تقع منازل بني تميم على مقربة من بني عامر إلى الجنوب؛ وهي تحاذي المدينة من الشرق ممتدة نحو الخليج الفارسي، وتتصل من ناحية الشمال الشرقي بمصب الفرات، وكان لبني تميم بين قبائل العرب في الجاهلية وفي عهد الرسول مقام، لما ظهر فيها من خصال الشجاعة والكرم، ولما نبغ بين رجالها من الأبطال والشعراء، ولا يزال التاريخ يذكر لفروعها بني حنظلة ودارم وبني مالك وبني يربوع مواقف ترويها كتب التراجم كما يرويها كبار المؤرخين.
ولقد أدى اتصال هذه القبائل بمصب الفرات وبالخليج الفارسي إلى تنقل أبنائها بين شبه الجزيرة وأرض العراق، كما أدى إلى اتصالهم بفارس، وكان من أثر ذلك أن دان كثيرون منهم بالنصرانية وإن بقي أكثرهم يعبدون الأصنام، فلما انتشر الإسلام بينهم احتفظوا باستقلالهم، ولم ينزلوا عنه راضية نفوسهم، لذلك كانوا في مقدمة القبائل التي أبت أداء الزكاة حين بعث رسول الله جباته يقتضونها من الناس، ولقد أسرع بنو العنبر من تميم إلى نبالهم وسيوفهم حين جاء العاشر يطلب إليهم أداءها، فلما ذهب إليهم عيينة بن حصن بأمر الرسول فقتل وسبى منهم، ذهب وفد من أشرافهم إلى المدينة ودخلوا المسجد ونادوا النبي من وراء حجراته أن يرد إليهم أسراهم، وذكروه بمواقفهم معه في حنين، وبما لقومهم من مكانة بين العرب، وخرج إليهم حين الصلاة، فذكروا له أنهم جاءوا يفاخرونه، فلما رأوا خطيبه أبلغ من خطيبهم، وشاعره أشعر من شاعرهم، وصوته أعلى من أصواتهم، أسلموا؛ فأعتق النبي أسراهم وردهم إلى قومهم راضية نفوسهم.
وقبض رسول الله وله في تميم عمال، بينهم مالك بن نويرة على رأس بني يربوع، وقد اختلف العمال حين بلغتهم وفاة النبي ما يصنعون: أيؤدون الزكاة لأبي بكر أم يقسمونها بين الناس؟ وكان لما بينهم من تنافس أثر بين في اختلافهم ذاك، بل لقد أدى هذا التنافس إلى أن يقاتل بعضهم بعضا، وأن يقيم فريق منهم على الولاء لسلطان المدينة، وأن يتنكر الآخرون لهذا السلطان.
وكان مالك بن نويرة فيمن ردوا الزكاة لأصحابها ولم يروا لأبي بكر حقا في اقتضائها، بذلك أصبح عدوا للمسلمين معرضا لإغارتهم عليه.
وبينما القوم في اختلافهم فجأتهم سجاح بنت الحارث مقبلة من أرض الجزيرة بالعراق يحيط بها رهطها من تغلب، وتقود معها جندا من ربيعة والنمر وإياد وشيبان، وكانت سجاح تميمية من بني يربوع، وكان أخوالها من تغلب بالعراق، وقد تزوجت فيهم، وأقامت بينهم، وتنصرت فيمن تنصر منهم، وكانت تنقم من محمد ومن اتبعه ما ينقمه منهم اليهود والنصارى، وما ينقمه منهم الفرس والروم، وكانت امرأة ذكية، تدعي الكهانة، وتعرف كيف تقود الرجال، فلما ترامى إليها أن محمدا أدركته الوفاة، جاءت في رهطها وفي القبائل المحيطة بها تريد أن تغزو المدينة وأن تقاتل أبا بكر.
يرى بعض المؤرخين، وقد يكونون على حق فيما يرون، أن سجاح لم تنحدر من شمال العراق إلى شبه جزيرة العرب يتبعها رهطها والقبائل المحيطة بها لكهانتها ومطامعها الذاتية، وإنما انحدرت مدفوعة بتحريض الفرس وعمالهم في العراق كي يزيدوا الثورة في بلاد العرب ضراما، ليستعيدوا ما كان لهم في كثير من أرجائها من سلطان بدأ يأفل منذ أقام محمد بدهان عاملا له على اليمن، بعد أن كان بدهان عامل كسرى عليها.
وقد يرجح رواية هؤلاء المؤرخين أن سجاح كانت الأنثى الوحيدة التي ادعت النبوة، وأن مثيلاتها اتخذن في كل العصور أداة للتجسس والرعاية، وأنها لم تلبث في بلاد العرب إلا ريثما بثت دعوة الانتقاض، ثم عادت إلى العراق فسكنت إلى حياتها به.
وليس عجبا أن يتخذها الفرس أداة لإذكاء الثورة في بلاد العرب وقد كانوا يرون هذه البلاد أهون من أن يجرد لها جيش فارسي يقاتلها، وإن كانت مع ذلك جديرة بأن ترد إلى عزلتها الأولى قبل قيام محمد بها وانتشار الإسلام فيها، ولا شيء أدنى إلى تحقيق هذه الغاية من القضاء على الدين الجديد الذي جعل أبناءها يعتدون بأنفسهم، وإن لم يعتد الفرس بهم.
جاءت سجاح إلى شبه الجزيرة متأثرة بهذه العوامل، وكان طبيعيا أن تجعل وجهتها أول نزولها بلاد العرب إلى قومها بني تميم، وقد فجأتهم وهم مختلفون فيما بينهم: يقول قوم بإيتاء الزكاة واتباع خليفة رسول الله، وينكر آخرون هذا وذاك، ويتردد أقوام فهم في حيرة؛ ثم ينشأ عن هذا الاختلاف قتال بينهم يشتد حينا ويهدأ حينا، ورأت هذه البطون من بني تميم مقدم سجاح وعرفوا عزمها على قتال أبي بكر، فازدادوا بين الإسلام والردة اضطرابا، وشهد من بقي على إسلامه منهم ما هو أدهى وأمر مما هم فيه؛ فها هي ذي في جيشها اللجب بالقياس إلى جموعهم المتنافرة تأخذهم على حين غفلة منهم وتعلن فيهم نبوتها وتدعوهم إلى الإيمان بها، أفيقولون عنها ما قال عيينة بن حصن عن طليحة: «نبية من بني يربوع خير من نبي من قريش، وقد مات محمد وسجاح حية.» وعلى ذلك يتبعونها ويقومون معها في وجه أبي بكر والمسلمين، أم ينصرفون عنها ويدعونها تسير في طريقها تواجه أبا بكر، فإما قضى عليها فانقضت فتنتها، وإما تم لها الغلب فكان لهم، وهم قومها الأدنون، فخار نصرها وفخار نبوتها؟
وقفت سجاح في جندها على حدود بني يربوع، وأرسلت إلى زعيمهم مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة، وأنبأته بعزمها على غزو المدينة، وأجابها مالك إلى الموادعة، لكنه صرفها عن عزمها عن لقاء أبي بكر وحرضها على قتال من اختلف معه من أحياء بني تميم، واقتنعت سجاح برأيه وقالت: «نعم! فشأنك بمن رأيت، فإنما أنا امرأة من بني يربوع، وإن كان ملك فهو ملككم.»
Bilinmeyen sayfa