واتفقوا على المسير إلى قازان (^١) لتلقيه، وأخذ الأمان منه لأهل دمشق، فتوجهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر، فاجتمعوا به وكلمه الشيخ تقي الدين ابن تيمية كلامًا قويًا شديدًا، فيه مصلحة عظيمة عاد نفعها على المسلمين، وفي يوم الجمعة تاسع عشر جمادى الأولى توجه السلطان قازان إلى بلاده نحو بلاد العراق، وترك نوابه بالشام في ستين ألف مقاتل، وجاء كتابه: إنا قد تركنا نوابنا بالشام في ستين ألف مقاتل، ومن عزمنا العود إليها في زمن الخريف، والدخول إلى الديار المصرية وفتحها (^٢).
وفي عام ٧٠٢ هـ عاد التتار لغزو بلاد الشام بقيادة قازان، وفي الثاني من شهر رمضان حصلت معركة عظيمة بِمَرْجِ الصُّفَّرِ (^٣) في وادي شَقْحَبٍ (^٤) بين المسلمين والتتار، انتهت بانتصار الإسلام وأهله انتصارًا عظيمًا (^٥).
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية ممن جاهد ونصح وشجع، وكان قبل ذلك قد ذهب لمصر ودخل على السلطان الملك الناصر فاجتمع بأركان الدولة واستصرخ بهم وحضهم على الجهاد وتلا عليهم الآيات والأحاديث وأخبرهم بما أعد اللَّه للمجاهدين من الثواب فاستفاقوا وقويت هممهم (^٦)، فكان له ﵀ ورضي عنه دورٌ عظيمٌ في تشجيع الناس وحثهم على القتال، وأقسم لهم بأنهم منصورون، وأفتاهم بجواز الفطر في نهار رمضان ليتقووا على الجهاد، ولم ينصرف عنهم بل جاهد بنفسه وقاتل قتالًا يفوق الوصف.
قال ابن كثير: "وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون على التتار، فيقول له الأمراء: قل إن شاء اللَّه، فيقول: إن شاء اللَّه تحقيقًا لا تعليقًا، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب اللَّه" (^٧).
_________
(^١) قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان، هلك بنواحي الري، في أواخر سنة ٧٠٣ هـ، وكان قد ملك في أواخر سنة ٦٩٤ هـ، فيكون مدة مملكته ثمان سنين وعشرة أشهر، وكان قد اشتد همه بسبب هزيمة عسكره وكسرتهم على مرج الصفر سنة ٧٠٣ هـ، فلحقه حمى حادة ومات مكمودًا. انظر: المختصر لأبي الفداء الأيوبي (٤/ ٥٠).
(^٢) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (١٧/ ٧١٨ - ٧٢٥).
(^٣) صحراء بين دمشق والجولان، وهو مرج الصّفّر، بضم أوله، وفتح ثانيه، وتشديده، وبعده راء مهملة. انظر: مراصد الاطلاع للقطيعي (٢/ ٨٤٤).
(^٤) قرية شقحب من عمل دمشق. خطط الشام لمحمد بن عبد الرزاق بن محمد، كُرْد علي (١/ ٢٧٦).
(^٥) انظر: المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء الأيوبي (٤/ ٤٨)، والبداية والنهاية لابن كثير (١٤/ ٢٩).
(^٦) انظر: العقود الدرية لابن عبد الهادي (ص ١٣٥).
(^٧) انظر: البداية والنهاية لابن كثير (١٨/ ٢٣).
1 / 23