الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
شعاع من الأمل
شعاع من الأمل
تأليف
ثروت أباظة
الفصل الأول
صلى الحاج سيد العزوني المغرب في بيته وقام عن السجادة، وجلس إلى كرسيه الأثير في بهو بيته بقرية هندامة، وراح يسبح في قنوت وإخبات، حتى إذا استكمل ما يفرضه على نفسه من تسبيح بعد الصلاة مد يده إلى المصحف الذي يحرص أن يكون دائما بجوار كرسيه، وراح يقرأ في صوت لا هو بالجهير ولا هو بالخافت، ولم تطل به القراءة فقد سمع طرقا على الباب الرئيسي فتمتم: «صدق الله العظيم، لا حول ولا قوة إلا بالله.» ثم صاح: يا بدوية.
وظهرت بدوية من داخل الدار وهي تصيح: نعم. - شوفي من يخبط بالباب.
وفتحت بدوية الباب وكان واقفا إزاءه طلبة عمران الذي صاحت بدوية باسمه لتعلن سيدها به، فقال متوخيا أن يرفع صوته؛ ليسمع القادم ترحيبه به: يا أهلا وسهلا ومرحبا.
ودخل طلبة، رجل في الخمسين من عمره، يرتدي الجلباب البلدي، وفوقه معطف واضح لمن يراه أنه رجل يحترم نفسه ويعتني بمظهره.
جلس إلى الحاج سعيد الذي كان يرتدي هو أيضا جلباب البيت ومعطفا، ولو أن ما كان يرتديه ساعة ذاك لا يمثل حقيقة ملبسه.
فهو عند الخروج من البيت يتخذ الملابس الإفرنجية رداء له.
فالحاج سعيد حاصل على الابتدائية القديمة، وقد ورث عن أبيه أربعين فدانا، وكان هو الوارث الوحيد، فحين مات أبوه لزم الأرض وأتقن زراعتها، وأصبحت الأربعون فدانا خمسين ومعها مال موفور سائل.
ولم يكن لسعيد هم في الدنيا إلا استثمار أرضه وزيادة أمواله بكل الوسائل، كما كان أيضا حفيا بزوجته عايدة وهي ابنة عمه، تزوجها في حياة أبيه الذي شهد مولد ابنيه بهجت ومجدي.
تبادل الرجلان الجمل المعتادة ولم تطل بهما المجاملات، وبدأ طلبة الحديث فيما جاء بشأنه. - صليت بنا على النبي. - عليه الصلاة والسلام. - أنت تعرف طبعا الخسارة التي حدثت لي العام الماضي في تجارتي. - التجارة يا طلبة يا حبيبي فيها المكسب والخسارة، وأنت سيد العارفين. - معك حق يا حاج، ولكن خسارتي كانت شديدة. - أعرف ذلك. - وأريد أن أعوض هذا العام. - بارك الله لك. - بارك الله لك. - حفظت، ولكن الفلوس مقصرة. - كان عليك يا طلبة ألا تغامر بكل رأس مالك. - التجارة مجنونة يا حاج سعيد، وكلما خسر التاجر استمر في المضاربة، وزاد حرصه على أن يظل بالسوق، في محاولة منه لتعويض الخسارة أو تحديدها على الأقل. - المهم ربنا إن شاء الله يكرمك هذا العام. - ليس لنا إلا وجهه يا حاج.
وهمست نفس سعيد له موجهة حديثها الصامت إلى طلبة: ما دام ليس إلا وجهه فلماذا جئت إلى هنا يا كذاب يا منافق؟! المهم لنسمع ماذا تريد، ولو أنني متأكد من النهاية التي سينتهي إليها حديثك. وكان طلبة في فترة الهمس هذه يغمغم بما لم يسمع سعيد الذي أفاق من سرحته، قائلا وكأنه ما حادث نفسه: سبحانه! - إلا أنه جل شأنه جعل لقدره أسبابا. - طبعا. - من أجل هذا جئت لك. - وصلنا، ولو أنك تأخرت كثيرا.
ثم أبان قائلا: يا مرحبا. - تسلفني؟ - وما له؟ - خمسة آلاف جنيه. - مرة واحدة؟ - السوق متوحشة وإن لم أبدأ مبكرا برش العرابين تضيع علي السنة. - ولكن المبلغ كبير جدا. - ليس بالنسبة لك. - وهو كذلك؛ على أن ترد الخمسة ستة. - ماذا؟ - ما سمعت. - أنا أعرف أنك تسلف بالفائدة، ولكن لم أتصورها فاحشة إلى هذا الحد. إنني سأرد المبلغ بعد شهرين أو ثلاثة على الأكثر. - ليس هذا من شأني ... هذا شأنك أنت. - أتكون حاجا ومقيما للصلاة وقارئا للذكر الحكيم وتسلف بالربا؟! - أعوذ بالله بيننا وبين الربا ... حد الله ... أعوذ بالله ... أعوذ بالله ... إذا كنت تعتبره ربا فلا داعي للعملية كلها، ونفضها سيره. - يا عم الحاج سعيد، إذا لم يكن هذا هو الربا فماذا يمكن أن يكون؟ - مشاركة معك في التجارة. - أنعم وأكرم، فهل تخسر معي إذا خسرت؟ - ما هذا الذي تقول؟! أهذا كلام معقول؟! - فكيف تكون مشاركة إذا لم تتحمل الخسارة كما تستفيد بالربح؟! - وكيف أتحمل الخسارة وأنت وحدك الذي تعمل في السوق؟! - اعمل معي. - وهل أنا تاجر؟ - المسألة بسيطة ... تصبح تاجرا. - أنا لا أعرف في التجارة شيئا ... - إذن. - إذن أعطيك المال وشأنك والسوق، إذا كسبت عشرين ألفا مبروكة عليك، فقط ترد لي مالي ومعه شيء مما ربحته. - فإذا خسرت؟ - إنك أنت الذي تتاجر. - أهذا كلامك الأخير؟ - وليس عندي غيره. - متى أجيء إليك لآخذ المبلغ؟ - أنا تحت أمرك. - بكرة. - اجعلها بعد بكرة. - وهو كذلك، ولو أنك كنت قاسيا علي كل القسوة. - بالربح إن شاء الله. - كله بأمره، البنك كان أرحم. - البنك لا يسلف إلا ملاك العقارات فأي بنك تقصد؟ - المهم بعد بكرة إن شاء الله. - إن شاء الله.
وحين خلا الطريق بطلبة راحت الهواجس تدور بنفسه غاضبة ثائرة على هذا الرجل، الذي يقرض بالربا الفاحش ولا يكتفي بهذا، بل هو في جحود يحلل الذي يفعله وينفي عنه الاعتداء على حدود الله.
عاد الحاج سعيد إلى قراءة المصحف ولم يطل به الوقت؛ فقد أتى إليه ابنه بهجت فختم قراءته والتفت إلى ابنه. - أهلا. أين كنت من الصبح؟ - أقطع الوقت الطويل الممل مع أصحابي. - وماذا بعد؟ - إني أنا الذي أسألك: ماذا بعد؟ - هل أنت مصمم على رفض ما أعرضه عليك؟ - يا أبي، مستحيل! وهل أخذت شهادة الحقوق لأشرف على زراعة الأرض، كان أولى بي أن أبقى هنا، ولا أدخل كلية الحقوق، وإن كان لا بد من تعليم عال كنت أذهب إلى كلية الزراعة، ولو أن هذا مخالف لميولي كل المخالفة. أما الأرض فالبركة فيك وفي أخي مجدي. - كان عندي أمل أن تتخرج بتفوق فتعين في النيابة، ثم تصبح قاضيا. - يا أبي، أنا لا أريد أن أكون قاضيا. - هل هناك خريج حقوق يرفض أن يكون قاضيا؟! - أنا. - عجيبة! - ولا عجيبة ولا حاجة؛ القاضي يظل تلميذا طول حياته. - ماذا؟ ماذا تقول؟! - أليس عليه أن يدرس القضايا وينظر في الأحكام السابقة، ورأي الفقهاء ومختلف التفسيرات للمواد التي تنطبق على القضية؟ ... مصيبة سوداء. - إذن، لماذا وافقت على كلية الحقوق؟ - أولا: إطاعة لك، وثانيا: لم أكن راغبا في دراسة أخرى، وما دام الأمر شهادة فلتكن الحقوق وشأنها عندي شأن أي شهادة أخرى. - إذن، أنت مصمم على وظيفة. - أي وظيفة؛ فإن الفراغ سيقتلني. - لماذا لا تقرأ مثلا؟ - يا أبي، لو كنت أحب القراءة لتخرجت في الكلية بتفوق. أنا لا أجد متعة في القراءة، وكنت أذاكر الكتب وأنا في غاية الضيق بها، فكيف أقرأ باختياري؟ - المهم، ماذا تريدني أن أفعل؟ - ألا تعرف؟ - أعرف وأمري إلى الله، ولو أن كمال باشا ليس في الوزارة الحالية. - كمال باشا وجدي نفوذه خارج الوزارة مثل نفوذه في الوزارة. - على رأيك. - اعمل معروفا يا آبا، إن لم تكن عونا لابنك فلمن تكون؟ - توكل على الله. - متى تسافر؟ - أنا مشغول بكرة وبعده، أسافر بعد ذلك إن شاء الله. - وهو كذلك. - توكل على الله. - المهم يعرف الباشا أنك مهتم بالأمر، وأنك لا ترجوه لمجرد أداء واجب. - ستكون راضيا بإذن الله. - يا رب.
الفصل الثاني
كمال باشا وجدي من الوزراء الذين لا ينتمون لأحزاب، وهكذا كان يصل إلى كرسي الوزارة كلما تألفت وزارة مستقلة، أو إذا أرادت إحدى الوزارات الحزبية أن تستفيد بخبرته الفائقة في شئون البورصات أو الشركات المساهمة.
وقد كان عضوا بكثير من مجالس إدارة الشركات، حتى إذا دخل الوزارة ترك مكانه من مجالس الشركات، التي كانت تصر على أن تحتفظ بكرسيه خاليا حتى يعود إليه.
وأسرة كمال باشا وجدي مكونة من زوجته تفيدة هانم المعايرجي، وهي سيدة واسعة الثراء، وكانت أثيرة لدى زوجها، لا يرد لها طلبا، وكان هو يشرف على أملاكها زراعية كانت أو كانت أموالا سائلة أو أسهما لشركات.
ولكمال باشا ثلاث بنات من زوجته التي لم يتزوج غيرها، هن كريمة وسعدية وميرفت.
وليس لكمال باشا أولاد، وقد كان رجلا منفتح العقل فلم يعنه في شيء ألا يكون له أولاد.
ولما كان يدري أن زوجته تفيدة هانم مشغولة كل الشغل بحياتها الاجتماعية، كما يدري أنه هو أيضا من حياته العامة في زحمة من العمل، ولما كان حريصا أن تكون بناته على درجة عالية من الثقافة وإتقان اللغات، فقد رأى ووافقته زوجته أن يدخل البنات في باكورة حياتهن إلى مدرسة «السكركير» في القسم الداخلي.
ولم يكن أهل ذلك الزمان يعنون أن يحصل البنات على شهادات عالية، خاصة إن كانوا على قدر من الثراء يرفع عن كاهل البنات أن يسعين إلى العمل بشهاداتهن.
وحين ذهب الحاج سعيد إلى كمال باشا كانت كريمة متزوجة من ممدوح بك زيدان، وكانت هي في الثالثة والثلاثين من عمرها، وكان زوجها في الأربعين، وكانا قد تزوجا منذ عشر سنوات، ولم ينجبا وقاما بالفحوص المفروضة في مثل هذه الحالات، فتبين لهما أنه ليس لدى أحد منهما أي مانع لحدوث الحمل، فانتظر كلاهما أمر الله في إيمان وأمل.
وكانت سعدية متزوجة من وحيد القناوي الذي يعمل سكرتيرا بوزارة الخارجية، وكانت سعدية في الخامسة والعشرين من عمرها ووحيد في الثانية والثلاثين، وقد أثمر زواجهما ولدين، هما فريد وصبحي. أما ميرفت فقد كانت تصغر سعدية بعامين، وكان زوجها حمدي عمران يعمل مراجعا حسابيا بالبنك الأهلي، وقد أنجبا بنتا هي إنجي، وولدين هما سراج وسمير.
وكانت صلة الحاج سعيد بكمال باشا وطيدة، بما كان لتفيدة هانم من أراض بناحية هندامة، حيث الحاج سعيد وأرضه.
فقد كان كمال باشا كثيرا ما يطلب منه الإشراف على بعض الأمور الزراعية، وكان الحاج سعيد يقوم بمطالب الباشا خير قيام.
فلم يكن غريبا أن يسعى الحاج سعيد إلى كمال باشا ليعين له ابنه في إحدى الوظائف الإدارية، التي يرى بهجت أنه لا يصلح لغيرها، وسأل كمال باشا: ومتى تخرج بهجت يا حاج سعيد؟ - العام الماضي يا معالي الباشا.
وصمت الباشا قليلا، ثم تحدث في أناة وتدبر: والله أنا أفكر له في شيء ... على كل حال أحضره إلي الأسبوع القادم، وربنا يهيئ الخير.
ومضى الأسبوع، وصحب الحاج سعيد ابنه إلى كمال باشا في القاهرة، وكان بهجت شابا في الرابعة والعشرين من عمره، فتي الجسم، ليس في ملامحه ما يمكن أن يجعله يوصف بالجمال، كما أنها بعيدة عن القبح، إنما وجهه من ذلك النوع الحيادي الذي لا يجعلك تلحظ من شأنه معالم خاصة ... إنه وجه مثل سائر الوجوه تراه وما تلبث أن تنساه، وكأنك ما رأيته، سأله كمال باشا: لماذا لا تريد أن تعمل بالمحاماة ما دمت لم تستطع أن تعين في النيابة؟ - أنا يا معالي الباشا - حتى أكون صريحا معك - أكره المذاكرة وكثرة القراءة والدراسة، والمحامي إن لم يكن صبورا قادرا على هذه الأمور ففشله مؤكد. - أنا مسرور من صراحتك أولا، كما أني مسرور من معرفتك ما تحسن وما لا تحسن. - أطال الله عمرك يا معالي الباشا. - أنت تعرف أن التعيين في الحكومة صعب؛ فالحرب لم تترك بلدا إلا وجعلت ميزانيتها واقتصادها مضطربين كل الاضطراب. - لو لم نكن نعرف أن الأمر صعب ما لجأنا إلى معاليك. - هل أنت مصمم أن تعمل بالحكومة؟ - يا معالي الباشا، أنا أملي أن أعمل فقط. - اسمع يا حاج سعيد، أحضر ابنك وتعاليا إلي بعد غد.
وإن شاء الله ستسمعان خيرا.
وجاء الرجل وابنه في الموعد الذي حدده الباشا فطالعهما. - أنا عينت بهجت في شركة الغزل الاقتصادي التي أعمل عضوا بمجلس إدارتها.
وصاح بهجت: أطال الله عمرك يا معالي الباشا.
وقال الحاج سعيد: كنت واثقا أنك لن تخيب لي رجاء.
وفاجأهما الباشا بقوله: أنا لم أكمل كلامي.
وقال الحاج سعيد: وهل بعد هذا كلام يا معالي الباشا؟ - أهم من الذي قلته. - تحت أمرك. - أنا أريد لنفسي سكرتيرا خاصا يرتب أوراقي بالبيت، ويتابع حساباتي وحسابات الهانم، ولا أجد أحدا أثق فيه مثل ابن الحاج سعيد.
وقال بهجت: هذا شرف كبير، وأي فرصة للتعليم أكبر من أن أكون بجانب معاليك؟ إن فرحي بهذا أعظم من فرحي بالوظيفة الرسمية. - ستتسلم عملك غدا في الشركة، وعليك بعد ذلك أن تأتي إلى هنا مباشرة، وستجد غداءك جاهزا تتناوله وتنتظرني حتى أصحو من القيلولة، وسأريك ماذا أريد منك. - وهو كذلك يا معالي الباشا، أمرك نافذ.
وقال الحاج سعيد: أكرمك الله يا معالي الباشا، كما أكرمتني في ابني.
الفصل الثالث
تسلم بهجت عمله بالشئون القانونية في شركة الغزل الاقتصادي. وقد استقبله رئيس القسم فتحي البرديسي بكل ترحاب؛ فهو يعرف من الذي عينه، ويعرف ما للباشا من مكانة وسطوة في الشركة. وهكذا كان فتحي أحرص ما يكون على التقرب من الباشا، ومن كل ما يمت إليه بصلة، سأل فتحي: ماذا تريد أن يكون اختصاصك؟
وفي خبث شديد قال بهجت: أتريد أن أكون صريحا معك؟ - كأني أخوك الأكبر، هل لك أخ أكبر؟ - لي أخ اصغر، ولكني سأعتبرك والدا في المقام لا في السن. - أنعم وأكرم ... - هل أصارحك؟ - فقط لا بد أن تعلم أنني سأعرفك من كلامك، إن كنت صريحا حقا أم تريد أن تخدعني. - المؤكد أنني لست غبيا لدرجة أن أتصور أنك وصلت إلى مكانك هذا، إذا لم تكن غاية في الذكاء واللماحية. - دع عنك التمدح بي؛ فأنا محصن ضده بموهبتي وخبرتي في وقت معا. - أنا واثق من هذا. - إذن تكلم بلا مقدمات. - الحقيقة أنا درست الحقوق دون أن أكون راغبا فيها. - عظيم، وماذا ترى؟ - إذا أبعدتني عن الدراسة وكتابة المذكرات فستخرج مني أحسن ما أتقنه. - وطبعا النزول إلى المحاكم. - أنا في عرضك. - فهمت. - الحمد لله. - إنني أكاد أعرف فيما سأنتفع بك. - ستجدني عند ظنك بي في كل شيء، ما عدا ما ذكرته لك. - توكل على الله.
وضغط فتحي على زر الجرس وجاء الساعي فقال له: ضع مكتبا جديدا في قسم العقود ليكون مخصصا للأستاذ بهجت. - أمرك يا أفندم.
وقال بهجت: أقوم معه. - ابق معي حتى يعد لك المكتب. - وأسعدت الجملة الأخيرة بهجت، وجعلته يحس أنه بسبيله أن ينال حظوة عند رئيسه، وانتهز الفرصة وراح يروي له عن أسرته كل شيء، مدركا أن مثل هذا الحديث يزيده قربا إلى رئيسه.
ولم يمض كثير وقت حتى كان بهجت جالسا على مكتبه الجديد، وبدأ يتعرف على زملائه في قسم العقود.
كانوا ثلاثة نفر؛ أحدهم فوزي عمران خريج الحقوق، ويسبقه في التخرج بثلاثة أعوام، والآخر رجب توفيق، ويسبقه في التخرج بسنتين، أما الثالث فهو شحاتة عبد الكريم، وهو حاصل على البكالوريا، ويعمل كاتبا بالقسم.
واستطاع بهجت بعد فترة وجيزة أن يتقرب من زميليه، ويزيل الجمود الذي يرين دائما على الموظف الجديد، ويجعل استقباله من سابقيه مشوبا بكثير من الحيطة والحذر، ولم ينس أن ينادي شحاتة بيا عم شحاتة حتى يسقط عنه الخشية، التي توقع بهجت أن تداخل هذا الموظف الكبير السن، الذي لم يحصل على شهادة عالية، ويجلس في نفس الوقت مع شباب متخرجين في كلية الحقوق. انتهى اليوم الأول لبهجت ولم يكن إلا يوم تعارف وصلات، جاهد جهادا حثيثا أن تكون ودية، سواء كان ذلك مع رئيسه أو زميليه أو حتى الكاتب الذي من المفروض أن يكون مرءوسا له، وذهب إلى بيت الباشا بجاردن سيتي، وما إن فتح إدريس كبير الخدم الباب وتعرف عليه، حتى تبين بهجت أن الأوامر كانت صادرة للخادم بكل شيء.
صحبه إدريس إلى غرفة المكتب وسأله: هل تحب أن آتي لحضرتك بأي شيء قبل الغداء؟ - لا، شكرا. - هذه صحف اليوم، تسل بها حتى أعد المائدة.
ولم يطل انتظار بهجت؛ فسرعان ما عاد إليه إدريس يدعوه إلى غرفة المائدة، وعرف بهجت أن الباشا وأسرته يتناولون طعامهم دائما بالدور الأعلى من القصر. كان الغداء جديرا ببيت كمال باشا، حتى إذا انتهى منه عاد إلى غرفة المكتب وإلى الصحف، حتى يصحو الباشا من نومة القيلولة.
كان بهجت وأبوه يبيتان في فندق العتبة، وكان الاتفاق بينهما أن يلتقيا هناك بعد أن يفرغ بهجت من عمله الجديد، فما إن أذن الباشا لبهجت بالانصراف حتى ذهب إلى أبيه، الذي وجده منتظرا في بهو الفندق الصغير، وبادره أبوه: هيه ما الأخبار؟ - كلها خير، والحمد لله. - وعندي ما يكمل لك هذا الخير، إن شاء الله. - هل من جديد؟ - طبعا، لا بد لك من سكن. - صغير. - والله أنا قدرت أنني قد أحضر إليك أنا ووالدتك وأخوك، فقلت أؤجر شقة بها ثلاث غرف وبها أيضا حجرة استقبال، أما السفرة فتكون في البهو. - إيجارها سيكون كبيرا. - أنا المسئول عن إيجارها. - عظيم. - وأظنك لا تحتاج مني إلى شيء بعد هذا. - أعتقد أن مرتبي من الشركة ومن الباشا سيكون فيهما الكفاية. - أظن ذلك. - إلا إذا كنت محتاجا إلى كسوة أو ما شابه ذلك. - لن نختلف. وهل معقول أن أتأخر عنك في كل ما تريده؟! توكل على الله. - أين هذه الشقة؟ - في المنيرة بشارع خيرت ... هلم بنا إليها. - شيء عظيم أنها ستكون قريبة من بيت الباشا. - لن تحتاج إلى مواصلات. - هلم بنا.
وقام الأب وابنه، وذهبا إلى عمارة في شارع خيرت، وهو شارع لا هو ضيق حقير ولا هو واسع كل الاتساع، والعمارة في ذاتها نظيفة، وقال الأب: الشقة في الدور الثاني حتى لا أتعب أنا ووالدتك في الطلوع إليك.
ودخلا الشقة، وسر بهجت بها كل السرور، وقال له الأب: لن أعود إلى البلد حتى أكون قد فرشت لك الشقة فرشا كاملا. - أطال الله عمرك.
الفصل الرابع
وطد بهجت مكانته في الشركة، وكان عمله يفسح له الطرق، ويمهدها أن يتعرف إلى موظفين شتى بشركات ووزارات، وما هي إلا شهور قلائل حتى كان قد أحكم الصداقات بعدد وافر من أقوام على قدر لا يستهان به من الأهمية.
وربما كان أصدقاؤه بوزارة الحربية هم أقربهم إليه، ليس من العسكريين فقط بل ومن المدنيين أيضا؛ فقد كان لهذه الوزارة معاملات واسعة مع الشركة.
وبطبيعة هذه المعاملات كان للعسكريين والمدنيين بالوزارة أواصر بالعقود التي تعقد مع الشركة، وقد أناط به رئيس قسمه الإشراف على عقود هذه الوزارة.
وبطبيعة عمله اتصل بموظفين في شركات أخرى، واستحوذ على اهتمام رئيسه وثقته.
ولم تعقه إجادة عمله بالشركة أن يجعل الباشا راضيا كل الرضا؛ فقد استطاع أن ينظم أوراقه جميعا، وجعل للباشا وزوجته ولكل بنت من بناته حسابا منفصلا، وخصص لأوراق كل منهم أماكن محددة حتى لا تختلط الحسابات، وحتى يستطيع الباشا في لحظة من الزمن أن يتعرف على ما يريد التعرف عليه من حسابات أي فرد من أفراد الأسرة. وقد استطاع بهجت من خلال هذا التنظيم أن يعرف ثروة كل بنت من بنات الباشا الثلاث؛ فقد اتضح له أن الباشا وزوجته قد باعا بعقود رسمية أغلب ما يمتلكانه لبناتهما مقسما بينهن تقسيما عادلا، حتى لا ينال أحد من أقارب الأبوين شيئا من الميراث.
كما تبين له أن كريمته الكبرى زوجة ممدوح زيدان أكثر البنات ثراء بما لزوجها من أملاك شاسعة، حتى إنه لم يكن يعمل شيئا إلا أن يدير أملاكه الخاصة.
أما وحيد قناوي الموظف بالخارجية فقد كان ابن أسرة عريقة في قنا، ولكن عراقتها لم تتح لها من المال إلا ما يجعلها تعيش راضية في غير بذخ فاحش ولا تقتير كز.
أما حمدي عمران زوج ميرفت فقد كان ابنا لفوزي عمران الموظف الكبير بوزارة المالية، وكان يعيش من مرتبه وحوالي أربعين فدانا ورثها عن أبيه، ولم يكن قد أنجب إلا حمدي، وإنما قبل كمال باشا حمدي زوجا لابنته لصداقة وثيقة الأواصر تربط بينه وبين أبيه فوزي، ولم تكن الصداقة وحدها هي الشفيع لهذا الزواج، بل ما يعرفه الباشا عن فوزي والد حمدي، من خلق رفيع ونزاهة وحفاظ على الكرامة.
صارت أمور الأسرة جميعا واضحة لبهجت كل الوضوح، ولقد كان لما جبل عليه من حب شديد لمعرفة أسرار الناس وخاصة الأثرياء منهم وذوي الجاه، كان لهذا أثر بعيد في أن يتعرف على ثروات الأسرة جميعا فردا فردا.
وقد ائتمنه الباشا على هذه الأسرار؛ لأنه لم يكن عنده شيء يخيفه؛ فكل تصرفاته ناصعة النقاء.
وهكذا أصبح بهجت لصيقا بالباشا يعتمد عليه في خاصة شأنه، بل وفي بعض أعماله العامة أيضا.
وهكذا لم يكن غريبا أن يختاره الباشا سكرتيرا خاصا له، حين وقع عليه الاختيار ليكون وزيرا للتجارة.
واستطاع الباشا بنفوذه أن يحتفظ لبهجت بوظيفته في شركة الغزل مع الوظيفة الحكومية التي يشغلها.
واستطاع بهجت بخبثه أن يجعل الشركة تقبل هذا الوضع راضية؛ فهو قد أقنع أمجد علوان رئيس مجلس إدارة الشركة أن عمله مع الباشا في هذا المكان سيتيح أن يستجلب عملاء جددا، مما يزيد أرباح الشركة زيادة واسعة، واستطاع أن يقنعه أيضا أنه سيكون مع الباشا في الصباح، وفي الشركة من بعد مواعيد العمل الرسمية بالحكومة، مقدرا أن العمل الذي كان يقوم به بعد الظهر عند الباشا سيكون عمله الرسمي بالوزارة، وهكذا سيكون في بقية يومه متفرغا لعمله في الشركة.
ولم يفت بهجت في إلحاحه أن يقول لرئيس مجلس الإدارة: يا أمجد بك، أنت تعرف أن الوزارات في مصر سرعان ما تذهب، وأنت كما تعلم محتفظ للباشا بعضوية مجلس الإدارة، فهل كثير علي أن تبقيني بوظيفتي مع ما ذكرته لك من فائدة ستجنيها الشركة من الإبقاء علي. - لم أكن أتصور أنك على كل هذا الذكاء ... توكل على الله، أنت في مكانك من الشركة، فواجبي الأول أن تعتمد الشركة على موظفين لهم ملك من لماحية ومهارة في الإقناع، لا شك أنها لا تتخلى عنك في كل ما تقوم به من أعمال. واستقر الأمر على ذلك.
الفصل الخامس
كان الحاج سعيد العزوني جالسا إلى زوجته الحاجة عايدة، وكان كلاهما منتشيا بالحديث الذي يدور بينهما. - بهجت يا حاجة أصبح أقرب شخص إلى الباشا بعد بناته وأزواج بناته. - بهجت طول عمره يعرف ماذا يريد، كما يعرف كيف يصل إليه. - لك حق، مع أنني كنت أعارضه في مسألة الوظيفة، وكان هو مصمما عليها. - ألم أقل لك إنه يعرف ماذا يريد وكيف يحقق كل ما يفكر فيه؟! - وبالنسبة للزراعة، البركة في مجدي. - وهل مجدي قليل؟ - الحمد لله. - ببركة ربنا ومجدي أرضك تنتج أحسن محصول ليس في بلدنا وحدها، بل في الجيرة كلها. - الشهادة لله، مجدي فلاح لم تجئ به ولادة. - فلماذا لا تزوجه؟ - ألا نزوج الكبير أولا؟ - وماله نزوج الولدين. - يا ستي يختاران هما، ونحن تحت أمرهما. - أليس من الواجب أن تكتب لكل ولد بضعة أفدنة حتى يتقدم لعروسه بعين قوية؟! - يا أم بهجت، وهل سآخذ معي شيئا إلى الآخرة؟ - أطال الله عمرك، ولكن أهل البنات يحبون أن يكون لمن يتقدمون لبناتهم ملك باسمهم؛ فقد يخشى أهل العروس أن يغضب الأب على ابنه لا قدر الله، فتصبح البنت وزوجها وهما لا يجدان اللقمة. - ربنا يقدم الخير.
وطرق الباب وذهبت بدوية وفتحته وصاحت: الحاج طلبة يا سيدي.
وهمس الحاج سعيد لزوجه: ادخلي الآن.
وقامت الحاجة عايدة، وصاح الحاج سعيد: يا مرحبا.
وجلس طلبة إلى الحاج سعيد: هل الأصل في جيبك؟ - ولماذا يكون في جيبي؟ وهل كنت أعرف أنك ستجيء في هذه الساعة؟ - المبلغ اكتمل، ورأيت ألا يطلع عليه الصباح وهو معي. - كانت سلفية مبروكة، وكسبت منها مكسبا كبيرا. - الحمد لله، ربنا أرضاني.
وتسلم الحاج سعيد المبلغ، وقام وهو يقول: دقيقة واحدة، أحضر لك الوصل. - على راحتك.
وحين تسلم طلبة الوصل فاجأ الحاج سعيد بقوله: نحن لسنا في الدنيا يا حاج سعيد. - من المؤكد أننا لسنا في الآخرة. - والله بالك رائق للهزار. - إذا كنت تقول نحن لسنا في الدنيا. - أتعتبر المكاسب التي أكسبها أنا من القطن، أو تكسبها أنت من الأرض أو الر... أو التسليف مكاسب؟ - ابن آدم لا يملأ عينه إلا التراب. - تراب من يا عم؟ اصح وبص للدنيا حواليك. - ماذا جرى يا طلبة؟ - المكاسب التي سمعت عنها ورأيتها هبلتني. - أي مكاسب ... مكاسب القطن؟ - قطن من يا عم؟ ... اردم. - أي مكاسب تقصد إذن؟ - مكاسب البورصة. - بورصة القطن؟ - أنعم وأكرم! ولكن هذه بورصة لا يطيق الدخول فيها إلا العتاولة الأشداء. - فأي بورصة تقصد؟ - بورصة الأسهم والسندات. - الأسهم والسندات؟ - نعم الأسهم، تعرفت في الإسكندرية على سمسار يعمل في بورصة الأسهم، وحاول أن يغريني بشراء بعض أسهم الشركات. - وقبلت؟ - رفضت من خيبتي. - أية خيبة؟ - أتعرف أن الأسهم التي عرضها علي كسبت كم في ظرف ثلاثة أيام ؟ ... عشرين ألف جنيه. - فعلا، يا خيبتك! ولكن لماذا لم تشتر أسهما أخرى؟ - ما معي لا يكفي التجارة والأسهم، فكرت جديا، ولكن المال السائل عندي لا يستطيع أن يواجه تجارة القطن والأسهم في وقت معا، وأنا في القطن طول عمري وأخاف أن أتركه، فلا أجد القوت الضروري. - وصاحبك هذا أين تجده؟ - هذا ما أريد أن أقوله لك. - يعني تقصد؟ ... - وهل في هذا كلام؟ - نذهب إلى الإسكندرية. - هو مكتبه في القاهرة. - نذهب إليه. - ولماذا تذهب؟ بثمن التذاكر أقم للرجل وليمة وأنا أجيء به إليك. - وهو كذلك ... متى؟ - غدا أفوت عليك في المغربية وأخبرك بالموعد. - على بركة الله، ولكن كيف ستتصل به؟ - لماذا خلقت التليفونات إذن؟ - معك رقمه؟ - وعنوانه. - إذن إلى الغد.
وتحدد الموعد، ولبى نعيم وهبة دعوة الغداء التي أقامها الحاج سعيد، وطبعا كان في رفقته طلبة عمران.
وبدأت المناقشات، وما لبث أن اقتنع سعيد بجدوى الإقدام على هذا الميدان.
الفصل السادس
أصبح بهجت كل شيء في المعاملات سواء بالشركة أو بالوزارة، وتوثقت صلاته مع الجميع، وقد حرص ألا يجد فرصة للتعرف على الموظفين الذين يتولون المناصب الحساسة في الوزارات والشركات إلا اهتبلها.
غير ملق بالا إلى الوزراء الذين كانوا يغدون إلى الباشا في مكتبه أو رؤساء مجالس إدارة الشركات. الوزير إن كان وزيرا اليوم فهو في الغد جالس بالمقهى، وكذلك الحال مع رؤساء الشركات؛ فإنهم وصلوا إلى أعلى السلم، فلم يبق أمامهم إلا الخروج ليحل آخرون محلهم.
إنما الحزم أن أصرف همي كله إلى الشباب الذي سيصبح في الغد مسيطرا على كل شيء؛ فسني الآن لا تتيح لي إلا أن أعمل لحساب نفسي، فلماذا أبذل الجهد مع الوزراء ورؤساء مجالس الإدارة؟ إنما الآخرون البعيدون عن الأعين والذين في أيديهم عصب الشئون المالية والإدارة، هم الذين ينبغي أن أجعل منهم أقرب الأصدقاء.
بينما كان بهجت في مكتبه بالوزارة إذا به يفاجأ بممدوح زيدان قادما إليه، فهب واقفا وكان طبعا قد تعرف به والتقى كل منهما بالآخر مرات كثيرة بمنزل الباشا.
وسارع بهجت قائلا: أهلا ممدوح بك، شرفت، أتريد الباشا؟ - أهلا يا بهجت، استرح، أنا أريدك أنت لا الباشا. - أنا؟! - نعم أنت، وهل أنت؟ وهل أنت قليل؟ وأريدك في شيء مهم أيضا. - اعتبره تم. - هكذا دون أن تعرفه؟ - يكفي أنه أمر صادر منك. - هذا هو العشم ... فأنت أخ عزيز. - العفو يا سعادة البك، هذا تفضل منك لا أستحقه. - اسمع يا عم بهجت. - أذني وقلبي تحت أمرك. - أنا عندي أعمال كثيرة متشعبة، والباشا يمدح نشاطك وإخلاصك، والأمر لا يحتاج إلى دليل؛ فقد اختارك أنت بالذات لتكون سكرتيرا له. - الباشا رجل عظيم، وأنا أتعلم منه الكثير. - أنا أريدك أن تشرف على أعمالي في أوقات فراغك، وسيكون مرتبك مني مثل المرتب الذي تتقاضاه من الباشا لتراعي شئونه الخاصة. - أنت رجل عظيم يا ممدوح بك، والعمل معك يزيدني شرفا، ومسألة المرتب ليست مهمة. - بل مهمة كل الأهمية؛ فالمرتب يجعلك تشعر أن الأمر جد، وأنك تقوم به مقابل مال، وأي عمل لا يكون مقابله مال لا يتسم بالجدية. - متى تحب أن تبدأ العمل؟ - سعادتك تعرف أنني أذهب إلى الشركة بعد الظهر. - أعرف. إنما أريدك بعد السابعة. - وهو كذلك. - خاصة أن عملك معي أغلبه سيكون متابعة القضايا الخاصة بي مع المحامين، المحامون لا يكونون في مكاتبهم إلا في المساء. - المحامون ... هل هم أكثر من واحد؟ - ثلاثة، حتى لا يشعر واحد منهم أنه يستطيع أن يتراخى في أعمالي وفي الدعاوى المرفوعة مني أو علي. - بسم الله، ما شاء الله، تفكير سليم ... أكون عند سيادتك غدا الساعة السابعة. - وأنا في انتظارك.
وأتاح عمل بهجت مع ممدوح الفرصة له أن يعرف كل شيء عن أمواله، كل هذا وليس له ولد، له في ذلك حكم! والعجيبة أنه رجل لطيف ومستقيم، وكلما عرضت عليه عملية ظن أنها غير سليمة أو فيها شك أو فيها ظلم لأحد أبى أن يقبلها أو يقترب منها. سبحان مقسم الأرزاق! كل هذه الأموال وليس له ولد، والفقراء ينوءون بكثرة العيال.
كانت العلاقة بين ممدوح وزوجته كريمة ودودة راضية سلسة ؛ فقد كان كل منهما يحب الآخر ويحترمه، ويحرص على إرضائه؛ فممدوح كان يتحرى أن يغدق المجوهرات على كريمة، وكأنه يريد أن يعوضها بذلك عما حرمها الله.
وكانت هي لا تني عن الذهاب إلى الأطباء بأمل أن يهب الله لها مولودا، ذكرا كان أم أنثى؛ ليشيع السعادة في البيت الثري المحروم من الهناء.
وقد سافرت مع زوجها ست مرات إلى أوروبا سعيا وراء أطبائها؛ لعل واحدا منهم يحقق لهما هذا الأمل ... وكان ممدوح يبادر إلى الاستجابة إلى رغبتها في السفر كلما أبدتها.
كانا جالسين بغرفة المعيشة في بيتهما الضخم المليء بالتحف، والمكون من طابقين بمصر الجديدة. - ممدوح. - أفندم. - سمعت عن طبيب جديد في باريس. - وماله ... متى تريدين السفر؟ - إن كان الأمر متروكا لي فمن اللحظة التي نحن فيها. - في أي يوم نحن من أيام الله؟ - اليوم الأحد. - نسافر الأحد القادم، إن شاء الله. - صحيح؟ - وهل تأخرت عنك في طلب أبدا؟ - أطال الله لي عمرك. - آه! - ماذا؟ - ألم شديد ... شديد يا كريمة.
راح ممدوح يستجدي أنفاسه من الهواء في جهد عنيف، وسارعت كريمة إلى التليفون، وما هي إلا دقائق حتى كان الأطباء يزحمون البيت، ولكن الموعد كان قد حل ... استرد الروح واهبها، وصدق الشاعر:
إذا حم القضاء فلا أساة
فقد يجري القضا بيد الأساة
ولو أن الأطباء في هذه المرة كانوا أبرياء من موت ممدوح؛ فقد كانت أزمة قلبية حادة، وكان أمر الله، وما شاء تم.
الفصل السابع
كان من الطبيعي أن يتولى بهجت شئون التركة جميعا؛ فقد كان الباشا يعلم أنه يعمل مع ممدوح، فهو إذن على خبر بأمور ثروته، كما أن الباشا كان من المفروض أن يجعل سكرتيره هو المشرف على مصالح ابنته. وهكذا اجتمعت في بهجت الصفتان من قربه للباشا ومن عمله مع ممدوح. وقد أطلقت له كريمة الحرية المطلقة في أن يتحدث باسمها مع الورثة الآخرين؛ فممدوح انتقل إلى رحاب الله في سن باكرة، ولم يكن يفكر في الموت مطلقا، وإلا لتحرى أن يخص زوجته الحبيبة بنصيب وافر من ثروته، وكريمة نفسها لم تكن تفكر في هذا الأمر مطلقا، ولم يخطر بذهنها لحظة أن تطلب إليه شيئا يتصل بالثروة.
وهكذا توزعت الثروة على أقارب ممدوح، ولم يكن لكريمة إلا حق الربع في هذه الثروة العريضة. وقد جاهد بهجت أن تتخارج كريمة ملكية البيت الذي كانت تعيش فيه مع زوجها إلى جانب عمارة بشارع قصر النيل وخمسين فدانا من الأرض الجيدة.
وحين عرف الباشا بما توصل إليه بهجت أقره ونصح ابنته. - اقبلي هذا الذي يقول بهجت. - أمرك يا بابا، والله أنا لا يهمني شيء أكثر من الذي فقدته. - لا بد يا ابنتي أن نرضى بحكم الله سبحانه. المهم أنا تركتك في بيتك طوال هذه الشهور، ناظرا أن يكون البيت من نصيبك، وخشيت أن تتركيه فيغتاله الورثة، خاصة وأنا عرفت أنهم كانوا في غاية الجشع. - سامحهم الله يا بابا. - أما جاء الوقت بعد أن تنتهي إجراءات تملكك للبيت أن تنتقلي لتعيشي معنا؟! - يا بابا، أنت تعرف أنني لا أتأخر عن تنفيذ أي أمر لك، ولكن إن أحببت أن ترضيني فدعني في بيتي. - وحدك في هذا البيت كله؟! - معي الأيام والذكريات والحنان والتواد الذي كان بيني وبين المرحوم، ومعي أيضا حريتي أن أستقبل من أشاء وأرفض لقاء من أشاء، وأنت تعرف ماما صاحباتها كثيرات، والبيت عندك لا يخلو من ضيفاتها، فإن أردت أن ترضيني يا بابا فاتركني في بيتي، وأنا لن أتأخر أبدا عن زياراتكم. - والله يا بنتي، أنا في الحقيقة أكاد أكون مقتنعا بما تقولين. البيت عندنا سوق فعلا، ولولا أنني في عملي في الصباح ومع أصدقائي في المساء خارج البيت، لما عرفت كيف كنت سأطيق العيش هذه العيشة التي تفرضها علينا أمك.
الفصل الثامن
ربح الحاج سعيد من بورصة الأسهم ربحا واسعا، وتماوجت حوله ألوان السعادة والفرح، فقد كان المال - كما شهدت - هو كل ما يعنيه في الحياة.
قالت له الحاجة عايدة حين رأت سعادته الغامرة بما تحقق له من أرباح: الآن أحسن وقت أن تكتب لبهجت ومجدي أرضا . - أنا في حاجة إلى كل الريع، بل قد أضطر إلى بيع بضعة أفدنة؛ فإن ما تحققه البورصة في يوم لا تحققه الأرض في سنة كاملة. - لا يا حاج، إلا الأرض، أنا أعلم أن عندك أموالا كافية للبورصة. - كلما زادت الأسهم زادت الأرباح. - هذا شأنك، ولكن هذا لا يمنع أن تسجل لكل ولد بضعة أفدنة. - بشرط. - أي شرط؟ - أن تظل الأرض في حيازتي، ولا يستوليا على ريعها. - وماله، أنت تعرف أنهما لا يعصيان لك أمرا. - إن كان الأمر كذلك فلا بأس. - وهل خالف أحد منهما لك أمرا؟ إن بهجت لم يدخل إلى كلية الحقوق إلا إرضاء لك، ومجدي أنت تعرف مقدار طاعته لك وحرصه على إرضائك. - أكتب لهما، إن شاء الله. - كم فدانا؟ - ماذا ترين أنت؟ - عشرة أفدنة لكل منهما. - والله لا أرد لك كلمة. - أطال الله عمرك.
وفعلا سجل الحاج سعيد عشرة أفدنة لكل من ولديه، وسلم مجدي العقد الخاص به، وانتهز الفرصة وسافر إلى بهجت، وحين ذهب إلى منزله لم يجده، ولكنه كان يحتفظ بمفتاح للشقة فدخل المنزل، وانتظر بهجت حتى عاد.
وفرح بهجت بمجيء أبيه. - لماذا لم تخبرني بالتليفون حتى أنتظرك؟ - أردت أن تفاجأ بي. - ونعم المفاجأة! - وإليك مفاجأة أخرى.
وأخرج العقد المسجل من جيبه وأعطاه له ... ونظر بهجت في العقد ورفع رأسه إلى أبيه. - أطال الله عمرك، ولكن ما المناسبة؟ إنك لا تبخل علي أو على أخي بشيء. - والدتك أصرت. - أنا أتوقع أن تكون لنا الأرض بالاسم فقط، ويظل ريعها لك طبعا. - أنت ترى هذا؟ - هذا هو الطبيعي. - وهو كذلك. - إذن، فما معنى كتابتك هذه الأرض لنا؟ - أتريد الحقيقة؟ - نعم، وخاصة وأنا أعرف أنك تضارب الآن في البورصة، وتحتاج إلى كل المال السائل. - وأين سيذهب المال السائل؟ إن تسجيل الأرض لك مجرد إجراء وقائي. - لا قدر الله. - فهمت قصدي ... وأيضا تقول أمك إن كتابة الأرض لك ولأخيك يجعل التي يختارها أحدكما مطمئنة أن لزوجها أرضا خاصة به. - البركة فيك دائما على كل حال. - صحيح أنني أكسب الآن مبالغ طائلة، ولكن البورصة ليس لها كبير، فإذا خسرت الأرض التي باسمي تبقى الأرض التي باسمكما. - أرجو ألا تحتاج إليها. وعلى كل حال أنت مطمئن أن الأرض عندي وعند مجدي في الحفظ والصون. - أنا واثق. ما أخبارك؟ - الحمد لله، ولو أنه من المتوقع أن يخرج كمال باشا من الوزارة. - وهل سيؤثر هذا عليك؟ - من المؤكد أنني لن أصبح سكرتير الوزير الجديد. - متى تتوقع هذا؟ - الله أعلم ... السياسة ليس لها مواعيد.
الفصل التاسع
توثقت صلة بهجت بكريمة؛ فقد أصبح هو وحده المسئول عن أموالها، وكان كثيرا ما يلتقي بها ليبلغها بتصرفاته في الأرض أو العمارة، ومر على ذلك قرابة العام ولماذا لا؟ إنها الآن وحدها وواضح أنها مقبلة علي، وتعاملني بكثير من الاحترام، ولكن الاحترام شيء وما أفكر فيه شيء آخر، وماذا أخسر إذا عرضت؟
وهل سيقبل أبوها؟ ...
رأى بهجت أن يتريث بعض وقت، ولكن الأيام لا يعنيها ما يدور في نفوس أبنائها من خواطر. ما لبثت الأحداث أن توالت.
خرج الباشا من الوزارة، وطبعا لم يصبح بهجت سكرتيرا للوزير الجديد، وإنما نقل إلى الشئون القانونية بحكم شهادته، وظل محتفظا بموقعه من الشركة.
ولم تكتف الأيام بهذا، بل فاجأت الباشا وبيته، بأن أصابت الباشا بجلطة في المخ أصبح معها عاجزا عن الكلام أو الحركة.
ومن شأن هذا المرض أنه يجعل صاحبه على قيد الحياة ولكن بلا حياة.
وهكذا اجتمع رأي الأسرة على أن يقوم حمدي عمران زوج ميرفت بشئون الباشا المالية؛ فهو وإن كان زوج أصغر البنات إلا أن بقاءه في القاهرة مؤكد، وليس معرضا للتنقل في بلاد العالم مثل وحيد القناوي الذي يعمل بالخارجية، ويظل دائما على شفا العمل بالسفارات في الدول المختلفة.
وكان من الطبيعي أن يستعين حمدي ببهجت، وسارت الأمور في طريقها المرسوم وتمضي الحياة؛ لأنها لا بد أن تمضي مهما تكاثرت بها الأحداث.
لم تمنع معاونة بهجت لحمدي أن يظل وثيق الصلة بكريمة، ولم تمنعه من مداومة التفكير فيما يهفو إليه.
انتهز فرصة كان منفردا فيها بكريمة . - كريمة هانم، هل أتجرأ على عرض ما أفكر فيه، وصمتت كريمة لحظات وقالت: لا أحسبه خافيا علي، ولكني أتعجب له. - وفيم العجب؟ - لننظر أولا فيما تفكر فيه؛ فربما كنت مخطئة. - بل إنك على صواب. - فصرح، ولا داعي للألغاز. - أترى لو طلبت الزواج منك أكون قد جاوزت حدي؟
وصمتت كريمة ثانيا ثم أدغمت الكلمات، وهي تقول: أي حد الذي تكون قد تجاوزته؟ - هوان شأني وعظمة شأن ... - أي شأن تقصد؟ - أقربها المكانة الاجتماعية.
وقالت كريمة في استحياء: أنت لست أقل من حمدي ووحيد. - ولكني لست في مثل وضعهما الاجتماعي. - أنت والدك رجل محترم. - ليس في مثل احترام والدي زوجي أختيك. - ليس للاحترام موازين في مثل الدقة التي تتصورها أنت، والدك رجل من الأعيان وأنت حاصل على شهادة عالية، ولك عمل ثابت.
وفي نشوة بالغة: إنك توافقين؟
وقالت كريمة في حسم: أنا لم أتكلم عن موافقتي أو عدم موافقتي، وإنما أصحح لك فكرتك عن مكانتك الاجتماعية. - إذن لا مانع لديك؟ - بل هناك مانع وأنا لست موافقة، ولكن السبب ليس كما تصورت أنت. - الوالدة قد ترفض؟ - الوالدة لا تتدخل في شئوني، ثم إني أرملة.
وتلعثم بهجت لحظات وهو يقول: الوالد - شفاه الله - ليس في حال تسمح له بإبداء الرأي. - ليس هذا أيضا هو السبب. - إذن ... - ألا تعلم؟ - على قدر تفكيري. - إذن فكر أكثر. - أنا عاجز. - ألم تفكر في فارق السن؟
وصمت بهجت وراحت الأفكار تعصف به. إنه يعلم أن ثمة فارقا في السن، وقد كان يعتمد على هذا العنصر كل الاعتماد في أن تقبله كريمة؛ فهو الأصغر، وفي تدبر وخبث قال: أنت أكبر مني بسنوات قلائل. - ليست قلائل. - على كل حال ليس الفارق بعيدا. - هل يرضى والدك أو ترضى والدتك أن تتزوج أرملة وتكبرك في السن أيضأ بفارق ليس صغيرا. - أنت لا تعرفين قدر نفسك. - اترك لي فرصة للتفكير. - إلى متى؟ - لا تأت إلى هنا لمدة أسبوع. - أمرك.
وبعد الأسبوع قالت كريمة في حسم: أنا وحدي الذي أقرر أمر زواجي ما دام أبي ليس في حالة تسمح له أن يكون صاحب رأي فيه؛ فالأسرة جميعها لا شأن لها بهذا الزواج.
وقال بهجت وفي صوته بارقة أمل: أفهم من هذا أنك ...
فقاطعته قائلة: لا تفهم شيئا على الإطلاق؛ فأنا لم أكمل كلامي بعد. - أنا آسف. - يأتي والدك ومعه والدتك إلى هنا، ويطلبان مني الموافقة على الزواج بك.
أمي! وهل أستطيع أن أجعلها ترى أمي ... أبي معقول ولكن أمي، ثم علا صوته في شبه لعثمة: يا كريمة هانم، نحن فلاحون، والستات عندنا ...
فقاطعته مرة أخرى قائلة: أنا أعرف أنك لا تريدني أن أرى والدتك، ولكنني مصممة أن أراها، وأنا واثقة تماما أنها لم تترك القرية، وأقدر ما سأجدها عليه من مظاهر الفلاحات، ولكني فهمت من كلامك عنها أنها سيدة عاقلة ومحترمة وهذا يكفيني؛ ولذلك أنا مصممة على أن تأتي مع أبيك. - أمرك، ولكن هل أستطيع أن أعرف سبب هذا التصميم. - إذا تم هذا الزواج فأريده أن يكون طبيعيا، ولو كان أبي بصحته لصممت أن يذهب والدك ووالدتك إليه ويطلباني لك منه. أما في حالة أبي هذه فهذا الطلب لا بد أن يكون مني أنا؛ فأمي مشغولة عنا بحياتها الاجتماعية، وأختاي الاثنتان أصغر مني، وعلى كل فهذا هو شرطي الأساسي.
سافر بهجت في نفس اليوم إلى والده بالهندامة، ولم يكن مجدي بالبيت فقال لأبيه بمشهد من أمه: ما رأيكما إذا كنت أريد الزواج؟
وصاحت الحاجة عايدة: والنبي صحيح؟ ... ألف مبروك.
وقال الحاج سعيد: انتظري يا حاجة ... هل اخترت العروس؟ إذا لم أقل لهما إنني أطلبها فسيعرف أبي أنني أكذب عليهما أو على الأقل أبي لن يفوته أنني أموه عليه، وربما استهول أن أتزوج أنا ابنة الباشا، ورفض التقدم حتى لا يتعرض للخزي، أحيانا الصراحة تكون أخبث من المداورة. - الحقيقة يا أبي أني كلمتها فعلا، ولكنها أصرت ألا يطلبها للزواج إلا أبواي.
وفي لمحة ذكاء قال الحاج سعيد: إذن تكون كريمة هانم؟
وانتتر بهجت واقفا. - بسم الله الرحمن الرحيم. - اهدأ ... اهدأ ... أتعرفين كريمة هانم يا حاجة؟ - أعرف أن بنت الباشا الكبيرة اسمها كريمة. - إنها هي. - ألم تكن متزوجة؟
وأكمل الحاج: وزوجها تعيشين أنت. - نعم، سمعت شيئا كهذا، ولكن يا بهجت يا ابني أليست كبيرة عليك. - بسنوات قلائل. - ولماذا يكون أول بختك امرأة؟
فقاطعها بهجت مستنكرا: امرأة! - آسفة، سيدة أرملة وأكبر منك أيضا.
وحسم الحاج سعيد الحوار: على بركة الله يا بني، توكل على الله. - ولكنها تريدك أنت وأمي أن تذهبا لتطلباها لي. - نطلبها من الباشا ...؟ - الباشا لا يقابل أحدا ... منها هي. - ولماذا لا نذهب؟ ... يا زين ما اخترت.
وقالت الحاجة: ولكن يا حاج ... - الأمر انتهى ... يا بهجت متى تريد أن نذهب؟ - إن كان علي فأنا أريد أن نذهب الآن. - غدا، إن شاء الله، نسافر معك أنا ووالدتك. - على بركة الله.
وأدرك بهجت أن أباه يريد أن يقنع أمه على انفراد، فقال: أقوم أنا لأستريح قليلا. - على راحتك يا ابني.
وحين خلا المكان بالزوجين الكبيرين قال الحاج سعيد: ماذا جرى لك يا حاجة؟ - أنا التي أسأل: ماذا جرى لك أنت؟ - أكنت تحلمين أن يتزوج ابنك بنت كمال باشا وجدي؟ - أكبر منه وأرملة أيضا. - وإن لم تكن كذلك فلماذا تقبله؟ شاب في أول حياته، لولا أبوها لكان حتى اليوم بلا وظيفة، وثروتي مهما كانت فهي على قد بلدتنا. أما نحن في الحقيقة إلى جانب ثراء كريمة هانم وأمثالها فنعتبر شحاذين، فبالله عليك إن لم تكن أرملة وأكبر منه فلماذا تقبله يا حاجة؟ ... الدنيا أخذ وعطاء. - كنت أريد أن أفرح به. - وماذا يمنعك؟ افرحي على آخر ما عندك، وعندما نعود من مصر اجعلي كل أهل البلدة يملأن الأجواء بالزغاريد.
وتزوج بهجت من كريمة، وعاش معها في بيتها بمصر الجديدة، وقابل أعضاء الأسرة نبأ زواج كريمة في غير رضى ولا استنكار.
وقال حمدي: كان لا بد لها أن تتزوج، فليكن زواجها ممن نعرفه؛ فهو أحسن من الذي لا نعرفه.
أما الأم فلم تعلق بشيء، وكذلك فعل وحيد والأختان ...
الفصل العاشر
صدر قرار بأن يعين وحيد سكرتيرا أول بسفارة مصر في ألمانيا الشرقية ، التي كانت تسمى بألمانيا الديمقراطية، وراح هو وزوجته يعدان العدة للسفر الذي كان محددا له وقت قريب من صدور القرار.
وقالت سعدية لزوجها: وماذا سنعمل مع الأولاد؟ - ماذا تقصدين؟ - هل ستقبل المربية التي تعمل عندنا أن تذهب معنا؟ - وإذا قبلت هي فلماذا نقبل نحن؟ إنها إن ذهبت إلى هناك فلن تعرف شيئا عن البلد، وستكون عبئا علينا. - إذن ماذا تنوي أن تفعل؟ - أليس هناك أطفال لهم مربيات؟ - ربما تكون أجورهن مرتفعة. - ربنا يعين. توكلي على الله. - كل على الله.
حين عرف حمدي باضطرار وحيد للسفر حزم أمره أن ينفذ ما استقر عليه رأيه، وطلب من جميع أفراد الأسرة أن تجتمع بالبيت الكبير ولبوا كلهم طلبه، وكان بهجت طبعا من الأعضاء المجتمعين فهو زوج الأخت الكبيرة، وقال حمدي: أنتم تعرفون أن الباقي من ثروة الباشا بعد الذي وزعه على بناته هو أسهمه في الشركات التي كان يشغل فيها وظيفة عضو مجلس الإدارة، وهذه الأسهم، إذا توفي الباشا لا قدر الله، ستكون رقما كبيرا، وستكون ضريبة التركات عليه كبيرة. والضريبة أمرها سهل، إنما الذي لا شك فيه أن جميع الأقارب المستحقين سيرثون أنصبتهم في الأسهم.
وقالت الأم: وأنا أيضا لي أسهم. - أعرف ذلك. - وماذا ترى؟ - تبيعين حضرتك أسهمك، وتحتفظين بأموالها سائلة مؤقتا، ونبيع للباشا أسهمه وأسهمكم وهو على قيد الحياة، وتنالين حضرتك الثمن من ثمنها، ويقسم الباقي بالتساوي بين بناته الثلاث.
وقالت تفيدة هانم: كلامك معقول بالنسبة لأسهم الباشا، ولكن لماذا نبيع نحن أسهمنا؟ - أولا هي ليست كثيرة؛ فأغلب الأسهم باسم الباشا، وثانيا أن أحدا منا لا يستطيع أن يوجهها الوجهة الصحيحة كما كان الباشا يفعل، فبيعها يوفر لأموالكم فيها الأمان مع غياب خبرة الباشا الفائقة في هذا المضمار.
وفكر كل مستمع لهذا الحديث في مصلحته الخاصة، فوجد أن ما يقوله حمدي منطقي ومقبول وعادل أيضا، وقالت الأم في حسم: أنا موافقة.
وترادفت الموافقات من الآخرين إلا بهجت الذي قال في تظاهر بالخجل. - كلام حمدي بك معقول، ولكن إذا سمحت كريمة تكون أسهم شركة الغزل التي أعمل بها من ضمن نصيبها هي ونحتفظ هي باسمها.
وقال حمدي: لك حق. أنت تخشى إذا بعنا أسهم شركة الغزل أن يؤثر هذا على مكانتك في الشركة. - أليس من المعقول أن أفكر هذا التفكير؟ - هذه مسألة بسيطة إذا كانت كريمة لا تمانع في بقاء هذه الأسهم باسمها دون بيع.
وقال بهجت في دهاء: والله يا حمدي، إذا اشترت كريمة هذه الأسهم ونقلت باسمها فعلا يكون أصلح.
ويكمل حمدي: حتى إذا لا قدر الله حدث شيء للباشا لا تكون الأسهم تركة عليها ضريبة، إلى جانب أنها ستكون ميراثا للجميع.
فعلا يا بهجت ... لك حق ... هيه يا جماعة هل أنتم موافقون على هذا التصرف؟
ووافق الجميع وقال حمدي: من بكرة سأقوم بالتصرفات اللازمة.
حين خلا بهجت بكريمة بعد الاجتماع قال لها: ألم أكن محقا فيما قلته بشأن أسهم شركة الغزل؟ - هذا شيء طبيعي. - ألا أستحق مكافأة؟ - اسمع يا بهجت، العملية التي تذكرها تمت لتبقى أنت على مكانك بالشركة، فالمكافأة قد نلتها فعلا.
واستخزى بهجت قليلا، وقال: لك حق. - اسمع يا بهجت، إنني سأعطيك من مالي ما تشاء، ولكن بشرط أن تعرف أنني لست عبيطة. - أعوذ بالله، وهل يجرؤ أحد أن يقول إنك عبيطة؟
الفصل الحادي عشر
اشتعلت حرب 48، وتدهورت أسواق الأوراق المالية، وخسر الحاج سعيد الأموال التي ربحها، بل اضطر أيضا أن يبيع أرضه كلها. لم ينج منها إلا ما كتبه لبهجت ومجدي.
ولم يجرؤ أحد من الابنين أن يطالب بحقه في الأرض التي باسمهما؛ فقد أصبحت هي المصدر الوحيد الذي يعتمد عليه أبوهما في العيش.
وكان مجدي قد تزوج ابنة خالته نعمات، وبعد الفرح أقامت معه في بيت أبيه؛ فقد توسلت لديها خالتها الحاجة عايدة. - يا بنتي، أنا وحدي في البيت، والحمد لله أن مجدي اختارك وأنت كابنتي، فإذا عشت معنا فستكونين أنت ست البيت.
وفي استحياء وإذعان قالت نعمات: وماله يا خالتي، أنا تحت أمرك.
وعاشت معهما شهورا ثم حلت الكارثة المالية بحميها، فأصبح بقاؤها في بيت خالتها وزوجها أمرا لا محيد عنه ولا مفر منه.
وراح مجدي يرعى العشرين فدانا، وهداه تفكيره أن يستأجر عشرين فدانا أخرى يزرعها، حتى يظل مستوى معيشتهم بالبيت قريبا مما تعود عليه.
أما الحاج سعيد فأصيب بنوع من الوجوم الصامت، وأصبح لا يرى إلى أحد، ولا يريد أن يخرج من البيت؛ فقد تهدمت آماله كلها بعد أن كانت قد استطالت وتوحشت، وبعد أن كان الغنى المفاجئ قد أصابه بنوع من السعار، وذلك السعار نفسه هو الذي أدى به إلى هذه الخسارة الفادحة.
الفصل الثاني عشر
كان بهجت جالسا بمكتبه بالشئون القانونية بالوزارة، حين أقبل عليه رجل مهيب الطلعة على قدر من الوجاهة، لا يخفى على من يراه، قال: بهجت بك العزوني؟ - أنا هو، تفضل، أهلا وسهلا.
وجلس القادم إلى الكرسي الذي يلاصق مكتب بهجت، وقال: أقدم نفسي؛ أنا عصام شهاب الدين.
وعرف بهجت محدثه؛ فهو من كبار تجار البقالة في مصر كلها. - أهلا وسهلا طبعا، أسمع بسعادتك، ولو أنه لم يكن لي الشرف قبل اليوم. - أهلا بك. شكرا. - أمامك عقد لي مطلوب موافقة الوزارة عليه. - أعرفه. - وما رأيك؟ - يا عصام، مثلك لا يخفى عليه الرأي في هذا العقد. - لك حق. - فماذا أستطيع أن أفعل؟ - ماذا ترى؟ - العقد مخالف للقوانين واللوائح. - وهل يستعصي عليك شيء؟ - أمام القانون؟
فقاطعه عصام قائلا في حسم: عشرة آلاف جنيه.
وصمت بهجت فجأة وكأنما أصيب بالخرس، وفكر قليلا ثم قال: خمسة عشر.
وقال عصام: اثنا عشر. - اتفقنا. - متى أتسلم العقد؟ - متى أتسلم المبلغ؟ - اليوم بعد الظهر، الساعة السادسة. - أين؟ - في قهوة بوديجي. - سيكون العقد معي أسلم وأستلم. - وهو كذلك.
تمت صفقة الأسهم كما أعد لها حمدي، واشترت كريمة أسهم شركة الغزل بجزء من نصيبها، وأصبحت الأسهم باسمها، وسافر وحيد وزوجته بعد تمام البيع بأيام. ولم يمر شهران على هذا جميعه حتى لقي الباشا ربه، طاويا تاريخا سياسيا واقتصاديا جديرا بكل إجلال وإكبار.
ومرت أيام العزاء الذي لم يشهده الحاج سعيد العزوني؛ فقد أصبح لا يعزي ولا يهنئ ويكاد لا يتكلم، ولولا مجدي لما وجدت الأرض الباقية أي عناية أو رعاية.
وبهجت طبعا لم يفكر أن يطالب أباه أو أخاه بريع الأفدنة العشرة؛ فقد أصبحت طموحاته أكبر من ذلك بكثير.
خلا بزوجته يوما. - أسهم شركة الغزل. - ما لها؟ - ثمنها نزل. - مثل كل الأسهم. - لماذا لا نستفيد منها؟ - ماذا تقصد؟ - إذا بعتها لي يمكن أن أكون عضوا بمجلس الإدارة و...
فقاطعته. - هل معك ثمنها؟
فقال في تبجح: وهل تحتاجين إلى ثمنها؟ - كل إنسان أولى بماله. - إلا الزوج والزوجة فمالهما واحد. - الإسلام لم يقل هذا. - ولكن العرف بين الناس والحب بين الزوجين يقولانه. - تكتب لي ورقة أن البيع صوري. - أكتب عشرين ورقة. - لا بأس، أنا كنت عارفة منذ تكلمت عن هذه الأسهم أن عينك عليها، وأنك لن تفلتها من يدك أبدا.
ومن هذا الحديث ومن كثير أمثاله وضح لبهجت أن زوجته تفهمه تمام الفهم، وأنها إذا كانت تطلق يده في أملاكها، فما هذا إلا لأنها تعلم أنه سيأخذ ما يريد، ولئن يسرقها زوجها خير من أن يسرقها الغريب.
مر على زواج بهجت وكريمة بضعة أشهر أوشكت أن تكتمل عاما.
وبدأت كريمة تشعر بتغير جسماني دهشت له كل الدهشة، حتى لا تكاد تصدق أن ما تحس به أمر واقع، وليس وهما أو تخيلا ولا نوعا من الرغبة التي تئوي تجسيد الآمال البعيدة، لتصبح حقيقة ماثلة لا مراء فيها ولا شك يدور حولها. وحين ذهبت إلى الطبيب تأكد ما توقعت. إنها حامل حملا مؤكدا. وانفجر الفرح في نفس كريمة معربدا صاخبا أنساها كل ما مر بحياتها من آلام وأحزان، بل كاد يهون عليها ما تشهده من طمع زوجها فيها. وكان من الطبيعي أن يفرح بهجت بهذا النبأ، وهل هناك أقوى من البنوة آصرة توثيق ارتباطه بزوجته؟ كما فرحت أمه التي لم تعرف الفرح منذ نكبة زوجها المالية، بل إن الحاج سعيد نفسه علت شفتيه تلك الابتسامة التي توارت عن نفسه ووجهه، وإن بدت اليوم واهنة هزيلة متهافتة ضامرة، فهو منذ خسارته الفادحة لم يفق من بلواه، وتجرأت الحاجة عايدة أن تقول له: يا حاج سعيد، افرح فإنك خاصمت الفرح، بل خاصمت الدنيا كلها منذ زمان بعيد. - ولن أصالحه أبدا. - سيأتي لك حفيد من ابنك البكر. - وماذا أستطيع أن أعطي له إلا الفقر والعوز؟ - عنده ما يكفيه، وهو في غير حاجة إلى مالك. - الشيء الذي يدهشني أنني لم أمت حتى الآن. - أعوذ بالله ... بعد الشر. - وهل هناك شر مما أنا فيه؟ - التجارة مكسب وخسارة. - أنا لست تاجرا، أنا دخلت في ميدان لا شأن لي به، وحسرتي على نفسي أنني كنت مستغنيا عن تلك المخاطرة كل الاستغناء. - وماذا تقول في قدر الله؟ - أنا الذي اخترت. - يا حاج، صل على النبي. إن الإنسان لا يستطيع أن يرد قدره. - ربنا وهب لنا العقل لنختار، وقد أسأت الاختيار وأنا أعاني ما أعانيه؛ لأني أنا نفسي الذي دمرت نفسي. - المهم مبروك علينا حفيدنا. - يا عالم، هل سأراه أم أنني لن أراه؟
وكأنما كان الحاج سعيد مطلعا على الغيب وهو يقول كلمته العفوية هذه؛ فقبل أن تلد كريمة كان الحاج سعيد قد انتقل إلى رحمة الله.
ولم تكن وفاته ذات أثر إلا على زوجته الحاجة عايدة، التي فقدت فيه رفيق العمر وأبا ولديها وأنيس وحدتها، ولو أن أنسه انقطع منذ هذا الذي حدث.
أقام بهجت ومجدي مأتما وقورا لأبيهما، واستقبلا العزاء فيه بالبلدة، وانقضى اليوم ومضى الابنان كل في سبيل. العجيب أن بهجت لم يطالب أخاه بريع الفدادين؛ أولا لأن هذا الريع أصبح لا يمثل له قيمة مع ما هو فيه سعة وبحبوحة؛ وثانيا لأنه قدر أن مجدي سيقوم بشأن أمه؛ وثالثا لأنه يعلم أنه قادر بمهارته في الزراعة والحسابات الزراعية أن يجعله لا يصيب من أرضه مليما، فقال في نفسه: أجعلها جميلا بدلا من أن أرغم عليها.
الفصل الثالث عشر
أقام وحيد وسعدية ومعهما ولداهما فريد وصبحي في شقة فاخرة في برلين الشرقية، وكان الاعتماد في الإنفاق على ثروة سعدية؛ فمرتب وحيد لا يستطيع وحده أن يواجه نفقات المسكن الأنيق والمعيشة الميسرة، وأيضا مرتب المربية التي سرعان ما عثرا عليها، وكانت جميلة غاية الجمال لم تدرك العشرين من عمرها بعد، وكان هذا الجمال هو العيب الوحيد الذي تضيق به سعدية في حاضنة ولديها كريستين.
وكانت سعدية على حق في توجسها من جمال كريستين الباهر؛ فسرعان ما وقع وحيد في حبها، ولم يكن عسيرا عليه أن يواعدها، وتواعدا؛ فقد كان قد تعلم الألمانية وأجادها، كما كان يجيد الفرنسية والإنجليزية؛ فهو منذ باكر حياته كان يعد نفسه لأن يعمل بوزارة الخارجية، وكان وحيد شابا جميل السمت طويل القامة، ممشوق القوام يجيد إدارة الحديث، وكانت كريستين هيفاء القوام، يصدق عليها قول الشاعر:
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقة فأدقها وأجلها
خضراء العينين، ذات شعر في لون الذهب المشرب بالخمرة، حتى لا تجد له بين صنوف الشعر لونا يصدق عليه، وكانت تطلقه أحيانا فهو موج عربيد، أو تقمعه فهو تاج أشم ذو جلال وهيبة، يزيدها جمالا إن كان جمالها يقبل الزيادة.
وكانت كريستين ابنة عامل في برلين، فهي في حاجة إلى المرتب الذي تتقاضاه من عملها ببيت وحيد، ولم يخف أمرها على وحيد؛ فقد كان الشعب في ألمانيا الشرقية شأن الشعوب التي تظلها الشيوعية، يضيقون بالعيش كما تضيق بهم الحياة، قالت له: أخشى أن تعلم زوجتك بلقاءاتنا. - لا أخفي عليك، أنا أيضا أخاف أن تعلم؛ فإن حياتي وحياة ولدي مرتبطة بها كل الارتباط. - فما هي الغاية من هذه العلاقة التي أراك مصرا عليها كل الإصرار؟ - أنا نفسي لا أدري. - إذن نحاول أن نتباعد. - مستحيل. - إلى هذا الحد؟ - بل أكثر. - أنا أيضا أحببتك، ولا تدهش أنني في سني هذه لم أحب أحدا قبلك، وأنا من المؤمنين بديني إيمانا عميقا خفية، بالرغم من أوامر النظام اللاديني الصارم أن نهجر المسيحية، ولا نؤمن إلا بالشيوعية التي يفرضونها علينا فرضا. - أتقصدين أنك؟ ... أنك ... - قلها ولا تخف؛ نعم أنا عذراء. - عجيبة! - ربما ... لكن لماذا ترى هذا الرأي؟ - فتاة في مثل جمالك، والعذرية عندكم ليس لها القدسية التي عندنا في الشرق جميعه، لا في مصر وحدها. - ربما كنت محقا، ولكنني في حقيقتي وفي أعماقي مؤمنة، وديننا يرفض الزنا كما ترفضه الأديان السماوية جميعا؛ ولذلك فليس عجيبا أن أكون عذراء. - وأنت على هذا الجمال؟ - ربما كان جمالي هو السبب بجانب مسيحيتي؛ فقد ضننت بهذا الجمال أن أبيحه لأحد، أنا لا أحبه، مهما أحبني هو وألح في ملاحقتي. - إذن فلا بد للعلاقة بيننا أن تأخذ صورة رسمية. - أما وقد ظللت عذراء حتى الآن، فمن الطبيعي ألا أبذل عذريتي إلا لزوجي. - أنت تعلمين أن الرجل في ديننا له أن يتزوج زوجتين. - وأربع زوجات. هذا أمر لا يجهله أحد من أي دين، سواء كان مسلما أو لم يكن. - ولكنك لا تعرفين أنني إذا تزوجت أجنبية أفقد وظيفتي في السلك الدبلوماسي. - أما هذه فلا أعرفها. - وإذا أردت أن أتزوجك فلا بد أن يتم الزواج في السفارة. - هذا طبيعي. - ومعنى هذا ألا نقيم هنا. - أنا مستعدة أن أذهب معك إلى أي مكان ليس عن حب فقط، وإنما لأن أي مكان في العالم خير من حياتنا القاسية التي نحياها هنا. - فأنت موافقة أن تكوني زوجة ثانية؟ - هذا لا يعني عندي شيئا. - إذن فلا بد أن ننتظر. - ماذا؟ - حتى ننتقل إلى مصر، وهناك أستطيع أن أجعل زواجنا رسميا وإن لم يكن معلنا، هل تقبلين أن تعتبريني خطيبك فترة وجودنا هنا.
على أن تكون علاقتنا علاقة خطيب بخطيبة لا أكثر؟ - هذا صعب بالنسبة لي، ولكن أعدك بألا أحاول أن أضغط عليك.
وهكذا ظلت علاقة وحيد وكريستين نقية، ومكن لها هذا أن تتخفى على العيون، فاللقاء بينهما عابر، ويسير أن يكون بأي مكان، وأحب فريد وصبحي مربيتهما مما جعل سعدية تتمسك بها، ولو أنها دهشت حين سألتها: كريستين أتأتين معنا إذا رجعنا إلى مصر؟ - أنا فعلا أصبحت أشعر كأنكم أسرتي، وأبي هنا معه إخوتي، وأستطيع أن أرسل له المال من أي مكان. - إذن تأتين معنا. - طبعا.
الفصل الرابع عشر
أنجبت كريمة ولدا وأصرت أن تسميه عطاء، في محاولة أن تشكر باسمه الله سبحانه وتعالى على عطائه.
وكان بهجت أشد الناس فرحا؛ فقد أصبح عطاء وثاقا جديدا يشد إليه كريمة، هذا إلى جانب السعادة التي يشعر بها أي أب بأول مولود له.
وتمر الشهور وبهجت على حاله في الوزارة والشركة، وقد بدأت سمعته في الوزارة تتناقلها الألسنة، وهو ماض في قبول الرشوة بمبالغ كبيرة، لدرجة أن زوجته كريمة كانت تعجب من وفرة المال عنده، مع أنها تعلم أنه لا يملك إلا مرتبيه، وما كانا يتيحان له هذا البذخ في الإنفاق.
لم يخف على بهجت أن شيئا ما يدبر له في الوزارة، فحزم أمره أن يستغل الأسهم التي أصبحت باسمه في شركة الغزل، فذهب إلى رئيس مجلس الإدارة أمجد بك علوان. - أتستطيع أن تفي لي هذا الأمر يا أمجد بك؟ - أي أمر يا بهجت بك؟ - إنني من أكبر المساهمين في الشركة وكنت من المسئولين عن الشئون القانونية، فمن أجدر مني بعضوية مجلس الإدارة في الشركة؟!
ولم يتردد أمجد علوان كثيرا، وإنما قال: اعتبر نفسك عضوا بمجلس الإدارة. - لا بد أن يكون الأمر رسميا. - الجمعية العمومية ستجتمع بعد غد، فاعتبر الأمر منتهيا.
وفعلا اختير بهجت سعيد العزوني عضوا بمجلس الإدارة، ولم يمر شهران على هذا التعيين حتى استدعاه شعبان بك كرارة وكيل وزارة التجارة. - يا أستاذ بهجت، العقود التي توافق عليها أو الغالبية العظمى فيها تدور حولها الأحاديث، وأنا أعرف أنك صهر كمال باشا وجدي، وعلمت أيضا أنك رزقت من ابنته بولد ...
وقاطعه بهجت محاولا أن يخفف الحدة التي تسود أجواء اللقاء بينهما. - ولقد تفضلت سعادتكم وهنأتني عليه. - ليس هذا هو المهم. أنا لا أريد أن أجري تحقيقا في التهم الموجهة إليك عندي؛ لأنها إذا ثبتت لن يكون الرفت وحده هو الجزاء، بل إن الأمر قد يصل إلى ... إلى وقاطعه بهجت: لست في حاجة أن تقول ولكنني أريح سعادتك؛ فأنا أرى أنك تريد أن تنقلني إلى مكان آخر. - هذا المكان سيكون في الوزارة، وليس من الطبيعي أن أنقل إليه موظفا أنا شخصيا لا أثق فيه، ولا تغضب من التعبير فهو أخف عبارة أجدها.
وقال بهجت في حسم: شعبان بك، أتريدني أن أستقيل؟ - اطلب تسوية معاشك. - أمرك.
وحين حاول بهجت أن يبرر الأمر لكريمة قال لها: ليس من المعقول أن أكون عضو مجلس إدارة شركة كبيرة، وموظفا يتلقى أوامره من أمثال شعبان كرارة.
وقالت كريمة: شعبان كرارة وكيل وزارة وليس شيئا هينا، والحكومة كانت أبقى لك.
فقال في محاولة استكبار: والله زهقت.
وفي ذكاء شديد قالت كريمة: بهجت، هل استقلت أم أجبرت على الاستقالة؟ - أنا لم أستقل، وإنما طلبت تسوية معاشي باختياري، وتستطيعين أن تتأكدي من هذا. - أصدقاء أبي كثيرون، وأستطيع أن أعرف، ولكن السؤال في ذاته مصيبة وفضيحة، وإذا لم أستر أنا على زوجي ووالد ابني فمن يستر؟ ولكن اعلم أنني حزينة، والأمر لله من قبل ومن بعد.
لم يتوان بهجت عن التوجه إلى رئيس مجلس إدارة الشركة. - أبيت أن أكون عضو مجلس إدارة معك وموظفا، فسويت معاشي بالحكومة وتركتها. - خيرا فعلت، ولو أنك كنت تفيد الشركة هناك. - اعتبرني هناك بالموظفين الذين كنت أرأسهم وبأصدقائي. - فعلا، أنت محق، كأنك الآن لا تعمل في الصباح؟ - يا سيدي، المسألة بسيطة، أستطيع أن أجيء إلى هنا. - تجيء إلى هنا دون أن يكون لك مكتب؟ غير معقول، اسمع يا بهجت بك، أنا سأقترح عليك اقتراحا. - وأنا تحت أمرك. - الواقع أنني كبرت وعلت بي السن، وأنا الذي أنشأت هذه الشركة من العدم حتى أصبحت على ما ترى. - طبعا، الجميع يعرفون هذا. - أنا احتفظت لنفسي برئاسة مجلس الإدارة مع منصب العضو المنتدب فترة طويلة. - منذ إنشاء الشركة. - العضو المنتدب عمله يتطلب الدخول في كثير من التفاصيل أنا أصبحت لا أطيقها، ما قولك في أن تصبح العضو المنتدب وأكتفي أنا برئاسة مجلس الإدارة؟ - هذه ثقة غالية. - وأنت كفء لها. - على بركة الله. - تجيء إلينا غدا صباحا، ستجد مكتبك معدا.
وحين علمت كريمة قالت: الله يا بهجت هذه مسئولية ... كبيرة، فإياك أن تفعل بالشركة ما كنت تفعل بالوزارة.
وفي تبجح قال: وماذا كنت أعمل بالوزارة؟
وفي جرأة قالت: أتريد أن أتقصى لأقول لك؟
ولأنه لم يجد شيئا ينبس به كان من الحتم أن يقول في صوت خفيض متهم: تقصي إذا شئت. - لا أريد أن أعرف؛ لأني لا أريد أن أخفي على عطاء شيئا حين يكبر.
الفصل الخامس عشر
مرت سنوات ثلاث وانتقل وحيد إلى القاهرة، وصاحبت كريستين الأسرة مع أن فريد وصبحي أصبحا في المدرسة، ولم يعودا في حاجة شديدة إلى مربية، ولكن اطمئنان سعدية ونقاء نفسها من الشك، إلى جانب ما اتفق عليه وحيد وكريستين، قد جعل علاقتهما بريئة، مؤيدا هذا جميعه تعلق الولدين بكريستين، كل ذلك جعل سفرهما مع الأسرة أمرا طبيعيا.
وما إن استقر بهما المقام في بيتهما بالقاهرة، حتى فوجئت أسرة كمال باشا وجدي بوفاة تفيدة هانم المعايرجي، مع أنها لم تشك مرضا. وكان البيت الكبير مكتوبا باسم البنات الثلاث، ومع ذلك لم تفكر واحدة منهن في أمره.
تزوج وحيد القناوي من كريستين فيليب، واستطاع وحيد أن يجد شقة بحي العباسية كانت ملتقى الزوجين، وطبعا لم يعرف أحد بهذه الزيجة إلا مأذون العباسية والشاهدان اللذان أحضرهما، واللذان لا يعرفان شيئا عن وحيد ولا عن زوجته طبعا.
ومرت سنوات كانت كريمة تلحظ زوجها فيها يقيم كثيرا من الدعوات في منزله، كما أنه يلبي دعوات أخرى مثيلة ... واتسعت دائرته الاجتماعية بصورة كانت لا ترتاح لها كريمة، ولكنها رأت أن تجاري زوجها الذي كان يدعي أن التعرف على الناس ثروة لا تقدر بثمن. وكان من الطبيعي أن يشتهر اسم بهجت العزوني في جميع الأوساط، وعند كل ذي مكانة ... سواء استمد مكانته من وظيفته أو من ثرائه. وتمضي الأيام وتتولي ثورة 23 يوليو الحكم، ولا يضار أحد من أسرة كمال باشا وجدي؛ فالأرض الزراعية كانت دون الحد الأدنى ولم يعد لهم أسهم، فبالنسبة لهم كأن الثورة ما جاءت.
كان بهجت أكثر الأسرة تمجيدا للثورة، وإصرارا على التقرب من رجالها، وعاونه على ذلك أحد أصدقائه القدامى من رجال القوات المسلحة، وراح يهتبل الدعوات التي يعرف أن رجال العهد مدعوون فيها، كما حاول هو أن يدعو المقربين، وقليلا ما كانت تنجح هذه الدعوات.
تنبه حمدي الذي أصبح يشغل منصبا مرموقا في البنك، أنه لا بد أن يسارع بالتصرف في بيت الباشا، وإلا فهو معرض للاستيلاء بدعوى تحويله إلى مقر للتنظيم الثوري، فاقترح على الأسرة أن يؤجروا البيت لسفارة من السفارات، ووافق الجميع على هذا الاقتراح. وتمكن حمدي أن يؤجره لسفارة روسيا واشترط في العقد أن يتم تجديد الإيجار في كل عام، بحيث إذا احتاج إلى البيت أخلته السفارة، وفرحت الأسرة بهذا العقد.
لم يعد وحيد من الوجوه المقبولة بوزارة الخارجية، مع أن أحدا لم يعرف شيئا عن زواجه بأجنبية، ففوجئ برئيسه يستدعيه. - أنت صهر كمال باشا وجدي. - نعم. - وأنت تعرف أن الثورة لا ترحب بأقارب الباشاوات وأصهارهم في السلك الدبلوماسي، خاصة وأن الدور عليك في هذه الأيام لتكون بدرجة مستشار. - وماذا ترى؟ - ليس أنا الذي رأى. لقد ترفقوا بك وصدر قرار بنقلك إلى وزارة المالية بدرجتك الوظيفية.
وأحس وحيد بغصة ولكن الحمد لله؛ فأنا كنت سأنقل أو غالبا أرفت إذا علموا بزواجي من كريستين. ولم يطل صمته وإنما رفع رأسه إلى رئيسه ممتاز بك حامد. - متى أنفذ النقل؟ - القرار صدر فعلا. - لمن أذهب في وزارة المالية. - إلى السكرتير العام منير بك أبو الفتوح. - وهو كذلك، أجمع أوراقي اليوم. - الصلة بيني وبينك تبقى على ما هي عليه. - أنت أخ أكبر، يا ممتاز بك. - وتعلم أنني لا دخل لي في هذا النقل. - أنا واثق.
ووقف ممتاز بك وصافح وحيد وانتهت صلة وحيد نهائيا بوزارة الخارجية.
في إحدى الدعوات التي كان يحضرها بهجت تقدم إليه شخص قصير القامة، واسع العينين، مسطح الجبهة، واضح الخبث. - بهجت بك العزوني؟ - تحت أمرك. - أنا سليمان ذكري من رجال الأعمال، وأعتبر التعرف بك شرفا أسعى إليه من زمن بعيد. - يا مرحبا. - ترى أتسمح لي أن أدعوك إلى غداء أو عشاء؟ - والله لا مانع. - إذن بعد غد نتعشى سويا في مطعم سان جيمس. - وهو كذلك.
وتوثقت الصلة بين سليمان ذكري وبهجت، الذي لم يستطع أن يعرف عنه إلا ما قاله من أنه ليس متزوجا، ويقيم بشقة بعمارة الإيموبيليا، وتكررت بينهما الدعوات ولم يغب عن بهجت أنه لم يدعه إلى بيته قط، وكلما حاول أن يدعوه بهجت إلى بيته هو، تخلص من هذه الدعوة قائلا: أنا أضيق بالبيوت فلتكن دعوتك إلى أي رستوران.
ولم ينس سليمان أن يعقد مع بهجت بضع صفقات، حرص فيها أن يجعل ربح بهجت فيها فاحشا جسيما.
عين بهجت زميله القديم فوزي عمران رئيسا للشئون القانونية بالشركة؛ فقد كان يعلم عنه أنه لا يملك إلا مرتبه، وأنه يستطيع أن ينتفع بفقره نفعا موفورا، وكان فوزي عند ظن بهجت به وتضافرت بينهما المصالح، واستقرت الأمور لبهجت في الشركة بالصورة التي رسمها فأتقن رسمها.
أتراك تذكر إدريس؟ ... لا ... ما أحسبك تذكره. إنه الخادم الخاص للباشا، الذي استقبل بهجت في أول يوم ذهب للغداء في بيت الباشا، حين تسلم عمله سكرتيرا للباشا حين كان خارج الوزارة.
إدريس هذا كان مقربا لكريمات الباشا، أثيرا لدى ثلاثتهن؛ فحين ماتت تفيدة هانم كانت سعدية وزوجها وحيد عائدين منذ قريب من الخارج؛ ولذلك توجهت سعدية برجاء إلى أختيها أن تتركا لها عم إدريس ليعمل ببيتها، ولم تجد الاختان مانعا خاصة أنه كان لكل منهما خدمها. وهكذا أصبح عم إدريس كبير الخدم ببيت وحيد وسعدية، وطلبت إليه سعدية أن يختار هو من يعاونه في شئون البيت، ونفذ إدريس طلبها.
كانت سعدية قد لاحظت بمرور الوقت أن وحيد يتغيب عن الغداء دائما في الأيام التي تطلب فيها كريستين إجازة، وفي المرات الأولى صرفت الوهم عن ذهنها محاولة أن تطمئن نفسها أن الأمر ربما كان مجرد صدفة.
فلما تكررت الصدف فكرت أن تحاول معرفة المكان الذي يذهب إليه وحيد في هذه الأيام ...
ولم تجد من تستأمنه على سرها إلا إدريس، فاستقدمته وقالت له: يا إدريس، أنت تعرف مكانتك عندنا. - عمري كله قضيته مع الباشا. - اسمع، أنا أشك في شيء. - خيرا. - وحيد يتغيب عن البيت في مواعيد إجازة كريستين بالذات، وأخشى أن يكون بينهما شيء. - لا قدر الله. - أريدك أن تتبعه يوم إجازة كريستين بالذات.
عرف إدريس العمارة التي بها شقة وحيد وكريستين في العباسية، واستطاع أن يتعرف على البواب الذي أخبره أنها زوجته، وأن صاحب العمارة أبى أن يؤجر لهما الشقة إلا بعد أن اطلع على عقد الزواج، وهو زواج شرعي على يد مأذون رسمي.
اندلع الحريق في قلب سعدية، وأغلقت باب غرفتها وراحت تفكر فيما تفعل. إن يكن وحيد قد أجرم في حقها هذا الجرم، فما ذنب فريد وصبحي وقد أصبحا في السن التي يحتاجان فيها إلى أب أشد الحاجة.
ماذا هي صانعة معه؟ أتخبره أنها عرفت أم تكتم الأمر؟ ... تكتم الأمر؟ هيهات وألف هيهات.
ظلت في دوامة من الأفكار إلى أن انتهت إلى ما ينبغي عليها أن تفعله.
حين جاء وحيد إلى البيت حرصت سعدية أن يكون حديثها معه بمنجى عن مسامع ولديها. - أنا عرفت كل شيء.
ولم يحاول أن ينكر أو يتظاهر بالدهشة، أو يدعي غير الحقيقة فقد كان وجهه قد شحب، وتوقف لسانه في فمه، ووجد نفسه في دوار مفيق، وحرك شفتيه في صعوبة بالغة، ليجمع عليها «أنا آسف» متخاذلة متهافتة، تعلن في صراخ ما يحيط به من وجوم وشبه تجمد.
قالت له سعدية في حسم: أنت بين اثنتين لا ثالث لهما؛ إما أن تطلقها وتعيش في هذا البيت، لتمثل فيه دور الزوج ولتكن أبا حقيقيا لولديك، أو تطلقني وتترك البيت، وأنت تعرف أنني أستطيع أن أرغمك على الطلاق.
ليس في الأمر خيار. هكذا قرر وحيد دون أن ينبس ببنت شفة.
وتم طلاق وحيد من كريستين، واشترط عليها ليمنحها بعض المال مع تذكرة السفر، أن تقول لفريد وصبحي إنها مضطرة إلى السفر إلى والدها المريض.
وتم الأمر كما قررت سعدية، لن يعرف ابناها شيئا، كما أنها حرصت ألا تبلغ أختيها بشيء.
صدق فريد وصبحي ما قالته كريستين وودعاها آسفين، إنما الأمر الذي لم يفهماه تلك الحجرة التي خصصت لأبيهما بعد أن كانت غرفته هي غرفة أمهما.
الفصل السادس عشر
مرت سنوات واجتازت مصر عام 56م، ولم تؤثر حكومة الثورة حتى ذلك العام في عمل الشركات؛ ولهذا كانت الخسارة التي تمنى شركة الغزل بها على يد بهجت، تدعو إلى الدهشة من أمجد علوان ومن كل أصحاب الأسهم، ولم يجد أمجد شخصا يأتمنه على بحث أسباب هذه الخسائر إلا شحاتة عبد الكريم، أقدم موظف في العقود، بعد أن عين بهجت فوزي عمران رئيسا للشئون القانونية.
وكان شحاتة معدا نفسه لهذا الطلب تمام الإعداد ... فقدم كل ما عنده إلى أمجد بك علوان، وكان أمجد يدرك تماما ما ينبغي أن يفعله.
دق جرس التليفون في بيت بهجت العزوني ورفع الخادم السماعة. - آلو ... من؟ - أنا، يا ابني، اسمي أمجد علوان. - البك غير موجود. - أنا أريد الست. - دقيقة واحدة ...
وحين أمسكت كريمة السماعة وقالت: ألوه، أنا كريمة كمال. - أنا أمجد علوان. - أهلا أمجد بك. - أريدك أن تأتي غدا مع بهجت إلى مكتبي. - لماذا يا أمجد بك؟ - ستعرفين حين تأتين. - وهو كذلك. - لي عندك رجاء. - تفضل. - لا تخبريه أنني طلبتك. - وكيف أجيء معه؟ - من الأحسن أن تجعليه يأتي لمكتبه، ثم تتبعيه أنت بسيارتك. - فهمت. - مع السلامة.
وتم الأمر كما أراده، حتى إذا استقرت كريمة بمكتبه في الصباح، رفع سماعة التليفون. - بهجت بك ... هل عندك أحد؟
وجاءه الرد. - لا ... أنا تحت أمرك. - تعال إلى مكتبي بضع دقائق.
وجاء بهجت، وأصيب بالذهول حين رأى زوجته بمكتب رئيس مجلس الإدارة، وأمر أمجد سكرتيره ألا يدخل أحدا إليهم مهما يكن شأنه، وبدأ أمجد الحديث. - بهجت بك، حدث في الشركات اختلاسات حصرتها، فوجدتها تزيد على خمسة وعشرين ألف جنيه.
وانتتر بهجت واقفا؛ فقد كان في عماية تامة عن الأبحاث التي أجراها عليه أمجد، وقال أمجد في هدوء رجل الأعمال المخضرم. - المسألة أكبر بكثير من التمثيليات يا بهجت بك. - ماذا تقصد؟ - أقصد أنك وحدك المسئول عن هذه الاختلاسات والرشاوي التي أخذتها، والتي خسرت الشركة مقابلها مبالغ طائلة . - أنا ؟! - طبعا، كان هناك من يستر عليك، وربما كنت تعطيه بعضا من هذه المبالغ. - أنا أرفض هذا الاتهام ولا أقبله. - وأنا كنت أنتظر منك أن تقول هذا؛ ولهذا رجوت السيدة العظيمة حرمكم أن تشرفني بالحضور اليوم.
وقال بهجت في محاولة متبجحة: وزوجتي ما شأنها بعملي؟
وظلت كريمة على صمتها وقال أمجد: بل الشأن كله شأنها؛ أولا الذي عينك موظفا في هذه الشركة هو المرحوم والدها، وثانيا الأسهم التي وثبت بها إلى عضو مجلس إدارة ثم إلى عضو منتدب أسهمها هي، وإن كانت تنازلت عنها لك، والخسارة التي وقعت للشركة بسبب الاختلاسات أصابت أسهمها، كما أصابت أسهم جميع أصحاب الأسهم في الشركة، وأولا أيضا ولا أقول ثانيا أن كريمة هانم وهي من هي لن تقبل لوالد عطاء أن يدخل السجن.
وقاطعه بهجت مذعورا.
ولم تملك كريمة نفسها هي أيضا أن تقول في لهفة: السجن يا أمجد بك؟
وفي هدوء وجه أمجد حديثه إلى كريمة غير ملق بالا لبهجت، وكأنه غير موجود. - هذه أسهم المساهمين وأموال ناس وليست أموالي وحدي يا كريمة هانم، فإما أن أدخل أنا السجن وهذا غير معقول؛ لأنني لم أنتهب شيئا، وإما أن يدخل بهجت بك السجن. وقبل أن تجيبي اقرئي هذا التقرير ولا داعي أن تدخلي في التفاصيل؛ فكل كلمة ستقرئينها عندي ما يثبتها، وما يدخل بهجت بك السجن لا محالة.
وأخذت كريمة الملف من أمجد، وهو يقول: التقرير في الصفحات الأولى وهي ثلاث، والأوراق الأخرى المستندات، يكفي أن تطلعي على التقرير.
وراحت كريمة تقرأ ومنذ اللحظات الأولى أخذت الدهشة تنتاش وجهها، وكانت ترفع رأسها ناظرة في احتقار إلى بهجت أو في ذهول كسيف لأمجد، حتى إذا أتمت القراءة ضمت دفتي الملف، وقدمته إلى أمجد قائلة: طبعا أنت لا تتوقع مني أي تعليق.
وقال أمجد في كياسة: أنا أقدر أن الفترة القصيرة التي مررت بها الآن، ربما تكون أبشع عندك من أحزان السنين جميعا، وأنا أعرف أنك مررت بظروف كثيرة لم تكن سعيدة. - أشكرك أنك مدرك ما أنا فيه الآن، وتأكد سعادتك أن الدقائق التي عشتها الآن لم أكن أتصور أنني سأواجهها في حياتي كلها. - أرجو أن تكون نظرتك لي عادلة؛ فمكانتك عندي ومكانة الباشا كلها إجلال وإكبار. - لقد جاء دوري لأشكرك، وأنا أعرف أنه لولا هذه المكانة التي تتحدث عنها، لكنت بادرت بإبلاغ النيابة فورا دون أن تفكر في إشراكي في الموضوع. - أقسم بشرفي أنك وحدك التي جعلتني أخير بهجت بك بين أن يدفع المبلغ أو أبلغ النيابة. - أعرف ذلك تماما.
وكان بهجت طوال هذا الحوار صامتا في شعور عميق بالذل والهوان، حتى لقد راح ينكمش وتتداخل أعضاء جسمه بعضها في بعض، وألقت إليه كريمة نظرة مقيتة تشتعل بلهيب الثورة والغضب، ثم التفتت إلى أمجد وسألته: كم تتيح لنا من الوقت؟ - إذن المبلغ سيدفع ... الحمد لله ... ترى لو قلنا في ظرف أسبوع نظرا لموقفي الحرج ...
وقاطعته كريمة: سأحضر أنا المبلغ في خلال هذا الأسبوع. - عظيم. - كم ثمن الأسهم التي باسم بهجت اليوم؟ - حوالي عشرة آلاف جنيه.
ونظرت إلى بهجت وقالت له أول كلمة وجهتها إليه طوال هذا اللقاء. - خذ ورقة واكتب أمرا ببيع الأسهم، واكتب على ورقة أخرى أنك تسلمت ثمنها.
وقام بهجت عن كرسيه وكأنه آلة كهربية تستقبل الأوامر وتنفذها، وكتب ما أمرت به كريمة وأعطى الورقتين لأمجد وكريمة تقول له: الباقي سيكون عندك قبل الأسبوع إن شاء الله. - أرحتني، أسعدك الله.
والتفتت إلى بهجت قائلة في حسم: هيا.
وتقدمت إلى الباب وهو يتبعها وما زال في حالة الآلة الكهربية. وبعد أن أغلق أمجد باب مكتبه قالت كريمة لبهجت: هل عندك أحد في مكتبك؟ - لا ... لا أبدا. - فلنذهب إليه.
وفي وجل قال: ألا نذهب إلى البيت؟ - هناك أشياء أحب أن أعملها قبل أن أذهب إلى البيت. اتبعني إلى مكتبك.
وقالت كريمة لسكرتيرة بهجت في حسم: لا تجعلي أحدا يدخل علينا.
ولم تنتظر ردها، وإنما دخلت إلى مكتب بهجت، وما إن توسطت الحجرة حتى أمرته: أغلق الباب.
وأغلق الباب ولم تجلس كريمة، مما جعل بهجت يظل واقفا ليرى ماذا تريد، ولم تهمله بل سألته في حزم: كم بقي معك من المبلغ؟
وفي رد فعل تلقائي قال: يا كريمة.
وبلا تريث قالت في نفس الحزم بل ربما في حسم أشد. - كم بقي معك من المبلغ؟
وفي لعثمة قال: خمسة آلاف جنيه. - في أي بنك؟ - بنك مصر.
نذهب الآن إلى هناك ونسحب المبلغ، وخرجت وهو يتبعها وأمرته أن يركب معها سيارتها، ويترك سيارته أمام الشركة على أن يحضرها السائق فيما بعد، وامتثل لأمرها، وأمام الموظف المختص في بنك مصر، جلست كريمة وأمرت بهجت: اطلب حسابك. - يا كريمة، هذا غير ...
ولم تتركه يكمل. - اطلب حسابك.
وسرعان ما جاء الحساب فوجدته ستة آلاف جنيه، أمرته أن يسحبها فورا فسحبها، وحين ركبا السيارة قالت للسائق: اذهب إلى بنك القاهرة.
وامتقع وجه بهجت ولحظت هي امتقاعه، فقالت له: طبعا غير معقول أن نودع مبالغ بالبنك الذي يعمل به حمدي زوج أختي.
ومرة أخرى قال وهو في دواره ولعثمته: لكن يا كريمة ...
وأسكتته قائلة: ولا كلمة.
وفي بنك القاهرة تكرر ما حدث في بنك مصر، ووجدت أن حسابه به ألفا جنيه سحبهما تنفيذا لأمرها، واستولت على الجنيهات الألفين، كما استولت على الستة آلاف الأخرى وقالت للسائق: اذهب إلى البيت واترك هذه السيارة، واذهب إلى شركة البك لتحضر سيارته.
وحين خلت بهما حجرة المعيشة قالت كريمة بوجه جامد: أنت تعرف طبعا أنني ليس عندي مبالغ سائلة، والأرض من حق عطاء، والحلي التي عندي كنت أريد أن أستبقيها لعروسه، ولكني سأبيع منها ما يفي ببقية المبلغ الذي اختلسته.
وحاول بهجت أن يفتح فمه. - يا كريمة أرجو أن ...
فقاطعته: أرجو ألا تتكلم في الموضوع إطلاقا، والله وحده يعلم كيف سأعيش معك بعد ذلك، ولكن أي كلام سيزيدني احتقارا لك، وأسفا على أنني وافقت على الزواج منك.
ولم يجد بهجت شيئا يصنعه إلا أن يترك البيت، ويخرج قاصدا إلى سليمان ذكري في مكتبه، ولم يمهله سليمان بل عاجله. - ماذا؟ ... لماذا جئت إلى مكتبي؟ - وأي عجيب في ذلك ؟ - لا شيء، مجرد أننا لا نستطيع أن نجلس براحتنا، وعلى كل حال لماذا لم تذهب إلى مكتبك؟ - لن أذهب منذ اليوم. - لا أريد أن أعرف السبب. - اختلفت معهم وتبين لي أنني لن استطيع الاستمرار. - فما قولك أن تعمل معي؟ - مبدئيا أنا موافق، ولو أنني لا أعرف طبيعة عملك. - ستعرفها، لا تعجل، ولكن المهم أنك ستعمل خارج المكتب. - أحسن. - هلم بنا. - إلى أين؟ - إلى مكان ... هلم.
وخرجا، وقضى بهجت الوقت مع سليمان وتناول معه الغداء؛ آملا أن يترك فرصة لكريمة لتكون صالحة للكلام معه. إنها طبعا ستحاول أن تعصف بي، وليس لي حيلة إلا الصمت، والزمن كفيل بالأمر بعد ذلك.
وجد كريمة جالسة بمفردها في غرفة المعيشة، فما إن جاء حتى بادرته قائلة: أنا مضطرة أن أبقي عليك في البيت؛ لأني لا أريد لعطاء أن يكون بغير أب، ولكن الحقيقة سيكون بلا أب، فلا شأن لك به مطلقا إلا التحية العابرة؛ فمنذ اليوم سأتولاه أنا تماما، وأرجوك أن تحاول بكل جهدك أن تقضي يومك خارج البيت، فيما عدا مواعيد الطعام والنوم.
وأخيرا قال: إني أعرف أنني أخطأت، ولكن إذا لم تغفر الزوجة لزوجها فمن يغفر له؟ - أنت تعلم حرصي على ديني وكرامتي، فأنا لا أترك فرضا من فروض الله إلا أديته، وأنت حتى لا تصوم ولو على سبيل التظاهر، لقد اتضح لي من زمن بعيد أننا من معدنين مختلفين كل الاختلاف، وأنا أنوي أن أجعل عطاء بعيدا عنك في خلقك ودينك كل البعد، وما أقوله لك اليوم لا نقاش فيه ولا مراجعة ولا تراجع أيضا. - أمرك.
الفصل السابع عشر
سرعان ما عرف بهجت طبيعة عمله مع سليمان ذكري، وكان من الطبيعي بما خلقه وانعدام كل أنواع الضمير عنده أن يقبله، وإنما كانت جوانحه لم تخل من الخوف الذي يبلغ درجة الذعر في بعض الأحيان.
أدخلت كريمة ابنها مدرسة فرنسية، وحرصت أن تأتي له بشيخ يجعله يحفظ القرآن، وأصرت أن تجعله يقوم بواجباته الدينية على أكمل وجه، وأكرمها الله فيه فاستجاب الابن لأمه في كل ما تريده له. ومضت السنوات كما شاءت لها كريمة أن تمضي، حتى أصبح عطاء في الحادية عشرة من عمره. أما عن بهجت فقد كانت تعطيه خمسة جنيهات يومية كمصروف، وقبل هو هذا صاغرا وحلت سنة اثنين وستين، وفوجئ بيت كريمة بالشرطة تدهمه وتقبض على بهجت وتضع الحديد في معصميه، وتتجه به إلى القسم، وما هي إلا ساعات حتى عرفت الكارثة الجديدة التي أنزلها بهجت بنفسه وبيته بل وبوطنه كذلك. لقد كان سليمان ذكري جاسوسا يهوديا زور أوراقا تثبت أنه مصري مسلم، وكان بهجت يعينه في الحصول على أسرار بلده.
وقدم بهجت إلى المحكمة وحكم عليه بعشر سنوات، وكان عطاء في الثانية عشرة من عمره، وكان يستطيع أن يعي ما يحدث حوله، وقد كان وعيه له يشوبه الذهول والألم والحسرة.
مرت السنوات وحين أصبح عطاء في السادسة عشرة من عمره، قالت له أمه: يا عطاء أصبحت في السن التي ينبغي أن أحدثك فيها، أنت حفظت القرآن، وتعرف قول الله تعالى: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه. - تأكدي يا ماما، أنني أعرف أني لست مسئولا عما فعله أبي، ولعلك ستدهشين إذا عرفت أن العاطفة الوحيدة التي أحس بها نحوه هي عاطفة الرثاء له، والإشفاق عليه من نفسه أولا ثم من الناس، ولا أنسى ما وصى به الله الابن بأبويه، بل إني حريص على أمر الله فيك وفيه كل الحرص. - ألم تلاحظ شيئا يا عطاء ... لقد نسي الناس أمره. - ولاحظت ذلك؛ ففي المدرسة لم يذكر لي تلميذ واحد شيئا عن أبي. - الحمد لله، فسر أنت في طريقك. - أترين أني محتاج إلى هذه النصيحة؟ - حتى الآن، أنت كما أرجو أن تكون، والحمد لله. - والفضل بعده لك.
خرج بهجت من السجن بعد أن قضى المدة، واستقبلته كريمة ومعها عطاء على باب السجن، وألقى عطاء نفسه بين أحضان أبيه، وشملهم الصمت في السيارة حتى بلغوا المنزل. وترك عطاء أمه لأبيه ربما أحب أحدهما أن يقول للآخر شيئا لا يريد لعطاء أن يسمعه، وحدث ما توقع فقد بدأ بهجت الحديث. - اسمعي يا كريمة، أنا في السجن لم يكن معي إلا الله ونفسي. - تقول الله؟! - إني وهبت نفسي لعبادته أملا في غفرانه بعد الذي دمرته من حياة ابني وحياتك، ومن أمانتي لوطني ولنفسي وما ارتكبته من المعاصي، وأنا عزمت منذ بضع سنوات أن أقول لك ما أقوله الآن في أول لقاء لي بك. إن بقائي بالبيت أصبح ثقيلا وغير مقبول؛ فأنا لن أحتمل نظرات ابني التي سيمازجها دائما الاحتقار، فإن اغتفر لي ما صنعته به بعض الغفران، فنظرات الشفقة المشوبة بالعطف. هذا إلى جانب مشاعرك أنت نحوي التي لا أجرؤ أن أصفها بلساني. - هذا قدرك، ولا بد أن تحتمله. - أنا على أتم الاستعداد أن أحتمله، ولكن لماذا أحملك أنت وعطاء وباقي أفراد الأسرة أختيك وزوجيهما وأبناءهم والأصدقاء، وكل من يعرف قصتي، الحرج في رؤيتي والحيرة في معاملتي؟ - ماذا تريد أن تعمل؟ واضح أن هناك أمرا أنت مقرره. - الأمر الذي لا تعرفينه وربما تكونين قد علمته من رجال الأمن بالسجن، مأمورا كان أو ضابطا؛ فأنا أعلم أنك رغم أنك امتنعت عن زيارتي، كنت توالين السؤال عني بنفس النظام، الذي كان يصلني به الطعام الذي كنت ترسلين به لي، الأمر الذي ربما تكونين قد عرفته، أنني منقطع منذ سنوات للعبادة انقطاعا تاما، فبقائي في القاهرة لألقي جبلا رازحا على أنفاس ابني وأنفاسك، أمر أرى أنني لن أجني منه إلا المرارة الشديدة، التي أحاول أن أزيحها عن نفسي بتوجهي إلى الله. - ماذا تريد أن تفعل؟ - أريد أن أذهب إلى هندامة وأعيش بها.
وصمتت كريمة بعض الشيء، ثم قالت: الفكرة لا بأس بها، ولكن شعور ابنك نحوك ليس كما تظن، وأنا نفسي تغيرت كثيرا منذ علمت بتوبتك. - البيت عندنا في البلدة لا بأس به، فلماذا لا تأتين إلي من حين إلى آخر ومعك عطاء؟ - اسمع يا بهجت، أنا أوافقك على فكرتك، ومن جانبي سأجعلك في غير حاجة إلى أفدنتك العشرة، التي يعتمد عليها أخوك في حياته. سيكون لك مرتب يجعلك تتفرغ لعبادتك، دون أن تشغل نفسك بشيء في هذه الدنيا. - وأنا لن أرفض هذا تظاهرا بالعفة، واعتبريه أنت صدقة جارية على رجل كان زوجك في يوم من الأيام، وشاء الله أن يكون أبا ولدك الوحيد. - بل أعتبره واجبا إن لم يكن واقعا على كتفي، وهو واقع عليها، فهو واجب عطاء نحو أبيه، شرعه الله تعالى، ويكون خارجا عن طاعته سبحانه، إذا لم يقم به؛ فالمال الذي عندي هو مال عطاء كما تعلم، وما أنا إلا أمينة عليه. واسمع يا بهجت، أرجو أن تعرف أنك وقد عرفت طريق الله، فأنت أصبحت في الطريق الذي اخترته لنفسي طول حياتي، فمشاعري نحوك الآن إن لم تكن مشاعر زوجة، فهي إنسانة، أخت لك في الله، تراك تسير معها في نفس الطريق. - ومن أفضالك أنك لم تطلبي الطلاق. - إكراما لعطاء؛ فانا أعلم أنه يحبك. - هل تسمحين لي بسيارتك لتذهب بي إلى البلدة؟ - الآن؟ ... غير معقول! ليس قبل أن أعد لك الملابس المناسبة، وجميع ما قد تحتاج إليه هناك. - كل هذا يمكنك أن تفعليه وأنا هناك. أعفيني أكرمك الله من لقاء أفراد أسرتك. - على كل حال السيارة تحت أمرك.
وحين خرجا من الغرفة استدعت كريمة ابنها. - تعال سلم على والدك. - إلى أين يا بابا؟ - لا تعجب، أنا لن أتركك بعد اليوم أبدا، وإنما رأيت أن أقيم ببلدتنا هندامة، لأنقطع فيها لعبادة الله، بعد أن اطمأننت على مستقبلك، وسيسعدني أن أستقبلك أنت وماما في أي وقت.
وربما استشعر عطاء الراحة لما يقوله أبوه؛ فقد كان حائرا في نفسه، كيف تكون المعاملة المثلى لأبيه، وهو شبه غريب عنه، وهكذا طأطأ عطاء رأسه وهو يقول لأبيه: لن ترى مني إلا الحب الصادق والطاعة التامة، وما دمت ترى هذا ... فالله معك ومعنا.
واحتضن بهجت ولده وقالت كريمة: وأنا أيضا أريد أن أودعك، ولو أني سأراك قريبا.
واحتضن بهجت زوجته في حب وندم عميقين كل العمق، وأخذ سكته إلى السيارة التي سافرت به إلى بلدته.
كان هذا منذ سنوات بعيدة ، وما زالت الحال بين بهجت وكريمة وعطاء على حالها حتى يومنا هذا؛ فقد حرصا أن يزوراه مرتين أو ثلاثا في الشهر، وزاد عليهما منذ سنوات بهجت الصغير وكريمة الصغيرة؛ ابن عطاء وبنته ... وما زالت الحياة تمضي بهم جميعا، وسبحان الله العفو الرحمن الرحيم! الذي جعل اسم الرحمة مستمدا من اسمه، ليكون بين الناس منذ بدء الخليقة حتى الساعة، آصرة وودا وحبا وغفرانا.
Bilinmeyen sayfa