ثم جعل يعلوه بالدرة في رأسه حتى طار عدوا إلى ناقته فارتحلها عائدا إلى قومه من بني سليم.
تداول الناس أنباء أبي بكر وعفوه عمن رجع إلى الإسلام بعد ردته، فسكنت حدة القبائل التي ناصرت طليحة ثم عادت إلى الإسلام حين هزمه خالد بن الوليد، لكن فلولا من غطفان وطيء وسليم وهوازن وغيرها تجمعت واجتمعت إلى أم زمل سلمى بنت مالك وعاهدتها أن تقف وإياها في وجهه حتى الموت، ولا شك أن قد كان لهذه الفلول ثارات عند المسلمين، لم تسكن منها الهزيمة ولا سكن منها عفو أبي بكر، هي التي حفزتها إلى التجمع والتعاهد على قتال المستيئس، وما بقاؤها بعد فرار طليحة وانكشاف كذبه لولا هذه الثارات وتحركها في نفسها! وكان لأم زمل عند المسلمين ثأر لم يندمل جرحه رغم مر السنين، فكان من الطبيعي أن تجتمع هذه الفلول حولها وأن تتخذ من ثأرها علما ولواء لثاراتهم جميعا.
وأم زمل هذه هي بنت أم قرفة التي قتلت أيام النبي أشنع قتلة، فقد خرج زيد بن حارثة يوم ذاك إلى بني فزارة فلقيهم بوادي القرى فأصابوا رجاله، وأصيب هو بجرح مميت حمل على أثره إلى المدينة، فلما برئ رده رسول الله إلى بني فزارة في جيش فقتلهم وأصاب فيهم وأسر منهم، وكانت أم قرفة فاطمة بنت بدر بين الأسرى، وكانت هي التي تحرض قومها في الموقعة الأولى التي أصيب فيها زيد؛ فلما ظفر بها أمر بقتلها فقتلت قتلا عنيفا، قيل: إن كل ساق من ساقيها شد إلى بعير ثم دفع كل بعير إلى ناحية فتمزقت، وسبيت ابنتها أم زمل، فوقعت لعائشة أم المؤمنين فأعتقتها، فأقامت عندها زمنا ثم رجعت إلى قومها، وقد بقي مقتل أمها ماثلا أمام عينيها يقض مضجعها ألا تجد إلى الثأر له الوسيلة، فلما كانت الردة ارتدت ووجدت من فلول هذه القبائل عونها على أن تأخذ بثأرها لتهدأ ثائرتها وتسكن حفيظتها.
وكانت أمها أم قرفة في عزة ومكانة من قومها، كانت عمة عيينة بن حصن، وكانت زوج مالك بن حذيفة، وكان لها منه أبناء تعتز بهم في بني فزارة، وكان لها جمل تخرج عليه في طليعة قومها إذا خرجوا ليغنموا من قبيلة أخرى، فلما ماتت بقي هذا الجمل لابنتها أم زمل، وكانت ابنتها في مثل عزها، وكان لها من المكانة في قومها ما كان لأمها، فلما اجتمعت حولها فلول القبائل التي قاتلت أبا بكر وخالدا ركبت جملها وسارت بينهم وجعلت تدعوهم لحرب خالد وتشجعهم؛ واجتمع مع هذه الفلول كل شريد وكل مضيق عليه، حتى استغلظ أمرها وعظم شأنها.
فلما بلغ ذلك خالدا وهو فيما هو فيه من تتبع الثائرين وأخذ الزكاة ودعوة الناس وتسكينهم، سار إليها يقاتلها.
والتقى الجمعان وحمي وطيس القتال واشتدت الحرب، وأم زمل على جملها تحرض رجالها وتدفعهم إلى المعركة فيندفعون مستبسلين لا يبالون الموت، حتى لقد أبيدت منهم بيوت بأسرها، ورأى خالد بأس هذه المرأة وشدتها واستماتتها في محاربته فجعل مائة من الإبل لمن ينخس جملها، واندفع فوارس المسلمين نحوها، فإذا من حولها الرجال الأشداء يدافعون عنها ويموتون دونها، ولقد مات حول جملها مائة رجل قبل أن يستطيع فرسان المسلمين الوصول إليه، فلما وصلوا إليه عقروه وقتلوها وقضوا بذلك على فتنتها، فقد فتنت الرجال حقا بقوتها وعزها وشجاعتها وشدة تحريضها لهم، ولم تلبث هذه الفلول حين رأوا جملها يعقر ورأوها تقتل أن فترت عزيمتهم وتشتت جمعهم، ففروا مولين الأدبار لا يعقبون، بذلك خبت نار الفتنة وقضي على الردة في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة، وما عسى أن يبقى منها وقد فر رءوسها أو طاحت رءوسهم فلم تبق منهم باقية!
أولم يكن هذا المثل الذي ضربه أبو بكر يكفي العرب كي يرجعوا في سائر الأنحاء من شبه الجزيرة إلى الإسلام؟! لقد رأوا جنوده تسير إليهم من كل صوب، بقصد كل لواء منها إلى حيث أمره خليفة رسول الله، وقد ترامت إليهم أنباء خالد بن الوليد وعرفوا مصير طليحة؛ لكنهم أبوا مع ذلك أن يذعنوا، إنهم رأوا نبي قريش ينشر في العرب لواءه، ويمد عليهم سلطانه، فلم لا يكون لكل قبيلة نبي يرد عنها قريشا إن لم ينشر في مختلف القبائل لواءها؟! ونسيت القبائل ونسي الذين ادعوا النبوة فيها أن محمدا قام في قريش يدعوها إلى الله لا يريد فيها سلطانا ولا يبتغي منها جزاء ولا شكورا، وأنه قام بأمر ربه فقضى عشر سنوات في جهاد أي جهاد، يؤذيه أهله وتناصبه مكة كلها العداوة، وتتعرض حياته وحياة من اتبعوه للخطر، ويأتمر به خصومه ليقتلوه، ويخرجه من دياره مهاجرا إلى المدينة، حتى أذن الله لدينه الحق أن ينتشر بين العرب، وجاءت الوفود من كل صوب تعلن إلى النبي إسلامها، نسي الذين ادعوا النبوة هذا كله، وخيل إليهم أن بلوغ الغاية التي بلغها محمد أمر يسير، كما نسوا أن محمدا إنما بالدعوة إلى الحق، وأنهم يدعون النبوة زورا وبهتانا، لذلك لم يكفهم أن أخذت أهل الجنوب العزة بالإثم، وادكروا ما كان بينهم وبين الحجاز من قديم الخصومة، وما كان لآبائهم فيه من غزوات توجتها أكاليل النصر، أما وقد أصروا على العناد في ردتهم، فلم يكن بد من أن يردوا عنها إلى الإسلام أو يبوءوا بخزيها ويؤدوا حياتهم ثمنا لها.
فلينتقل خالد إذن من البزاخة إلى البطاح، ثم لينتقل بعد البطاح إلى اليمامة، فقد خط القدر في لوحه أن يرد سيفه المرتدين إلى الحق، وما خط في لوح القدر لا محالة نافذ.
الفصل الثامن
سجاح ومالك بن نويرة
Bilinmeyen sayfa