالما ضايقتنا بلمساتها ودعواتها وتبركاتها، من الرهبان وصلواتهم المملة التي كنت أضع أصابعي في أذني لكيلا أسمعها وهي تشيع جنازتي التي كنت أنا نفسي أسير فيها! سأريحكم من هذا كله فهو مكرر معاد. كل ما أريد أن أقوله هو أنني ضحكت على نفسي بعد أن خرجنا من القصر، ضحكت على الدموع، على البكاء الأخرس الموجوع، على الوهم الذي جعلني أتصور ما تصورت، على اللحظة الواحدة المخيفة السعيدة التي تخيلت أنها عبرت بي في ذلك اليوم الذي ذكرته لكم، على الثلاثمائة عام التي قالوا لنا - وشهد بذلك جسدي الذي كان ينهار من كل خطوة ويتساقط ويتعفن - إننا لبثناها في الكهف. ضحكت، أنا يمليخا، الراعي الذي لم تفارق الابتسامة شفتيه، والذي يعرف الناس أنه كان عبيطا وسعيدا بعبطه، والذي يعرف هو نفسه ذلك ولا ينكره.
ضحكت يا صاحبي، يا من تقرءون ذكرياتي المضحكة على لسان رجل مضحك لا أعرفه. وعندما سألوني كما سألوا ميشليا ومرنوش عما أريد قبل أن يواروني التراب، وخيب أملهم أنني لا أطالب بما طالب به القديسون والشهداء، قلت لهم والابتسامة تلمع برغم ظلام الكهف الذي يخنق أنفاس المشاعل: قولوا عني مات وعلى شفتيه ابتسامة!
الراهب
ذات يوم من سنين بعيدة، كثيرة لا يحصيها العدد، قديمة لا تدركها ذاكرة إنسان، كان هناك راهب شاب، لم تنبت شعرات لحيته بعد، يجلس وحيدا في غرفته في الدير المعروف بدير هيسترباخ. كان الكتاب المقدس مفتوحا أمامه منذ ساعات، وعيناه تتابعان الآيات المسطورة أمامه، ولكن عقله ذاهل عنها، وفكره مشغول بالعلل الأولى والأخيرة للأشياء، غارق في تأمل الحياة والموت والمصير. كانت هناك عبارة لم يمل من قراءتها، ولكنه لم يستطع أن يفهم معناها أو يصل إلى سرها: «لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيج من الليل».
عذبه التأمل والتفكير حتى ضاقت نفسه بمحنتها، وأحس بالحر يكاد يخنقه، وباللهب يمتد من دماغه وقلبه فيتغلغل في جسده حتى يكاد يحرقه. هنالك نهض من مجلسه، وهبط إلى حديقة الدير، فشعر بأنسام الربيع تنعش وجهه، وترفرف حول أذنيه. كان لا يزال سابحا في ذهوله، فلم تبصر عيناه الذاهلتان شيئا مما يجري حوله؛ لا الرهبان العجائز المنتشرون بين أحواض الزرع والزهور، ولا الشبان السائرون في ممرات الحديقة تتحرك شفاههم وهم يتلون من الكتاب المفتوح بين أيديهم، ولا السور الأجرد المبني من أحجار الجبل التي حال لونها ونمت عليها الأعشاب والأشواك، ولكن صوتا رقيقا، مثل أجراس ناقوس يدق وراء الأفق، بدا كأنه أعاده إلى نفسه. كان صوت غناء، شجيا، متقطعا، خجولا، كأنه صوت أجنحة طفل ملائكي يهبط من السحاب ويتجلى للآباء الصالحين والقديسين. وبحثت عيناه قليلا بين أوراق الشجر، وهدته أذناه إلى طائر صغير ينتفض على غصن شجرة الجميز العتيقة المغروسة إلى جانب السور، ويقفز من ورقة إلى ورقة كأنه يتعذب مثله بالتفكير في الأصل والمصير. كان الصوت، على الرغم من ارتعاشه وحزنه، رقيقا وساحرا كأنما ينبعث من ناي يلعب عليه أحد الرعاة. نسي الراهب الشاب عذابه، وغمرته فرحة سماوية أبعدت عنه همه وضيقه، فراح يتابع غناء الطائر العجيب، ويجري وراءه وهو يطير من شجرة إلى شجرة، ولا ينتهي من لحن إلا ليبدأ في لحن جديد. أخذ الراهب الشاب يتابعه بقلبه قبل عينيه، مسحورا بغنائه الذي يتدفق في صدره كأنه خرير نبع الحياة الأبدية، حتى حط الطائر أخيرا فوق شجرة صنوبر وراء السور. ولما كان باب الدير مفتوحا فقد سار الراهب الشاب في طريقه، وعبر الباب الخارجي بدون أن يشعر، وراح يتابع الطائر الجميل وهو يقفز من شجرة إلى شجرة، ويسكب خيوطه الذهبية الصافية فيجذبه معه. ولم يحس الراهب الشاب بنفسه وهو يجوس في الغابة، مذهولا عن الجمال الإلهي الذي أسدله الربيع على طيورها وأشجارها ونباتها ودروبها. ولم يشعر بنفسه وقد توغل في الغابة حتى وصل إلى واد عميق مخضر كأنه هاوية، تتكاثف فيه أعواد العليق، ويتلألأ فيه نبع صاف تحت أشعة الشمس الذهبية.
وفجأة أحس أن الشمس قد غابت، والطائر سكت، والغابة بدأت تسحب عليها غطاءها الداكن الظلال، والبرودة تسري إليه من جوف الوادي ومن النسمات الباردة التي بدأت تلفح وجهه. كان كل شيء فيه يرتعش رعشة لم يحس بها في حياته من قبل، وإن كان في نشوة انبهاره قد عزاها إلى وحشة الغابة، ورطوبة المساء، وجلال الغروب. وازدادت الرعشة حتى أصبح كيانه كله ينتفض، فاستدار يريد العودة من حيث أتى، ولكن أعواد العليق والتنوب والأرز شبكت في بردته، فراح يخلص نفسه منها في عناء. ولما أنقذ نفسه أخيرا من الأذرع الخضراء التي امتدت لتعانقه على الرغم منه، وسلك الطريق الذي بدا له أنه يوصله إلى الدير، كانت الشمس قد دخلت كهفها الأبدي منذ لحظات، حتى إنه لم يكن يكاد يرى أصابع كفه حين يبسطها أمامه ولا مواضع قدميه عندما وصل إلى الدير. كان باب الحديقة مغلقا، والسكون يخيم على الدير الذي بدا كأطلال مدينة قديمة مهجورة. ووجد الراهب الشاب أن عليه أن يدور حول السور دورة مضنية قبل أن يصل إلى البوابة الرئيسية. وحين وقف أخيرا أمامها، ولمست يداه قضبانها الحديدية العالية، منعه الخجل لحظات من أن يجذب حبل الجرس، ولكنه حين تغلب أخيرا على خجله أخذ يبحث عن الحبل فلم يجده في موضعه؛ هنالك لم يجد بدا من الطرق على الباب كما يفعل الغريب.
وفتحت البوابة، وأطل منها وجه لم يتبينه في أول الأمر وإن شعر أنه لا بد أن يكون وجه شيخ عجوز لن يرحمه من اللوم والتأنيب. وحاول الراهب الشاب ألا يعطيه فرصة للعتاب والتوبيخ، فأسرع يعتذر إليه عن تأخره الشديد في صوت لا تخطئ الأذن نغمته المتضعة الكسيرة. وأراد أن يمضي في طريقه الذي يعرفه جيدا لولا أن اعترضه الشيخ العجوز، وراح يتفرس في وجهه ويفحصه بعينيه الغائرتين كأنما يفحص وجه حيوان منقرض. ولاحظ الراهب الشاب أنه لم يكن هو نفس البواب الذي تركه وراءه، كما أن البواب الجديد لم يترك له فرصة يحاول فيها أن يتذكر وجهه؛ فقد دعاه في صوت حاسم وسريع للذهاب معه إلى رئيس الدير. وحين وصلا إلى حجرته لاحظ الراهب الشاب أنه لم ير هذا الرئيس العجوز أيضا من قبل. ساوره الشك فراح يقلب عينيه بين سقف الحجرة وجدرانها ولوحاتها التي يعرفها، كما يعرف منها أنه لا يمكن أن يكون قد دخل ديرا غريبا؛ إذ ليس في المنطقة كلها وعلى مسافة مئات الأميال دير سواه. وبينما هو يقلب رأسه في حيرة وقعت عينه على صورته منعكسة تحت ضوء الشموع الخافتة على ألواح الزجاج الذي يغطي صورة العذراء على الجدار المواجه له. واقترب منها قليلا ليتحقق مما أنكرته عيناه؛ كان الوجه الذي يطالعه من المرآة العكرة وجه شيخ عجوز ابيض شعر رأسه، وطالت لحيته حتى كادت تلمس صدره، حتى إنه لم يستطع أن يصدق كيف أنه لم يحس بها. وأحس بألم في ظهره، فمد ذراعه ليتحسسه، وعادت يده لتخبره أن ظهره قد تقوس كما يتقوس ظهر شيخ محطم عجوز. ترنح الراهب ولم تقو ساقاه على حمله، وأسرع الراهبان إليه فأسنداه على مقعد مريح، وساعدهما على حمله إخوة آخرون أخذوا يفدون من قاعات الدير واحدا بعد الآخر، والراهب يدير عينيه بينهم فلا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد. وعندما سألوه عن اسمه فنطقت به الشفتان المرتعشتان، أرسلوا في طلب سجل الدير القديم وأخذوا يقلبون أوراقه. ولما وصلوا إلى آخر ورقة فيه دون أن يعثروا على اسمه أو اسم عائلته أرسل رئيس الدير يطلب سجلا بعد سجل قيدت فيها أسماء الرهبان على مدى ثلاثمائة عام. وعندما وجدوا اسمه بعد البحث المضني الذي اشترك فيه جميع الرهبان رأوا أمامه هذه الكلمات: «داخله الشك في شبابه، فغادر الدير سرا ولم يعد إلى اليوم.»
عندما سمع الراهب العجوز ذلك أحس بظل ثقيل يزحف على عينيه، ظل كلمات قرأها من قبل ولم يستطع أن يفهمها: «لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل.» عندها سقط الراهب العجوز، كما يقولون، مثلما تسقط الريح على شمعة واهنة.
1
1960م
عزاء
كانت قد انقضت سبعة أيام. «سمير» قد عدها يوما بيوم. عدها على أصابع يديه الصغيرتين. لم تكن لديه نتيجة سنوية، ولم يكن يملك تقويما فلكيا، ولكنه حسبها جميعها كأمهر الرياضيين، بأصابع يديه أو بملاليمه الصفراء المستديرة. وجاء يوم الخميس، فهتف: متى ينتهي هذا كله؟
في مثل ذلك اليوم، كان المأتم مقاما في الساحة المواجهة للدار؛ السرادق الكبير، المصابيح المتلألئة كالنجوم الكبيرة، الزوار القادمون من مشارف المدينة، ومن القرى والكفور المجاورة، الخدم يوزعون القهوة، وينحنون للمعزين. وأبوه «سيد أفندي» النجار الإفرنجي واقف على باب السرادق ويده تصافح الوافدين والذاهبين. وفي الداخل - في القاعة الواسعة التي طالما جلس فيها مع جدته، وأنصت إليها وهي تشرب القهوة السوداء من فنجان أبيض مستدير. كان ذلك قبل أن يحملوها في النعش الكبير بأيام - كانت نسوة كثيرات يبكين، ويبتسمن، ويأكلن، ويندبن، ويثرثرن في أخبار الزواج والميلاد والموت.
كان الوقت ساعة الغروب، وكان الهواء هادئا، والأشجار القائمة في جانب الطريق تستقبل الليل في خشوع، والعصافير تطير بعيدا كأنها تريد أن تودع الشمس الملتهبة فوق أسطح البيوت قبل أن تأوي إلى أعشاشها. وكان سمير يجلس على عتبة البيت. الجميع قد عادوا من المدفن ومروا عليه. رأى ظلالهم السوداء تركض في الطريق كأنها كتل هاربة من مملكة الظلام، وعرف من بينها كتلتين هزيلتين تحملان النعش الخشبي وقد تدلى منه اللحاف والغطاء الحريري؛ أين جدي؟ أين ذهب جدي؟ ونظر إلى الناحية التي اختفت عندها الشمس منذ أمد طويل. رأى عصا تخبط على المنحدر، وعرف أن جده هو الذي يتوكأ عليها، ولكنه أيضا أراد أن يعبر به ولا يحدثه؛ جدي، لم تأخرت؟ ولكن جده لم يرد عليه، بل دلف إلى الداخل وهو يقول: لكل شيء نهاية؟ وحين أراد أن يسأله كيف لبث في المدافن إلى ما بعد الغروب وجده ما يزال يتمتم: لكل شيء نهاية. لكل شيء نهاية.
كان ذلك في يوم الخميس، وقد مرت سبعة أيام، وما زال جده يكرر «لكل شيء نهاية» ولا يزيد. وسمير يسأل نفسه: ألا يمكن للحزن أن ينتهي؟ أليست سبعة أيام بلياليها الطويلة المقمرة كافية لكي تنسي الإنسان حزنه؟
في ذلك المساء دلف سمير إلى حجرة جده. وحين فتح بابها ارتجف قلبه رعبا؛ فقد صر صريرا مخيفا، كأنه يسأل غاضبا: لم تدخل غرفة جدك في غيابه؟ ولمحه الشمعدان الزجاجي الطويل القائم على رف الدولاب ذي المرآة الكبيرة، وسأله أيضا: لم تدخل غرفة جدك في غيابه؟ لكنه اقترب منه، وربت عليه هامسا: لن تبوح لجدي، أليس كذلك؟ لن تبوح له. واهتز الشمعدان الكبير، وانحنى أمامه حتى كاد يسقط على الأرض، ثم اتجه سمير إلى الفراش فدس كيسا من الورق تحت الوسادة وعدا هاربا.
وفي مساء اليوم التالي عاد سمير فدخل غرفة جده، ولم يكن قد قدم من الجامع بعد. لا بد أن صلاة المغرب والعشاء تستغرقان وقتا طويلا. وقد صر الباب صريرا مخيفا، وعاد يسأله: لم تدخل غرفة جدك في غيابه؟ لكنه كان شجاعا في هذه المرة - وإن كانت قدماه قد ارتجفتا قليلا - فصرخ فيه بصوت عال: وما شأنك أنت؟! وذهب مباشرة إلى الفراش، ودس يده تحت الوسادة. ها هو كيس الورق. آه! ما أروع هذا! لقد أكله كله. أليس هذا شيئا بديعا؟ ودس يده تحت الوسادة ووضع كيسا جديدا، ممتلئا حتى نهايته، وكاد ينسى أن يمر على الشمعدان الكبير لولا أنه التفت إلى المرآة فرآه ينظر إليه معاتبا. لم يسأله في هذه المرة لم تدخل غرفة جدك في غيابه، ولكنه حين ربت عليه في حنان حياه بفرح بالغ، وكأنه يقول له: لقد أصبحنا صديقين.
وفي الليلة الثالثة فتح سمير الباب فلم يصدر عنه الصرير المخيف، وإنما همهم بصوت غامض لم يتبينه، وإنما عرف منه أنه يراقبه في حذر ويتتبع خطواته في حسد بالغ. وجرى نحو الفراش، ودس يده تحت الوسادة، وأخرج الكيس. كان فارغا. برافو يا جدي! أنا مسرور منك الآن. لقد أكلته كله. انتظر؛ سوف أملؤه لك في المرة القادمة، أو هل تفضل نوعا آخر؟ إنك أطيب جد على الأرض، ولم ينس أن يمر على الشمعدان الزجاجي، وأن يلامسه برفق وحنان، ويشكره على كتمانه. اهتز الشمعدان مرات، وأومأ برأسه، وابتسم في وجه، كما ابتسم شبيهه في المرآة، وطلب منه أن يعود في الغد.
لم يكد سمير يغلق الباب وراءه حتى رأى جسدا طويلا يواجهه، واضطر أن يرفع رأسه ليرى من يكون صاحبه. كان هو أبوه، لقد أغلق الورشة إذن وعاد إلى البيت، لم جاء مبكرا؟ ولم يتركه أبوه يسترسل في أحلامه.
ماذا تفعل هنا؟ فأجاب وكأنه يغوص إلى سابع أرض: أنا ... كنت ... - يا شيطان، هل نسيت أن الواجب وراءك؟ - حللت المسألة. أقسم لك، أ.
فقبض أبوه على يده كما يقبض الشرطي على لص هارب، وصعد به إلى الدور الأعلى - وكان صوت حذائه الكبير وهو يرتقي السلالم يختلط بكلماته المهددة: سوف أرى. سوف أرى. سوف أرى. المدرسون يشكون منك. لم تخطئ في الحساب؟ لم تخطئ في الحساب؟ لم تخطئ؟ إني لا أفهم شيئا، رأسي ينشق، وأنا جائع أيضا. لا أستطيع أن تجمع عشرة وعشرة، وسوف أرى.
وفي البيت تكون أمه، ذات العيون السوداء والشعر المنفوش، هائجة لأن الخادمة لا تسمع كلامها. وهناك تبدأ في الشجار مع أبيه الذي يصرخ بها: سوف أرى. سوف أرى. رأسي ينشق. أنا جائع. لم لا تضربين الخادمة؟ لم تضربينها؟ وتصرخ في وجهه بينما يصيح أخوه الرضيع ويصيح حتى تكاد عروق رقبته أن تنفجر.
في مساء اليوم التالي فتح سمير باب الحجرة في حذر بالغ - بعد أن راقب الطريق، وعاين وجوه الرائحين والغادين فيه. ولم يحتج إلى فتح الباب بيديه؛ فقد وجده مواربا - وبدا له كأنه يرحب بمقدمه ويميل عليه يسأله: لم تأخرت الليلة؟
كانت الغرفة على غير عهده مظلمة، أطل بعينيه الصغيرتين أولا، ولو استطاع إنسان أن يرى عينيه بغير مرآة لحسبهما جمرتين تلتهبان في موقد فحم خمدت فيه النار. وبحث عن الشمعدان فلم يتبينه - إما أن العفاريت اختطفته أو أن الظلام كان أقوى منه - الشيطان وحده يعلم! وهرع إلى الفراش ومد يده ليدسها تحت الوسادة. - من؟
خرج الصوت من باطن الحجرة كما يخرج قط أسود من جحر الفيران.
وقف سمير مذهولا؛ فها هو جده في نهاية الأمر. - من بالباب؟ قلت من؟
فهمس سمير وكأن قلبه هو الذي يردد الكلام: أنا يا جدي.
فحشرجت حنجرة العجوز، وكأنها أوراق شجرة يابسة تهزها رياح الخريف: سمير؟ تعال يا ابني. تعال.
لا بد أن جده مد يده ففتح النافذة؛ فقد أغرق في طوفان من النور بهر عينيه، وتكشفت المرئيات أمامه. وها هو الشمعدان رابض أمام المرآة، الشمعدان وشبيهه. نظر سمير إليهما مغيظا وهتف في سره: لعنة الله على شمعدانات الدنيا كلها! - سمير.
فاقترب سمير خائفا من جده، ولمح نورا ينبعث من عينيه الضيقتين، الحائرتين في محجريهم، كانتا تقولان له: اقترب. اقترب. لم تخاف؟ ألست أنا جدك؟ - ما هذا؟
ابتهل سمير وهو يحاول أن يخفي يده وراء ظهره: إنه ... لا شيء يا جدي، لا شيء أبدا. - إذن فأنت الذي تضعه كل ليلة. ورفعه الجد بيديه الخشنتين فأجلسه على ركبته. واستطاع سمير أن يرى الشمعدان بوضوح. إنه يميزه الآن، وها هو يحاول أن يخفي وجهه فلا يستطيع. وأين يهرب من جريمته؟ ألم يبح بكل شيء؟ ألم يبح بكل شيء؟
ومرت أصابع العجوز في شعر سمير، بل إنه قد مسح خده في رأسه كأنه قط هرم: أنت الذي وضعت الكيس تحت الوسادة ؟ - أنا يا جدي لم أضعه. أنا وضعته. - لم فعلت هذا؟ - صدقني يا جدي. - وتحرم نفسك كل يوم من الملبس؟
سأله سمير وهو يضع إصبعه على شفتيه: الشمعدان قال لك؟!
فقال جده مستنكرا: الشمعدان؟
فصرخ سمير في حماس: سأكسره. سأكسره حتما. وتنهد الرجل العجوز، وصار من الواضح أنه يغالب دموعه، وأشعل سيجارة، واختنق صوته فجأة، كأن حنجرته امتلأت بالدخان الذي لم يرد أن يخرج منها، وسعل كثيرا حتى بح صوته وهو يقول: أنت أشفقت على جدك. نعم يا حبيبي. لكل شيء نهاية. أين جدتك المسكينة؟ عشرة أربعين عاما، من كان يصدق؟!
هتف سمير كأنه قد عثر على حل مسألة حسابية عويصة: هي عند الله. أبي قال لي ذلك.
فقرب العجوز وجهه منه قائلا: نعم يا حبيبي، هي في السماء، ولكنها لن تعود. هل قال أبوك ذلك أيضا؟ كان ينبغي أن يسبقها جدك. هل قال لك إنها لن تعود؟
لم يعرف سمير بماذا يجيب؛ فإن كلمات جده كانت أصعب من مسائل الحساب، ولكنه ردد بصره بين الشمعدان المتهم وهو يحاول أن يخفي وجهه عنه عبثا، وبين السرير النحاسي الذي تدلت من أحد عمده جبة وقفطان عظيمان، والنافذة التي ما يزال النور يتدفق منها كأنه موج البحر، ثم رفع وجهه إلى جده ورأى التجعدات الكثيرة على جبهته العريضة.
قال جده وهو يضحك: ولكن أين خبأت الكيس؟
فهتف سمير وهو يقفز على الأرض: إنه هنا، تحت الوسادة. قال الجد وهو يمد ذراعه: ملبس؟
فأومأ سمير برأسه موافقا: وفيها طوفي أيضا.
ووضع الجد العجوز ملبسة في فمه صار يلوكها بين فكيه العاطلين من الأسنان، وابتسم راضيا، ومد يده بالكيس إلى سمير: خذ واحدة. خذ. فهتف سمير متحمسا وهو يقفز على الأرض: لا يا جدي، إنها لك، كلها لك.
وانفلت يجري مسرورا.
1956م
شجرة عيد الميلاد
يا جدي العزيز، ما أشد حنين إليك! منذ أن رحلت عن قريتنا العزيزة، وعن بيتنا القديم، وأنا أفكر في العودة إليك. لم يبق لنا غيرك. بعد وفاة المرحوم أبي، أما تزال غاضبا علي؟ لن أسألك الصفح عن غربتي عنك؛ فأنا أعرف أن قلبك الرحيم يغفر كل الذنوب، ولكن أسألك عن صحتك أنت، أما تزال تعاني من ذلك المرض الكريه؟ وأم ستيتة، هذه العجوز الطيبة القلب، أما تزال تردد أنني ناكر للجميل؟ سامحها الله. أنا عائد في هذا الأسبوع. وعلى فكرة، نسيت أن أقول إنني سأحمل معي ولدي الوحيد «نيني». يا ليتك تراه يا جدي العزيز! إنه جميل نضر كوردة منداة. سأحضره معي حتما، وسوف يلعب معك، ويحبو على قدميه ليقبلك، ويعانقك. نعم إنه كالدمية الصغيرة. شعره الأصفر المنسدل، يا ليتك تلمسه بيدك الكريمة! سوف تحبه كثيرا، وسوف تضمه إلى صدرك، وتضعه على حجرك، وتهدهده لينام، كما كنت تفعل معي، ولكن هل تعرف هذه المفاجأة؟ إننا سنحتفل بعيد ميلاده الثالث، في بيتنا القديم. سوف تكون حفلة شائقة، وسوف تنور بيتنا الأنوار الزاهية.
سلامي إليك يا جدي العزيز، وانتظروني في قطار المساء، في يوم الأربعاء. كان هذا هو الخطاب الذي حمله ساعي البريد في ذلك الصباح.
أما ما زلت أذكر صوته المتحشرج وهو ينادي: جواب من مصر! جواب من مصر!
طرت أقفز السلالم الخشبية درجات درجات، وكأني إحدى البطات التي نربيها في بيتنا حين تهرع جائعة إلى الطعام! ونزل ساعي البريد عن حماره العجوز، وصبية الحارة الصغار يقفزون من حوله ويحاولون أن يفتحوا جرابه المنتفخ وكأنه خزانة الأسرار. واستقبلته أنفاسي المبهورة قبل يدي، وطرت إلى جدي وأنا ألوح بذراعي في الهواء. ولم أنس أبدا أن ألتفت ورائي لألقي نظرة على صبية الحارة المذهولين الغيورين. «جواب يا جدي. جواب من مصر.» وألقيت الخطاب في حجره، وانحنيت عليه أريد أن أضمه وأقبل لحيته الكثة البيضاء، كأني عائد من قلب غابة مجهولة الدروب ومعي صيد ثمين. وأنصت إلي جدي المقعد وأنا أتلو عليه رسالة أخرى، في لغة ركيكة، ولسان متلعثم. «بالسلامة يا ابني. بالسلامة يعود.» وافتر ثغره العاري من الأسنان عن بسمة واسعة.
أنا ما زلت أرى كل شيء أمامي. في ليلة الأربعاء كنا جلوسا في غرفة الفرن. كانت أمامنا مدفأة صدئة، يلتهب فيها الرماد؛ فقد كان حطبنا قليلا. أيدينا ممدودة فوق النار كأنها تريد أن تحمي بها دماءنا؛ دماءنا التي تسري في عروقنا مثلوجة باردة. كان جدي العجوز جالسا على مقعده الذي لا يريم عنه، وكانت عيناه الضيقتان تدوران في المكان كأنهما تحسداننا على مقدرتنا على الحركة؛ فقد كان جدي مقعدا، وربما لا يزيد على قصتي شيء إذا قلت إنه كان مشلولا. جاءه الشلل ذات صباح وهو يشرب القهوة، فأفلت الفنجان من بين يديه وانكسر، وشل نصفه الأسفل. لا أريد أن أعيد قصة شلله، فما ذكرتها إلا عراني حزن أليم.
وكانت أم ستيتة، مربيتي العجوز، جالسة أمامي تعالج عينيها الرامدتين، بعد أن وضعت فيهما قطرات من السائل الأحمر. كان كل شيء هادئا في بيتنا هدأة الانتظار، حتى قطرات المطر التي تتساقط فوق السطح كانت كأنها دقات طبول عميقة، جوفاء، والسحب السوداء التي كانت تغطي وجه السماء، أحسسنا كأنها جاثمة بثقلها فوق رءوسنا. كانت ليلة شتاء لا تلمع فيها نجمة حتى تنطفئ.
كانت آذاننا مرهفة لسماع صوت القطار؛ القطار الذي يزور قريتنا في آخر الليل فيهتز بيتنا من أركانه. لم تكن بي حاجة إلى الكلام؛ فقد غامت عيناي في أفق بعيد، ممتد بغير حدود، ولم أطلب من «أمي» ستيتة أن تحكي لي أسطورة من أساطير الزمان، كما كانت تفعل كل ليلة. وما كان يمكن للسندباد البحري ولا الشاطر حسن ولا الأميرة شهر زاد أن تشغلني عن خواطري، وما كان يمكن لأم ستيتة أن تغمض عيني لأنام على حلم جميل؛ فأنا أنتظر مقدم أخي الكبير لأرى فيه وجه أبي.
سيعود أخي الليلة من بلد اسمها مصر. قالت لي أم ستيتة إنها بلد العجائب؛ قبابها عالية، ومآذن جوامعها مضيئة في الليل كشجرة تتدلى منها النجوم، وأبنيتها عالية تصطدم رءوسها بالسحاب. وقال لي جدي إن الناس يسيرون على أرض لامعة - فلا تغرز القدم في الوحل - وإن شوارعها كالمرايا ، يمكن للناس أن يروا فيها وجوههم، وإن الأولياء الصالحين يحمونها من غلوات أعدائها، ويقفون أمام سورها العظيم وهم يسبحون بحمد الله.
لم أكد أمد يدي ضارعا وأنا أصيح: «يا سيدة زينب، يا سيدنا الحسين، أرجعا إلينا أخي سالما.» حتى سمعنا طرقا على الباب. وقفزت أجري على السلم، وأسرعت أم ستيتة الطيبة القلب تتحسس الطريق. وحين ضمني أخي إلى صدره استطعت أن ألمس بيدي بذلته الناعمة، وأن أشم العطر الذي يفوح منه. قال لي وهو يضحك: هذا هو نيني، ابن أخيك، أليس جميلا؟ سلم عليه يا نيني. نعم، هكذا لقد صرت رجلا. لم لا تضحك؟ أنت متعب من السفر؟ تريد أن تنام؟ لا، لا. قبل أن ترى جدك؟ من؟ جدك العجوز؟ أتخاف منه؟ إنه يحبك. هيا، هيا. أعطني يدك، هكذا. وصعد أخي الكبير على السلم، والضحكات العالية تهتز معه. كان يحمل في يده حقيقة كبيرة، فقلت لنفسي لا بد أنها مملوءة بالحلوى، لن أنام في هذه الليلة! ومد جدي ذراعيه ليحتضن أخي ويقول له، والصوت تخنقه الدموع: «بالسلامة يا ابني، بالسلامة عدت، ما لنا وما لمصر، ابق معنا. هذا هو ابنك؟ قربه مني، ما أجمله! أتخاف مني؟ آخ! لا تشد ذقني أيها العفريت!»
وصاح أخي وهو يرحب بخادمتنا العجوز: لن تنامي الليلة يا أم ستيتة؟ افتحي هذه الحقيبة، ماذا؟ أتعشى؟ لا. أستريح، ولكنني غير متعب. هيا نعد كل شيء معا. ألا تعرفين؟ ولكنه عيد ميلاد نيني؛ نيني العزيز.
كان أخي في هذه الليلة جم النشاط. لم يكد يجلس ليستريح، أو ليحكي لنا شيئا عن البلد الكبير الذي عاد منه. استحال إلى طاقة حية، مندفعة، مشبوبة. إنه يجري، ويضحك، ويهز رأسه، ويثرثر بكلام كثير مثل قطرات المطر التي تتساقط في الخارج سريعة متلاحقة: «ضع هذه الحلوى على المائدة. لا تأكل منها شيئا. وأنت يا نيني، أتريد أن تنام؟ أيها الشيطان الصغير. وهل تنام في عيد الميلاد؟ خذي هذا التفاح يا أم ستيتة. نعم، ضعيه إلى جانب الحلوى. ماذا؟ ولكنك ستأكلين منه الآن ، وهذه الشجرة أيضا؟ نزرعها؟ يا لك من ساذجة! ولكنها لا تزرع . اسمها شجرة عيد الميلاد، ألا تعرفين؟ حسنا، ضعيها هناك. لا تقطعي منها ورقة واحدة. أسرعي أيتها العجوز. وأنت، لم لا تتحرك؟ هل تقف هكذا ساكنا؟ أتعجبك الشموع؟ تريد أن تشعلها؟ ولكن انتظر! سنرى كل شيء، الآن، حالا، حالا، كل عام وأنتم بخير.»
ما أغرب أخي! في مثل هذه الليلة الباردة من ليالي الشتاء؟ ماذا يقول جيراننا؟ ولكنهم نائمون. حسنا فعلوا، وإلا لضحكوا علينا. آه لو رأونا ونحن جلوس أمام المائدة لكنا أصبحنا سخرية البلد يوما بأكمله؛ إذ كيف توقد الشموع ولم يولد في بيتنا طفل، ولم يتم زواج؟
أنا عهدي بالموالد أن يشترك فيها أهل بلدتي جميعا؛ ففي مولد سيدنا الشيخ «دسوقي» يحق لنا أن نسهر الليل بأكمله، ونأكل الحلوى، ونشتري عرائس المولد الحمراء. لنا نحن أطفال القرية في هذا المولد أن نتبرك بسيدنا الشيخ، ونزور ضريحه، ونلمس السور الحديدي بأيدينا، وقد يتمرغ بعضنا على السجاد العجمي الثمين في نشوة صوفية محببة. ولنا أن نسهر حتى الصباح، ندور في المرجيحة، وننتقل بين الموائد الزاخرة باللحم الشهي، ونرقص في صفوف الدراويش حتى الصباح، ولكن هذا الحفل الذي نقيمه في بيتنا في هذه الليلة شيء عجيب. أيكون نيني شيخا صالحا من الأولياء؟ ولكن هذا شيء محال؛ إذ كيف يصدقه عقلي؟
ولم يسترح أخي الكبير حتى جلسنا إلى المائدة. إنني لم أزل أذكرها تماما؛ فقد فرحت في تلك الليلة كما لم أفرح قط. أضأت الشموع بيدي، ووضعت الشجرة الجميلة في وسط المائدة، وناولت مربيتي العجوز أكثر من قطعة من الحلوى، ودعوت جدي إلى الطعام أكثر من مرة.
ولم تزل كلمات أخي الضاحكة كأنها ترن في أذني رنينا مضيئا: «كل سنة وأنتم طيبون. كلكم، كلنا، وأنت يا نيني، مد يديك يا حبيبي. نعم، هكذا، ستعيش مائة عام، أليس كذلك؟ ألا يكفيك هذا؟ إذن ستعيش مائتين. تفاحة أخرى؟ ولكنك لم تأكل. أعطه يا أم ستيتة قطعة الجاتوه. نعم، هكذا. الآن تعال إلى جانبي، ستطفئ الشموع. املأ فمك بالهواء. لا، هكذا، هيا. ستنفخ فيها نفخة واحدة . نعم. ثلاثة فقط؟ ولكنك لم تعش أكثر من ثلاث سنين. تريد أن تكون لكل يوم شمعة؟ ولكن هذا كثير. أنت طماع، هه! لم يبق غير واحدة. هكذا، انطفأت كلها.»
كنا جميعا في نشوة من الفرح أسكرتنا؛ فأنا قد نسيت كل ما حولي، وذقت التفاح، والكمثرى، ربما لأول مرة، ومضيت ألتهم الحلوى قطعة بعد أخرى في نهم جائع، وسرحت مع خيالي لحظات وأنا أتأمل الشجرة الصغيرة التي تتوسط المائدة، وتتدلى منها أوراق مفضضة لامعة، كالقطن الأبيض النقي. وعجبت في نفسي كيف نمت هذه الشجرة، وما لها من جذوع ولا في فروعها ثمر. وسألت عقلي كيف تختلف عن شجرات الصفصاف والتوت التي طالما تسلقتها وأدميت أصابعي، حتى «أم ستيتة» قد رفعت العصابة البيضاء عن عينيها الرامدتين وأخذت تنظر إليها، وتلتقط تفاحة من هنا وقطعة حلوى من هناك، وكأن الشباب قد انتفض في عروقها، والحياة قد بعثت من جديد في روحها.
وأخي الأكبر مشغول بكل شيء، حتى الطبيعة راح يصفها - كاذبا - بالجمال، وبأنها فرحة مع «نيني»، مع أن الليلة - والحق يقال - كانت باردة الهواء، والوجود كله مثل زنزانة معتمة تلمع البروق الخاطفة فوق جدرانها بين حين وحين.
كان جدي وحده حزينا، لقد لبث ساهما مطرقا برأسه إلى الأرض، صامتا، وقورا، مثل أبي الهول. فإذا رفع عينيه فإنما ليثبتهما على وجه «نيني» السعيد، وليتملى بذلته الزاهية وشعره اللامع، ثم يعود ليخفض رأسه إلى الأرض، ويتشاغل بمسبحته الطويلة عنا.
ما لجدي وللحزن؟ هل يعرف الحزن طريقه إلى القلوب في مثل هذه الليلة؟ هل يا ترى قد تذكر فجأة أن أبي وأمي قد ماتا منذ عهد قريب؟ ولكني أنا أيضا أعرف ذلك. ومع هذا فلم يشغلني الحزن عن الطعام؛ فعندي أن آكل حتى أشبع، وبعدها فلتدمع عيني كما تشاء. هل تذكر وجهيهما الشاحبين وهما يصارعان الموت جنبا إلى جنب، على فراش واحد، ونحن أمامهما عاجزون عن كل حركة؟ أنا كذلك أكاد أراهما وهما يصرخان، ويتقيآن سائلا أصفر بلون وجهيهما. وأنا ما زلت أذكر ما قاله لي الجيران وهم يعزونني: لقد صرعهما الوباء. وليس للناس حيلة في الوباء يا بني.
أنا لا أشك في أن «نيني» كان يرقب جدي؛ فقد رأيته يشرد بخياله وهو ينظر إليه، ويكاد يذهب إليه ليسأله: «لماذا تبكي يا جدي؟»
هل أحس جدي فجأة أنه قد فقد كل شيء؟ وأن حياته لم تكن تستحق أن يحياها؟ أكاد أقول إن جدي، في تلك الليلة، قد التفت وراءه، ونظر بعينيه فلم يجد غير الفراغ؛ الفراغ الهائل، الساكن، الذي يحيطه العدم من كل جانب. هل يجيء على الإنسان حين يلتفت فيه إلى الماضي فلا يجد حتى آثار قدميه على الطريق؟ لحظة يطرق المستقبل فيها أبوابنا، ونحن نيام في الليل، ليقول لنا: لقد نسيت أسماءكم.
ولكنني على يقين من أن جدي لو كان رجع إلى ماضيه لما ملكه شعور بالحزن. إنه قد جرب أكثر من حياة؛ اشتغل في أول حياته أجيرا في مزارع الأغنياء، ثم تجول أعواما في أسواق التجارة ومكيلته تحت إبطه حتى أصبح في يوم من الأيام تاجرا بين التجار. وبدا له ذات يوم أن يكون حلاقا، ففتح صالونا يتردد عليه عشرات التجار والأغنياء، وما زلنا نعيش على صيته حتى اليوم. نعم! لا يمكن أن يكون جدي حزينا لأنه استرجع في ذهنه ذكرى ماضيه.
كل ما أذكره اليوم أن جدي كان يحدق طويلا إلى شجرة عيد الميلاد. وكان كثيرا ما يخيل إلي كأنه يتنهد، أو كان يرى أن حياته كهذه الشجرة، ولكنها كانت شجرة ذابلة الأوراق، جافة العروق مثل أشجار الخريف. أكان يدور في خلده أنه هو أيضا قد صار في خريف العمر؟
لم تنته ليلة عيد الميلاد على خير؛ فقد أطال جدي التحديق إلى الشجرة الملعونة، واضطربت أنفاسه الواهنة في صدره، حتى رأيت دمعتين تسقطان على خديه وتختفيان في شعرات لحيته. ولم يلبث أن انفجر باكيا وهو ينشج.
أما أخي فترك ما في يديه وأسرع إليه: «ماذا؟ ما هذا يا جدي؟ أفي هذه الليلة تبكي؟ ولكن ماذا حدث؟ ماذا حدث يا أم ستيتة؟ ألا تعرفين؟ ولكن ما الذي يبكيه؟» وجرى «نيني» ذو العينين الواسعتين إليه وارتمى على صدره وهو يعانقه: «لماذا تبكي يا جدي؟»
أما جدي فقد أشار علينا بأن نبعده عن ذلك المكان. كل ما استطعت أن أتبينه من كلامه المتقطع، المختنق بالدمع: «أبعدوني. أبعدوني.» ثم وهو يمر بيديه الراعشتين على رأس «نيني»: «لا تحزن يا نيني. معلهش، يا نيني.»
وتحامل جدي علينا، وأسند ذراعيه المنهوكتين على أكتافنا، ونحن نسير به إلى فراشه كان أخي لا يفتأ يردد: أهذا ممكن؟ أهذا ممكن؟ وكان «نيني» مشغولا بدموع الشيخ العجوز الذي يضمه إلى صدره ويردد في صوته المتقطع: «أبعدوني. أبعدوني.» وأسرع أخي إلى «نيني» فانتشله من بين ذراعيه، وأشار إلى أم ستيتة التي وقفت مذهولة تفتح عينيها الرامدتين في صعوبة، بأن تحمله بعيدا. ما كان لهذا الصغير أن يرى الجد وهو يتحطم، ما كان له أن يفتح عينيه الزرقاوين على شيخ فيه بقية حياة تذوي وتنطفئ. والتففنا، أنا وأخي، حول جدي العجوز، نكفكف من دموعه، ونهدئ من ثورته التي انفجرت على غير انتظار.
لم نكن ندري ماذا نفعل؛ فقد كنا نراه يبكي أمام أعيننا، بلا سبب. وارتميت على الحصيرة البالية أمام قدميه، وشردت عيناي في السقف، ورحت أعد قطرات المطر؛ واحد، اثنان، ثلاثة. أما أخي فقد تمدد إلى جانبه، يربت على كتفيه ويهدهد من حزنه، ويميل على أذنيه بكلام كثير.
وكان الصمت يلفنا حين رأينا نيني يندفع إلى الحجرة وهو يرى، كأنه يخاف أن يرده عنا أحد. وأم ستيتة العجوز تجري وراءه محاولة أن تمسك به. «جدي، جدي.» كانت صيحاته تخرج مع أنفاسه المبهورة، متقطعة مكتومة كالأنين. وكان يمد يديه نحونا، ويجري حتى لينكفئ على وجهه. «خذ يا جدي. الشجرة أهيه. هي لك. الشجرة لك. ده عيد ميلادك، عيدك أنت. لا تحزن يا جدي. الليلة ليلة ميلادك. أنت، يا جدي، خذها معك؛ لأن الدنيا تمطر.»
ولم ندر ماذا نصنع. أسرع إليه أبوه يحمله بين ذراعيه، وخرج به من الحجرة وهو يقبله ويكاد ينشج بالبكاء. وأما جدي العجوز فقد لمعت عيناه الضيقتان التماعا غريبا، ومد يده المرتعشة فقبض على الشجرة، وضمها إلى صدره وأخذ يقبلها.
وفي الصباح، كان جدي ما يزال راقدا على فراشه، ولكنني حين اقتربت منه، ووضعت يدي على صدره، لم أجد فيه نفسا يتحرك.
ومررت بيدي الخائفتين على أطرافه المثلوجة ببرودة الموت. كانت شجرة عيد الميلاد ما تزال في يديه.
وكان يضمها إلى صدره ضما شديدا.
1954م
الصراط
أهلا وسهلا، يا ألف مرحب، أنا حصل لي الشرف والله. كرسي يا ولد. لا والله لا بد تقعد. عندك موعد؟ طيب ولو ربع ساعة، على الأقل نتعرف على بعض. تقول موعد في السيرك؟ آه! وأنا أيضا من ساعتها أشبه عليك. أقول يا ربي أنا شفته، هذا الوجه ليس غريبا علي، كنت معهم في الموكب من يومين. تقول إنهم لا يعرفونك من وجهك، لكن من رجليك؟ ها ها! أما صحيح بتاع سيرك! نعم؟ قصدك إنك الراقص الأول في السيرك، الراقص على الحبل؟ طيب قل يا أخي من الأول، كنت على الأقل عرفتك إننا أصحاب، حبايب، إخوان في الكار. أنت طبعا مندهش، طبعا لا تريد أن تصدق، معذور بالطبع، واحد مكرش وسمين وعنده ضغط مثلي ويرقص على حبل؟ طبعا حبل عرضه مترين؟ تقول ولا يكفي؟ لا والله معك حق، لكن وحياتك عندي أنا مثلك أرقص على حبل، طبعا طبعا، حبل بحق وحقيق، مشدود من الناحيتين، نعم؟ في أي سيرك؟ لا، لا، لا يكون عندك فكر، ولا سيرك ولا حاجة، تقدر تقول أعمال حرة. نعم، كما يقولون راقص من منازلهم. تقول متى رقصت عليه؟ طول عمري، آي والله، من يوم ما أمي ماتت وأنا أرقص عليه، تقول متى كان ذلك؟ آه؛ أصلها حكاية طويلة، لكن قبل ما أنسى، اشرب حاجة، لا والله لا بد تشرب. شاي؟ قهوة؟ مضبوطة؟ طبعا، أنا أيضا كنت سأطلبها لك مضبوطة. طبعا طبعا، كل حاجة عند الرقاصين لازم تكون مضبوطة، لا شعرة زيادة ولا شعرة ناقصة. تقول ارجع للحكاية، أية حكاية؟ آه! لا مؤاخذة، كانت راحت من على بالي؛ بيني وبينك السن له حكمه. القصد، نرجع للحكاية. هل قلت لك إنني بدأت أتعلم الرقص من يوم ما ماتت أمي؟ طبعا الصلة بعيدة. خصوصا وإني كنت أيامها لا رحت ولا جيت، ولد صغير في المدرسة، قل عشرا قل إحدى عشرة سنة. كنت أعرف أن أمي راقدة من شهور، لكن عمر ما أحد قال لي إنها كانت راقدة على فراش الموت، كنت أقف مع الحكيم عندها وأشوفه وهو يكشف على قلبها، وبعد ما ينتهي من الكشف وأبي يوصله للباب كنت أقرب منها وأنا خائف. طبعا شيء مخجل، كيف يخاف الإنسان من أمه؟ لكن هذا ما حصل. كانت تنادي علي، وأقترب منها وأسألها إن كانت محتاجة لشيء، وتتأمل في بعينيها وهي ساكتة وتقول بعد مدة: كنت محتاجة لك أنت، كنت أبعد عيني عن عينيها؛ فقد كانت نظرتها تحيرني، تخرسني، تؤنبني وتعاتبني وتغرز مثل السكينة في قلبي. أفلت من السرير وأقول: أنا رائح ألعب مع أصحابي. كنت ألعب مع أصحابي ولا ألعب معهم. كانت نظراتها الحزينة معي في كل مكان. تقيدني وتلومني وتكتف رجلي. ولا أكثر عليك. في يوم نادوا علي بسرعة، قالوا أمك تريد أن تراك. ذهبت إلى حجرتها، أشارت لهم بسرعة أن يغلقوا الباب ويتركونا وحدنا. أحسست أنها كانت آخر مرة. إحساس غريب على طفل مثلي، لكن الأطفال تحس أكثر مما يعرف الكبار. القصد، اقتربت منها وقلت لها: نعم يا أمي. قالت: قرب مني. مدت يدها المرتعشة ومسحت على وجهي. سمعتها تقول: يا ما كان نفسي تكون معي. قلت لها: أنا معك يا أمي. قالت: لا. قصدي هناك. قلت لها: هناك أين؟ قالت: على الصراط. سكت وسكتت. بعد مدة سألتها: صراط يعني إيه يا أمي؟ قالت الواحد منا يوم القيامة يمشوه على الصراط، شيء مثل الشعرة وأحمى من السكين، مشدود بين الجنة والنار، الجنة على اليمين والنار على الشمال. الواحدة منا إذا كان لها ابن مات قبلها يسبقها على الصراط، يجري مثل الفرس ويقول لها تعالي يا أمي ويأخذ بيدها. لو كنت يا ابني معي هناك! سكت. تمنيت لو أن الأرض تغور بي من الكسوف. قالت لي: قم أنت يا ابني، ربنا يعطيك طول العمر، يرزقك بابن حلال يمشي قدامك ويأخذ بيدك. في يوم لا يعلمه إلا الله، دخل أبي علينا فوجدنا ساكتين. قال: قم أنت يا ابني نام. أنام؟ بذمتك، هل واحد مثلي يأتي له نوم؟ طول عمره بذمتك يأتي له نوم؟ لكن الصاحي مصيره ينام، والصغير يكبر، والكبير يروح لحاله. صحيت الصبح قالوا لي البقية في حياتك، أمك ماتت والبقية في حياتك.
قلت لك إني كنت الابن الوحيد؟ طبعا فهمتها من نفسك. الابن الوحيد ويبخل على أمه بالخدمة الوحيدة، تقدر أنت تتصور حالتي. دفنوها ورجع أبي أخذني على صدره وقال لي: شد حيلك. مصيرك تكبر وتفهم. أنت الآن كبير العائلة. البركة فيك، والموت على رقاب العباد. قلت له: كان لازم أموت قبلها بزمان. قال لي: تموت؟ قصدك إيه؟ قلت له: لأجل أسبقها على الصراط. ضحك وقال لي: الصراط؟ الله يجازيك، ومن حكى لك عليه؟ كذبت وقلت له: أبدا. أصحابي قالوا لي كان لازم أموت قبلها. كان لازم أعمل حسابي لأجل أمشي قدامها. أجري وأقول لها تعالي، تعالي يا أمي ولا تخافي. السكة ظلام والدنيا عتمة، لكن أنا أنور لك الطريق. أبي ضحك ومات على روحه من الضحك، زغدني في صدري وقال لي: روح يا شيخ، إذا كنت تحبها صحيح زرها كل يوم واقرأ لها الفاتحة، وطمنها أنك بخير، وأنك تذاكر دروسك وتنجح في امتحاناتك.
أكثرت عليك؟ تحب تشرب قهوة ثانية؟ صحيح؟ يعني تقدر تقعد لحد ما أكمل الحكاية؟ لا أطيل عليك. الندم أكل في قلبي من يومها، ليل ونهار وأنا أفكر في الصراط. أقول يا ترى شكله إيه وعرضه كم وتقدر صحيح تمشي عليه؟ ويطاوعك قلبك لا ترتعش ولا تخاف ولا تزعق وتقول: يا هوه! وتقف عليه برجل واحدة أو رجلين؟ وإذا وقعت يا ترى تقع على اليمين أو على الشمال؟ يا ترى الملائكة تحدفك على جهنم أو توصلك عند المؤمنين؟ القصد، أصبحت همي وشغلتي. وتصادف يوم ما ماتت أمي أن سيرك الحلو يحضر على البلد. طبعا هو بعينه. أيام مجده وعظمته. الطبل والمزامير فاتت في الشوارع. البهلوانات والقرود والفيلة مرت من قدام البيت، والميكروفون زعق وصحا النائمين. أنا قلت فرصة العمر. تروح تتفرج وتشوف البهلوان يلعب الوحوش ويرقص على الحبل. لكن المشكلة أن أمي ميتة من يومين، وعيب أطلب من أبي أروح السيرك. قل بقيت أفلت كل يوم ساعة وأروح على هناك، أسمع الضحك والزعيق والهيصة من بعيد ألاقي قلبي ينط وكأنه يرقص على حبل. يوم في يوم عرفت الساعة التي يلعب فيها البهلوان، بقيت أزوغ من بين الحراس الواقفين على الباب من غير ما يشوفوني. وإذا حصل وأمسكوني رجعت أحشر رأسي في الصيوان وأبص من بين الخياطة أو الخروم النافذة في الفراشة. كان كل مناي أني أصبح مثل البهلوان؛ رجل مسلول وغلبان لابس أبيض في أبيض وعلى رأسه طرطور، يمشي على الحبل ويفرد ذراعيه ويزعق بعلو صوته: تعالي لي يا أمي! خطوة خطوة كأنه ماشي على سكاكين أو مسامير. الناس شاخصة له، كأن على رءوسهم الطير، مذهولين ومبهورين وخائفين عليه. ومن لحظة ولحظة يزعق واحد في الحلقة: وحدوه! من يحب النبي يصفق! طبعا الدنيا تقدمت ووضعوا تحتكم شبكة؟ طبعا طبعا. صحيح العمر واحد والرب واحد لكن ضروري من الاحتياط. تقول إنك لا تمشي الآن على رجليك؟ يا سلام؟ تركب على عجلة أو موتوسيكل؟ وتحفظ التوازن مع ذلك؟ ما شاء الله! ما أنا قلت لحضرتك الدنيا تقدمت. وتأخذ واحدا معك أو وراءك؟ تقول واحدة؟ طبعا أحسن؟ والبطل صحيح يوازن نفسه ووراءه واحدة. القصد، قلت لحضرتك يوم في يوم تعرفت على البهلوان، رجل طيب مثل حضرتك. صحيح فنان، طول النهار على الحبل، ولا شبكة ولا يحزنون. ناس صحيح تخاطر بحياتها في سبيل الجمهور. قل يوم في يوم ضربت صحبة مع عم آدم - نسيت أقول لك إن اسمه كان آدم، صحيح اسم على مسمى - الصبح والعصر بقيت أروح له. الرجل أخذ علي وأحبني، وأصبحت ولا كأنني ابنه تمام. كان يقعد طول النهار يكلمني على سر المهنة؛ إن الواحد منا لازم يحافظ على التوازن في كل شيء، في أكله في شربه في مشيه في كلامه، وفي كل ما يعمل لازم يخلي في باله كأنه ماشي على الحبل. إن مال يمين أو شمال تتقطم رقبته أو تنكسر سلسلة ظهره. القصد لا أكثر عليك، كنت أختلس الفرص في ساعة ما يروق بال عم آدم وأشد الحبل فوق الأرض خطوتين، طبعا عمري ما رفعته عن الأرض زيادة عن شبر أو شبرين؛ مهما كان بني آدم خواف. وفي كل مرة أقف فيها على الحبل وأمسك نفسي ألاقيني غبت عن الدنيا وما فيها. لحظة واحدة طبعا، والعارف لا يعرف، لكن كانت تساوي الدنيا وما فيها. أنا قلت تساوي الدنيا؟ أبدا والله. كانت لحظة من الآخرة، من عالم تاني بعيد كأني واقف على الصراط نفسه. رجل على جسر جهنم ورجل على سرير في الجنة. على يميني ملائكة الرحمة، وعلى شمالي ملائكة العذاب. أصرخ بعزم ما في وأقول أنا جئت يا أمي! أنا ماشي قدامك يا حبيبتي. تعالي، لا تخافي، هاتي يدك، أنا أنور لك السكة العتمة. الصراط عريض أعرض من جسر بلدنا، النار تحت رجليك وفوق رأسك، لكن لا تخافي، غيرك يعديه فيصبح فحما أسود، وأنت تعديه حمامة بيضاء. غيرك يمشي عليه ألف سنة، ألفين، ثلاثة آلاف، وأنت تجري عليه أسرع من البرق والطير والريح. كنت أصرخ وأضحك وأبكي مثل المجنون، طبعا كان الحبل على الأرض، أو بينه وبينها شبر أو شبرين. وكان عم آدم يمشي بجانبي يسندني ويأخذ بيدي ويجفف دموعي. سمها سعادة، سمها حزنا، ندما، خبلا. المهم أنني كنت أحس أني أكفر عن ذنبي؛ ذنب قديم أقدم من الكون ومن سيدنا آدم نفسه. صحيح تقدر تقول إنه ما كان ذنبي. وهل كان في يدي أن أموت قبل أمي أو لا أموت؟ هل كان في يدي أن أعرف أنني سأكون ابنها الوحيد ؟ لو كان مات لها ابن قبلي أو حتى بنت كنت استرحت من العذاب، كنت رميت الهم من على ظهري ورقصت على الحبل بحق وحقيق. كنت أصبحت أكبر منافس لك. لا، لا! في سيرك ثاني. سيرك عالمي، أمريكاني، آخر مكن واستعدادات ونمر بالكهرباء والنيون. تضحك؟ طبعا على كرشي؟ تقول وأين أروح من اللحم والضغط وتعب الأعصاب ودوا السكر ورعشة اليدين والرجلين؟ لكن أنت نسيت أنني كنت سأرقص بحق وحقيق، رقص صحيح، مثل كل الناس حواليك. أبدا أبدا، من غير حبل ولا حاجة، طبعا على الأرض. وهل فيه غير الأرض! منها وإليها يا صاحبي! حتى الهموم كانت تبقى هموما من نوع ثان. لا فيها ندم ولا خجل، ولا تسمع أحدا ينادي عليك من عالم ثان ويقول لك أنا منتظرك! منتظر تأخذ بيدي. آه يا صاحبي من الانتظار! تعرف إن فيه ناس طول عمرها تنتظر. طول عمرها لا تعمل شيئا إلا أنها تنتظر! أنت تنظر في الساعة؟ لا مؤاخذة؟ يظهر أنك أيضا تنتظر؟ أن أفرغ من كلامي؟ الله يسامحك. طبعا أنا أطلت عليك، لا العفو. والساعة الآن؟ هه؟ تمام. ربع ساعة ويبتدئ العرض؟ ونمرتك ثاني نمرة؟ آه! ياما كان في نفسي تأخذني معك، ساعة ما شفتك من يومين كنت أتمنى أن يشيلوني بلحمي وشحمي ويضعوني على الحبل معك، وأتمدد وأسند رأسي عليه وأقول: يا هوه! أنا في عرضكم! طول عمري كان نفسي أموت على الحبل، حبل مشدود بين الأرض والسماء، صراط ومشدود بين الجنة والنار. يا هوه أنا مت خلاص! أديت ما علي ومت خلاص! لكن أنا أكثرت عليك. من غير كسوف والله أكثرت عليك. تقول أحضر وأشوفك هناك؟ وهل فيها كلام؟ طبعا سأحضر وأصفق لك. ولو كان لي بخت تتوسط لي عند المدير يشغلني معك! تقول والكرش واللحم والشحم؟ علم هذا عند الله؟ يمكن تصادف وأجري عليه مثل الحصان، أو أتمدد وأنتظر لغاية ما أشوفها من بعيد وأمد لها يدي . تقول أقع تنقطم رقبتي؟ طيب والشبكة راحت يا سيدي؟ ما هي لحسن الحظ دائما ممدودة. مصيرها تتلقف الواحد حي ولا ميت. لا مؤاخذة. تقول لا بد تمشي؟ طيب على كيفيك. تقول ممنون؟ يا شيخ بلا مبالغة! يا رجل العفو! أهلا وسهلا. يا ألف مرحبا. حصل لنا الشرف والله. ومن كل كم سنة لما الواحد يتعرف على واحد مثل حضرتك، يلعب على الحبل. تقول يمشي على الصراط؟ طيب يا سيدي. من هنا ورائح سميه الصراط!
1964م
الرجل الذي يعتذر دائما
كنا، أبي وأنا، نزور عمتي المسكينة مرة في كل أسبوع. فمنذ أن دخلت المصحة ونحن نحرص على هذه الزيارة، ونمني أنفسنا بأن تفطن يوما إلينا، وتعرف أنها ليست مقطوعة من شجرة. كنا نركب قطار حلوان صباح يوم الجمعة، ونأخذ معنا ما نستطيع أخذه من مأكولات أو حلويات، ونمضي معها بضع ساعات حتى ينتهي موعد الزيارة، فنذهب إلى العين أو نقضي بقية النهار في الحديقة اليابانية. ومع أنها كانت تظل طول الوقت غائبة عنا تحدق في السقف وتتمتم بكلمات لا نعرفها، إلا أننا مع ذلك لم نكن نقطع الأمل في شفائها يوما من الأيام.
كانت زيارتي للمصحة تفتح لي عالما غريبا ليس لي به عهد، وتتيح لي متعة عجيبة تلذني بقدر ما تؤلمني؛ فقد كانت رؤية هؤلاء المساكين الذين خرجوا من دنيا العقل والتحدث معهم والاستماع إلى نوادرهم لا يعدلها عندي قراءة الحكايات والحواديت أو الاستماع إليها من جدي. وكنت أعود منها في كل مرة في حالة من النشوة والحيرة والذهول لم يكن يستطيع صبي مثلي أن يعبر عنها. وبالطبع كنت أسأل أبي عما حدث لعمتي، فيقول في كلمات مقتضبة: إن زوجها قد مات وتركها شابة صغيرة. ولم يكن هذا الجواب بطبيعة الحال يقنعني، فألح بالسؤال من جديد، فيقول: إنها ظلت تنتظر عودته وما زالت تنتظر. فإذا اعترضت بأن الأموات لا يعودون، قال: إنها لو صدقت أنه مات لما حدث لها ما حدث. عشرون عاما وهي تصلي وتدعو وتنتظر في كل عام أن تطلع لها طاقة القدر وينزل عليها من السماء أو يسقط عليها من السقف، ولكن طاقة القدر لا تظهر، والزوج الغائب لا يعود.
كنا ندخل من باب العنبر الكبير فنراها جالسة على سريرها في ثوبها الأبيض، على رأسها طرحة بيضاء كبيرة، وعيناها مثبتتان على السقف، وشفتاها لا تكفان عن الحركة. ولم تكن يبدو عليها أنها تنتبه إلى وجودنا، أو أنها ستفتقدنا إن غبنا عنها. ومع ذلك فقد كنت أؤكد لأبي أنني أرى في عينيها الصامتتين فرحة لا يمكن التعبير عنها، تلمع فجأة ثم تنطفئ في ذلة وانكسار. وكان يخيل إلي أنني أرى هذه الفرحة في عينيها حين كنت أقترب منها وألثم يدها، أو حين كنت أتشجع في بعض الأحيان فأمد شفتي وأطبع على خدها أو جبينها قبلة.
وطبيعي أن عمتي المسكينة لم تكن وحدها هي سر المتعة التي كنت أحس بها عند زيارتي للمصحة، بل أستطيع أن أقول إنها لم تكن غير المناسبة التي أنتهزها لكي أراقب سائر المرضى، وأقترب ممن لا خطر من القرب منهم، وأحاول أن أعرف أخبارهم، وألمس تلك الشعرة الدقيقة التي نزعت من عقولهم فلم يعودوا يفرقون بين العقل والجنون. وكما يوجد عادة في كل مستشفى للمجانين، فقد كان هناك أيضا من يتقمص شخصية تاريخية قرأت عنها في كتب المطالعة، أو من يحس دائما بأنه مضطهد من الجميع لأنه أصلح العالم، أو من يغني أو يخطب أو يكلم نفسه أو يتلفت وراءه في كل لحظة، أو من يجلس وحيدا صامتا كأنه جرح كبير حي. كان هناك بالطبع الكثيرون ممن لا يلاحظ الإنسان وجودهم، إما لأن جنونهم عادي وممل، أو لأنهم لا يميلون بطبيعتهم إلى أن يلتفت إليهم أحد، أو لأنهم يثبتون لكل إنسان أنهم عقلاء، فيثبتون بذلك نفسه أنهم مجانين. وكانت هناك شخصيتان تجذبان انتباهي في كل مرة أزور فيها المصحة، لا لغرابتهما، بل ربما لأن صاحبيهما كانا من النوع الحيي الذي لا يتطفل ولا يزعج أحدا. كان أحدهما يسمي نفسه الإسكندر الأكبر (وإن لم يثبت دائما على هذه التسمية، فكثيرا ما كان يدعي أنه هو هتلر أو موسوليني أو نيرون)، وكان يقترب من الزائر في ثيابه الأنيقة النظيفة، ليقول له في صوت مهذب حزين: صدقني، أنا الإسكندر الأكبر. لم يعد هناك مكان واحد على الأرض لم تحتله جيوشي، لم يعد هناك شبر واحد لم أضع عليه قدمي. حين عرفت هذا لأول مرة بكيت؛ أليس هذا سببا كافيا للبكاء؟ وكان الآخر يسمي نفسه المصلح العظيم. كان عجوزا محني الظهر، بارز العظام، مجهد العينين، ذابل الوجه كأنه جثة. وكان في العادة يرتدي بذلة مهلهلة قديمة، ويحمل تحت إبطه عددا لا حصر له من المجلات والصحف القديمة، ويقترب منك كما يقترب المعلم العجوز، وتبرز أسنانه الصفراء الكبيرة وهو يقول: «إياك أن يفوتك مقالي. سيظهر في مجلة الجهاد. العدد محدود فإياك أن يفوتك مقالي.» فإذا سأله الطبيب الشاب - ربما لأن أحدا لم يعد يسأله حتى لا يسمع نفس الجواب - عن موضوع المقال أو عنوانه قال: إن العالم فسد. كان لا بد من كتابة مقالي. إياك أن يفوتك. العدد محدود.
كانت مثل هذه الشخصيات بالطبع تسليني وتملأ عيني الصغيرتين بدهشة سحرية لذيذة يصعب أن يحس بها الإنسان ذلك الإحساس الخالص بعد أن يتخطى دور الطفولة، ولكنها مع ذلك لم تحفر في ذهني وقلبي نفس الأثر الذي حفره فيهما ذلك الرجل العجوز الصامت الذي ما كنت لأفطن إليه لو لم يدلوني عليه. كان الطبيب يتحدث إلى أبي ويطمئنه على حالة عمتي حين مر علينا، وأحنى رأسه انحناءة لفتت انتباهي؛ لما كانت تنم عليه من أدب مبالغ لا يمكن أن يصدر إلا عن جنتلمان حقيقي كما يقولون في هذه الأيام. كانت ملابسه نظيفة مرتبة وأنيقة بلا تعمد ولا إفراط، وكان متوسط القامة ميالا إلى القصر، ضئيل الجسم، يسير دائما على أطراف أصابعه، ويبتسم لكل من يراه ابتسامة تضيء وجهه الهادئ الطيب الوديع، وتكاد تقول لك في كل مرة: أرجوك أن تعذرني؛ فليس ذنبي أنك تراني. وحين سألت الطبيب عنه تعجب من جهلي له، وضحك أبي معه ثم قال: ربنا بحاله! كيف لم تسمع عنه حتى الآن؟ ألا تقرأ الجرائد يا أخي؟ فلما نفيت أنني أعرفه وأبديت دهشتي من أنني لم أره في زياراتي السابقة قال موجها كلامه إلى أبي: أغلب الناس لا يتصورون أن هذا الرجل المؤدب إلى حد مخجل يمكن أن يقول عن نفسه ذلك. كنت أنتظر حين سمعت عنه هذا من الطبيب السابق أنني سأرى أمامي عملاقا مؤذيا يحطم الرءوس ويكسر الأبواب والنوافذ ويرعب النزلاء. ولكنني دهشت حين رأيته في أول مرور لي على المرضى. مرق من جانبي كالظل، وحين رآني أحنى رأسه ووضع يده على قلبه وابتسم ابتسامته الصامتة الخجولة. فلما أرسلت إليه التمرجي ليدعوه ويخبره بأنني أنا الطبيب الجديد رأيته يقبل نحوي كالعروس التي تتعثر في ثوب زفافها ويميل على أذني ويهمس: «أنا هنا الله. أرجوك لا تخبر أحدا!» وضحك الطبيب وقال: إنه فيما يقول التمرجية من أقدم نزلاء المصحة. يظهر أن أهله من الأغنياء الذين يملكون الإنفاق عليه كل هذه السنين بلا أمل في الشفاء. إنني لا أعرف متى دخل المصحة، حتى الطبيب الذي قبلي لم يعرف بالضبط متى دخلها. في بعض الأحيان يخيل إلي كأنه هنا من الأزل!
وبدأ اهتمامي يتركز على هذا المريض. نسيت الإسكندر الأكبر ودموعه وصوته الباكي الذي كان يصل إلي في بعض الأحيان، ونسيت المؤلف العجوز الذي كان يلح علي في كل مرة بأن أنتظر مقاله الذي سيصلح العالم، بل كدت أيضا أنسى عمتي المسكينة التي كانت تعيش لتنتظر زوجها الغائب، أو تنتظر لتبدأ العيش بعد أن يعود. ورحت أتتبع المريض المهذب، وأختلس الفرص لأراقبه من وراء زجاج النافذة وهو جالس في الحديقة، بل وأنتهز فرصة انشغال أبي مع الطبيب الذي كان يعرفه معرفة وثيقة لأنزل إلى الحديقة وأقترب منه. كان يجلس وحده على كرسي من الكراسي القش التي توضع عادة في حدائق البيوت حول موائد الشاي، مادا ذراعيه على ركبتيه، صامتا ومستغرقا في صمته كأنه تمثال في المتحف الفرعوني، يشع من وجهه ومن عينيه الساكنتين هدوء لا يمكن أن يكون له وجود إلا في جزيرة منعزلة صافية. كنت أعرف أنه، على الرغم من أدبه الشديد المحير، لا يكلم أحدا ولا يجيب على سؤال أحد، حتى الطبيب الذي يعالجه كان قد يئس من أن يخرج من شفتيه حرفا واحدا يكشف عن حالته أو يبين أثر العلاج عليه. ومع ذلك فلم يعرف اليأس طريقه إلى قلبي الصغير، بل كنت أحس إحساسا غامضا بأن «الله» سيتكلم معي وحدي من دون الناس جميعا.
في عصر يوم من أيام الجمعة كنت أتقدم منه في بطء وحذر حين سمعت صوتا ينادي علي قائلا: اقترب قليلا. تقدمت في وجل يحدوني الأمل الغامض وقلت: سمعت أنك لا تكلم أحدا ولا ترضى أن يكلمك أحد. ابتسم وقال مشجعا: أنا لا أتكلم إلا مع الأطفال. لماذا تأتي إلى المصحة؟ قلت: لأزور عمتي. قال: الست زكية؟
قلت نعم. فسأل: وماذا عندها؟ قلت: من سنين وهي تنتظر زوجها. تنتظر أن تطلع لها طاقة القدر. قال وهو يرفع حاجبيه: طاقة القدر؟ بالطبع تنتظر أن يكلمها الله. قلت: ربما. هز رأسه آسفا وقال: مسكينة. لم أستطع أن أنفذ طلبها. قل لها: إني آسف. قلت: لماذا؟ قال: لأنني لا أكلم أحدا.
كنت أقف أمامه حائرا حين نادى علي أبي. قرصني من أذني وأنبني على شقاوتي، وقال لي إنه يبحث عني بعد أنت انتهى موعد الزيارة، وحذرني من الاقتراب من ذلك الرجل مرة أخرى وإلا كسر رقبتي، ولكنني كنت أجري وأنط إلى جانبه، والسعادة باقتحام المجهول تنشر النشوة في جسدي كله الذي بدا كأنه تحول إلى جسد عصفور يرقص ويغني.
وتكررت زياراتنا للمصحة بعد ذلك كثيرا. وفي كل مرة كنا نرى الرجل المؤدب العجوز يحيينا في تواضع وخجل وابتسامته الصغيرة لا تفارق شفتيه، أو جالسا يتشمس في الحديقة، محني الرأس، مستغرقا في صمته، موحشا كأنه قصر عظيم مهجور. وكانت أوامر أبي المشددة بأن أبتعد عن طريقه تخيفني وتمنعني من محاولة الاقتراب منه، بل لقد كان يحرص على ألا يفلت يدي من يده طوال فترة الزيارة، ويهددني بأنه على الرغم من مظهره الهادئ يثور في بعض الأحيان، ويتشنج ويصفع كل من يعترض طريقه. وكنت بالطبع لا أصدق شيئا مما يقوله أبي، وكيف أصدق أن مثل هذا التمثال الحي يمكن أن يؤذي ذبابة؟ ولكنني كنت أجد نفسي مضطرا إلى كبت رغبتي الهائلة في الاقتراب منه كما فعلت في تلك اللحظة النادرة التي غفل فيها أبي عني، وكنت أمني نفسي بأن الفرص لا شك قادمة، وأنه سيأتي يوم أستطيع فيه أن أتحدث معه، بل ربما استطعت أيضا أن أقضي معه وقتا أطول مما أحلم به، فأعرف حكايته على حقيقتها، وأتصل بأهله في المدينة، بل وأساعده على الشفاء ما استطعت.
ولكن أحلامي سرعان ما تبددت حين قال لي أبي ذات يوم من أيام الجمعة ونحن في الطريق إلى المستشفى إننا سنحضر عمتي معنا إلى البيت، وإنه لا داعي لبقائها في المستشفى بعد أن أخذت العلاج الكافي في مثل حالتها، وإن وجودها معنا ربما ساعدها على الشفاء. وحين قال لي إنه أحضر ملابسها معه عجبت كيف لم أنتبه طوال السفر في الديزل إلى الحقيبة التي يحملها معه. وذهبنا إلى المستشفى وأنهينا الإجراءات اللازمة لخروجها، وجلسنا في قاعة الانتظار حتى تفرغ من ارتداء ملابسها. ولم يطل الانتظار كثيرا؛ فقد حضر الطبيب بعد قليل فشكره أبي على عنايته بها، كما وعده الطبيب بدوره أن يمر علينا بعد أيام ليطمئن على حالتها. وكنا ننتظر عودة عمتي ونتهيأ للانصراف حين لمحت من وراء الزجاج من يشير إلي. كان هو المريض العجوز الذي بدا عليه كأنه كان يبحث عني من مدة طويلة، وينتظر في قلق أن أذهب إليه. ويظهر أنني أنا أيضا كنت أشير إليه محاولا أن أفهمه أن يدي في يد أبي، وأن عليه هو أن يأتي إلينا حين سمعت أبي يقول للطبيب: الحق يا دكتور، الرجل سيكسر الزجاج. كان يدق بكلتا يديه على النافذة الكبيرة، حتى خيل إلي أنه لو لم يسارع الطبيب ليفتح الباب فسوف يكسره وينفذ منه. وذهب الطبيب ففتح له، وانفلت منه يجري نحوي وهو يمد يده إلي وعلى شفتيه ابتسامته التي آلمني ذبولها وانكسارها. وحين وضعت يدي في يده أخذ يربت عليها بيده الأخرى وعلى كتفي ويقول: لا مؤاخذة يا ابني. أنا آسف يا جماعة. غصبا عني. كان لا بد أن أخلق العالم. أرجوكم أن تبلغوا اعتذاري للست زكية. أنا آسف. آسف جدا.
وانصرف كما جاء على أطراف قدميه.
1964م
Bilinmeyen sayfa