ولم يمض كثير وقت حتى كان بهجت جالسا على مكتبه الجديد، وبدأ يتعرف على زملائه في قسم العقود.
كانوا ثلاثة نفر؛ أحدهم فوزي عمران خريج الحقوق، ويسبقه في التخرج بثلاثة أعوام، والآخر رجب توفيق، ويسبقه في التخرج بسنتين، أما الثالث فهو شحاتة عبد الكريم، وهو حاصل على البكالوريا، ويعمل كاتبا بالقسم.
واستطاع بهجت بعد فترة وجيزة أن يتقرب من زميليه، ويزيل الجمود الذي يرين دائما على الموظف الجديد، ويجعل استقباله من سابقيه مشوبا بكثير من الحيطة والحذر، ولم ينس أن ينادي شحاتة بيا عم شحاتة حتى يسقط عنه الخشية، التي توقع بهجت أن تداخل هذا الموظف الكبير السن، الذي لم يحصل على شهادة عالية، ويجلس في نفس الوقت مع شباب متخرجين في كلية الحقوق. انتهى اليوم الأول لبهجت ولم يكن إلا يوم تعارف وصلات، جاهد جهادا حثيثا أن تكون ودية، سواء كان ذلك مع رئيسه أو زميليه أو حتى الكاتب الذي من المفروض أن يكون مرءوسا له، وذهب إلى بيت الباشا بجاردن سيتي، وما إن فتح إدريس كبير الخدم الباب وتعرف عليه، حتى تبين بهجت أن الأوامر كانت صادرة للخادم بكل شيء.
صحبه إدريس إلى غرفة المكتب وسأله: هل تحب أن آتي لحضرتك بأي شيء قبل الغداء؟ - لا، شكرا. - هذه صحف اليوم، تسل بها حتى أعد المائدة.
ولم يطل انتظار بهجت؛ فسرعان ما عاد إليه إدريس يدعوه إلى غرفة المائدة، وعرف بهجت أن الباشا وأسرته يتناولون طعامهم دائما بالدور الأعلى من القصر. كان الغداء جديرا ببيت كمال باشا، حتى إذا انتهى منه عاد إلى غرفة المكتب وإلى الصحف، حتى يصحو الباشا من نومة القيلولة.
كان بهجت وأبوه يبيتان في فندق العتبة، وكان الاتفاق بينهما أن يلتقيا هناك بعد أن يفرغ بهجت من عمله الجديد، فما إن أذن الباشا لبهجت بالانصراف حتى ذهب إلى أبيه، الذي وجده منتظرا في بهو الفندق الصغير، وبادره أبوه: هيه ما الأخبار؟ - كلها خير، والحمد لله. - وعندي ما يكمل لك هذا الخير، إن شاء الله. - هل من جديد؟ - طبعا، لا بد لك من سكن. - صغير. - والله أنا قدرت أنني قد أحضر إليك أنا ووالدتك وأخوك، فقلت أؤجر شقة بها ثلاث غرف وبها أيضا حجرة استقبال، أما السفرة فتكون في البهو. - إيجارها سيكون كبيرا. - أنا المسئول عن إيجارها. - عظيم. - وأظنك لا تحتاج مني إلى شيء بعد هذا. - أعتقد أن مرتبي من الشركة ومن الباشا سيكون فيهما الكفاية. - أظن ذلك. - إلا إذا كنت محتاجا إلى كسوة أو ما شابه ذلك. - لن نختلف. وهل معقول أن أتأخر عنك في كل ما تريده؟! توكل على الله. - أين هذه الشقة؟ - في المنيرة بشارع خيرت ... هلم بنا إليها. - شيء عظيم أنها ستكون قريبة من بيت الباشا. - لن تحتاج إلى مواصلات. - هلم بنا.
وقام الأب وابنه، وذهبا إلى عمارة في شارع خيرت، وهو شارع لا هو ضيق حقير ولا هو واسع كل الاتساع، والعمارة في ذاتها نظيفة، وقال الأب: الشقة في الدور الثاني حتى لا أتعب أنا ووالدتك في الطلوع إليك.
ودخلا الشقة، وسر بهجت بها كل السرور، وقال له الأب: لن أعود إلى البلد حتى أكون قد فرشت لك الشقة فرشا كاملا. - أطال الله عمرك.
الفصل الرابع
وطد بهجت مكانته في الشركة، وكان عمله يفسح له الطرق، ويمهدها أن يتعرف إلى موظفين شتى بشركات ووزارات، وما هي إلا شهور قلائل حتى كان قد أحكم الصداقات بعدد وافر من أقوام على قدر لا يستهان به من الأهمية.
Bilinmeyen sayfa