أدخلت كريمة ابنها مدرسة فرنسية، وحرصت أن تأتي له بشيخ يجعله يحفظ القرآن، وأصرت أن تجعله يقوم بواجباته الدينية على أكمل وجه، وأكرمها الله فيه فاستجاب الابن لأمه في كل ما تريده له. ومضت السنوات كما شاءت لها كريمة أن تمضي، حتى أصبح عطاء في الحادية عشرة من عمره. أما عن بهجت فقد كانت تعطيه خمسة جنيهات يومية كمصروف، وقبل هو هذا صاغرا وحلت سنة اثنين وستين، وفوجئ بيت كريمة بالشرطة تدهمه وتقبض على بهجت وتضع الحديد في معصميه، وتتجه به إلى القسم، وما هي إلا ساعات حتى عرفت الكارثة الجديدة التي أنزلها بهجت بنفسه وبيته بل وبوطنه كذلك. لقد كان سليمان ذكري جاسوسا يهوديا زور أوراقا تثبت أنه مصري مسلم، وكان بهجت يعينه في الحصول على أسرار بلده.
وقدم بهجت إلى المحكمة وحكم عليه بعشر سنوات، وكان عطاء في الثانية عشرة من عمره، وكان يستطيع أن يعي ما يحدث حوله، وقد كان وعيه له يشوبه الذهول والألم والحسرة.
مرت السنوات وحين أصبح عطاء في السادسة عشرة من عمره، قالت له أمه: يا عطاء أصبحت في السن التي ينبغي أن أحدثك فيها، أنت حفظت القرآن، وتعرف قول الله تعالى: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه. - تأكدي يا ماما، أنني أعرف أني لست مسئولا عما فعله أبي، ولعلك ستدهشين إذا عرفت أن العاطفة الوحيدة التي أحس بها نحوه هي عاطفة الرثاء له، والإشفاق عليه من نفسه أولا ثم من الناس، ولا أنسى ما وصى به الله الابن بأبويه، بل إني حريص على أمر الله فيك وفيه كل الحرص. - ألم تلاحظ شيئا يا عطاء ... لقد نسي الناس أمره. - ولاحظت ذلك؛ ففي المدرسة لم يذكر لي تلميذ واحد شيئا عن أبي. - الحمد لله، فسر أنت في طريقك. - أترين أني محتاج إلى هذه النصيحة؟ - حتى الآن، أنت كما أرجو أن تكون، والحمد لله. - والفضل بعده لك.
خرج بهجت من السجن بعد أن قضى المدة، واستقبلته كريمة ومعها عطاء على باب السجن، وألقى عطاء نفسه بين أحضان أبيه، وشملهم الصمت في السيارة حتى بلغوا المنزل. وترك عطاء أمه لأبيه ربما أحب أحدهما أن يقول للآخر شيئا لا يريد لعطاء أن يسمعه، وحدث ما توقع فقد بدأ بهجت الحديث. - اسمعي يا كريمة، أنا في السجن لم يكن معي إلا الله ونفسي. - تقول الله؟! - إني وهبت نفسي لعبادته أملا في غفرانه بعد الذي دمرته من حياة ابني وحياتك، ومن أمانتي لوطني ولنفسي وما ارتكبته من المعاصي، وأنا عزمت منذ بضع سنوات أن أقول لك ما أقوله الآن في أول لقاء لي بك. إن بقائي بالبيت أصبح ثقيلا وغير مقبول؛ فأنا لن أحتمل نظرات ابني التي سيمازجها دائما الاحتقار، فإن اغتفر لي ما صنعته به بعض الغفران، فنظرات الشفقة المشوبة بالعطف. هذا إلى جانب مشاعرك أنت نحوي التي لا أجرؤ أن أصفها بلساني. - هذا قدرك، ولا بد أن تحتمله. - أنا على أتم الاستعداد أن أحتمله، ولكن لماذا أحملك أنت وعطاء وباقي أفراد الأسرة أختيك وزوجيهما وأبناءهم والأصدقاء، وكل من يعرف قصتي، الحرج في رؤيتي والحيرة في معاملتي؟ - ماذا تريد أن تعمل؟ واضح أن هناك أمرا أنت مقرره. - الأمر الذي لا تعرفينه وربما تكونين قد علمته من رجال الأمن بالسجن، مأمورا كان أو ضابطا؛ فأنا أعلم أنك رغم أنك امتنعت عن زيارتي، كنت توالين السؤال عني بنفس النظام، الذي كان يصلني به الطعام الذي كنت ترسلين به لي، الأمر الذي ربما تكونين قد عرفته، أنني منقطع منذ سنوات للعبادة انقطاعا تاما، فبقائي في القاهرة لألقي جبلا رازحا على أنفاس ابني وأنفاسك، أمر أرى أنني لن أجني منه إلا المرارة الشديدة، التي أحاول أن أزيحها عن نفسي بتوجهي إلى الله. - ماذا تريد أن تفعل؟ - أريد أن أذهب إلى هندامة وأعيش بها.
وصمتت كريمة بعض الشيء، ثم قالت: الفكرة لا بأس بها، ولكن شعور ابنك نحوك ليس كما تظن، وأنا نفسي تغيرت كثيرا منذ علمت بتوبتك. - البيت عندنا في البلدة لا بأس به، فلماذا لا تأتين إلي من حين إلى آخر ومعك عطاء؟ - اسمع يا بهجت، أنا أوافقك على فكرتك، ومن جانبي سأجعلك في غير حاجة إلى أفدنتك العشرة، التي يعتمد عليها أخوك في حياته. سيكون لك مرتب يجعلك تتفرغ لعبادتك، دون أن تشغل نفسك بشيء في هذه الدنيا. - وأنا لن أرفض هذا تظاهرا بالعفة، واعتبريه أنت صدقة جارية على رجل كان زوجك في يوم من الأيام، وشاء الله أن يكون أبا ولدك الوحيد. - بل أعتبره واجبا إن لم يكن واقعا على كتفي، وهو واقع عليها، فهو واجب عطاء نحو أبيه، شرعه الله تعالى، ويكون خارجا عن طاعته سبحانه، إذا لم يقم به؛ فالمال الذي عندي هو مال عطاء كما تعلم، وما أنا إلا أمينة عليه. واسمع يا بهجت، أرجو أن تعرف أنك وقد عرفت طريق الله، فأنت أصبحت في الطريق الذي اخترته لنفسي طول حياتي، فمشاعري نحوك الآن إن لم تكن مشاعر زوجة، فهي إنسانة، أخت لك في الله، تراك تسير معها في نفس الطريق. - ومن أفضالك أنك لم تطلبي الطلاق. - إكراما لعطاء؛ فانا أعلم أنه يحبك. - هل تسمحين لي بسيارتك لتذهب بي إلى البلدة؟ - الآن؟ ... غير معقول! ليس قبل أن أعد لك الملابس المناسبة، وجميع ما قد تحتاج إليه هناك. - كل هذا يمكنك أن تفعليه وأنا هناك. أعفيني أكرمك الله من لقاء أفراد أسرتك. - على كل حال السيارة تحت أمرك.
وحين خرجا من الغرفة استدعت كريمة ابنها. - تعال سلم على والدك. - إلى أين يا بابا؟ - لا تعجب، أنا لن أتركك بعد اليوم أبدا، وإنما رأيت أن أقيم ببلدتنا هندامة، لأنقطع فيها لعبادة الله، بعد أن اطمأننت على مستقبلك، وسيسعدني أن أستقبلك أنت وماما في أي وقت.
وربما استشعر عطاء الراحة لما يقوله أبوه؛ فقد كان حائرا في نفسه، كيف تكون المعاملة المثلى لأبيه، وهو شبه غريب عنه، وهكذا طأطأ عطاء رأسه وهو يقول لأبيه: لن ترى مني إلا الحب الصادق والطاعة التامة، وما دمت ترى هذا ... فالله معك ومعنا.
واحتضن بهجت ولده وقالت كريمة: وأنا أيضا أريد أن أودعك، ولو أني سأراك قريبا.
واحتضن بهجت زوجته في حب وندم عميقين كل العمق، وأخذ سكته إلى السيارة التي سافرت به إلى بلدته.
كان هذا منذ سنوات بعيدة ، وما زالت الحال بين بهجت وكريمة وعطاء على حالها حتى يومنا هذا؛ فقد حرصا أن يزوراه مرتين أو ثلاثا في الشهر، وزاد عليهما منذ سنوات بهجت الصغير وكريمة الصغيرة؛ ابن عطاء وبنته ... وما زالت الحياة تمضي بهم جميعا، وسبحان الله العفو الرحمن الرحيم! الذي جعل اسم الرحمة مستمدا من اسمه، ليكون بين الناس منذ بدء الخليقة حتى الساعة، آصرة وودا وحبا وغفرانا.
Bilinmeyen sayfa