فأما التقابل الذى هو التناقض، فيفارق الجميع من جهة أن المتناقضين يصلح فيهما الصدق والكذب، وليس فى العمى ومقابله، ولا فى الحرارة ومقابلها، ولا فى الأخ ومقابله، صدق ولا كذب. وأيضا فإن المتناقضين إذا كانا على شرائط، لزم أن يصدق أحدهما ضرورة، ويكذب الآخر، ولا كذلك الحال فيما سوى المتناقضين. ولا أيضا إن ألف مما سواهما قضايا، حتى يكون مكان صحيح وليس بصحيح أحد الأضداد التى لا وسائط بينها. كالصحيح والمريض، فإنه وإن كان زيد إذا كان موجودا فقيل: إنه صحيح وإنه مريض، يصدق أحدهما ضرورة،ويكذب الآخر. فلا ينبغى أن يظن أن هذا القسم من التضاد يقابله تقابل النقيض، وذلك لأن الصحيح، وما ليس بصحيح، إذا قرنا بأى موضع شئت، وبالمعدوم، قرنا على شرط النقيض، ثبت تقابل النقيض، وصدق أحدهما، وكذب الآخر. فإنك إذا قلت: الحجر صحيح، والحجر ليس بصحيح، صدق السالب منهما؛ فإذا قلت:الحجر صحيح، الحجر مريض، كذبا جميعا.وكذلك إذا جعلت الإخبار عن زيد، وهو معدوم، كذب أنه صحيح، وكذب أنه مريض، ولم يكذب أنه ليس بصحيح. فإن السلوب كلها تصح عن المعدومات، وذلك لأن اإيجاب للمعانى الموجودة يكذب عليها، إلا بشرط وحال ليس هذا موضع بيانه،لأن الإيجاب حكم بوجود معنى لمعنى. أو وجود وصف لأمر، ولا يوجد المعنى لما ليس بموجود، وأن لا يوجد، فهو السلب. فإذا كان ما لا يتوسط فيه من المتضاد يفارق المتناقض، فكيف اللواتى بينها متوسط، التى قد يكذب الطرفان معا جميعا فى الموضوع الموجود القابل لهما، كما إذا قيل للعفيف إنه خامد الشهوة، أو فاجر. وبين بالجملة أنك إذا نظرت إلى التضاد من حيث هو تضاد، لم يوجب ما يوجبه التناقض، وإنما يعرض له ما يشبه ذلك لبعض المتضادات، وفى بعض الموضوعات خاصة، لا لأنها تضاد بل لأنها لا واسطة لها. ومن هذا الوجه كله، يتضح الفرق بين تقابل التناقض وتقابل العدم والملكة، فإن الموضوع الغريب كالحجر، والمعدوم كزيد المتوفى، يكذب عليه القولان المؤلفان من العدم والملكة، كقولنا: الحجر بصير، الحجر أعمى، أو قولنا: زيد المعدوم بصير، زيد المعدوم أعمى. ولا يكذب المتناقضان معا إذا قلنا: الحجر أو زيد المعدوم بصير، الحجر أو زيد المعدوم ليس ببصير. وأيضا فإن الموضوع الذى ليس بغريب، قد يكذب العدم والملكة فيه إذا لم يكن الوقت الذى من شأنه أن يكون فيه، كقولنا للجرو الذى لم يفقح بصير أو أعمى، ولا يكذب أنه ليس ببصير.
الفصل الثالث فصل (ج) في التعبير عن أحكام وخواص في المتضادات
الشر على الإطلاق من حيث هو شر، يظن أنه ضد الخير على الأطلاق، فكل واحد من جزئيات الشر، ضد لواحد من جزئيات الخير، كالمرض للصحة، والجور للعدل، والجبن للشجاعة، والفجور للعفة، فهذه حال مضادة الشر للخير. وأما مضادة شر آخر للشر، فقد يكون الذى يضاد الشر شرا آخر. وذلك لأن الملكات المتوسطة بين طرفى الإفراط والتفريط، فى الأمور المتعلقة بالشهوة والغضب، والمتعلقة بالتدبير الجزئى فى اقتناء الخير إلا لشىء، تتعلق بها الفضائل اللواتى هى كالشجاعة والعفة وحسن التدبير الذى يسمى حكمة، وتكون هى الفضائل؛ والإفراطات والتفريطات تتعلق بها الرذائل فإن الجبن، والتهور، والخمود، والفجور، والجريزة والغباوة، رذائل. والتوسط يضاد الطرفين، وكل واحد من الطرفين يضاد الآخر لبعده عنه، وهذا التوسط المضاد للطرفين إنما يوجد فى يسير من الأمور نحو التى ذكرناها. وأما فى أكثر الأشياء، فإن الخير يضاد الشر مطلقا، ولا يوجد للشر شر يضاده مثل الصحة والمرض، والعلم والجهل، والحياة والموت. فمن ذلك ما الإفراط فيه كله ردىء، كالمرض، ومن ذلك ما الإفراط فيه كله خير، كالعلم، فهذا هذا. وقد قال بعض المفسرين فى شرح قولهم: وهذا فى يسير من الأمور التى تخالف هذا القانون، أن قائل هذا القول، يعنى به أن بعض الوسائط فى الإفراطات والتفريطات ليست بخير، مثل القتل فإنه ليس الوسط فيه بخير، بل كله ردىء؛ وأما اللاقتل فكله خير، وليس إنما يكون الطرف فيه يعينه فقط هو الردىء.
Sayfa 145